الفصل الثالث عشر

في المكتبة، عندما خفتت أصوات بي والسيد ماكالان في الرَّدهة بالأسفل ثم في الخارج، عمَّ الصمت. واتجه برات، الذي لم يكن متيقنًا من طبيعة ذلك الصمت، نحو الأرفف وأخذ يتأمل الكتب.

قال سايمون وهو يقف باسترخاء عند النافذة: «حسنًا، خطرٌ آخر تم التعامُل معه ودرؤه بسلام.»

انتظر برات، محاولًا تحليل وقع الكلمات بينما لا تزال عالقة في الهواء.

وأخيرًا قال: «خطر؟»

«العقبات والصعوبات في معضلة العودة. لا بد أن الأمر استلزم بعض الشجاعة، إذا ما وضعنا كل شيء في الاعتبار. ما الذي دفعك إلى ذلك يا برات … الحنين إلى الوطن؟»

كان هذا أولَ سؤال صريح وُجِّه إليه، وفجأة ازداد إعجابه بآشبي بسبب سؤاله ذاك.

«ليس كذلك بالتحديد. بل إدراكي أن مكاني هو هنا، رغم كل شيء.» شعر برات بنبرة صلاح وبِر في وقع كلماته، ثم أضاف قائلًا: «أقصد، أن مكاني في العالَم كان هنا.»

أعقب هذا صمتٌ آخر. مضى برات يتفقَّد الكتب وتمنَّى ألا يُحب آشبي الصغير. فقد كان ذلك من شأنه أن يُمثِّل إشكالية غير متوقَّعة. كان من المزعج بما يكفي ألا يقدِر على مواجهة الشخص الذي كان بصدد أن يحلَّ محله، بعد أن تُرك وحدَه في غرفةٍ معه؛ لكن أن يجد نفسه معجبًا بذلك الشخص كان من شأنه أن يجعل الموقف غير مُحتمَل.

كانت بي هي مَن كسرت الصمت.

قالت أثناء دخولها: «أظن أنه كان علينا أن نُقدِّم لهذا الشاب المتواضع مشروبًا. ولكن فات الأوان الآن. يُمكنه أن يحصل على مشروبٍ من «معرفته» في حانة وايت هارت.»

قال سايمون: «أظنه سيحصل عليه في حانة بيل.»

«لماذا حانة بيل؟»

«خادمتنا لانا تتردَّد على تلك الحانة بدلًا من حانة وايت هارت.»

«آه، حسنًا. كلما عرف الناس أسرع، انتهت الضجة أسرع.» وابتسمت إلى برات لتُخفِّف من وطأة الكلمات عليه. ثم أردفت: «هلا نذهب ونرى الخيول؟ أمعك أيُّ ملابس لركوب الخيل يا برات؟»

قال برات، ملاحظًا كيف أنها، لحُسن الحظ، قد وجدت المبرِّر لئلا تدعوه باسم باتريك: «لا تمتُّ بصلة لملابس ركوب الخيل المتعارف عليها في لاتشتس.»

قال سايمون: «تعالَ معي إلى أعلى، سأجِد لك شيئًا.»

قالت بي وقد بدت سعيدة به: «جيد، سوف آتي بإلينور.»

سأل سايمون، سابقًا برات إلى الطابق العلوي: «هل راقَ لك حصولك على غرفة الأطفال القديمة؟»

«راقني كثيرًا.»

«أظنك لاحظتَ أن ورق الحائط القديم لا يزال كما هو.»

«أجل.»

«هل تتذكَّر الليلة التي لعبنا فيها معركةَ إيفانهو-هيروارد؟»

«لا؛ لا أتذكر ذلك.»

«لا. بالطبع لم تكن لتتذكَّرها.»

مرةً أخرى علِقت الكلمات في أجواء الصمت، تُداعِب أذن برات بصداها.

تبِع آشبي الصغير إلى غرفته التي كان يشاركها مع أخيه، ولاحظ أنه لا يُوجَد في الغرفة ما يوحي بأن شخصًا آخر كان يُشاركه فيها. بل، على النقيض، كانت الغرفة خاصة تمامًا بسايمون؛ إذ كانت مفروشة بمقتنياته وأغراضه إلى الحد الذي جعلها تبدو كغرفة جلوس أكثرَ منها غرفة نوم. أرفف من الكتب، صفوف من الكئوس الفضية، رسومات مؤطرة للخيول على الجدران، مقاعدُ وثيرة، ومكتب صغير عليه هاتف فرعي.

اتجه برات إلى النافذة بينما كان سايمون يبحث في ملابسه عن ثياب مناسبة. كانت النافذة، كما عرف، تطلُّ على الإسطبلات، لكنَّ سياجًا أخضرَ من أشجار الليلك والقوطيسوس حجب الرؤيةَ عن المبنى. أعلاها، في منتصف المسافة، يظهر برج كنيسة كلير. افترض أنه سيُصطحب يوم الأحد لحضور القداس هناك. خطرٌ آخر. كان اختيار آشبي الصغير لكلمة خطر غريبًا بلا شك، أليس كذلك؟

خرج سايمون من خزانة الملابس بسروال قصير ومعطف من صوف التويد.

قال وهو يُلقِيهما على الفراش: «أظن أنهما سيُناسبانك. سأجد لك قميصًا.» وفتح أحد أدراج الخزانة التي تحمل مرآته وأغراض المرحاض. كانت الخزانة قائمة إلى جانب النافذة، اتَّجه برات، الذي ما زال لا يشعر بالراحة في وجوده بالقرب من آشبي، إلى المدفأة وأخذ ينظر إلى الكئوس الفضية على رفِّ المدفأة. كانت جميعها جوائز في الفروسية، وتنوَّعت من سباق الحواجز عند نقطة محلية إلى أخرى حتى سباق أوليمبيا. كانت جميعها، عدا جائزة واحدة، في تاريخ متأخر كثيرًا لدرجةٍ لم تجعلها مثارَ اهتمام باتريك آشبي؛ أما الاستثناء الوحيد فكان كأسًا صغيرة ومتواضعة، كان سايمون آشبي قد مُنِح إيَّاها على الحصان «بيشانس» لفوزه في فئة القفز لليافعين في معرض «بيورز آجريكلتشرال شو» في العام الذي سبق حادث انتحار باتريك آشبي.

ابتسم سايمون حين نظر حوله وشاهد الكأس الصغيرة في يد برات، ثم قال: «أخذت هذا منك، إذا كنت تتذكَّر.»

قال برات، بعفوية: «منِّي؟»

«كنت ستفوز على الحصان أولد هاري لولا أني حرمتك من الفوز بأداء ممتاز في الجولة الثانية.»

قال برات: «أها، أجل». ولكي يأخذ الحديث في مسارٍ جديد قال: «يبدو أنك تُحقِّق نجاحًا منذ ذلك الحين.»

قال سايمون وقد عاد انتباهه إلى دُرج قمصانه: «لا بأس. لكني سأُؤدي أداءً أفضل كثيرًا. في بولزبريدج وجميع المحطات المؤدية إلى أوليمبيا.» قيل ذلك بذهنٍ شارد، وإن لم يخلُ من الثقة؛ وكأنَّ المال الذي سيشتري به الخيول الماهرة سيتوافر تلقائيًّا. تعجَّب برات قليلًا، لكنه شعر أن هذه اللحظة ليست مناسبة لمناقشة المستقبل المالي.

سأل سايمون بلا مبالاة وهو يغلق دُرج القمصان: «هل تتذكر الشيء الذي اعتدت أن تعلِّقه في طرَف فراشك؟»

قال برات: «الحصان الصغير؟» ثم أضاف قائلًا، ذاكرًا اسمه وعِرقه الزائف: «أجل، بالتأكيد. ترافيستي. صنعه فلاحٌ أيرلندي من خشبِ بلوطٍ سبخي.»

انصرف عن المعروضات على رفِّ المدفأة، قاصدًا أخذ الملابس التي كان آشبي يبحث له عنها، لكن عندما استدار رأى وجه آشبي في المرآة، وأوقفته الصدمة الواضحة على ذلك الوجه متجمدًا في موضعه. كان سايمون بصدد غلق الدُّرج، لكنه توقَّف عن الفعل في منتصفه. كان الأمر يُشبِه بالضبط ردَّ فعل شخصٍ سمِع رنين الهاتف؛ ذلك التوقف اللاإرادي لدى سماع الرنين ثم استئناف الحركة، هكذا جال بخاطر برات.

استدار سايمون ببطء ليقف أمامه، والقميص معلق على ساعِدِه الأيسر. قال، آخِذًا القميص في يده اليمنى مناولًا برات إيَّاه، لكنَّ عينَيه ظلَّتا مُستقرتَين على وجهه: «أظن أنك ستجد ذلك مناسبًا تمامًا.» لم تَعُد الصدمة باديةً على وجهه؛ لكنه بدا خاليًا من أي تعبيرٍ فحسب، وكأن ذهنه شارد في مكانٍ آخر. كان في تصوُّر برات كأنما يُجري عملياتٍ حسابية في ذهنه.

أخذ برات القميص، وجمع بقية الملابس، وعبَّر عن شكره، ثم اتجه نحو الباب.

قال سايمون الذي كان لا يزال مُحدقًا إليه بذلك التعبير الخاوي: «انزل وقتما تصبح جاهزًا. سنكون في انتظارك.»

وكان برات، الذي شقَّ طريقه نحو بسطةِ الدَّرج المؤدية إلى غرفته الخاصة في الجناح المقابل، مصدومًا بدوره. لم يتوقَّع آشبي أنه يعرف ذلك. بل كان آشبي واثقًا كل الثقة أنه لن يعرف أي شيء عن الحصان اللعبة لدرجة أنه صُدم لمَّا اتضح أنه كان يعرفه.

وماذا كان يعني ذلك؟

لم يكن يعني سوى شيء واحد.

كان يعني أن آشبي الصغير لم يصدِّق لحظةً أنه باتريك.

أغلق برات وراءه باب غرفة الأطفال القديمة الهادئة ووقف مُستندًا إليه، وتساقطت الملابس على الأرض ببطء من ذراعه المُرتخية.

لم تنطلِ الخدعة على سايمون. وذلك المشهد القصير المؤثِّر أثناء تناول الشيري لم يكن سوى تمثيل.

كانت فكرة صادمة.

لماذا كلَّف سايمون نفسه عناء التصنُّع؟

لماذا لم يقُل في الحال: «أنت لستَ باتريك ولا شيءَ سيجعلني أُصدِّق أنك هو»؟

كان ذلك هو اتجاهه الأول في التفكير، إذا كان لحديث لانا وأجواء الأسرة أيُّ معنًى. فحتى اللحظة الأخيرة كانوا غير مُتيقنِين من ردِّ فعله إزاء وصول برات؛ وقد أسعدهم جميعًا باستسلام صريحٍ وساحر.

لِمَ هذا الاستسلام غير المُبرَّر؟

أكان هذا … أكان هذا فخًّا بشكلٍ من الأشكال؟ أكان التَّرحاب والإعجاب ليس سوى عشب وأوراق شجر خضراء تواري حفرةً حفرها له؟

لكن لم يكن بإمكانه أن يعرف أن برات ليس باتريك حتى يلتقيَ به فعليًّا وجهًا لوجهٍ. ويبدو أنه عرف في الحال أن الشخص الذي كان يقف أمامه لم يكن أخاه. لم يُجِب عليه إذن …

انحنى برات ليلتقط الملابس من الأرض ثم اعتدل في وِقفته فجأة. لقد تذكر شيئًا. تذكر ذلك الاسترخاء الغريب من جانب سايمون في اللحظة التي نظر إليه فيها بدقةٍ. ذلك الإيحاء بالراحة. الإيحاء بأنه قد «تنفس الصعداء.»

هكذا كان الأمر إذن!

كان سايمون يخشى أن يكون هو باتريك بالفعل.

عندما وجد أنه في مواجهة مجرد أفَّاك، لا بد أنه واجه صعوبة في العزوف عن معانقته.

لكن ظل ذلك لا يُفسر هذا الاستسلام.

ربما كان مجرد تأجيل؛ خطة لتجميع حلفاء له. ربما أنه خطَّط «لنهاية» أكثر مأساوية؛ لمزيد من التشهير العلني.

فكَّر برات أنه لو كان الأمر هكذا، فثمة مفاجآت في انتظار السيد آشبي. وكلَّما فكر في تلك المفاجآت، تحسَّن شعوره نحو سير الأمور. وبينما كان يبدِّل ملابسه ليرتدي ملابس ركوب الخيل، تذكَّر، بشعورٍ أشبه بالمتعة، ذلك الوجهَ المصدوم في المرآة. لم يكن سايمون يعرف أن برات قد اجتاز أي اختباراتٍ «عائلية». فلم يكن حاضرًا عندما اجتاز برات الاختبار الاستقصائي الدقيق لمعرفة طريقه عبْر أرجاء المنزل؛ ولم تُتَح له أي فرصة لإخباره بذلك. كل ما عرفه أن برات قد أقنع المحامين بهويته. وبعد أن أصبح في مواجهة أفَّاك صريح، من وجهة نظره، لا بد أنه قد تطلَّع بمكرٍ تلذُّذي إلى استدراج ذلك المخادع.

أجل؛ كان السيد آشبي على أُهبة الاستعداد لإيذائه أشدَّ الإيذاء.

كانت أول تجربة مبدئية له في ذلك معركة إيفانهو-هيروارد. شيء لم يكن ليعرفه سوى باتريك. لكنه أيضًا كان شيئًا قد ينساه بسهولة.

الحصان الخشبي الصغير كان شيئًا لم يكن ليعرفه سوى باتريك وكان شيئًا لم يكن بإمكان باتريك أن ينساه بأي حالٍ من الأحوال.

وكان برات يعرفه.

لا عجبَ في أن آشبي قد صُدِم. كان مصدومًا وحائرًا. لا عجب في أنه بدا وكأنه يُجري عمليات حسابية في ذهنه.

تذكَّر برات بالخير مُعلِّمه البارع، أليك لودينج. لم يكن لودينج يعمل بالمِهنة التي كان لا بد أن يعمل فيها؛ فقد كان بارعًا كمُعلِّم. لكن في وقتٍ ما، وفي مكانٍ ما، كان سيظهر شيءٌ ما ربما يكون أليك لودينج قد غفل عن إخباره به أو أنه هو نفسه يجهله؛ وستكون تلك اللحظة عصيبة للغاية؛ لكنه حتى الآن كان يحفظ دورَه بإتقان. حتى الآن كان دقيقًا في كل التفاصيل.

حتى فيما يتعلق بقصة ترافيستي.

كان شيئًا مصنوعًا من خشب البلوط السبخي الأسود. قال عنه لودينج: «بدائي وسريالي، لكن من السهل تمييزه كحصان.» كان في الأصل مربوطًا بعربة خيلٍ والعربة بأكملها كانت إحدى الهدايا التذكارية المصنوعة من خشب البلوط السبخي التي كان السائحون يعودون بها من أيرلندا قبل أن يُصبح إحضار اللحم المُقدَّد إلى المنزل أكثر استحسانًا. وسرعان ما واجهت العربة الصغيرة بأكملها، لكونها مصنوعة من أجزاءٍ وقطعٍ صغيرة، نفس مصير كل الأشياء الأخرى في غرفة الأطفال؛ لكن الحصان الصغير، الذي كان مُمتلئًا ومتينًا، نجا من هذا المصير وصار بالنسبة إلى باتريك تميمةً وشيئًا مُقدَّسًا. كان أليك لودينج هو مَن كان مسئولًا عن تسميته؛ كان ذلك في إحدى أمسيات الشتاء أثناء احتساء الشاي في غرفة الأطفال. كان هو ونانسي قد جاءا في زيارة سريعة إلى لاتشتس في طريقهما إلى المنزل عائدَين من أحد سباقات المهور، آمِلين في الحصول على مشروب؛ لكن عندما لم يجدا أحدًا في المنزل عدا نورا، التي كانت تحتسي الشاي في الطابق العلوي مع أطفالها، انضمَّا إلى حفل الشاي بغرفة الأطفال. وهناك، وبينما كانوا يُحضِّرون شرائح الخبز، أخذوا يبحثون عن اسمٍ لتميمة باتريك. وقُوبِلَت جميع الاقتراحات بالرفض من باتريك، الذي كان يُشير إليه دائمًا ﺑ «حصاني الأيرلندي الصغير» ولم يكن يرى أي داعٍ لنعتِه بوصفٍ أكثر تحديدًا من ذلك.

سألت الأم لودينج، الذي كان مُنهمكًا في تناول شرائح الخبز بالزبد ولم يعبأ بتسمية اللعبة: «بمَ كنت ستُسمِّيه يا أليك؟»

فأجاب أليك، مُحدقًا في اللعبة: «ترافيستي. صنعه فلاح أيرلندي من خشب البلوط السبخي.»

ضحك الكبار، لكن باتريك، الذي كان أصغر من أن يعرف معنى الكلمة، ظنَّ أن ترافيستي كان اسمًا راقيًا، ومدعاةً للفخر (كان يعني في الحقيقة المسخ). اسمٌ مُفعمٌ بوطء خيول الحرب وطفراتها، وبذلك فهو جديرٌ بهذه اللعبة السوداء الصغيرة التي يُحبها.

قال له لودينج وهما جالسان في غرفة الجلوس الفخمة ذات الطبع الملكي (كان الجو مُمطرًا في صباح ذلك اليوم): «كان يحتفظ به في جيبه. لكن عندما كبر على ذلك عُلِّق في طرَف سريره في شريطٍ مُهترئ من الترتان الملَكي الاسكتلندي مأخوذ من أحد صناديق حلوى إدنبره.»

حقًّا: لا عجب في أن سايمون كان مصدومًا حتى النخاع. فما كان لغريبٍ عن عائلة آشبي أن يعرف شيئًا عن ترافيستي.

أخذ برات يُغلق أزرار ثياب آشبي على جسده، ملاحظًا مدى ملاءمة قطعةٍ محاكة بإتقان حتى لهيئة غريبة، وتساءل عن الانطباع الذي كوَّنه سايمون عن المشكلة. لا شك أنه الآن قد عرف أن «الأفاك» لم يعرف فحسب عن وجود ترافيستي، بل تجوَّل عبر المنزل بثقة شخصٍ يحمل معرفةً طويلة بالمكان. سرت فورة طفيفة من الحماسة في نفس برات. تلك الحماسة نفسها التي جعلت لقاءاته مع السيد ساندال العجوز مُمتعة للغاية. على مدى الساعتَين الأخيرتَين — منذ وصوله إلى محطة جيسجيت — استُقبل بلطفٍ وحفاوة، وكانت النتيجة شعورًا طفيفًا بعدم الارتياح، أشبَهَ بانقباضٍ روحي. فما كان لعبة مقامرة بالنرد على رهانٍ كبير صار مجرد لعبة انتزاع حلوى من طفلٍ رضيع. والآن وقد أصبح سايمون خصمَه، صار الأمر منافسةً مرةً أخرى.

ليست مقامرة بالنرد، هكذا رأى برات، وهو يتأمَّل نفسه في المرآة. بل لعبة داما. أمرٌ يستلزم تحركات حذِرة، وتوقُّع الهجوم، وصد أي ضربةٍ مفاجئة. أجل؛ إنها لعبة داما.

نزل برات وقد تجدَّد لدَيه الأمل بتوقُّعٍ جديد. لن يُضطر بعد ذلك إلى أن يُدير ظهره إلى آشبي لأنه عاجزٌ عن مواجهته. لقد وُضعت قطع الداما على اللوحة وجلس الاثنان على طرفَيها أحدهما في مواجهة الآخر.

عبر باب الرَّدهة المفتوح على مصراعَيه، رأى أُسرة آشبي مُجتمعة في ضوء الشمس على درجات السُّلَّم فمضى نحوَهم لينضمَّ إليهم. كانت روث، بعينَيها اللتَين لا تكفَّان عن الحركة في كل اتجاه، أولَ مَن رأته.

قالت روث، وهي لا تزال تتودَّد إليه: «أوه، إنه يبدو جذابًا.»

كان برات يُدرك أنه يبدو «جذابًا» لكنه تمنَّى لو أن روث لم تلفت الانتباه إلى ملابسه الأنيقة المُستعارة. تساءل إن كان سبق لأحدٍ أن صفع روث آشبي.

قالت بي: «لا بد أن تحصل على ملابس لركوب الخيل من والترز في أسرعِ وقتٍ مُمكن. تلك الملابس مقاسها مناسب بما يكفي لاستخدامها كنموذج للتصميم. وهو ما سيُوفِّر عليك عناء الاضطرار إلى الذهاب إلى المدينة لمجرد أخذ المقاسات فحسب.»

قال سايمون، وهو ينظر إلى الملابس بفتورٍ: «ذلك السروال ليس من والترز. إنه من جور وبراون. لم يُفصِّل والترز قط سروالًا متقنًا في حياته.»

كان مُتكئًا على الحائط بجانب المدخل، في استرخاءٍ وسلام واضح مع العالَم. تنقَّلت عيناه ببطءٍ لأعلى من حذاء برات حتى قميصه، ثم استقرَّتا، لم يزل الاهتمام غير المبالي نفسه مرتسمًا على وجهه.

قال بودٍّ وقد ابتعد عن الحائط: «حسنًا، لنذهب ونتفقد بعض الخيول.»

ليست لعبة داما، هكذا فكَّر برات. لا، ليست لعبة داما. إنها لعبة بوكر.

قالت بي: «سنُريك الإسطبلات عصر اليوم وسنرجئ تفقُّد الأفراس لِما بعد وقت الشاي.»

مدَّت ذراعها في ذراع برات وضمَّت سايمون في ذراعها الأخرى، وساروا نحو الإسطبل متشابكي الأذرع مثل أصدقاء قُدامى؛ بينما سارت إلينور والأختان التوءمتان في أعقابهم.

قالت: «جريج في أشد اللهفة لرؤيتك. لن تلاحظ عليه أي لهفة بالطبع. فوجهُه لا يسمح بشيءٍ مثل ذلك. ليس عليك سوى أن تُصدقني بأنه مُتحمس من الداخل.»

سأل برات: «ماذا حدث لمالباس العجوز؟» مع أنه قد علم بكل شيءٍ عن مالباس العجوز في عصر أحد الأيام خارج دفيئة البرتقال.

قالت بي: «أصبح ضعيف النظر للغاية. أقصد مجازًا. لم نستطِع التوافق معًا. لم يُعجبه تلقي أوامر من سيدة. لهذا تقاعد بعد أن تسلَّمتُ إدارة المُمتلكات بثمانية عشر شهرًا تقريبًا، وأصبح لدينا جريج منذ ذلك الحين. إنه كارهٌ للبشر، وكاره للنساء، وله مزاياه أيضًا، بالطبع؛ لكنه لا يسمح لأحدٍ بالتدخُّل في إدارة الإسطبلات. كان ثمة انخفاض ملحوظ في حساب العلف بعد رحيل مالباس العجوز. والمواطنون المحليون يستسيغون جريج أكثر؛ لأنه يشتري التبن مباشرةً من المزارعين وليس من خلال مُتعهد. وأرى عمومًا أنه سائس خيول أفضل من مالباس. فهو يملك مهارةً أكبر في الوصول بحصانٍ ضعيف إلى حالةٍ جيدة. وعبقري في معالجة الخيول المريضة.»

لماذا لا يشعر بالاسترخاء؟ هكذا كانت تُفكِّر حين شعرت بذراع الصبي مُتيبِّسة تحت أصابعها. لقد انقضت المحنة في تلك اللحظة بكل تأكيد. فلماذا لا يشعر بالاسترخاء؟

وكان برات من جانبه يشعر بأصابعها مُتشبثةً بساعده كما لم يشعر بيد امرأةٍ قطُّ من قبل. كان يشعر مرةً أخرى بتلك الفورة من مشاعرَ عجزَ عن تحديدها التي شعر بها عندما أخذت بي يده لتقوده إلى اللقاء مع السيد ماكالان.

لكن نظرته الأولى للإسطبل صرفت انتباهه عن أي مشكلات عاطفية أو معنوية.

كان ردُّ فِعله حين رأى ساحة الإسطبل في لاتشتس أشبهَ بردِّ فعل تاجر بحري عند تعرُّفه لأول مرة بواحدة من سفن صاحب الجلالة. كان نوعًا من التندُّر المشوب بالازدراء واللطف في وقتٍ واحد. تعجَّب من أن ذلك الشيء لم يُضَفْ إليه شرائط زينةٍ كلمسةٍ نهائية. لم يُقنعه شيء بأن المكان كان يُستَخدم فعليًّا إسطبلًا للخيول من الأساس سوى حقيقة أنَّ عددًا من رءوس الخيول كانت تبرز بفضولٍ من مقصوراتها. لم يكن يُشبه شيئًا بقدْر ما كان يُشبه واحدًا من نماذج اللعب التي رآها في متاجر اللعب الباهظة الثمن. طالما كان يَتخيَّل أن تلك النماذج الصغيرة المُبهجة بألوانها الزاهية وأزهارها القابعة في أحواض الزهور المُصاحبة لها قد صُنِّعت لتُناسب ذوق الأطفال. لكنها على ما يبدو كانت نسخًا مطابقة لشيء حقيقي. وكان في تلك اللحظة يتطلَّع إلى أحد تلك الأشياء، ويعتريه شعورٌ بدهشة شديدة.

حتى منتجع ركوب الخيل لم يُهيِّئه لمواجهة هذا. فقد كانت هناك وفرة من الألوان، لكن كان هناك كذلك تقليدٌ راسخ. لم يكن للقائمين على منتجع ركوب الخيل التفكير تمامًا في جز رُقعةِ العشب التي في المنتصف حتى تبدو كقطعة من الجوخ الأخضر، ذات حدود مُنسقة ومُشذَّبة لدرجةِ أن يبدو وكأنك ربما ستقوم بلفِّه وأخذِه معك. في منتجع ركوب الخيل، كان لا يزال هناك شيء من الوحل، والروث، والعَرق، والذباب الذي يُعَدُّ جزءًا لا يتجزأ من الحياة بجانب الخيول.

كان المبنى الصغير على يسار مدخل ساحة الإسطبل هو غرفة تخزين معدات ركوب الخيل، وداخل الغرفة كان سائس الخيل، جريج. كان جريج يحمل ذلك الإحساس بخيبة الأمل، في أعلى درجاته، الذي كان شائعًا بين أولئك الذين يكسبون قُوتَهم من العمل مع الخيول. لكنه أيضًا تحلَّى بصفة الحيوية ومظهر الشباب الدائم التي تُميِّز سائسي الخيول. لقد كان على الأرجح في الخمسين من عمره، لكن لم يكن مفاجئًا أن يُقال إنه في سنِّ الخامسة والثلاثين.

تقدَّم خطوتَين إلى الأمام وانتظرهم حتى يصلوا إليه. كانت تلكما الخطوتان هما التنازلَ الذي يُقدِّمه لإظهار حُسن الأدب، أما الانتظار فكان تأكيدًا على حقيقة أنه يستقبلهم على أرضه. تفحَّصت عيناه الزرقاوان الصافيتان برات بينما كانت بي تقدم كلًّا منهما للآخر، لكن ظل التعبير المرتسم على وجهه مهذبًا وغامضًا. رحَّب ببرات ترحيبًا تقليديًّا وصافحه بقوة.

قال: «سمعت أنك كنت تركب خيولًا في أمريكا.»

أجاب برات: «خيول غربية فقط. خيول عاملة.»

قال جريج، مُميلًا رأسه ناحية المقصورات: «حسنًا، تلك الخيول تعمل.» كانت نبرة صوته وكأنها تقول لا يَعتريك أدنى شك في ذلك. بدا الموقف وكأنه قد فهم ارتياب برات بشأن نظافة الخيول ولمعانها. انتقلت عيناه من برات إلى إلينور التي كانت تقِف في الخلف ثم قال: «هل رأيتِ ما بداخل غرفة معدَّات ركوب الخيل يا آنسة إلينور؟»

من عتمَة غرفة معدَّات ركوب الخيل تجسَّدت هيئة صبي صغير، وكأنها إجابة عن سؤاله. تجسَّد الصبي أمامهما في تردُّدٍ نوعًا ما وكأنه غير متأكد من كونه موضعَ ترحيب. رغم اختلاف الزي تعرَّف عليه برات بأنه الصبي الذي كان يمتطي الأسد الحجري عند بوابات كلير. لم تكن ملابسه في ذلك الحين، رغم أنها أقل لفتًا للأنظار، مألوفةً أكثر من ملابسه المصنوعة من جلد النمر. كان يرتدي قميص كرة قدمٍ مخططًا كان مُلتصقًا بجسده النحيل الذي يُشبه الشرغوف، وسروالًا لركوب الخيل كان كبيرًا للغاية لدرجة أنه كان مُتدليًا في شكل طيةٍ فوق ركبتَيه الهزيلتَين، وقبعة خيَّال في سباق حواجز لها بطانة واقية من التصادُم بدت ظاهرة من الخلف، وخُفًّا قذرًا أحمر اللون.

قالت إلينور: «توني! توني. ماذا تفعل هنا؟»

أجاب توني، وعيناه تتحركان سريعًا جَيئةً وذهابًا كالسحالي بين أفراد المجموعة: «جئت من أجل ركوب الخيل.»

«لكنه ليس اليوم المُخصَّص لك لركوب الخيل.»

«أليس اليوم يا إلينور؟ حسبته كذلك.»

«أنت تعرف تمامًا أنك لا تركب الخيل يوم الثلاثاء.»

«حسبت أن اليوم هو الأربعاء.»

قالت إلينور دون انفعال: «أنت كاذب صغير مريع. كنت تعرف تمامًا أن اليوم ليس الأربعاء. ليس في الأمر سوى أنك رأيتني في سيارةٍ مع شخصٍ غريب، ولهذا جئتَ لتعرف مَن ذلك الغريب.»

تمتمت بي مُستنكرةً: «إلينور.»

قالت إلينور وكأن موضوع النقاش ليس مطروحًا: «أنت لا تعرفينه. إن فضوله يرقى إلى حدِّ الجنون. إنها الصفة البشرية الوحيدة تقريبًا فيه.»

قال سايمون، ناظرًا إلى الطفل توسيلي في نفور: «إذا اصطحبتِهِ اليوم، فلن يكون عليكِ اصطحابُه غدًا.»

قالت إلينور: «لا يُمكنه أن يأتيَ ويتوقَّع أن يركب الخيل عندما يحلو له ذلك! إضافة إلى ذلك، لقد قلتُ إنني لن أرافقه مجددًا بهذه الأشياء. أخبرتُكَ يا توني، أن تشتري حذاء طويلًا.»

توقَّفت العينان السوداوان عن الحركة وصارتا بِركَتَين تفيضان بالحزن. قال توني برعشةٍ في طبقة صوتِهِ يلين لها الحجر: «لا يقدِر أبي على شراء حذاء طويل لي.»

قالت إلينور بسرعةٍ: «أبوك يتمتع بإعفاء قيمته ١٢ ألف جنيه إسترليني سنويًّا من ضرائب الدخل.»

قالت بي: «إذا اصطحبتِهِ اليوم يا نيل، فسيكون لديك متسع من الوقت لمساعدتي غدًا عندما يأتي نصف سكان الريف لرؤية برات.» وعندما بدت إلينور مترددةً أردفت قائلةً: «وربما يكون من الأفضل إنجاز المهمة الآن ما دام أنه هنا.»

وقال سايمون مُتشدقًا: «وسيأتيكِ غدًا وهو لا يزال مُرتديًا خُفَّيه.»

علَّق توني بلطف: «الخيالة الهنود يرتدون الخف، وهم خيالة بارعون.»

«لا أظنُّ أن أباك المُعدِم سيسعد كثيرًا إذا ظهرتَ بالخُفِّ في سباق الرو. ستشتري زوجًا من الأحذية الطويلة. وإذا اصطحبتُك عصرَ اليوم يا توني، فلن يكون لك أن تُفكر أن بوسعك الاعتياد على هذا.»

«أبدًا، لن يحدث يا إلينور.»

«وإذا أتيتَ في يومٍ غير اليوم المُخصَّص لك مرة أخرى فستنصرف دون أن تركب الخيل.»

«مفهوم يا إلينور.» صارت عيناه كعينَي السحلية مرة أخرى، تتحرَّكان سريعًا وتنزلقان.

«حسنًا. اذهب واطلب من آرثر أن يضع لك السَّرج على سبادس.»

«شيء آخر يا إلينور؟»

قالت إلينور، وهي تُراقبه يمضي: «لا، شكرًا، ستلتزم بما قلتُه.»

سأل سايمون: «ما الغرض من خوذة الصدمات؟»

«يقول إن جمجمته رقيقة كالسلوفان ولا بد أن يَحميَها. لا أعرف كيف حصل على خوذةٍ بهذا الحجم. أظن أنه قد جاء بها من سيرك. ومع حنينه إلى الهنود، أظن أن عليَّ أن أكون ممتنَّةً أنه لا يأتي بعصابة رأس وريشة.»

قال سايمون: «سيفعلها يومًا ما، عندما يخطر بباله.»

قالت، مُبتسمةً له قليلًا: «حسنًا، أظن أنه من الأفضل أن أذهب وأضع السَّرج على باستر. أعتذر لك يا برات، لكن هذا الأمر في مصلحتنا حقًّا وإن لم يبدُ كذلك. فالمُهر الذي يمتطيه سيُصبح أقلَّ حيوية معه اليوم أكثر مما سيكون عليه غدًا، بعد قضائه يومًا في الإسطبل. ولست بحاجة إلى ثلاثة أشخاصٍ ليرافقوك في جولتك. سأتفقد حظائر الخيل معك بعد الشاي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤