الفصل الخامس

لم تكن نتائج الفتح واحدة عندما قامت شعوب شمال آسيا وشعوب شمال أوروبة بالفتح

فتحت شعوب شمال أوروبة هذه القارة فتح الأحرار، وفتحت شعوب شمال آسية هذه القارة فتح العبيد، فهم لم يغلبوا إلا في سبيل سيد.

وعلة ذلك كون الشعب التتري، الذي هو فاتح آسية التقليدي، قد أصبح عبدًا، فهو يقوم بالفتح في جنوب آسية بلا انقطاع فيقيم إمبراطوريات، غير أن قسم الشعب الذي يبقى في البلد يكون خاضعًا لسيد كبير مستبد في الجنوب فيرغب أن يكون كذلك في الشمال، ويدعي أنه ذو سلطان مرادي على الرعايا الغالبين كالذي تم له على الرعايا المغلوبين، وهذا ما يشاهد اليوم جيدًا في ذلك البلد الواسع المسمى البلد التتري الصيني، والذي يحكم العاهل فيه حكمًا استبداديًّا تقريبًا كما في الصين نفسها، والذي يوسع رقعته بفتوحه كل يوم.

ويمكن أن يُرى في تاريخ الصين أيضًا أن الأباطرة١ بعثوا جاليات صينية إلى بلاد التتر، وأن هؤلاء الصينيين أصبحوا تترًا وأعداء لُدًّا للصين، بيد أن هذا لم يمنع من حملهم إلى بلاد التتر روح الحكومة الصينية.
وفي الغالب يُطرد قسم من الشعب التتري الفاتح، فيجلب إلى صحاريه روحًا من العبودية كان قد اكتسبها في إقليم الرق، ولنا أمثلة كثيرة على ذلك في تاريخ الصين، وفي تاريخنا القديم أيضًا.٢
وهذا ما جعل خلق الشعب التتري أو الجيتي مماثلًا لخلق إمبراطوريات آسية دائمًا، فبالعصا يسيطر على الشعوب في هذه، وبالسياط الطويلة يسيطر على الشعوب التترية، وكانت روح أوروبة مخالفة لهذه الطبائع، وما سمته شعوب آسية عقابًا في كل زمن سمته شعوب أوروبة إهانة.٣

ولما قضى التتر على الإمبراطورية الرومية أقاموا العبودية والاستبداد في البلاد المفتوحة، ولما فتح القوط إمبراطورية الرومان أقاموا الملكية والحرية في كل مكان.

ولا أدري هل حدث رودبك المشهور في أطلنطيه، الذي أثنى فيه كثيرًا على إسكنديناڨية، عن ذلك الامتياز الكبير الذي يجب أن يجعل جميع الأمم المقيمة بها فوق جميع شعوب العالم، وذلك عن أنهم كانوا مصدر حرية أوروبة؛ أي: مصدر ما عند جميع الناس من حرية تقريبًا.

وسمَّى القوط جورنانديس شمال أوروبة مصنع الجنس البشري،٤ وأُفضل أن أسميه مصنع الآلات التي تُحطم القيود المطرقة في الجنوب، ففي الشمال تتألف تلك الأمم الباسلة التي تخرج من بلادها للقضاء على الطغاة والعبيد، ولتعليم الناس أن الطبيعة إذ جعلتهم متساوين لم يستطع العقل أن يجعلهم تابعين إلا من أجل سعادتهم.

هوامش

(١) كالعاهل الخامس من الأسرة الخامسة: فنتي.
(٢) فتح السيت آسية ثلاثة مرات، وطردوا منها ثلاث مرات، جوستان، باب ٢، فصل ٣.
(٣) لا يخالف هذا، مطلقًا، ما سأقوله في الفصل ٢٠ من الباب ٢٣ عن طراز تفكير الشعوب الجرمانية حول العصا، ومهما يكن من أمر الآلة فإنهم عدوا سلطة الضرب، أو الضرب المرادي، إهانة في كل وقت.
(٤) Humani generis officinam.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤