مقدمة المترجم

بقلم  عادل زعيتر
أقدم ترجمة «روح الشرائع»١ لمونتسكيو …
في اليوم الثامن عشر من يناير٢ سنة ١٦٨٩ ولد بارون دو لابريد ودو مونتسكيو، شار لويس دو سكوندا، وكانت ولادته في قصر لابريد الذي لا يزال قائمًا بعيدًا من بوردو نحو عشرة أميال.
وكان اسم أبيه جاك دو سكوندا، وكان اسم أمِّه فرنسواز دو پنيل، وقد جاءت أمه الغسكونية الإنكليزية هذه بلابريد صداقًا لرجل الحرس الملكي أبيه ذاك، لأبيه الذي هو من بيت صالح غير بالغ القدم، لأبيه الذي هو من بيت ترجع أهميته إلى القرن السادس عشر، وقد كان آله من أهل القضاء إجمالًا، فقام بالقضاء جده وعمه في برلمان٣ بوردو، والقضاء هو ما وصل به حياته.

وعرف شارل لويس في صباه بمسيو دو لابريد، وماتت أمه حين كان في السابعة من سنيه، فلما بلغ الحادية عشرة أدخل إلى مدرسة أوراتوريان بجويلي حيث مكث خمس سنين وحيث ظهر ميله إلى التاريخ، ثم تخرَّج في بوردو، ولم يكن أبوه ليثبطه عن عزمه، وكان أبوه يتابعه على سيره، ويتوفى أبوه في سنة ١٧١٣، ويمضي على وفاته عام فيقبل ابنه الشاب قاضيًا في برلمان بوردو ذلك.

ويمر عام على ذلك فيتزوج مسيو دو لابريد ابنة فارس نبيل في منظمة سان لويس اسمها حنة لارتيغ، وقد كانت بروتستانية غير مثقفة فعاش معها على وئام مع عدم حب … وقد رزق منها ابنًا وابنتين.

ويموت عمه جان باپتست دو سكوندا في سنة ١٧١٦ فيرثه رئيسًا لتلك المحكمة مع ثروته، ويرث لقبه دو مونتسكيو، ويقوم بواجباته خير قيام، ثم يعتريه سأم فيترك عمله حينما يتمثل له سخرة.

وما كان يساوره من ولع بالمباحث التاريخية الدراسات القديمة يفسر رغبته الشديد في الانتساب إلى الأكاديمية الرجوية٤ الجديدة التي أنشئت في بوردو حيث قبل في أبريل٥ من سنة ١٧١٦، وحيث تلا بعد قبوله بإسبوعين «بحثه حول سياسة الرومان في الدين».

وما كانت رئاسته لبرلمان بوردو مدة اثنتي عشرة سنة لتصرفه عن العمل في الحقل الأدبي والعلمي، فقد أخرج في سنة ١٧٢١ كتاب «الرسائل الفارسية» التي تم له من النجاح وحسن القبول ما هو معروف في عالم العلم، وقد طبع هذا الكتاب أربع مرات في عامه الأول من غير ذكر اسمه عليه، وهذا الكتاب جامع لسلسلة من الرسائل أرسلها إلى صديق له رجل فارسي وهمي قصد أوربة سائحًا فراح ينتقد فيها الأوضاع الاجتماعية والسياسية والدينية بأسلوب ساخر لاذع، ثم قلَّ تداول الناس لهذا الكتاب عن حظر حكومي ومنع كنسي كما قيل، ومن التجني قول ڨولتير عن هذا الكتاب: «إنه بهرج يستطيع كل واحد أن يضع مثله»، فلم يكن من السهل على ڨولتير إبداع مثله، وكان يتعذر على غيره في ذلك الزمن إخراج نظيره.

وقد أمكن مونتسكيو أن يظهر رجلًا كبيرًا في بوردو حتى ذلك الحين، فلما ظهرت «الرسائل الفارسية» لاقت إقبالًا في المجتمع الباريسي، ولما قصد باريس بعد ذلك رحَّبت به هذه العاصمة، وأخذ يتردد إلى نادي «الأنترسول» المشهور حيث اشترك في مناقشاته ودراساته مقدامًا، ويرجح أنه تلا على هذا النادي، في سنة ١٧٢٢، كتاب «محاورة بين سيلا وأوكرات» الذي بيَّن فيه سلوك سيلا السياسي وأسباب تنزل هذا الطاغية عن سلطانه، ومن هذا الكتاب أبصر مقدار ما ينتظر منه في ميدان الجد.

ولم يتورع مونتسكيو، مع ذلك، من وضع كتاب «معبد غنيد» ونشره في سنة ١٧٢٥ إرضاء لعشراء أخت دوك دوبوروبون، الآنسة كليرمون، التي كانت حسيبة باهرة الجمال معبودة المجتمع، فلم يخل كتابه هذا من خفة وتحلل.

وينطوي قبوله عضوًا في الأكاديمية الفرنسية على فصل محزن، ففي سنة ١٧٢٥ ينتخب عضوا في هذه الأكاديمية، ولكن الملك يرفض ذلك بناء على تقرير وزيره الكردينال فلوري واستنادًا إلى المبدأ المهمل في ذلك الوقت والذي يشترط كون العضر مقيمًا بباريس، وبهذا يلغى الانتخاب.

ولم يَفُلُّ ذلك عزم مونتسكيو، فقد رأى أن يروي ظمأه إلى العلم والأدب فصغر في عينه منصبه الكبير تحقيقًا لغاية دونها أعظم الغايات فباع هذا المنصب الموروث في سنة ١٧٢٦ على أن يعود على ابنه بعد موته، ومن المحتمل أن كان هذا البيع عن شوق إلى مجتمع باريس، أو عن طموح إلى انتخابه عضوًا في الأكاديمية الفرنسية، أو عن رغبة في مسايرة الحركة العلمية والأدبية بباريس، أو عن هذا كله.

ومهما يكن من أمر فقد غادر مونتسكيو مدينة بوردو ليعيش في العاصمة، وذلك مع قضاء ستة أشهر من كل سنة في لابريد.

وبذلك يزول المانع من قبوله عضوًا في الأكاديمية الفرنسية، ويبحث في الأمر وتلتمس المخارج وتبذل جهود نفعًا لمونتسكيو، غير أنه يزعم إخراج مونتسكيو طبعة خاصة من «الرسائل الفارسية» مشتملة على تغيير وتبديل وتحويل، ولم يعد هذا حد الخرافة، ولم يحل هذا دون إنصات الوزير فلوري للمؤلف معتذرًا عن نشره كتابًا من غير ذكر لاسمه بسبب منصبه القضائي الذي يمنع من ذلك، ويسوَّى الأمر وتذلل الصعاب بعد أخذ الوزير كفالة ويرفع الحظر ويدخل ومتسكيو الأكاديمية الفرنسية في ٢٤ من يناير سنة ١٧٢٨.

ولم يكد مونتسكيو يقبل في الأكاديمية الفرنسية حتى قام بسياحته في أوربة مجتمعًا بالرجال ناظرًا إلى الأمور باحثًا في الدساتير والنظم فطاف في النمسة وهنغارية، ولم تيسر له رحلة إلى تركية كما كان ناويًا، ثم انطلق إلى إيطالية والبندقية حيث أقام نحو عام، ثم توجه إلى إنكلترة بطريق پيمونت والرين، وفي إنكلترة لبث ثمانية عشر شهرًا فأعجب بأخلاق الإنكليز وسياستهم كما أعجب بهما ڨولتير، فبهرته حرية الناس في الحديث عن مساوئ الحكومة مع بقاء هذه الحكومة، وطاب له خلو إنكلترة من معتقل كالباستيل، ولم يفته قيد تنازع أحزابها ورجالها كتابة، كما يتجلى ذلك في «روح الشرائع».

وقد أحسنت إنكلترة مثواه فاختير عضوًا في الأكاديمية الملكية بلندن، وقد سحر بما أبصر فيها وبما أوحت إليه من مناحٍ عامة، فعد النظام الإنكليزي مثالًا للحكومة الصالحة.

ويعود مونتسكيو إلى فرنسة، يعود إلى لابريد، لا إلى باريس، وفي لابريد ما انفك يملي وينقح ويعدل ويعيد النظر مهيئًا كتابه «روح الشرائع» العظيم، ولكنه رأى أن يمهد سبيل الانتقال من «الرسائل الفارسية» إلى «روح الشرائع»، وذلك بإخراج كتاب أشد خطرًا من الأول وأقل قدرًا من الثاني، فأصدر في أمستردام، سنة ١٧٣٤، كتاب «تأملات حول أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم» خاليًا من اسمه مع أنه كان قد قدَّم نسخة عنه إلى الأكاديمية الفرنسية، وهذا الكتاب التاريخي الفلسفي طريف أسلوبًا وتفكيرًا مع صغر حجم، ولم يؤلف في ذلك العصر ما يعدله اتزانًا وإبداعًا في موضوعه، والواقع أنه مع «الرسائل الفارسية» إرهاص من المؤلف مبشر بكتاب «روح الشرائع» إذا جاز لنا هذا التعبير، فعلى هذه الكتب الثلاثة تقوم شهرة موتسكيو.

أجل، لم يتفق لكتاب «تأملات حول أسباب عظمة الرومان وانحطاطهم» ما اتفق لكتاب «الرسائل الفارسية» من ضوضاء، غير أنه جعل لمونتسكيو شهرة رجل الجد وأوجب تعليق أكبر أمل على الكتاب العظيم «روح الشرائع» الذي كان تفكيره في إخراجه أمرًا معروفًا، وهذا ما أدى إلى تعيينه عضوًا في مجمع العلوم الملكي ببرلين سنة ١٧٤٦.

حلت سنة ١٧٤٨، فطبع كتاب «روح الشرائع» في جنيف، وكان عنوانه في الطبعة الأولى «روح الشرائع، أو الصلة التي يجب أن تكون بين القوانين ونظام كل حكومة والطبائع والإقليم والديانة والتجارة إلخ»، فأضاف المؤلف إلى ذلك: «مباحث جديدة عن القوانين الرومانية حول المواريث وعن القوانين الفرنسية والقوانين الإقطاعية»، وكتاب «روح الشرائع» مؤلف من واحد وثلاثين بابًا موزعًا بين ستة أجزاء، فيشتمل الجزء الأول على ثمانية أبواب يعالج فيها أمر القوانين وأشكال الحكومة، ويشتمل الجزء الثاني على خمسة أبواب تعالج فيها التدابير العسكرية مع أمور الجباية، ويشتمل الجزء الثالث على ستة أبواب تعالج فيها الأوضاع والطبائع واتباعهما لأحوال الأقاليم، ويشتمل الجزء الرابع على أربعة أبواب تعالج فيها المسائل الاقتصادية، ويشتمل الجزء الخامس على ثلاثة أبواب تعالج فيها أمور الأديان، ويشتمل الجزء السادس، وهو الأخير على خمسة أبواب تعالج فيها القوانين الرومانية والفرنسية والإقطاعية، ويعد البابان الأخيران من هذا الجزء ذيلًا للكتاب، فقد قال مونتسكيو عنها: «يشوب كتابي نقص، على ما أعتقد، إذا ما سكت عن حادث وقع في العالم ذات مرة، ولن يقع على ما يحتمل، إذا لم أتكلم عن تلك القوانين التي رئي ظهورها في أوربة من غير اتصال بالقوانين التي عرفت حتى ذلك الحين، عن تلك القوانين التي أدت إلى ما لا يحصى من الخير والشر … والتي أدت إلى النظام مع ميل إلى الفوضى، وإلى الفوضى مع ميل إلى النظام والانسجام … ومنظر القوانين الإقطاعية جميل، وتنهض بلوطة قديمة، وترى العين أوراقها من بعيد، وتدنو العين وتبصر ساقها، ولكنها لا ترى جذورها مطلقًا، فلا بدَّ من شقِّ الأرض لرؤيتها».

وقد يضع العالم كتابًا واحدًا في حياته، وقد يكتب ذات الكتاب عدة مرات، وهذا ما صنعه مونتسكيو في «روح الشرائع» الذي أخذ يفكر في موضوعه منذ شبابه فجمع مواده مع الزمن، وقابل بينها وبين الحقيقة في أثناء رحلاته، وهو لم ينقطع عن وضع هذا الأثر العظيم قاضيًا وفيلسوفًا، قال ڨيان: «أُبصِرَ «روح الشرائع» على مقاعد مدرسة الحقوق ببور دو ورسم في «الرسائل الفارسية» ولقِّح، في رحلات مؤلفه، وعيِّن بدور «عظمة الرومان»، على أنني أفترض انتفاع مونتسكيو كثيرًا بسياحاته في وضع كتابه العظيم»، والواقع أن مونتسكيو انتفع بالمصادر الشفوية انتفاعه بالمصادر المكتوبة.

وقد تم إعداد مونتسكيو لمواد «روح الشرائع» الغزيرة سنة ١٧٤٤، حين انزوى في لابريد ليضع صيغته بلا انقطاع، فلما كانت سنة ١٧٤٧ أمكنه أن يفكر في طبعه، ويقول مونتسكيو في مقدمة «روح الشرائع»:

وما أكثر ما بدأت هذا الكتاب وتركته، وقد تركت للرياح ألف مرة ما كنت أكتب من الأوراق، وكنت أشعر بهبود الأيدي الأبوية في كل يوم، وكنت أسير وراء هدفي من غير وضع مشروع، وكنت لا أعرف القواعد ولا الشواذ، وكنت لا أجد الحقيقة إلا لأفقدها، ولكنني عندما أكتشفت مبادئي أتاني كل ما بحثت عنه، فأبصرت في غضون عشرين عامًا بدء كتابي ونموَّه وتقدمه وتمامه.

ومن ثم ترى مقدار ما عانى مونتسكيو من تلمس في الظلام ومن اضطراب بال وريب حمل، ومن جمع قصاصات بعد انفصال وضعًا لها ضمن نظام ووفق منهاج، حتى انتهى كتاب «روح الشرائع» إلى كماله.

وقد اختلف في أي الموضوعات أهم من غيرها في الكتاب، فرأى بعضهم مباحث فصل السلطات ورأى آخرون مباحث تأثير الأقاليم ورأى فريق ثالث أمور الأديان ورأي فريق رابع مسائل الاقتصاد، فمع ما لكل من هذه الموضوعات الأربعة من أهمية خاصة يظهر أن هنالك شبه إجماع على كون مباحث فصل السلطات الثلاث، الاشتراعية والتنفيذية والقضائية، أهم ما في الكتاب، لما كان لها من التأثير البعيد المدى.

يرى مونتسكيو أن من التجارب الأزلية كون الإنسان ذي السلطان يميل إلى إساءة استعمال سلطانه هذا حتى يقف عند حد، فلا يقف السلطان غير السلطان، وعن توازن السلطات الثلاث تنشأ حرية الأمة.

ولا مراء في أن مقت الاستبداد من المشاعر التي كانت تلازم مونتسكيو، وفي أن هذه المشاعر كانت شائعة بين أكبر عدد من أبناء وطنه نتيجة لرد الفعل الذي عقب موت لويس الرابع عشر، وفي أن هذا يحس منذ ظهور «الرسائل الفارسية»، غير أن نصيب مونتسكيو في رد الفعل الشامل ذلك هو وضعه مذهبًا سياسيًّا يجعل الاستبداد متعذرًا، وهذا المذهب هو فصل السلطات.

وبالحرية السياسية يتطلب العقل في الدولة الحسنة التنظيم تحقيق مناحي العدل والإنسانية، والعقل يدين الرق وإن كان الإقليم يقتضيه في بعض البلاد كما يرى مونتسكيو، وداعي الرق عنده غير موجود في أوربة، وفي البلاد الحارة أيضا، فيعتقد عدم تعذر العمل الحر مطلقًا، والعقل يدين الحرب عنده، فمما تؤدي إليه الملكيات المقاتلة الفاتحة هلاك شعوبها، والحرب الدفاعية وحدها هي الموافقة للعدل والصواب، وحق الدفاع الشرعي خاص بالدول كما هو خاص بالأفراد، والعقل يدين كل ظلم وقسوة عنده، فهو يدينهما بالقوانين وبتطبيق القوانين.

ولا أحد، كمونتسكيو، شهر في القرن الثامن عشر حربًا شعواء على قسوة الاشتراع والمرافعات الجنائية، فحمل على شدة العقوبات وأثبت أن هذه الشدة تغدو غير مرهبة في آخر الأمر، وأكثر العقوبات تأثيرًا عنده ما ناسب الجرائم.

وعند مونتسكيو أنه لا شيء أشد ضررًا على الجمهور والدولة من الإفراط في جباية الأموال وسوء إدارتها، فلا يحق للحكومة، مهما كان لونها، أن تطالب الأهلين بغير المبالغ التي تقتضيها مصالح الدولة، ومن سرقة أموال الشعب وزيادة بؤسه عنده كل جود من الأمير على بطانته مساعدة لها على الانعماس في الترف، وكل ثروة يجمعها الماليون من ضرائب إضافية يتمكنون بها من اقتناص مال الشعب، ولذا وجب على رجال الحكم ألا يمعنوا في إرهاق الأهلين بالضرائب الثقيلة وأن يحرصوا على إشعار الشعب العامل بأنه يتمتع بثمرات عمله، فلا يبلغ الشعب من البؤس واليأس درجة يعدل معها عن العمل.

ويذهب مونتسكيو إلى ضرورة اختلاف القوانين باختلاف الأقاليم والعروق والمعتقدات والمناحي والوسائل، فمن قوله: «إن القانون على العموم هو الموجب البشري ما سيطر على أمم الأرض طُرًّا، ولا ينبغي للقوانين السياسية والمدنية في كل أمة أن تكون غير الأحوال الخاصة التي يطبق عليه الموجب البشري … ويجب أن تكون تلك القوانين خاصة بطبيعة البلد، خاصة بالإقليم البارد أو الحار أو المعتدل، وبطبيعة الأرض وموقعها واتساعها، وبجنس حياة الأمم أو الزراع أو الصائدين أو الرعاة، ويجب أن تناسب درجة الحرية التي يمكن أن يبيحها النظام، ودين الأهلين وعواطفهم وغناهم وعددهم وتجارتهم وطبائعهم ومناهجهم … وهذا ما أحاول صنعه في هذا الكتاب، فأبحث في جميع هذه الصلات، وهي التي يتألف من مجموعها ما يسمى روح الشرائع».

ويسهب مونتسكيو في بيان تأثير الإقليم فيذهب إلى أن البرد يساعد على تقدم الصناعة ونشوء الشجاعة وأن الحر ينمي الكسل، ويعترض ڨولتير عليه بالعرب الذين لم يأتوا من الشمال «ففتحوا من البلاد في ثمانين سنة ما هو أكثر مما ملكته الإمبراطورية الرومانية».

وكانت فرنسة في عهدي لويس الرابع عشر ولويس الخامس عشر تشتمل على كنيسة مرهقة وملكية مطلقة، فلم تدر ما التسامح الديني ولا الحرية السياسية، ولكنها تضيق بهذا النظام ذرعًا، فتسود في أوائل القرن السابع عشر، بين الطبقات المثقفة على الخصوص، روح معارضة الكنيسة والملكية، ولكن من غير جهر بمهاجمة الدين، ولكن مع بث عدم الاكتراث له، ولكن مع وجود ساخطين سياسيين يتذمرون من حكومة الملك، فيظهر في النصف الأول من القرن الثامن عشر مونتسكيو وڨولتير، وكلا الاثنين من رجال الطبقات العليا، وكلاهما كان راضيًا بالمجتمع الذي يعيش فيه، فلا يرغب في قلبه، وإنما يطلب الإصلاح، وكلاهما فتن بالدستور الإنكليزي، ولا سيما تسامح الإنكليز الديني، وكان الدين أظهر ما عُني به ڨولتير وإن بحث في السياسة، وكانت السياسة أظهر ما عُني به مونتسكيو وإن بحث في الدين، وكلاهما ناهض عدم التسامح في جميع وجوهه، كما ناهضا الاضطهاد والتفتيش والحروب الدينية، وطالب ڨولتير بإلغاء امتيازات الإكليروس، وطالب مونتسكيو بأن تكف الكنيسة عن ظلم مخالفيها ومنكريها، وبأن يكون الإكليروس أقل ثراءً وأقل سلطانًا.

قال مونتسكيو:

إذا رأت قوانين دولة معاناة أديان كثيرة وجب عليها أن تلزم هذه الأديان بالتسامح نحو بعضها بعضًا، ومن المبادئ أن يصبح كل دين مزجور زاجرًا، وذلك أنه إذا استطاع الخروج من دائرة الضغط مصادفة لم يلبث أن يهاجم الدين الذي ضغطه عن طغيان، لا عن دين.

ومن المفيد، إذن أن تطلب القوانين من هذه الأديان المختلفة ألا يكدر بعضها صفو بعض فضلًا عن عدم تكدير صفو الدولة، ولا يعد المواطن مطيعًا للقوانين مطلقًا باقتصاره على عدم تكدير كيان الدولة، بل يجب عليه أيضًا، ألا يكدر أحدًا من المواطنين أيًّا كان.

ويرى مونتسكيو أن العقل يزجر المشاعر ويسيطر عليها دائمًا، ولم يكن مونتسكيو ثوريًّا قط، وهو لا ينفك يوصي بالاعتدال وضبط النفس، وهو يشير بإطاعة القوانين، وهو لا يذهب إلى نيل العدل والتقدم بالقهر والعنف، وهو يعوِّل على الزمن والعمل الخفي وغير المحسوس وعلى العقل في إصلاح النظم السياسية والاجتماعية وزيادة حاصل العدالة في الأمة، وفي الفوز بالسعادة والرخاء، ولا ريب في أنه كثير الحساب لضعف الناس وشهواتهم، ولكن من غير ذعر وقنوط، ولم يفته أن الحرية، حتى في البلدان العريقة فيها، تغذِّي المصالح الخاصة بوسائل التغلب على العقل والعدل، فمن السهل تحريك شهوات الشعب وصرفه عن منافعه الحقيقة وسوقه إلى تركها.

وكتاب «روح الشرائع» هو سِفر مونتسكيو السياسي الرائع، ولم يؤلف في الغرب ما يفوقه، وهو «أعظم كتاب فرنسي في القرن الثامن عشر»، والكتاب جامع لفلسفة الاشتراع وحكمة التاريخ والفقه الدستوري، وكتاب «روح الشرائع» سِفر تحليلي أمكن تعديل بعض جزئياته، ولكنه ظل قائمًا في مجموعه، وهو في موضوعه أكثر الكتب تأثيرًا في الأزمنة التي جاءت بعده، ولم يظهر مثل واضعه كاتب مثل في التاريخ السياسي دورًا مهمًّا، فقد استوحته دساتير فرنسة منذ ذرَّ قرن الثورة الفرنسية، وكان له الأثر البالغ في وضع دساتير العالم حتى يومنا هذا، ومن الواضح انتحال الدساتير الأمريكية لمبادئه في فصل السلطات على الخصوص، وكتاب «روح الشرائع» هو الأثر الذي عد به مونتسكيو واضع علم السياسة وعلم الاجتماع في الغرب.

وقد ألمعنا إلى وجوب البحث عن ضمان الحرية والسلامة في فصل السلطات، وهذا هو المذهب المشهور الذي اكتشفه مونتسكيو ونشره، وما فتئ الناس منذ القرن الثامن عشر يستلهمون هذا المبدأ في كل مكان يراد إقامة حكومة حرة فيه، سواء أفي المجالس أم في الصحافة أم في عالم النشر أم فوق المنابر، وأي حزب لا يدعو الأحزاب الأخرى إلى احترام مبدأ فصل السلطات؟

و«روح الشرائع» هو الكتاب الذي حرر به مونتسكيو معشر المشترعين من السير مع هوى الناس ومن مصادفات الأحوال، وردهم إلى أساس الطبيعة البشرية، فنال من الصيت البعيد منذ صدوره ما طُبع مع عشرين مرة في أقل من عامين، وترجم إلى جميع لغات أوربة، و«روح الشرائع» هو ما قال عنه عدو مونتسكيو الأزرق ڨولتير: «كان الجنس البشري قد أضاع حججه، فأعادها مونتسكيو إليه»، وهو ما قال عنه إميل فاغيه: «روح الشرائع أكثر من كتاب، هو أثر تاريخي عظيم ينزل إلى الوقائع فيترك فيها أثرًا عميقًا لزمن طويل جدًّا».

والحق أن «روح الشرائع» هو أثر روح عالية، والحق أن «روح الشرائع» هو روح إنسانية يدين الظلم والاعتداء ويوصي باللطف والعطف، وهو يسير بقارئيه إلى مثل الثورة الفرنسية الأعلى، يسير بهم إلى خلاصة هذا المثل: الحرية والمساواة والإخاء.

وعلى ما يتصف به كتاب «روح الشرائع» من تعقيد في الأسلوب والتباسٍ في العبارة فإنه الغامض الواضح الذي يعد من أقوى ما احتوته اللغة الفرنسية من كتب النثر، فهو جامع جمعًا عجيبًا منسجمًا بين الخيال والحقيقة والعقل والإحساس والجرأة والاعتدال، وعلى من يود أن يستوعب «روح الشرائع» ويستخرج منه كل عبرة أن يعرف كيف يقرأه، وقد جاء فيه: «لا ينبغي أن يبلغ من استقصاء أحد الموضعات دائمًا ما لا يترك معه شيء يعمله القارئ، فالمهم ألا يرغب في القراءة، بل في التفكير».

ويظهر أن ما في الكتاب من غموض والتباس وما في عبارته من تعقيد ناشئ عن وضعه في عهد ملك عضوض، في زمن كان الاعتقال والسجن والقتل جزاء من يبدي رأيًّا صريحًا يهدف إلى تغيير النظام السياسي وتعديله، وربما كان هذا سر قول مونتسكيو في مقدمته: «إذا وجد، فيما اشتمل عليه هذا السفر من أمور لا تحصى، ما قد يسيء خلافًا لما أتوقع لم يكن فيه ما صدر عن سوء قصد … وقديمًا كان أفلاطون يحمد الرب على أنه وُلِدَ في زمن سقراط، وأجدني شاكرًا للرب ولادتي في عهد الحكومة التي أعيش فيها ومشيئته أن أطيع من جعلني أحب … ولو كنت قادرًا على تزويد جميع الناس بأسباب جديدة يحبون بها واجباتهم وأميرهم ووطنهم وقوانينهم ويشعرون بأنهم سعداء في كل بلد وكل حكومة وكل مركز يكونون فيه لعددتني أسعد الورى».

حقًّا كان مونتسكيو مؤرخًا فيلسوفًا فقيهًا من الطراز الأول …

وكان مونتسكيو وطنيًّا صادقًا ضمن المعنى السائد للقرن الثامن عشر، وذلك أنه كان رجلًا يتوخى النفع العام في جميع أفعاله، كما أنه كان وطنيًّا ضمن المعنى الذي ساد القرن التاسع عشر، وذلك أنه وقف نفسه على عظمة وطنه ومجد قومه، مع الاستعداد للدفاع عنه والموت في سبيله تجاه الأجنبي، غير أن وطنية مونتسكيو لا تنطوي على ازدراء الأجنبي ولا على تحديه ولا على مقته، فهو يحمل حبًّا شاملًا للإنسانية مع طلب الخير للأمم التي تتألف منها والمطالبة بالرفق بها، ولا يعني هذا أنه يعرِّض بلاده للهلاك عن حب للإنسانية، وإنما كان من الشجاعة ما يضحي معه بمنفعة خاصة لبلاده في سبيل مصلحة النوع البشري العامة، فهو ليس ممن يوقدون العالم سَلْقًا لبيضة على حسب التعبير العصري.

ولم يسلم مونتسكيو من حملات كانت تشنُّها الكنيسة وغير الكنيسة عليه بعد وضع «روح الشرائع»، ويقضي السنين السبع التي بقيت له من عمره بعد نشر «روح الشرائع» في الرد على هذه الحملات في كتاب «الدفاع عن روح الشرائع» على الخصوص.

وفي لابريد، لا في باريس، أكثر ما تمتع مونتسكيو بما تم له من نجاح وبعد صيت بعد نشر «روح الشرائع»، فمونتسكيو عاد لا يأبه لحياة المجتمع الراقي بباريس كما في شبابه.

ولم يعش مونتسكيو طويلًا بعد كتابه العظيم، ففي سنة ١٧٥٤ زار باريس للخلاص من إجارة منزله فيها، ولكنه لم يلبث أن مرض في باريس، ولم يمهله المرض، فمات في ١٠ من فبراير٦ سنة ١٧٥٥ ابنا للسادسة والستين ودفن في كنيسة سان سولپيس بباريس.
واسمع بعض ما قاله موپر تويس مؤبنًا مونتسكيو، في ٥ من يونيه٧ سنة ١٧٥٥، في المجلس العام لمجمع العلوم الملكي ببرلين:

كان مونتسكيو يميل إلى الرفق والإنسانية دائمًا فيخشى من التحولات ما لا يستطيع أعظم العباقرة أن يبصروا نتائجه في كل حين، وكان يطبق على كل شيء هذه الروح المعتدلة التي يرى بها الأمور من غرفته ويحفظها بين ضوضاء العالم وفي حميَّا الأحاديث، وكنت تجد الرجل عينه مع جميع الأوضاع، وهنالك كان يظهر أكثر روعة مما في آثاره، كان يظهر بسيطًا عميقًا جليلًا فيفتن ويثقف ولا يسيء مطلقًا، وكان لي شرف العيش، مثله في ذات المجتمعات، فأبصرت مع مشاطرة، عدم الصبر الذي كان يستمع به إليه دائمًا، والسرور الذي كان يبدو عند مشاهدة وصوله.

وكان وقاره الحر مع الحياء يشابه حديثه، وكان معتدل القامة، وهو على ما كان من ذهاب إحدى عينيه تقريبًا وشدة ضعف الأخرى لم يلاحظ ذلك عليه قط، فكانت سيماه جامعة بين السماح والسمو.

وكان قليل العناية بثيابه، وكان يتهاون بكل شيء خلا النظافة، وكان لا يلبس سوى النسائج البسيطة غير مضيف إليها ذهبًا ولا فضة، وكانت عين البساطة تلاحظ على مائدته وفي بقية تدبيره المنزلي، وهو على الرغم من النفقة التي اقتضتها رحلاته ومعاشرته اللخواص وضعف نظره وطبع كتبه لم يقتطع شيئًا من تراثه المتوسط الذي انتقل إليه من آبائه غير مكترث لزيادته مع جميع الفرص التي اتفقت له في بلد وعصر تفتح فيها أبواب الثراء لأقل الأهليات.

وهنا نذكر أن بعض موضوعات الكتاب مسبوق وبعضها غير مسبوق، غير أن الكتاب في مجموعة تام الجدة كامل الإبداع حتى في منهاج المسبوق منه، ولا نقابل هنا بين المؤرخ الفيلسوف الفقيه العربي ابن خلدون ومونتسكيو لنرى أيهما أكثر إبداعا من الآخر وأحق منه في لقب واضع علم السياسة والاجتماع، فلكل منهما نواح أبدع فيها أثكر من الآخر، وكل منهما عالج موضوعات لم يتناولها الآخر، وكل منهما أفاض في موضوعات أكثر مما أفاض الآخر، وهما كفرسي رهان كما يبدوان أول وهلة، وليس من الرأي أن يقطع في كون ابن خلدون علا مونتسكيو عبقرية، ولو في بعض الموضوعات؛ لأن ابن خلدون أقدم عصرًا من مونتسكيو، ولأن ابن خلدون سبق مونتسكيو في معالجته أمورًا بحث فيها هذا الأخير وانتهى إلى نتائج مماثلة لما انتهى إليه ابن خلدون، فالقدم ليس أمرًا مهمًّا في التفضيل ما دام ابن خلدون قد ظهر في زمن عرفت فيه أسرار حضارة العرب وجميع وجوهها فكان هذا من أعظم العوامل في تجلي عبقرية ابن خلدون، وما دام مونتسكيو قد ظهر بعد اكتشاف أمريكة وظهور كثير من النظم الحكومية والمبادئ الإدارية والمالية والاقتصادية وما انطوى عليه هذا من مساوئ، وما دام مونتسكيو ظهر في زمن بلغت الحضارة الأوربية فيه درجة رفيعة بعد دور النهضة، فكان هذا من أعظم العوامل في تجلي عبقرية مونتسكيو، وإنما يقضي الإنصاف بأن يبحث في كون مونتسكيو قد اطلع على مقدمة ابن خلدون أو عرف أمرها ممن اطلعوا عليها فاستواحاها في وضع مطالبه، كما أن الإنصاف يقضي بالبحث في مجموع المسائل التي عالجها كل منهما ومقدار ما أبدع فيها ثم المقارنة بين ذلك حتى يمكن القول بأن أحدهما أعلى من الآخر عبقرية في موضوعات معينة أو على العموم.

وإني بعد إبداء هذه الملاحظة أذكر أن كتاب «روح الشرائع» الجليل وضع منذ أكثر من قرنين، وأنه طرأ على اللغة الفرنسية، في هذه المدة الطويلة، بعض التحويل والتغيير في الألفاظ والتراكيب والاصطلاحات، فبذلنا جهودًا مضنية لتذليل هذه الصعوبات وجعل الترجمة حرفية واضحة جهد المستطيع مع ما ينطوي عليه الأصل من غموض ناشئ عن وضعه في عصر الاستبداد بفرنسة كما ذكرت، وذلك فضلًا عن كون الغموض يلازم كتب الفقه والقانون والفلفسة والاجتماع على العموم، فإذا كان التوفيق قد أصابني في ترجمة هذا الكتاب الخالد الذي هو صنو «مقدمة ابن خلدون» ترجمة صحيحة، وذلك من الطبعة المطابقة للتي مات مونتسكيو معوِّلًا عليها،٨ وكان للأمة العربية نفع به، فإنني أكون قد نلت ما أتمنى.
نابلس

هوامش

(١) الشرائع هنا هي القوانين في أوسع معانيها.
(٢) كانون الثاني.
(٣) كان يطلق اسم البرلمان على ديوان القضاء الأعلى في ذلك الحين.
(٤) Provincial.
(٥) نيسان.
(٦) شباط.
(٧) حزيران.
(٨) مكتبة لابلياد (La Pléiade)، عرض وإشراف روجه كايوا (Roger Caillois).

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤