الفصل الأول

قالت جين، وهي تنفخ بشدة في حسائها: «عمة بي، أكان نوح ناصحًا داعمًا أشدَّ براعة من يولسيس، أم كان يولسيس ناصحًا داعمًا أشدَّ براعة من نوح؟»

«لا تأكلي من طرف ملعقتك يا جين.»

«لا أستطيع تحريكَ فتائل الشعرية من الجانب.»

«روث تفعل ذلك.»

نظرت جين إلى توءمها، التي كانت تتعامل مع الشعرية بإتقان يعكس اعتدادًا ببراعتها المميزة تلك.

«إنَّ قدرتها على الرشف أقوى مني.»

قالت روث، وهي ترمق عمَّتها بنظرةٍ جانبية: «العمة بي لها وجه يشبه وجه قطة غالية الثمن.»

فكَّرت بي في نفسها أن الوصف كان جيدًا للغاية، لكنها تمنَّت لو لم تكن روث شخصية غريبة الأطوار هكذا.

قالت جين، التي لم تكن تحيد أبدًا عن طريقٍ بمجرد أن تطأه قدماها: «لا، لكن أيهما كان الأكثر براعة؟»

قالت روث: «بل أيهما أكثر براعة من الآخر.»

«أكان نوح أم يولسيس؟ مَن منهما يا سايمون، في رأيك؟»

قال أخوها، دون أن يرفع بصره عن صحيفته: «يولسيس.»

فكَّرت بي أن سايمون ذو طبيعة تؤهله لقراءة قائمة العدَّائين في سباق نيو ماركت، وهو يضع التوابل على حسائه، ويستمع إلى الحوار الدائر، كل ذلك في آنٍ واحد.

«لِمَ يا سايمون؟ لماذا يولسيس؟»

«لأنه لم يكن لدَيه توقُّعات دقيقة من الأرصاد الجوية كالتي كانت لدى نوح. هل تتذكرين في أيِّ مكان انتهى حصان فايرلايت في سباق فري هانديكاب؟»

قالت بي: «بعيدًا في الجنوب.»

«إن الاحتفال ببلوغ سن الرشد يُشبِه، بعضَ الشيء، حفل الزفاف، أليس كذلك يا سايمون؟» كانت روث مَن طرحت هذا السؤال.

«بل أفضل بوجهٍ عام.»

«صحيح؟»

«يُمكنكِ البقاء والرقص في حفل بلوغك سن الرشد. لكن لا يُمكنكِ فِعل ذلك في حفل زفافك.»

«سأبقى وأرقص في حفل زفافي.»

«لا أستبعد ذلك عنكِ.»

فكَّرت بي في نفسها، آهٍ يا عزيزتي، أتصوَّر أن هناك أُسَرًا تخوض «حوارًا» على مائدة الطعام، لكني لا أعرف كيف يديرونه. لعلي لم أكن حازمة بما يكفي.

نَظَرَت إلى المائدة حيث الرءوس الثلاثة مُنحنية، وإلى مكان إلينور الذي لا يزال شاغرًا، وتساءلت إن كانت قد تحرَّت العدل بينهم. هل كان بيل ونورا سيسعدان بما أوصلت إليه أبناءهما؟ لو أن معجزة حدثت ودخلا الآن، في هيئتهما الشابة الأنيقة البشوشة كما رحلا عن الدنيا، هل كانا سيقولان: «أجل، هكذا تصورناهم في خيالنا بالضبط؛ حتى جين بهيئتها الرثة»؟

لاحت ابتسامة في عينَي بي عندما استقرَّتا على جين.

كانت الأختان التوءمتان في سن التاسعة وتُشارفان على عامهما العاشر، وكانتا مُتطابقتَين. كان تطابُقًا بالمعنى النظري. فرغم التشابُه بينهما في الملامح الجسمانية، لم يكن هناك أدنى شكٍّ بخصوص أيُّهما جين وأيُّهما رُوث. كان لهما نفس الشعر الأشقر الفاتح المسترسِل، ونفس الوجه الصغير والبشرة الفاتحة، والنظرة المباشرة نفسها المفعمة بالتحدي؛ ولكن عند هذا الحد تنتهي أوجُه التشابُه. كانت جين ترتدي سروالًا متسخًا مُخصصًا لركوب الخيل وقميصًا صوفيًّا لا معالِمَ له مزينًا بنهاياتٍ مفتولة من الصوف. أما شعرها فكان مسحوبًا إلى الخلف دون الاستعانة بمرآة، ومعقودًا في قبضة صارمة لدبوس شعر عتيق لدرجةِ أنه استعاد لونَه الفولاذي الأصلي، كما يحدث مع دبابيس الشعر القديمة. كان نظرُها ضعيفًا قليلًا، وفي حضور هيئة التحكيم في سباق الخيول، اعتادت ارتداءَ نظارةٍ لها إطارٌ من البلاستيك السميك. كان المُسْتقَر الطبيعي لهذه النظارة عادةً في الجيب الخلفي لسروالها؛ ولهذا كثيرًا ما كانت تضغط وتجلس عليها، حتى صارت تعيش في حالة إفلاس دائمة بسبب تكرار انكسارها واضطرارها لدفع ثمن إصلاحها من حصَّالتها بما يفوق مصروفها السنوي. كانت تمتطي فوربوستر؛ المُهر الأبيض العجوز، في طريقها من وإلى دروسها في بيت القسِّ، وكانت ساقاها القصيرتان تبرُزان إلى الخارج على كِلا جانبيه مثل القش. أصبح فوربوستر منذ وقتٍ طويل وسيلةَ تنقُّلٍ أكثرَ منها مطيةً للنُّزهة؛ لذا لم تكن تعبأ ببدَنِه الليِّن وعرْضه اللذَين كانا يشبهان الأفرشة المحشوَّة بالريش.

أما روث، على الجانب الآخر، فكانت ترتدي فستانًا قطنيًّا ورديَّ اللون، وتنضح نشاطًا ونضرة حينما انطلقت على متن درَّاجتها صباحَ اليوم إلى منزل القس. كانت يداها نظيفتين وأظافرها مُقلَّمة، وكانت قد وجدت في مكانٍ ما شريطةَ شعر وردية فعقَدت جانبَي شعرها على هيئة أنشوطة أعلى رأسها.

ثماني سنوات، هكذا كانت بي تفكر. ثماني سنواتٍ من التدبير، والتوفير، والتخطيط. وفي غضون ستة أسابيع، سينقضي دَورها كقيِّم. خلال شهر ونَيفٍ سيبلغ سايمون عامَه الحادي والعشرين، وسيرث ثروةَ والدتِه وستنقضي السنوات العِجاف. لم تكن أسرة آشبي غنية مطلقًا، لكن في حياة أخيها كان هناك مُتَّسع للحفاظ على ضيعة لاتشتس — المؤلَّفة من منزلٍ وثلاث مزارع — كما ينبغي. ولم يكن موت أخيها المفاجئ إلَّا سببًا في العيش على أعتاب الفقر طوال تلك السنوات الثماني. وقرار بي لم يأخُذ في الحسبان سوى أن تنتقِل أموال زوجة أخيها، في الشهر القادم، إلى ابنها كاملةً دون نُقصان. لم يكن متاحًا الاقتراض على أساس ذلك الإرث المستقبلي. ولا حتى حينما كان السيد ساندال، من مكتب كوسيت وثرينج ونوبل للمحاماة، على استعدادٍ للموافقة على ذلك. وكما قالت بي، لا بد أن تُغطي لاتشتس نفقاتها. وها هي ذي لاتشتس، بعد ثماني سنوات، لا تزال تعتمد على نفسها وقادرة على الوفاء بالتزاماتها المادية.

من وراء رأس ابن أخيها الأشقر، كان بإمكانها أن ترى، من النافذة، القضبانَ البيضاء لسور إسطبل الخيول الجنوبي، والحركة السريعة لذَيل ريجينا العجوز في ضوء الشمس. كانت الخيول السببَ في إنقاذهم. كانت الخيول، التي كانت هواية أخيها، هي سبيل النجاة والخلاص لمنزله. وعامًا بعد عام، ورغم كل الأمراض، والحوادث، واللعنة الشديدة التي أصابت الخيول، نجحت في إثبات أنها مصدرُ ربح. كانت الأرباح دائمًا ما تفوق الخسائر قليلًا. ولمَّا تبيَّن أن مزرعة خيول السباق الأصلية الصغيرة التي كانت مصدرَ سعادة أخيها قد تكون مصدرَ دعمٍ مشكوكًا فيه، اتَّجهت العمة بي إلى إضافة الأمهُر الصغيرة الشديدة الاحتمال الخاصة بالأطفال الصغار لتشغلَ المراعي الأشدَّ برودةً في منتصف الطريق نحو الجنوب. كانت إلينور قد درَّبت الخيول العجائز المشكوك في أمرها لتُصبح «مطيةً آمنة للسيدات» ثم باعتها بسعرٍ مُربح. وبعد أن صارت العزبة مدرسةً داخلية، كانت تُعلِّم الآخرين ركوب الخيل، مقابل سعرٍ مجزٍ للغاية في الساعة.

«تأخَّرت إلينور كثيرًا، أليس كذلك؟»

سأل سايمون: «أهي بالخارج مع ابنة بارسلو؟»

«أجل، مع ابنة بارسلو.»

«على الأرجح أن الحصان التعيس قد سقط ميتًا.»

نهض سايمون ليأخذ أطباقَ الحساء، وليُساعد في تقديم طبق اللحم من نضد المائدة، وبي تُراقبه باستحسانٍ نقدي. على الأقل نجحَتْ في ألا تُدلل سايمون، وكان ذلك إنجازًا لا يُستهان به بالنظر إلى جاذبية سايمون التي أكسبَتْه حُبًّا لذاته. كان سايمون يتمتع بإحساسٍ بالثقة كان خادعًا ومضللًّا تمامًا، لكنه ضلَّل الجميع دون استثناء منذُ أن كان في الروضة. راقبَتْ بي طريقتَهُ المُضلِّلة باستمتاعٍ وبشيءٍ كان أشبهَ بإعجابٍ على مضض؛ شعرت أنها لو كانت هي نفسها قد وُهبت تلك الجاذبية المُميزة لسايمون، فأغلب الظن أنها كانت ستستغلُّها لصالحِها مثلما فعل سايمون. لكنها كانت حريصةً على الانتباه حتى لا تنطليَ عليها.

علَّقت روث، مُستسلمةً لمحاولتها مع شوكةٍ عنيدة: «سيكون من اللطيف لو كان في احتفالات البلوغ شيءٌ مثل وصيفات العروس.»

لكن حديثها قُوبِل بالتجاهل.

قالت جين التي لم تَحِد عن موضوعها: «يقول القسُّ إن يولسيس كان على الأرجح مصدر إزعاج مُريع في أرجاء المنزل.»

قالت بي، مبديةً اهتمامها بهذه المعلومة الإضافية عن القصص الكلاسيكية: «حقًّا! لِمَ»؟

«قال إنه كان «بلا شكٍّ يخترع أداةً ما، وأن بينلوبي على الأرجح كانت سعيدة بالتخلُّص منه لوهلة.» أتمنَّى لو أن الكبد لم تكن لينةً إلى هذه الدرجة.»

دخلت إلينور وغرفت لنفسها من نضد المائدة بأسلوبها الصامت المعتاد.

قالت روث: «أُفٍّ! يا لرائحة تلك الإسطبلات!»

قالت بي مستفسرةً: «تأخرتِ يا نيل.»

أجابت إلينور: «لن تتعلَّم ركوب الخيل أبدًا. لا يُمكنها حتى هزُّ السَّرج حتى الآن.»

قالت روث: «قد لا يقوى المختلُّون على ركوب الخيل.»

قالت بي بلهجةٍ قوية: «روث، التلاميذ في منزل القرية ليسوا مُختلِّين. ولا يُعانون حتى إعاقةً ذهنية. كلُّ ما في الأمر أنهم صِعاب المِراس.»

قال سايمون: «الوصف الدقيق لهم هو أنهم أشخاص غير مُتزنين عقليًّا ونفسيًّا.»

«حسنًا، إنهم «يتصرفون» كالمُختلِّين عقليًّا. وإذا كنت تتصرَّف كشخصٍ مُختل، فكيف لأحدٍ أن يجزم بأنك لستَ واحدًا منهم؟»

ولمَّا لم يكن لدى أحدٍ أيُّ إجابةٍ عن هذا السؤال، خيَّم الصمت على مائدة غداء أُسرة آشبي. تناولت إلينور طعامَها بالعزم المفاجئ الذي ينتاب تلميذًا جائعًا، دون أن ترفع عينَيها عن طبقِها. وأخرج سايمون قلمَ رصاصٍ وحسب احتمالات الفوز على هامش الصحيفة. أما روث، التي كانت قد اختلست ثلاث قطع من البسكويت من المرطبان على نضد المائدة بمنزل القس وأكلَتْها في المرحاض، فصنعَتْ قلعةً من طعامها يُحيط بها خندقٌ مائي من صلصة اللحم. والتهمت جين طعامها باستمتاع نشط. بينما جلست بعينَين شاردتَين في المشهد خلف النافذة.

عند تلك القمة الجبلية النائية انحدرت الأرض مسافةَ أميالٍ من الرُّقَع الأرضية ذات الألوان المتباينة حتى البحر والأسطح المحتشِدة في ويست أوفر. لكن هنا في هذا الوادي المرتفع، الذي يقع بمنأًى عن عواصف جُزُر تشانيل ومكشوف للشمس، وقفَتِ الأشجارُ في الهواء العليل بسكونٍ يُشبه سكونَ وسط البلاد، بسيماء تنمُّ عن سِحرٍ وجاذبية. وتجلَّى المشهد بكمال لا يعكر صفوه شيء، وسكون طيف عابر.

كان ميراثًا رائعًا سخيًّا مليئًا بالخيرات. وكانت تأمُل أن يُحْسِن سايمون استغلاله. مرت أوقات كانت فيها … لا، لم تكن خائفة. أوقات ربما كانت التساؤلات تملأ عقلها. لقد كانت شخصية سايمون مُتعدِّدة الأوجُه إلى أقصى حد؛ كان ذا طبيعة مُتقلبة لا يمكن التنبؤ بأفعالها، لا تتناسَب مع ميراثٍ ضخمٍ آلَ إلى شابٍّ صغير مثلِه. وحدَها لاتشتس، من بين جميع الضيعات المُحيطة، كانت لا تزال تُئوِي أسرةً محلية وأمَلَتْ بي أن تظلَّ مأوًى لآل آشبي لقرونٍ قادمة. آلُ آشبي ذَوو الشعر الأشقر، والوجه الصغير والرأس الصغير العامر بالحِكمة مثل أولئك المجتمعِين حول المائدة.

«جين، هل لزامًا عليكِ نثرُ عصير الفاكهة حولك هكذا؟»

«لا أُحب الراوند على هيئة قطع صغيرة يا عمَّة بي، أُحبُّه مهروسًا.»

«حسنًا، اهرسيه بتأنٍّ أكثر من ذلك.»

عندما كانت في عُمْر جين كانت تهرس الراوند أيضًا، وعلى المائدة نفسِها أيضًا. وعلى هذه المائدة نفسها كانت عائلة آشبي تتناول طعامها؛ تلك العائلة التي كان منهم مَن مات على إثر حُمَّى في الهند، وجروح في القرم، والمجاعة في كوينزلاند، وحُمَّى التيفويد في جمهورية الرأس الأخضر، وتليُّف الكبد في مستعمرات المضيق. لكن دومًا كان أحد أفراد عائلة آشبي يُوجَد في لاتشتس، وقد أحسنوا إلى الأرض واعتنَوا بها. من حينٍ لآخَر كان يأتي شخص تافِه — مثل ابن عمِّها والتر — لكن العناية الإلهية تعهَّدت بحصر خصلة التفاهة تلك على الأبناء الذكور الصغار، الذين بإمكانهم ممارسة تمرُّدِهم على أشياءَ أخرى بعيدة عن لاتشتس.

لم تأتِ أي ملكات إلى لاتشتس لتناول العشاء، ولم يأتِها يومًا فارس ليختبئ فيها. فقد ظلت طوال ثلاثمائة عام واقفةً وسط مروجها تمامًا مثلما تقف الآن؛ مأوًى لمالكٍ صغير. ولقرابة مائتَين من تلك الأعوام الثلاثمائة عاشت عائلة آشبي بها.

لعلَّ ما أنقذَها هو بساطتها. فهي لم تُطالب بشيء؛ ولم تتطلَّع إلى شيءٍ. لقد مُزِج خيرها بالتربة من جديد، فعادت الحيوية إلى جذورها. على الجانب الآخر من الوادي وقف منزل كلير الأبيض الشاهق داخل حديقتِه في مَهابةٍ كمهابةِ نائبة ملكة، لكن لم يَعُد فيه أيٌّ من عائلة ليدينهام الآن. كانت عائلة ليدينهام غنية بمواهبها وثرواتها، وكانت تستغلُّ منزل كلير كخلفية لهم، أو محفظة أموال، أو زينة، أو ملجأ، لكن ليس كمنزلٍ أبدًا. وطوال قرون كانوا يتباهَون بأنفسهم أمام العالم: كولاة، كمُستكشِفين، كمهرِّجين في البلاط الملكي، كأثرياء داعِرين منغمِسين في الملذَّات، وكثُوَّار؛ وكان منزل كلير داعمًا لبذخِهم وغُلُوِّهم. لم يتبقَّ منهم الآن سوى لوحات شخصية لهم. وأصبح المنزل المَهيب داخل الحديقة مدرسةً داخليةً لأطفالٍ صِعاب المراس لآباءٍ لهم أفكار تقدُّمية وحسابات مصرفية ضخمة.

أما عائلة آشبي فظلَّت في لاتشتس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤