الفصل السادس

نظام إنكلترة

يوجد في كل دولة ثلاثة أنواع للسلطات، وهي السلطة الاشتراعية، وسلطة تنفيذ الأمور الخاصة لحقوق الأمم، وسلطة تنفيذ الأمور الخاضعة للحقوق المدنية.

والأمير، أو الحاكم، يضع القوانين بالسلطة الأولى لزمن معين أو لكل زمن، ويصحح أو يُلغي ما وضع منها، وهو بالثانية يقرر السلم أو الحرب ويرسل السفارات أو يتقبلها، ويوطد الأمن ويحول دون الغارات، وهو بالثالثة يعاقب على الجرائم أو يقضي فيما بين الأفراد من خصومات، وتُسمى هذه الأخيرة سلطة القضاء، وتُسمى الأخرى سلطة الدولة التنفيذية فقط.

وتقوم حرية المواطن السياسية على راحة النفس التي تنشأ عن رأي كل واحد حول سلامته، ويجب لنيل هذه الحرية١ أن تكون الحكومة من الوضع ما لا يمكن المواطن معه أن يخشى مواطنًا آخر.

ولا تكون الحرية مطلقًا إذا ما اجتمعت السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية في شخص واحد أو في هيئة حاكمة واحدة؛ وذلك لأنه يخشى أن يضع الملك نفسه أو السِّنات نفسه قوانين جائرة لينفذها تنفيذًا جائرًا.

وكذلك لا تكون الحرية إذا لم تفصل سلطة القضاء عن السلطة الاشتراعية والسلطة التنفيذية، وإذا كانت متحدة بالسلطة الاشتراعية كان السلطان على الحياة وحرية الأهلين أمرًا مراديًّا؛ وذلك لأن القاضي يصير مشترعًا، وإذا كانت متحدة بالسلطة التنفيذية أمكن القاضي أن يصبح صاحبًا لقدرة الباغي.

وكل شيء يضيع إذا مارس الرجل نفسه أو هيئة الأعيان، أو الأشراف أو الشعب نفسها هذه السلطات الثلاث: سلطة وضع القوانين وسلطة تنفيذ الأوامر العامة وسلطة القضاء في الجرائم أو في خصومات الأفراد.

وعدلت الحكومة في معظم ممالك أوروبة؛ وذلك لأن الأمير القابض على السلطتين الأوليين يدع لرعاياه ممارسة السلطة الثالثة، ولدى الترك، حيث السلطات الثلاث قبضة السلطان، يسود استبداد فظيع.

وفي جمهوريات إيطالية، حيث تجتمع هذه السلطات الثلاث، تكون الحرية أقل منها في ملكياتنا، وكذلك تحتاج الحكومة لبقائها إلى وسائل قاسية كوسائل الترك كما يدل على ذلك مفتشو الدولة،٢ والأرومة التي يمكن كل واش أن يُلقي فيها اتهامه ببطاقة في كل وقت.

وانظروا إلى الوضع الذي يمكن أن يكون عليه المواطن في هذه الجمهوريات، يكون للهيئة الحاكمة، كمنفذة للقوانين، جميع السلطة التي انتحلتها كمشترعة، فيمكنها أن تخرب الدولة بعزائمها العامة، وبما أنها صاحبة لسلطة القضاء فإنه يمكنها أن تُهلك كل واحد من الأهلين بعزائمها الخاصة.

والسلطة كلها واحدة هنالك، وعلى ما ليس هنالك من أبهة خارجية تنم على الأمير المستبد فإنه يشعر به في كل ساعة.

ثم إن الأمراء الذين أرادوا أن يكونوا مستبدين بدءوا بجمع جميع السلطات في شخصهم دائمًا، كما بدأ كثير من ملوك أوروبة بجمع ما في دولتهم من أعباء عظيمة في شخصهم.

واعتقد أن الأريستوقراطية الوراثية الخالصة في جمهوريات إيطالية لا تطابق استبداد آسية تمامًا، وتلطف كثرة القضاة القضاء أحيانًا، ولا يتعاون الأشراف على جميع المقاصد في كل وقت، ويؤلف هنالك من مختلف المحاكم ما يعتدل، وهكذا يكون الاشتراع في البندقية للمجلس الكبير، والتنفيذ للپريغادي، وسلطة القضاء للكارنتي، غير أن السوء في كون هذه المحاكم المختلفة مؤلفة من قضاة من هيئة واحدة، وهذا لا يدل على غير سلطة واحدة.

ولا ينبغي أن تفوض سلطة القضاء إلى سِنات دائم، بل يجب أن يمارسها أناس من الشعب٣ في زمن معين من السنة على الوجه الذي يأمر به القانون لتأليف محكمة يدوم أمرها على حسب الضرورة.

وهكذا تصبح سلطة القضاء الهائلة بين الناس خافية قاصرة لعدم ارتباطها في حال معينة أو مهنة معينة، ولا يكون قضاة أمام العيون دائمًا، ويُخشى القضاء لا القضاة.

حتى إنه يجب أن يستطيع الجاني اختيار القضاة في الاتهامات الكبرى مباراة مع القانون، أو يستطيع أن يرفض على الأقل عددًا كبيرًا من القضاة يظن معه أنه اختار من بقي منهم.

وأما السلطتان الأخريان فيمكن أن تُفوضا إلى حكام أو إلى هيئات دائمة؛ لأنهما لا تمارسان تجاه أي فرد كان، ما كانت إحداهما إرادة الدولة العامة وكانت الأخرى تنفيذ هذه الإرادة العامة.

ولكن إذا كان من الواجب ألا تكون المحاكم ثابتة وجب أن تكون الأحكام من الثبات ما تظهر معه نصًّا صريحًا للقانون، ولو كانت الأحكام رأيَ القاضي الخاص لدلت على الحياة في مجتمع لا تعرف العقود التي تعقد فيه بدقة.

حتى إنه يجب أن يكون القضاة من طبقة المتهم أو من أمثاله، وذلك لكيلا يدور في خلده أنه واقع بين أيدي أناس يميلون إلى الجور عليه.

وإذا ما تركت السلطة الاشتراعية للسلطة التنفيذية حق حبس الأهلين القادرين على تقديم كفالة عن سلوكهم لم تبق حرية ما لم يوقفوا للجواب، بلا مطل، عن تهمة جعلها القانون من تهم الإعدام، ففي هذه الحالة يكونون أحرارًا حقًّا ما داموا لم يخعضوا لغير سلطان القانون.

ولكن السلطة الاشتراعية إذا ما اعتقدت أن الخطر يحدق بها عن مؤامرة سرية ضد الدولة أو عن مواطأة مع أعداء الخارج أمكنها أن تبيح للسلطة التنفيذية، وذلك لوقت قصير محدود، أن تعتقل المواطنين المشتبه فيهم، والذين لا يخسرون حريتهم لزمن إلا ليحفظوها إلى الأبد.

وهذه هي الوسيلة الوحيدة الموافقة للعقل في القيام مقام قضاء الإيفور الاستبدادي وقضاة التفتيش في دولة البندقية الذين هم مستبدون أيضًا.

وبما أن كل رجل في الدول الحرة يفترض صاحب نفس حرة حاكمًا في نفسه بنفسه؛ فإن من الواجب أن تكون السلطة الاشتراعية قبضة الشعب جملة، ولكن بما أن هذا متعذر في الدول الكبيرة وذو محاذير كثيرة من الدول الصغيرة؛ فإنه يجب أن يصنع الشعب بواسطة ممثليه كل ما لا يقدر على صنعه بنفسه.

والرجل يعرف احتياجات مدينته أكثر من أن يعرف احتياجات المدن الأخرى، والرجل يحكم في طاقة جيرانه أكثر مما في طاقة أبناء وطنه الآخرين، فلا ينبغي، إذن، أن يستخلص أعضاء الهيئة الاشتراعية من جمهرة الشعب على العموم، بل يكون من المناسب أن يختار السكان في كل مكانٍ مهمٍّ ممثلًا لهم.

وأعظم ما يُنتفع بالممثلين هو أنهم قادرون على النقاش في الأمور، ولا يستطيع الشعب ذلك مطلقًا، وهذا من أكبر محاذير الديموقراطية.

وليس من الضروري أن يتلقى الممثلون، الذين زادوا من ناخبيهم بإرشاد عام، توجيهًا خاصًّا حول كل أمر، وذلك كما يقع في مجالس ألمانية المعروفة بالديت، أجل، إن كلام النواب على هذا الأسلوب يعبر عن صوت الأمة، غير أن هذا يوجب تطويلات لا حد لها، ويجعل من كل نائب سيد الآخرين، كما قد يجعل قوة الأمة تقف عن هوى في الأحوال الملحة إلى الغاية.

وقد أصاب مستر سيدني في قوله: إن على النواب الذين يمثلون جماعة من الشعب، كما في هولندة، أن يقدموا حسابًا إلى الذين وكلوهم، ويكون الأمر غير هذا إذا ما كانوا نوابًا عن كور كما في إنكلترة.

ويجب أن يحق لأبناء الوطن في مختلف المديريات إعطاء أصواتهم لانتخاب الممثل، وذلك خلا من يكونون من انحطاط الحال ما اشتهروا معه بأنهم لا إرادة خاصة لهم مطلقًا.

وكان يوجد عيب كبير في معظم الجمهوريات القديمة، وذلك أن كان للشعب فيها حق اتخاذ أحكام فعالة تتطلب شيئًا من التنفيذ؛ أي: إتيان أمر يعجز عنه تمامًا، وليس للشعب أن يدخل في الحكومة إلا لانتخاب ممثليه؛ أي: القيام بأمر يسهل عليه؛ وذلك لأنه إذا كان من يعلمون درجة اقتدار الرجال الحقيقية قليلين فإن كل واحد يستطيع، مع ذلك، أن يعرف، على العموم، هل الذي يختاره أعظم إدراكًا من معظم الآخرين.

وكذلك لا ينبغي أن تُنتخب الهيئة الممثلة لكي تتخذ قرارًا فعالًا، وذلك لعجزها عن صنع هذا جيدًا، بل لتضع قوانين أو لترى هل نُفذت القوانين التي وضعتها تنفيذًا حسنًا، وهذا ما تجيد صنعه، وهذا ما لا يقدر غيرها على حسن صنعه.

وفي الدولة يوجد دائمًا أناس ممتازون عن نسب أو ثراء أو شرف، ولكن هؤلاء الناس إذا ما اختلطوا بالشعب، ولم يكن لهم فيه غير صوت كالآخرين، كانت الحرية المشتركة رقًّا لهم، ولم تكن لهم أية مصلحة للدفاع عنها؛ وذلك لأن معظم القرارات تكون ضدهم، ولذا يجب أن يكون نصيبهم في الاشتراع معادلًا للمنافع التي لهم في الدولة، وهذا الذي يقع إذا ما ألفوا هيئة يحق لها وقف مشاريع الشعب كما يحق للشعب أن يقف مشاريعها.

وهكذا تُفوض السلطة الاشتراعية إلى هيئة الأشراف وإلى هيئة تنتخب لتمثيل الشعب فيكون لكل من الهيئتين مجلسها ونقاشها على حدة، ويكون لهما آراء ومصالح منفصلة.

ومن بين السلطات الثلاث التي تكلمنا عنها تظهر سلطة القضاء غفلًا من بعض الوجوه، فلا يبقى منها غير اثنتين، وبما أنهما محتاجتان إلى سلطة ناظمة تعدلهما كان قسم الهيئة الاشتراعية المؤلف من الأشراف صالحًا لبلوغ هذه النتيجة.

ويجب أن تكون هيئة الأشراف وراثية، وذلك عن طبيعتها أولًا، ثم إنه لا بد من أن تكون لها مصلحة كبيرة في المحافظة على امتيازاتها الممقوتة بذاتها، والتي تكون على خطر دائم في دولة حرة.

ولكن بما أن من الممكن أن تُغرَى السلطة الوراثية باتباع مصالحها الخاصة ونسيان مصالح الشعب وجب في الأمور التي تنطوي على مصلحة قوية في إزعاجها، كما في قوانين جباية المال، ألا يكون لها نصيب في الاشتراع غير سلطة المنع، لا سلطة القطع.

وبسلطة القطع أُسمِّي حق الأمر لذاته أو إصلاح ما أمر به آخر، وبسلطة المنع أُسمِّي حق جعل قرار أصدره آخر لاغيًا، وهذه هي السلطة التي كان يتمتع بها محامو الشعب في رومة، ومع أن من الممكن أن يكون لصاحب سلطة المنع حق الموافقة أيضًا فإن هذه الموافقة ليست غير تصريح بأنه لا يستعمل سلطته في المنع مطلقًا، وهي تشتق من هذه السلطة.

ويجب أن تكون السلطة التنفيذية قبضة ملك؛ وذلك لأن هذا القسم من الحكومة، الذي يحتاج دائمًا تقريبًا إلى عمل عابر، يدار من قبل واحد أحسن من أن يدار من قبل كثيرين، وذلك مع أن الذي هو خاص بالسلطة الاشتراعية يكون في الغالب أكثر سدادًا بأناس كثيرين مما بواحد.

وإذا لم يكن هنالك ملك قط، وإذا ما عهد بالسلطة التنفيذية إلى أناس يؤخذون من الهيئة الاشتراعية، عادت الحرية غير موجودة، وذلك لما ينطوي عليه هذا من اتحاد السلطتين، وذلك لنصيب الأشخاص أنفسهم في كلتا السلطتين أحيانًا، ولاستطاعتهم هذا دائمًا.

وتضيع الحرية عند عدم اجتماع الهيئة الاشتراعية زمنًا طويلًا؛ وذلك لأنه يحدث واحد من أمرين: أن ينقطع إصدار أي قرار اشتراعي، وهنالك تقع الدولة في الفوضى، أو أن تصدر السلطة التنفيذية هذه القرارات، وهنالك تصير هذه السلطة مطلقة.

ومن غير المفيد أن تكون الهيئة الاشتراعية دائمة الاجتماع؛ لأن في ذلك إرهاقًا للممثلين، ولأنه يشغل السلطة التنفيذية كثيرًا فلا تفكر في التنفيذ مطلقًا، بل في الدفاع عن امتيازاتها وعن حقها في التنفيذ.

ثم إذا ما كانت الهيئة الاشتراعية دائمة الاجتماع أمكن ألا يقع غير قيام نواب جدد مقام من يموتون، وإذا ما فسدت الهيئة الاشتراعية مرة في هذا الحال أصبح الداء بلا دواء، وإذا ما تعاقبت الهيئات الاشتراعية حق للشعب السيئ الرأي في الهيئة الاشتراعية الحاضرة أن يحمل آمالًا حول الهيئة التي ستأتي بعدها، ولكن إذا ما كانت الهيئة هي بعينها دائمًا انقطع رجاء الشعب من قوانينه عندما يرى فساد هذه الهيئة ذات يوم فيغدو مغاضبًا أو يصير مهملًا.

ولا ينبغي للهيئة الاشتراعية أن تجتمع بنفسها مطلقًا؛ وذلك لأن الهيئة لا تُحسب صاحبة إرادة إلا إذا اجتمعت، وهي إذا لم تجتمع بالإجماع لم يمكن أن يقال أي قسم تكونه الهيئة الاشتراعية في الحقيقة: آلقسم الذي يجتمع أم القسم الذي لا يجتمع، وهي إذا كانت صاحبة الحق في تأجيل جلساتها أمكن ألا تؤجل هذه الجلسات مطلقًا، وهذا ما ينطوي على خطر عندما تريد أن تعتدي على السلطة التنفيذية، ثم يوجد من الأوقات ما هو أصلح من الأخرى لاجتماع الهيئة الاشتراعية، فيجب، إذن، أن تكون السلطة التنفيذية هي التي تعين دورة هذه الجلسات ودوامها على حسب ما تعرف من الأحوال.

وإذا كانت السلطة التنفيذية غير ذات حق في وقف مشاريع الهيئة الاشتراعية أصبحت هذه الهيئة مستبدة، وذلك لإمكان انتحالها كل سلطة قد تخطر ببالها وقضائها بذلك على جميع السلطات الأخرى.

ولكن لا يجوز أن يكون للسلطة الاشتراعية حق وقف السلطة التنفيذية مقابلة؛ وذلك لأن من العبث تحديد التنفيذ ما دامت له حدوده بطبيعته، وذلك إلى أن السلطة التنفيذية تمارس دائمًا حول أمور عابرة، وقد كانت سلطة محامي الشعب برومة معيبة لوقفها التنفيذ فضلًا عن الاشتراع؛ أي: لتسبيبها شرورًا كبيرة.

ولكن إذا كان لا ينبغي للسلطة الاشتراعية في الدولة الحرة أن تقبض على حق وقف السلطة التنفيذية فإن لها، ويجب أن يكون لها، حق البحث في الوجه الذي ينفذ به ما وضعته من القوانين، وبها تتجلى أفضلية هذه الحكومة على حكومة أقريطش حيث كان الكوسم والإفور لا يقدمون حسابًا عن إدارتهم مطلقًا.

ولكن مهما يكن من أمر هذا البحث فإنه لا ينبغي للهيئة الاشتراعية أن تحكم في الشخص، ومن ثم في سلوك الذي ينفذ، فيجب أن يكون شخصه محترمًا، وذلك بما أنه ضروري للدولة منعًا للهيئة الاشتراعية من الطغيان فإنه إذا ما اتهم وقُضي فيه عادات الحرية غير موجودة.

وفي تلك الحال لا تكون الدولة ملكية مطلقًا، بل جمهورية غير حرة، ولكن بما أن الذي ينفذ لا يمكن أن يسيء التنفيذ من غير أن يكون مستشاروه خبثاء حاقدين على القوانين كوزراء، وإن كانت تكرمهم كأناس، فإنه يمكن أن يبحث عنهم وأن يُعاقبوا، وهذه هي أفضلية هذه الحكومة على حكومة كنيد التي كان القانون لا يسمح فيها بمحاكمة الأغفال٤ حتى بعد إدارتهم،٥ فكان لا يمكن الشعب أن ينتقم لنفسه من المظالم التي أُصيب بها.

ومع أنه لا ينبغي أن توحد سلطة القضاء على العموم بأي قسم من السلطة الاشتراعية؛ فإن هذا خاضع لثلاث استثناءات قائمة على المصلحة الخاصة للذي يجب أن يحاكم.

والعظماء عرضة للحسد دائمًا، فإذا ما حكم فيهم من قبل الشعب أمكن وقوعهم في خطر وحرموا الاستفادة من امتياز يتمتع به أقل واحد من الأهلين في دولة حرة، وهو أن يقضي في أمرهم من قبل أمثالهم، ويجب، إذن، أن يُدعَى الأشراف أمام ذلك القسم من الهيئة الاشتراعية المؤلف من أشراف، لا أمام محاكم الشعب العادية.

وقد يكون القانون، الذي هو بصير ضرير معًا، شديدًا جدًّا في بعض الأحيان، ولكن قضاة الأمة ليسوا، كما قلنا، غير الفم الذي ينطق بكلام القانون، ولكنهم جوامد عاجزة عن تعديل قوة القانون وشدته، ولذا يكون قسم الهيئة الاشتراعية، الذي قلنا إنه محكمة ضرورية في حال أخرى، ضروريًّا في هذه الحال، فعلى سلطان هذا القسم الأعلى أن يعدل القانون نفعًا للقانون نفسه بأن ينطق بما هو أخف من نصه.

ومما يمكن أن يحدث أيضًا أن يخرق بعض الأهلين حرمة حقوق الشعب في الأمور العامة، وأن يقترفوا من الجرائم ما لا يستطيع، أو لا يريد، الحكام الموظفون أن يعاقبوا عليه، ولكن السلطة الاشتراعية لا تستطيع القضاء على العموم، وهي إذا ما قدرت عليه كان أقل من ذلك في هذه الحال الخاصة التي تمثل بها القسم ذا العلاقة؛ أي: الشعب، ولذا لا تستطيع أن تكون غير متهمة، ولكن أمام من تتهم؟ أو تهبط أمام محاكم القانون التي هي دونها مرتبة والمؤلفة من أناس من الشعب كما هي فتجر هذه المحاكم بسلطان متهم عظيم مثلها؟ كلا، وإنما يجب أن تحفظ كرامة الشعب وسلامة الفرد بأن يتهم قسم الشعب الاشتراعي أمام قسم الأشراف الاشتراعي؛ أي: أمام هذا القسم الذي ليس عنده ذات المصالح وذات الأهواء.

وهذا ما تُفضل به هذه الحكومة على معظم الجمهوريات القديمة التي كان من عاداتها السيئة أن يظهر الشعب قاضيًا ومتهمًا في وقت واحد.

وللسلطة التنفيذية أن تشترك في الاشتراع بحق المنع كما قلنا، وإلا لم تلبث أن تجرد من امتيازاتها، ولكن إذا ما اشتركت السلطة الاشتراعية في التنفيذ ضاعت السلطة التنفيذية أيضًا.

وإذا ما اشترك الملك في الاشتراع بحق القطع فقدت الحرية، ولكن بما أنه يجب أن يشترك في الاشتراع دفاعًا، النفس على الخصوص فإنه يجب أن يشترك فيه بحق المنع.

والذي أوجب تغير الحكام في رومة هو أن السِّنات الذي كان ذا نصيب في السلطة التنفيذية، والحكام الذين كانوا أصحاب النصيب الآخر فيها لم يملكا حق المنع كالشعب.

إذن، هذا هو النظام الأساسي للحكومة التي نتكلم عنها، وبما أن الهيئة الاشتراعية مؤلفة فيها من قسمين فإن أحدهما يقيد الآخر بحقه في المنع مبادلة، ويكون كلا القسمين مرتبطًا في السلطة التنفيذية التي ترتبط في السلطة الاشتراعية.

وكان على هذه السلطات الثلاث أن توجد سكونًا أو جمودًا، ولكن بما أنها مكرهة على السير بحركة الأشياء الضرورية فإنها تسير متوافقة عن اضطرار.

وبما أن السلطة التنفيذية ليست قسمًا من السلطة الاشتراعية إلا بحق المنع فإنها لا تستطيع أن تتدخل في مناقشة الأمور، حتى إنه ليس من الضروري أن تقترح، وذلك بما أنها تستطيع أن ترفض القرارات دائمًا فإنها تقدر على نبذ ما تسفر عنه الاقتراحات من قرارات كان يمكن أن تريد عدم وضعها.

وفي بعض الجمهوريات القديمة، حيث كان يمكن الشعب أن يناقش في الأمور كهيئة، كان من الطبيعي أن تقترحها السلطة التنفيذية وأن تناقش هي والشعب حولها، وإلا لوجد في القرارات التباس غريب.

وإذا ما اتخذت السلطة التنفيذية قرارًا حول جباية الأموال العامة من غير موافقتها ضاعت الحرية؛ وذلك لأنها تصبح اشتراعية في أهم أمور الاشتراع.

وإذا ما اتخذت السلطة الاشتراعية قرارًا أبديًّا، لا مسانهةً، حول جباية الأموال العامة فإنها تخاطر بحريتها؛ وذلك لأن السلطة التنفيذية تعود غير مكترثة لها، وإذا ما حصل مثل هذا الحق إلى الأبد صار من غير المهم أن ينال من ذاته أو من غيره، ويقع مثل هذا إذا ما اتخذت قرارًا أبديًّا، لا مسانهةً، حول قوى البر والبحر التي يجب أن تفوض أمرها إلى السلطة التنفيذية.

ويجب أن تكون الجيوش التي يوفض أمرها شعبًا وأن تكون عندها روح الشعب نفسها كما في رومة حتى زمن ماريوس، وذلك لكيلا يستطيع من بيده أمر التنفيذ أن يجور، ولا يوجد غير وسيلتين ليكون الأمر هكذا، وذلك إما أن يكون لدى من يستخدمون في الجيش ما يكفي من الخير للجواب عن سلوكهم تجاه أبناء الوطن الآخر، وألا يجندوا إلا لسنة واحدة كما كان يقع في رومة، وإما أن يوجد فيلق دائم وأن يكون جنوده من أدنى أقسام الأمة، فيجب أن تكون السلطة الاشتراعية قاردة على فضه متى أرادت، وأن يقيم الجنود مع أبناء الوطن، وألا يوجد معسكر منعزل، وألا توجد ثكن ولا حصون.

ومتى أنشئ الجيش وجب ألا يكون تابعًا للهيئة الاشتراعية حالًا، بل يجب أن يكون تابعًا للسلطة التنفيذية، وذلك عن طبيعة الأمور، وذلك لقيام أمره على العمل أكثر مما على المناقشة.

ومن ذهنية الناس أن تُقدر الشجاعة أكثر من الحياء والنشاط أكثر من الاحتراز والقوة أكثر من النصائح، ويزدري الجيش مجلس السِّنات ويحترم ضباطه دائمًا، فلا يعتبر الأوامر التي ترسل إليه من هيئة مؤلفة من أناس يعتقد أنهم خُوَّف غير أهل لقيادته، وهكذا تصبح الحكومة عسكرية فور وجود الجيش تحت إمرة هيئة اشتراعية فقط، وإذا ما حدث العكس فذلك نتيجة بعض أحوال خارقة للعادة؛ أي: ناشئ عن انعزال الجيش دائمًا، وعن تأليف الجيش من كتائب كثيرة تابعة كل واحدة منها لولايتها الخاصة، وعن كون المدن المهمة أماكن رائعة تدافع عن نفسها بموقعها فقط، فلا توجد فيها كتائب مطلقًا.

وهولندة أكثر من البندقية سلامة، فهي تغمر الكتائب وتميتها جوعًا إذا ما تمردت، وهذه الكتائب ليست في المدن التي يمكن أن تميرها، والميرة لديها أمر وقتي إذن.

وإذا كانت الهيئة الاشتراعية هي التي تدير الجيش، ووجد من الأحوال الخاصة ما يحول دون تحول الحكومة إلى حكومة عسكرية؛ فإنه لا بد من الوقوع في محاذير أخرى، لا بد من حدوث أحد الأمرين: إما أن يقضي الجيش على الحكومة وإما أن تضعف الحكومة الجيش.

ويكون لهذا الضعف علة مقدرة، وهي أنه ينشأ عن ضعف الحكومة.

ومن يرد أن يطالع كتاب تاسيت العجيب عن «عادات الجرمان»٦ يجد الإنكليز قد اقتبسوا منهم مبدأ حكومتهم السياسية، وقد وجد هذا النظام البديع في الغاب.

وبما أن لجميع الأمور البشرية نهاية فإن الدولة التي نتكلم عنها ستفقد حريتها وستهلك، وقد هلكت رومة وإسپارطة وقرطاجة، وهي ستهلك عندما تصبح السلطة الاشتراعية أكثر من السلطة التنفيذية فسادًا.

وليس عليَّ مطلقًا أن أبحث في هل يتمتع الإنكليز بهذه الحرية أو لا، وإنما يكفيني أن أقول: إن هذه الحرية مؤيدة بقوانينهم، ولا أبحث فيما هو أكثر من هذا.

ولا أزعم بذلك، مطلقًا، أنني أخفض شأن الحكومات الخرى، ولا أنني أقول: إن هذه الحرية السياسية المتناهية مما يجب أن يُخزي الحكومات التي ليس عندها غير حرية معتدلة، وكيف أقول هذا وأنا الذي يعتقد أن فرط الصواب غير مرغوب فيه دائمًا، وأن الناس يرتضون، دائمًا تقريبًا، بالوسط من الأمور أكثر مما بالمتطرف منها.

وكذلك هارنغتن بحث في «بحره المحيط» عن أقصى حد للحرية يمكن نظام إحدى الدول أن يبلغه، ولكن يمكن أن يقال عنه: إنه لم يبحث عن هذه الحرية إلا بعد أن أنكرها وأنشأ كلسدونية واضعًا شاطئ بزنطة أمام عينيه.

هوامش

(١) إذا ما كان للإنسان في إنكلترة من الأعداء بعدد شعر رأسه لم يصبه شيء، وهذا كثير، فصحة الروح ضرورية كصحة البدن (ملاحظات حول إنكلترة).
(٢) في البندقية.
(٣) كما في أثينة.
(٤) أولئك هم حكام كان الشعب ينتخبهم في كل السنين، انظر إلى إتيان البزنطي.
(٥) كان يمكن اتهام الحكام من الرومان بعد انقضاء حكمهم، انظر إلى دني داليكارناس، باب ٩، قضية محامي الشعب جينوسيوس.
(٦) فصل ١١، De minoribus rebus principes consultant, de majoribus omnes; ita tamen ut ea quoque quorum penes plebem arbitrium est apud principes pertractentur.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤