الفصل الحادي عشر

كان يومًا جميلًا، ذلك اليوم الذي جاء فيه برات فارار إلى لاتشتس، لكن ثمة رياح خفيفة لا تهدأ ظلَّت تُقلِّب أوراق الشجر حتى صار العالَم بالرغم من ضوء الشمس والهواء المنعش مشحونًا بقلقٍ مُبهم ونُذُرٍ بهبوب عاصفة.

فكَّرت بي وهي تنظر إلى المشهد من نافذة غرفة نومها بعد الإفطار: «الجو مشمس جدًّا!» وأردفت: ««سيكون هناك دموع ليلًا قبل النوم» كما اعتادت المُربية أن تقول حين ترى طفلًا يقفز من شدة الإثارة أو الفرح. لا يهم. سيصِل على الأقل في ضوء الشمس.»

كانت قد تدرَّبت كثيرًا في عقلها على التعامُل مع أمرِ وصوله ذاك. كان من المُفترض أن يتَّخِذ طابعًا غيرَ رسمي قدْر المُستطاع؛ وهو ما اتفق عليه جميع الأفراد المعنيِّين. أحدُهم سيستقبله في المحطة ويأتي به إلى المنزل، وسيُقام غداء يقتصر الحضور فيه على الأسرة. لكن كان السؤال: مَن سيستقبله؟ رأت الأختان التوءمتان أن الأسرةَ بأكملها يجب أن تذهب إلى المحطة، لكن ذلك، بالطبع، لم يكن واردًا. كان من الصعب استقبال العائد بعد غيابٍ على الملأ على رصيف محطة جيسجيت أمام موظفي السكة الحديدية والمسافرين العابرين بين ويست أوفر وبيورز. ولم يكن بإمكانها أن تذهب بنفسها دون أن يُوحي ذلك بأن باتريك عائد في حمايتها؛ وهو شيء كان يجب تَفادِيه مهما كلَّف الأمر. فلم تنسَ سخرية سايمون بشأن «تبنِّيها» لباتريك. أما سايمون — الخيار البديهي لتولي دور المُرحِّب — فلم يكن مُتاحًا؛ فمنذ إعلانها الخبرَ يوم الأحد نام في المنزل لكنه لم يُشارك في أيٍّ من نشاطات لاتشتس، وعبثًا حاولت بي التحدُّث إليه في غرفته في وقتٍ متأخِّر من مساء يوم الإثنين لكن دون جدوى.

لذا شعرت بارتياحٍ عندما عرضت إلينور أن تقود مسافة الأميال الأربعة إلى المحطة في جيسجيت وتأتي بباتريك.

كان العبء الجاثم على عقلها هو الغداء العائلي الذي سيُقام بعد وصوله. إذا لم يحضُر سايمون فكيف سيُبرَّر غيابه؟ وإذا حضر فكيف ستكون أجواء الغداء؟

نزلت لتُجري تدريبًا آخرَ مع الطاهي — كان ذلك هو ثالث طاهٍ لهم خلال الاثني عشر شهرًا الأخيرة — حينما كانت «مساعِدتُهم» لانا في انتظارها. قدِمت لانا من القرية، وكان لها شعر ذهبي وأظافر مطلية وتتألق بالنسخة المحلية من أحدث صيحات التجميل. لم تعمل في المنزل إلا لأن «صديقها» كان يعمل في الإسطبلات. كانت ستكنس وتزيل التراب، كما أوضحت عند مجيئها لأول مرة؛ لأن تلك المهام «لا بأس منها»، لكنها لن تُقدِّم الطعام لأن ذلك عملٌ «وضيع.» كانت بي تتمنَّى لو أخبرتها أن لا أحدَ له مثل يدَيها، أو نفسِها، أو رائحتها، أو تصرُّفاتها، سيُسمَح له بمناولة طبقٍ لأحد أفراد آشبي، لكنها تعلَّمت أن تكون دبلوماسية. فأوضحت لها أنه لا مجال، بأي حالٍ، أن تُقدِّم الطعام؛ فدائمًا ما يتناول آل آشبي طعامهم بأنفسهم.

كانت لانا قد جاءت لتُخبرها أن «المكنسة تلفظ الأتربة بدلًا من شفطها»، فتكالبت هموم الأعمال المنزلية مرةً أخرى على رأس بي وصارت غارقةً في مأساة مهامِّ المنزل. وقد ظهرت في الوقت المناسب لترى إلينور وهي تستقلُّ سيارتها الصغيرة ذات المقعدَين.

سألتها: «ألن تأخُذي السيارة؟» كان المقصود ﺑ «السيارة» سيارة العائلة، أما سيارة إلينور البالية فكانت معروفة باسم «البرغوث».

أجابتها إلينور: «لا. سيكون عليه أن يتقبَّلنا كما نحن.»

لاحظت بي أنها لم تكلِّف نفسها عناءَ تغيير ملابسها لترتديَ فستانًا. كانت ترتدي السروال والواقي اللذَين ارتدتهما في الصباح.

قالت روث وهي تُسرِع الخُطى على الدَّرج متجهةً نحو السيارة: «مهلًا، خُذيني معكِ، خُذيني معكِ!» لكن بي لاحظت مدى حِرصها على إبعاد «فستانها الأزرق» عن الهيكل المعدني للبرغوث الذي يكسوه الغبار.

قالت إلينور بحزمٍ: «لا.»

«أنا متأكدة أنه سيُحب وجودي هناك. أقصد وجودَ واحد من جيلي. فهو يعرفك على أي حال. ولن يجدَ أيَّ إثارة في أن يراكِ على النحو الذي يفترض أن يراكِ به …»

«لا. وابتعدي إذا كنتِ تريدين ألا يتَّسخ ثوبك الرائع.»

قالت روث، وهي تنفض الغبار عن كفَّيها بينما كانت تُراقِب السيارة وهي تتوارى بين أشجار الليمون: «أرى حقًّا أنها أنانية من إلينور. تريد أن تنفرد بالإثارة لنفسها.»

«هذا هراء. كان الاتفاق أن تنتظري أنت وجين هنا. أين جين، بالمناسبة؟»

«في الإسطبل، على ما أظن. ليست عابئةً بأمر باتريك.»

«آمُل أن تأتيَ في الموعد المناسب لتَحضُر الغداء.»

«ستفعل. ربما لا تكون مهتمةً بأمر باتريك، لكنها مستعدة دائمًا لتناول طعامها. هل سيكون سايمون موجودًا على الغداء؟»

«أتمنى ذلك.»

«تُرى ماذا سيقول لباتريك؟»

إذا كانت أجواء الهدوء والسعادة التي تنعم بها لاتشتس ستتبدَّد لتُصبح أجواء من الخلاف والتشاحُن، فلا بد أن تذهب الأختان التوءمتان إلى المدرسة. كانتا ستذهبان إلى المدرسة خلال عامٍ أو عامين، على أي حال؛ فكان من الأفضل لهما الذهاب الآن عن العيش في جوٍّ يملؤه التوتر والكراهية.

سألت روث في أمل: «هل تعتقدين أن ثمة ضجة ستحدُث؟»

«بالطبع لا يا روث. أتمنى ألا تُهَوِّلي الأمور.»

لكنها تمنَّت أيضًا لو أن بوسعها التأكد من عدم حدوث أي ضجة. وكانت إلينور وهي في طريقها إلى المحطة تتمنَّى الشيء نفسه. كانت متوترة نوعًا ما من لقاء هذا الأخ الجديد، وانزعجت من نفسها لتوترها ذاك. كانت ملابسها العادية التي ترتديها هي طريقتها في الاعتراض على شعورها بالحماسة والإثارة؛ كانت بمثابة ادعاءٍ بأن لا شيء في الوقت الحالي على وشْك الحدوث.

كانت جيسجيت، التي تخدُم ثلاث قرى دون المدن، محطَّة صغيرة على جانب الطريق تشغلها أنشطة تجارية بها نشاط تجاري يعتمِد على السلع الثقيلة إلى حدٍّ ما، لكن حركة الركَّاب فيها كانت محدودة؛ لذا حينما نزل برات من عربته لم يكن على الرصيف سوى سيدة ريفية بدينة، وحمَّال يتصبَّب عَرقًا، ومُحصل التذاكر، وإلينور.

قالت: «مرحبًا. تُشبه سايمون كثيرًا.» ثم صافحَتْه باليد. لاحظ أنها لا تضع أيَّ مساحيق تجميل. إلا من قليلٍ من بودرة إخفاء النَّمش تناثرت على قصبة أنفها.

قال وقد تعرَّفها: «إلينور.»

«أجل. ماذا عن أمتعتك؟ ليس معي إلا السيارة الصغيرة لكن المقعدَ الخلفيَّ يتَّسع لأغراضٍ كثيرة إلى حدٍّ كبير.»

فقال: «لا أحمل سوى هذه»، مُشيرًا إلى «حقيبته.»

«هل ستأتي بقية الأمتعة في وقتٍ لاحق؟»

«لا، هذا كلُّ ما أمتلكه.»

ابتسمت ابتسامةً خفيفة وقالت: «لا عليك. لا يُوجَد طحالب.»

قال: «لا يُوجَد طحالب»، وبدأ يُعجَب بها كثيرًا.

«السيارة بالخارج في الباحة. من هذا الطريق.»

قال مُحصِّل التذاكر، وهو يقبل تذكرته: «هل كنت بالخارج يا سيد آشبي؟»

«نعم، كنت بالخارج.»

عند سماع صوته رفع محصل التذاكر بصرَه حائرًا.

قالت إلينور عندما استقلَّا السيارة: «لقد حسبتُك سايمون»؛ ثم ابتسمت ابتسامةً عريضة. كانت سنَّاها الأماميَّتان بارزتَين قليلًا، ما أضفى على وجهها طفوليةً مُحبَّبة. كان وجهها لطيفًا، وعنيدًا، وصغيرًا عندما تكون جادة. قالت وهما يمشيان على حصى باحة المحطة ويفران إلى المناطق الخضراء: «لا يُوجَد وقت من العام أفضل من ذلك للعودة إلى الوطن.»

جال بخاطره: «وطن». كان شعرها له لون الذُّرة الشديدة النضج حتى إنه كاد يبدو أبيضَ. كان فاتحًا، ذا ملمسٍ حريري، وجميلًا للغاية. كان مُصففًا إلى الوراء في شكل عقدة، وكأنها لم يكن بوسعها أن تُكلف نفسها عناء تصفيفه بأي شكلٍ آخر.

«الأزهار بدأت تتفتح. والمهور البكر هنا.»

كانت رُكبتاها في الثياب ذات القماش المُضلَّع المهترئ تشبهان ركبتَي صبي. لكنَّ الذراعَين العاريتَين البارزتَين من المعطف، الذي كانت ترتديه وكان متدليًا فوق كتفَيها، كانتا مُستديرتَين بنعومة.

«هَنِي لها مُهرة سيُسجِّلها التاريخ. انتظر حتى تراها. لن تعرف «هَنِي» بالطبع. لم تكن موجودة قبل رحيلك. اسمُها الحقيقي «جريك هَنِي». جاءت من جبال الهيميتوس من فرسٍ تُدعى «ماني فور جام». آمُل أن تحوز خيولنا إعجابَك.»

قال: «أتوقَّع ذلك.»

«تقول العمَّة بي إنك لا تزال مُهتمًّا بها. أقصد بالخيول.»

«لمْ أمارس جانب التربية كثيرًا بالطبع. كنتُ أعِدُّها فحسب للعمل.»

وصلا إلى القرية.

كانت هذه كلير. هذا الكيان الدافئ المُبهج النابض بالحياة الذي كانت تُمثِّله المساحات المربَّعة الأفقية الصغيرة على الخريطة. هناك كان فندق وايت هارت؛ وهناك حانة بيل. أما في الخلف فهناك، على تلِّها، الكنيسة المُعلَّق فيها ألواح آشبي التذكارية.

قالت إلينور: «القرية تبدو جميلة، أليس كذلك؟ لم تتغيَّر ولو قليلًا حسبما أتذكَّر. لم تتغيَّر منذ زمن الفيضان، إن جاز القول. أسماء الناس المُدوَّنة على المنازل تسير على الترتيب نفسه إلى آخر الشارع كما كانت في عهد ريتشارد الثاني. لكنك تعرف ذلك بالطبع! ما زلت أحسبك زائرًا.»

كان يعرف أن خلف القرية تقع البوابات الضخمة لحديقة كلير. انتظر، في فضولٍ نوعًا ما، حتى يرى المدخل المؤدي للبيت الذي كان ملكًا لأليك لودينج. تبين أنه مُنحنٍ عريض من الزخارف الحديدية المُفرغة يحدُّه على الجانبَين عمودان ضخمان يحمل كلٌّ منهما أسدًا رافعًا قدمه الأمامية. وعلى جانب الأسد الأبعد كان هناك صبيٌّ صغير يرتدي دثارًا من جلد النمر له حدود خضراء من الجوخ الأخضر، ودلو بحر ارتداه كأنه خوذة، ولم يظهر أي شيء آخر. وكان هناك قضيب نُحاسي طويل للغاية يقف مُتخذًا وضعيةَ الرمح من مسنده على قدمه الحافية.

قالت إلينور: «لا بأس. لقد رأيتها.»

«ذلك يُريحني كثيرًا.»

«هل عرفت أن منزل كلير صار مدرسة حاليًّا؟»

كاد يجيب بنعم، حينما تذكَّر أن هذا الأمر كان مجرد أحد الأمور التي أخبره بها لودينج، وليس أحد الأمور التي من المُفترض أن يكون على علمٍ بها.

«أي نوعٍ من المدارس؟»

«مدرسة للمراوغين.»

«للمراوغين؟»

«أجل. أي شخصٍ يكره العمل بجدٍّ وله أب يمتلك ما يكفي من المال لدفع المصروفات يسرع مباشرة وفورًا إلى كلير. لا أحد يُجبَر على تعلُّم أي شيءٍ في كلير. ولا حتى جدول الضرب. الفكرة أنك يومًا ما ستشعر بالحاجة إلى جدول الضرب وستُسيطر عليك رغبة جامحة في تعلُّم جدول ضرب العدد تسعة. الأمر بالطبع لا يسير كذلك مطلقًا.»

«صحيح؟»

«بالطبع لا. ليس لأحدٍ يتهرب من جدول العدد تسعة أن يحلُم بأن يتعلَّمه بمحض إرادته.»

«إذا كانوا لا يتلقَّون دروسًا، فماذا يفعلون طوال اليوم؟»

«يُعبِّرون عن شخصياتهم. يرسمون أشياء؛ أو يصنعون أشياء؛ أو يقومون بطلاء استراحة الطريق؛ أو يتنكَّرون مثل أنتوني توسيلي. ذلك الصبي الذي عند الأسد هو توني. لقد درَّبت بعضهم على ركوب الخيل. فهم يُحبون ذلك. أقصد ركوب الخيل. أظن أنهم يشعرون بمللٍ شديد من الأشياء السهلة لدرجةِ أنهم ينبهرون بأي شيءٍ يجدونه أصعب قليلًا. لكن لا بد أن يكون شيئًا خارجًا عن المألوف بالطبع. أقصد الشيء الصعب. إذا كانت صعوبته من النوع الذي يُفتَرض أن يتغلب عليها الجميع، فلن يُثير اهتمامهم. فهذا من شأنه أن ينحدِر بهم إلى المستوى العادي لك ولي. ولن يُصبحوا «مميزين» بعد الآن.»

«أشخاص لطفاء.»

«إنهم يُدرُّون أرباحًا مجزية للاتشتس، على أي حال. وها هي ذي لاتشتس.»

قفز قلب برات في حلقه. اتجهت إلينور ببطءٍ نحو المدخل الأبيض بين أشجار الليمون.

وحسنًا فعلت أن كانت تسير ببطء؛ إذ لم تكد تدخل الممرَّ الأخضر حتى اندفع من بين سيقان الشجر شيءٌ أشبه بفراشة زرقاء عملاقة أخذت تتراقَص بحركاتٍ جامحة أمام السيارة.

ضغطت إلينور على المكابح وأخذت تُطلق سِبابًا في آنٍ واحد.

صاحت الفراشة: «مرحبًا! مرحبًا!» وأخذت تتراقَص على الجانب الذي يجلس فيه برات في السيارة.

قالت إلينور: «أيتها المُغفَّلة الصغيرة. أنت تستحقِّين القتل. ألا تعرفين أنه ليس بوسع سائقٍ أن يرى بوضوح من ضوء الشمس عند دخوله الشارع؟»

«مرحبًا! مرحبًا يا باتريك! هذه أنا! روث. يسرُّني لقاؤك. أتيتُ لأركب معك. أعني إلى المنزل. هل لي أن أجلس على ركبتك؟ ليس هناك مُتَّسع في سيارة إلينور البشعة تلك، ولا أريد أن يتغضَّن فستاني. آمُل أن يُعجبك. لقد ارتديتُه خصيصى احتفالًا بعودتك. تبدو وسيمًا للغاية، أليس كذلك؟ هل أبدو كما توقَّعتني؟»

انتظرَتْ ردًّا على سؤالها، لهذا أجاب برات بأنه لم يكن قد فكَّر في ذلك حقًّا.

قالت روث، في ضيق شديد: «يا إلهي.» ثم قالت بنبرة توبيخ: «لقد كنا نفكر فيك. لم يتحدَّث أحدٌ عن أي شيءٍ آخر سواك لأيام.»

قال برات: «عظيم، عندما تهربين سنواتٍ وسنوات سيتحدث الناس عنك أنتِ ولا أحدَ سواك.»

قالت روث بقسوة: «لا ينبغي لي أن أتصوَّر ارتكاب أي شيءٍ بهذا الشذوذ.»

سألت إلينور: «أين سمعتِ تلك الكلمة؟»

«إنها كلمة دقيقة للغاية. السيدة بيك تستخدِمها.»

شعر برات بأنَّ عليه أن يُلقيَ معلومة تتعلق بشيءٍ من المكان لإضفاء المصداقية بقوله: «كيف حال أسرة بيك، بالمناسبة؟» لكن لم يكن لدَيه أي استعدادٍ لأي تحايُل أو خداع. فقد كان في انتظار اللحظة التي تنحسر فيها أشجار الليمون ويرى فيها لاتشتس.

في انتظار اللحظة التي سيُصبح فيها وجهًا لوجهٍ أمام «توءمه.»

سمع روث تقول: «سايمون لم يَعُد حتى الآن»، ورآها تنظر شزرًا إلى إلينور. كانت صدمته من تلك النظرة تفوق صدمته من المعلومة ذاتها.

إذن لم يكن سايمون ينتظر على عتبة الباب ليستقبله. لقد ذهب سايمون إلى مكانٍ ما والعائلة قلقة لغيابه.

كان أليك لودينج قد حرَّره من وهمِ أنه سيكون في انتظاره في لاتشتس مجموعةٌ من العامِلين الإقطاعيين، وأنه سيكون هناك صفٌّ من الخَدَم، يترأسهم رئيس الخدم سينزلون في ترتيبٍ صارم حتى أصغر خادمة، للترحيب بالسيد الصغير في منزل الأسلاف. فتلك المراسم تبدَّدت سريعًا، على حد قول لودينج، ولاتشتس لم يكن لديها يومًا رئيسٌ للخدم على أي حال. كان قد عرف أيضًا أنه لن يكون هناك أي حشدٍ من الأقارب. فوالد الأطفال كان ابنًا وحيدًا وله أخت واحدة، وهي العمة بي. ووالدة الأطفال كانت ابنة وحيدة أيضًا وكان لها أخوان: كلاهما قُتل على يد الألمان قبل أن يبلغا العشرين من عمرهما. كان القريب المقرب الوحيد لعائلة آشبي هو العم الأكبر تشارلز، الذي أخبره لودينج بأنه في تلك اللحظة يقترب من سنغافورة.

لكن لم يخطر له أن جميع أفراد آشبي المتبقِّين ربما لن يكونوا هناك. ولم يخطر له أنه ربما قد يكون هناك معارضون لوجوده. فالارتياح الذي بعثَه لقاؤه مع إلينور في نفسه خدعَه. بعبارة مجازية، وضع يدَيه على اللجام الذي كان يلتفُّ حول رقبته ويسيطر على الموقف.

خرجت السيارة مسرعة من المساحة الخضراء الزاهية الضيقة من الشارع لتدخل إلى النطاق الفسيح أمام المنزل، وهناك في ضوء الشمس الشديد المتوهِّج وقف منزل لاتشتس؛ كان منزلًا في غاية الهدوء، في غاية الود، في غاية الشموخ. كانت الواجهة ذات الجملون للمبنى الأصلي قد تغيَّرت من قِبل أحد أفراد عائلة آشبي من القرن الثامن عشر لتُواكب الزمن، ولم يتبقَّ من ملامحه التي تعكس عمره وأصله سوى السطح المُغطَّى بالقرميد. بُني المنزل في أواخر عهد الملكة إليزابيث، وصار الآن يتَّخِذ طراز «الملكة آن» على استحياء. وقف المنزل هناك على أرضه العشبية، بلا أي زخارف قانعًا بحاله؛ لم يكن بحاجةٍ إلى حديقة لتعزيز جماله. فقد كانت أزهار نباتات الحديقة الصغيرة تملأ قلبها امتدادًا إلى المنزل نفسه، وزراعة أي نباتات أخرى كان سيُصبح ضربًا من التكرار لا حاجة له.

بينما كانت إلينور تنعطف بالسيارة في اتجاه المنزل، رأى برات بياتريس آشبي تخرج إلى عتبة الباب، فتملَّكه خوف مفاجئ؛ رغبة جنونية في أن يبُوحَ بالحقيقة إليها ويتراجع فورًا؛ قبل أن يضع قدمَه على عتبة الباب؛ وقبل أن يُصبح «داخل» المشهد فعليًّا. سيكون مشهدًا صعبًا وغريبًا إلى درجةٍ بغيضة ولم يكن لدَيه أدنى فكرة كيف سيؤدِّيه.

كانت روث مَن أنقذته من أسوأ اللحظات المُحرجة. فقبل أن تتوقَّف السيارة كانت تزفُّ انتصارها إلى العالَم، ومن ثَم جاء قدوم برات نوعًا ما في مرتبةٍ ثانية بعد إنجازها.

«قابلتُهُ في النهاية يا عمة بي! قابلتُهُ في النهاية. أتيتُ من البوابة معهما. أنتِ لا تُمانعين، صحيح؟ تمشَّيتُ فحسب إلى البوابة وعندما وصلتُ هناك رأيتهما قادِمَين، فتوقَّفا وأوصلاني وها نحن أولاء هنا وقابلتُه في النهاية.»

علَّقت ذراعَها في ذراع برات ثم نزلت معه من السيارة بخُطًى مُتعثرة وهي تسحبُه وراءها وكأنه اكتشافٌ خاصٌّ بها. وهكذا حيَّا برات وبي بعضهما بعضًا بلا مبالاة متبادلة بهذا التعارف. اجتمع شملهم في تلك اللحظة في بهجةٍ يُرثى لها، ومع انتهاء تلك البهجة انتهت اللحظة أيضًا.

قبل أن يعودَ طوفان الحرج ليغمره، ظهر شيءٌ ثانٍ شتَّتَ الانتباه. كانت جين على مقربةٍ شديدة من المنزل مُمتطيةً حصانها فوربوستر في طريقها إلى الإسطبلات. وكان توقُّف يديها المفاجئ على اللجام حينما رأت الجَمْع المُحتشِد عند الباب دليلًا على أنها لم تكن تنتوي أن تكون واحدةً من ذلك الجمع. لكن فات أوان التراجُع، حتى لو كان التراجُع ممكنًا. فلم يكن من الممكن أبدًا الابتعاد عن أي شيءٍ قد يُبدي فوربوستر اهتمامًا به؛ لم يكن له صوت لكن كان لديه فضول لا يُشبَع. لذا تقدَّمت جين المتردِّدة على ظهر مُهر يطغى عليه اهتمامٌ شديد. وعندما توقَّف فوربوستر انزلقت من فوق ظهره بهدوء وكياسة على الأرض ووقفت هناك في خجل وتحفُّظ عدائي. حين قدَّمتها بي وضعت يدَها الصغيرة الضعيفة في يد برات وبعد لحظة سحبتَها.

سأل برات، مُدركًا نفورها: «ما اسم مُهرِك؟»

قالت روث، مستحوذةً على مُهر جين: «هذا فوربوستر. يُسمِّيه القس إيكوين أومنيباص.»

مدَّ برات يده إلى المهر، الذي أبدى رفضه لمحاولة تقرُّب برات بالانسحاب خطوةً إلى الوراء والنظر باحتقارٍ من أسفل أنفه الروماني. كانت إيماءةً فكاهية بحتة؛ فهي إيماءةُ رفضٍ مأخوذة من الدراما الفيكتورية.

علَّق برات: «كم هو مضحك»؛ فضحكت بي، التي سرَّها فهْمه لما فعله المهر.

قالت جين، بأسلوب رادع نوعًا ما ودفاعي نوعًا ما عن صديقها: «هو لا يحب الناس.»

ولكن برات أبقى يدَه ممدودة، وفي تلك اللحظة طغى فضول فوربوستر على موقفه المتحفظ فخفض رأسه إلى اليد المُنتظِرة. أولاه برات الكثيرَ من الاهتمام، حتى استسلم فوربوستر تمامًا وداعبه بأنفه بمرحٍ كمرح الأفيال.

قالت روث، وهي تُراقبه: «عظيم! إنه لا يفعل ذلك مع أحد قط!»

خفض برات بصرَه إلى الوجهِ المتوتر الصغير الذي يقف بجانب مرفقه، وإلى اليدين المُتَّسِختَين الصغيرتَين المُتشبثتَين باللجام بكل قوة.

قال: «أتوقَّع أنه يفعل ذلك مع جين حين لا يُوجَد أحد في المكان.»

قالت بي: «جين، حان الوقت الذي كنتِ تُنظفِّين فيه نفسك من أجل الغداء»، ثم استدارت لتتقدَّم الطريقَ إلى الداخل.

وتبِعها برات إلى داخل المنزل.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤