الفصل السادس عشر

نظرت بياتريس آشبي على مائدة العشاء إلى ابن أخيها باتريك وفكَّرت كم كان حاله جيدًا. لا بد أن الموقف كان في غاية الصعوبة عليه، لكنه كان يتعامل معه على نحوٍ جيد. لم يبدُ مرتبكًا أو مُفرط الحماسة. أضفى على الموقف ذلك الانعزال الهادئ نفسه الذي أظهره في لقائهما الأول في تلك الغرفة في بيمليكو. كانت تلك صفةً محضة من صفات البالِغين، وكان من المُدهش قليلًا أن يتحلى بها صبيٌّ لم يبلغ الحادية والعشرين بعد. إن باتريك آشبي يتحلَّى بوقار مهيب، هكذا جال بخاطرها وهي تُراقبه أثناء تعامُله مع القس. من المؤكد أن أحدًا لم يسبق له أن استطاع أن يكون صامتًا بطبعه إلى هذا الحد دون أن يبدوَ إما جافًّا أو أحمق.

كانت هي مَن تولَّت تربية سايمون، وكانت سعيدةً بثمرة تربيتها. لكن هذا الصبيَّ ربَّى نفسه بنفسه، وكانت ثمرته، كما بدت، أفضل. ربما كانت مسألة «تكريس الجهد في أول سبع سنوات» والبقية تأتي تلقائيًّا. أو ربما أن الطيبة في باتريك كانت فطريةً حتى إنه لم يحتَج إلى أي توجيهٍ آخر. لقد اتبع مُعتقداته وأفكاره، فكانت النتيجة هذا الشاب الهادئ الناضج ذا الوجه الساكن.

كان قناعًا لوجهٍ؛ قناعًا حزينًا في مُجملِه. كان وجهًا مناقضًا للملامح المُماثلة التي يحملها وجه سايمون المُعبِّر؛ حتى إنها تُذكِّرك بتلك الأقنعة القلابة ذات الوجهَين الكوميدي والتراجيدي المُستخدَمة لزخرفة صفحات عناوين المسرحيات.

كان سايمون منتشيًا للغاية الليلة، وكان قلب بي يتألم من أجله. كان هو أيضًا يبدو في حالٍ جيدة، وأحبَّته الليلة بلا أي تحفُّظ تقريبًا. كان سايمون يُقدِّم تنازلًا، ويُقدِّمه بسماحة وعفوية لم يكن لها أن تُصدِّق أنهما مُمكنان. شعرت بالذنب قليلًا أنها قد حطَّت من قدْره. فلم تكن تُقِرُّ بأن سايمون الأناني المادي له مثل هذه القدرة على نكران الذات.

كانوا يختارون اسمًا لمُهرة «هَنِي»، وكان الحوار يزداد بذاءةً. كانت نانسي مُصمِّمة على أن «هَنِي» هو اسم للمغازلة والتدليل، وسيُترجَم إلى «بوبيت» (بمعنى محبوب أو مدلَّل)، وقالت إلينور إنه ينبغي ألا يُبتلى حصان أصيل ببراعة مُهرة هَنِي الحالية باسمٍ مثل بوبيت. إذا كانت إلينور قد امتنعت عن ارتداء ثيابٍ متأنقة بمناسبة وصول برات، فإنها الآن قد تداركت الأمر. مر وقتٌ طويل منذ رأتها بي بهذا التألق أو بهذا الجمال. فقد كانت إلينور من نوعٍ لا يتألق بسهولة.

قالت إلينور: «برات مولَع بهَنِي.»

قالت نانسي: «أظن أن بي قد استدرجتك إلى حظائر الخيل قبل أن تتجاوز عتبة الباب. هل نالت إعجابك يا برات؟»

كانت هي الأخرى تستخدِم الاسم المستعار. وحدَه القس مَن كان يدعوه باتريك.

أجاب برات: «أنا مُولعٌ بالمجموعة كلها. وعثرت على صديقة قديمة.»

«حقًّا؟ مَن هي؟»

«ريجينا.»

قالت نانسي: «أها، أجل، بالتأكيد. ريجينا المسكينة العجوز. لا بد أنها شارفت على العشرين!»

قال سايمون: «ليست «مسكينة» لهذه الدرجة. كانت ريجينا سترًا وغطاء لنا على مدار جيلٍ بأكمله. من المُفترَض أن نكافئها.»

علَّقت إلينور: «إنها تأخذ مكافأتها في المرعى. طالما كانت أكولةً نَهِمة.»

قال سايمون: «عندما تستبعد مُهرةً مثل ريجينا من العمل عامًا بعد عامٍ دون توقُّف، يُصبح عليك عبء إطعامها بلا عائد من ورائها.»

كان سايمون يشرب كميةً أكبر من المعتاد، لكن بدا تأثيره عليه محدودًا. رأت بي أن القس كان ينظر إليه من حين لآخر والشفقة في عينَيه.

كان برات كذلك جالسًا على الطرف الآخر من المائدة يُراقب سايمون، لكن من دون شفقة. لم تكن الشفقة شعورًا ينغمس فيه برات في أغلب الأحيان: فلم يكن يُشفق على الآخرين بسهولة مثل جميع مَن يكرهون الإشفاق على الذات؛ لكن لم يكن نفوره من الشفقة هو سبب عزوفه عن التعاطف مع سايمون آشبي. ولم يكن السبب كذلك أن سايمون كان عدوَّه المُبين؛ فقد كان يُعجَب بالأعداء قبل تلك اللحظة. كان السبب أن ثمة شيئًا في سايمون آشبي جعله ينفر منه. ثمة شيء يتعلق بسايمون لا تفسير له. جلس هناك، في سرورٍ وبحضورٍ جذاب، وجلس أقاربُه وأصدقاؤه يُصفِّقون له في صمتٍ على نُبل أخلاقه وشجاعته. كانوا يُصفقون «لتمثيلية»، لكنهم جميعًا سيُصعقون عند معرفة التمثيلية التي يدَّعيها سايمون من أجل مصلحتهم.

وبينما كان برات يُراقبه وهو يستعرض مآثره وميزاته، شعر بأن سايمون يُذكِّره بشخص قابلَه مؤخرًا. شخص منحه الانطباع ذاته بحسن التربية، والأخلاق الرفيعة، وحسن المظهر، وذلك الشعور … الشعور بالعجز عن إيجاد تفسير. مَن تُراه ذلك الشخص؟

كان إحساسه بأن الاسم على طرف لسانه يثير جنونه. في غضون ثانية أخرى سيتذكر. أكان لودينج؟ لا. شخصٌ ما كان معه على السفينة التي قدِم على متنها؟ احتمال مستبعَد. ذلك المحامي: مستشار الملك ماكدرموت؟ لا. إذن مَن عساه أن يكون …

«ألا ترى ذلك يا باتريك؟»

كان المتحدث هو القس مرة أخرى. حدَّث نفسه بأنه لا بد أن يكون حذِرًا مع ذلك الرجل. كان خائفًا من لقاء جورج بيك أكثرَ من أي شخصٍ باستثناء سايمون. بعد أخٍ توءم ليس هناك مَن يُحتمل أنه يتذكَّر الكثير عنك أو أن يتذكَّر على نحوٍ جيد مثل الرجل الذي علَّمك. ثمَّة عدد من الأشياء الصغيرة سيعرفها جورج بيك عن باتريك آشبي لم تكن أمُّه تعرفها عنه. لكن اللقاء مضى جيدًا إلى حدٍّ كبير. قبَّلَته نانسي بيك على وجنتَيه ثم قالت: «عزيزي، لقد صرت ناضجًا ورزينًا للغاية!»

قال القس: «هكذا كان باتريك دائمًا»، ثم صافحه.

نظر إلى برات بتمعُّنٍ، لكن ليس بالقدْر غير المعتاد من رجلٍ يتفحص تلميذًا قديمًا له التقى به بعد عَقدٍ من الغياب. أما برات، الذي كان ينفر من رجال الدِّين، فوجد نفسه يُعجَب بالقس. كان لا يزال حذِرًا منه، لكن لم يكن سبب الحذر هو مهنته كقس، إنما بسبب معرفته بباتريك آشبي، وعينَيه اللتَين تُشعَّان ذكاءً وفطنةً في وجهه الذي يُشبه القردة.

بالنظر إلى ذلك الذكاء، كان برات سعيدًا بكونه مُجهزًا على نحوٍ جيد للغاية بكافة المعلومات المتعلقة بدراسة باتريك آشبي وتعليمه. فقد كان القس صهرًا لأليك لودينج، وكان لدى لودينج ما أسماه نظرةً مُستترة على تعليم التوءم آشبي.

أما بالنسبة إلى أخت لودينج، فكانت أجمل سيدة رآها برات في حياته. لم يكن قد سمع قط بنانسي ليدينهام ذات الصيت والشهرة، لكنَّ أخاها كان كثيرَ الحديث عنها. «كان بوسعها أن تتزوَّج من أي رجلٍ في العالم؛ أيُّ رجل كان سيسُرُّه الاحتفاظ بها لمجرد النظر إليها فحسب، لكنها اضطُرت إلى اختيار جورج بيك.» اطلع على صور لنانسي في كل أنواع الثياب، من ثياب السباحة وحتى فستانها الذي ارتدته في حفل تقديمها إلى المجتمع الأرستقراطي، لكن لم يوفِّها أيٌّ من الصور حقَّها في إظهار جمالها الهادئ، وروحها المرحة، ورقَّتها بوجهٍ عام. شعر أن جورج بيك رائع حتمًا إذا كانت نانسي قد تزوَّجته.

قالت لإلينور: «هل ذلك الطفل توسيلي هو مَن كنتِ تُدرِّبينه بالخارج؟ ذلك الكائن الذي التقيتُ بكِ برفقتِهِ عصر اليوم؟»

قالت إلينور: «كان ذلك هو توني.»

«كم أعادني إلى أيام شبابي!»

«توني فعلَ ذلك؟ كيف؟»

«لن تتذكَّري، لكن كانت هناك وحدات تُسمَّى بكتائب سلاح الفرسان. وكان لكل كتيبة فريق ينفِّذ حِيلًا أثناء ركوب الخيل. وكان لكل فريقٍ للحِيَل فرد «مضحك». وكل فرد «مضحك» للفريق المنفذ للحيل كان يبدو شبيهًا بتوني.»

قالت بي مبتهجةً: «هكذا كانوا! ذلك ما ذكَّرني به عصر اليوم لكني عجزت عن تذكُّره حينها. تلك الغرابة المُتقنة في حركاته. تلك الثياب غير المتناسقة تمامًا.»

علَّقت إلينور قائلة: «ربما تتساءلين عن سببِ تدريبي له على ركوب الخيل من الأساس. لكنه بمثابة استراحةٍ حقيقية بعد شيلا بارسلو. سيُجيد توني ركوبَ الخيل تمامًا يومًا ما.»

قال القس ساخرًا بلطف: «كلُّ شيءٍ يهون في سبيل فارس المستقبل، أليس كذلك؟»

سأل سايمون: «ألا يشهد أداء الفتاة ابنة بارسلو أيَّ تحسن؟»

«لن يتحسَّن أبدًا. إنها تنزلق في السَّرج مثلما تنزلق قطعة ثلجٍ على طبق. قد أبكي من أجل الحصان طوال الوقت الذي نقضيه في الخارج. لحُسن الحظ أن الحصان تشيري بيكر يحظى ببنية متينة ومُتبلِّد المشاعر حرفيًّا.»

أضفى الانتقال من غرفة الطعام إلى غرفة المعيشة هبوطًا مفاجئًا على مجرى الأحداث. فقد توقف الانسياب السريع والسلِس للحديث وصار عبارة عن كلماتٍ تتدفَّق ببطء بلا هدف. شعر برات فجأةً بالتعب حتى إنه لم يقوَ على الوقوف. أمَل ألا يفاجئه أحدٌ بأي شيء في تلك اللحظة؛ فقد صار عقله القوي مشوَّشًا من النبيذ الذي لم يعتَد عليه، وأفكاره مُرتبكة وأصابها الشلل. ودَّعت التوءمتان الحضورَ من أجل النوم وصعدتا إلى الطابق العلوي. وصبَّت بي القهوة التي وضِعت جاهزة في انتظارهم على طاولة مُنخفضة بجانب المدفأة، ولم تكن ساخنة كما ينبغي أن تكون. فكشَّرت بي في وجه نانسي بحركات بائسة.

سألت نانسي بنبرة تعاطف: «لانا خادمتنا، أليس كذلك؟»

«أجل. أظن أنها كان عليها مقابلة آرثر فعجزت عن الانتظار عشر دقائق أخرى.»

لزم سايمون الصمت كذلك، وكأن المجهود الذي كان يبذله بدا فجأةً لا يستحقُّ العناء. بدا أنَّ إلينور هي مَن أحضرت حالة الدفء والسعادة التي كانت تسود غرفة الطعام، تلك الحالة التي أنجحت العشاء. في لحظات الصمت التي تخللت التدفقات البطيئة للحديث تساقط المطر على النوافذ الطويلة بصوتٍ هادئ.

قالت إلينور: «كنتِ مُحقة بشأن الطقس يا عمَّة بي. قالت صباح اليوم إن الطقس اليوم هو ذلك الطقس الصحو للغاية الذي يأتي بالمطر قبل حلول الليل.»

قال القس، رامقًا إيَّاها بنظرةٍ يحمل نصفها ابتسامة، والنصف الآخر مباركة: «بي على حقٍّ دائمًا وأبدًا.»

قالت بي: «يبدو ذلك منفرًا.»

انتظرت نانسي حتى يتباطئوا في شرب قهوتهم ثم قالت: «كان يومًا حافلًا لبرات يا بي، وأتوقع أنكم جميعًا مرهقون. لن نُطيل البقاء الآن، لكنكم ستأتون في زيارةٍ لنا عندما يتسنَّى لكم الإفلات من تلك الأفواج المُتدافعة، أليس كذلك يا برات؟»

أحضر لها سايمون وشاحها ثم اتجهوا جميعًا إلى عتبة الباب ليُودِّعوا ضيوفَهم. وعلى عتبة الباب خلعت نانسي حذاء السهرة الخاص بها، ودسَّته تحت ذراعها، ثم ارتدت حذاءً مطاطيًّا كانت قد تركته خلف الباب. ثم أدخلت ذراعها الأخرى تحت ذراع زوجها، وسارا مُتضامَّين تحت مظلتهما الوحيدة، ورحلت معه في ظلام الليل.

قال سايمون: «نانسي العزيزة. لا يُمكنك أن تقِفي عائقًا أمام أحد أفراد ليدينهام.» كان يبدو من حديثه أنه ثَملٌ قليلًا.

قالت بي برقةٍ: «ناني العزيزة.» ثم دخلت إلى غرفة المعيشة وأخذت تتفقَّدها بعينَيها دون تركيز.

قالت: «أظن أن ناني مُحقة. حان الوقت لنذهب جميعًا إلى النوم. لقد كان يومًا مثيرًا لنا جميعًا.»

قالت إلينور: «لا نُريده أن ينتهي بهذه السرعة، أليس كذلك؟»

ذكَّرها سايمون: «لديك موعد مع ابنة بارسلو غدًا في التاسعة والنصف. رأيت ذلك في السجل.»

«ماذا كنت تفعل بسجلِّ ركوب الخيل؟»

«أودُّ التأكد أنكِ لا تتلاعبين في ضرائب الدخل الخاصة بك.»

قالت إلينور، بتثاؤب عريض فَرِح: «أها، لا بأس، لنذهب إلى الفراش. كان يومًا رائعًا.»

والتفتت إلى برات لتتمنَّى له ليلةً سعيدة، فانتابها شعور مفاجئ بالخجل، ومدَّت يدَها إليه ثم قالت: «ليلة سعيدة يا برات. نم جيدًا»، ثم انصرفت صاعدة لأعلى.

التفت برات نحو بي، لكنها قالت: «سآتي لرؤيتك عند صعودي.» فاستدار إلى الخلف مُواجهًا سايمون.

«ليلة سعيدة يا سايمون.» والتقت عيناه بتلكما العينَين الباردتَين الثاقبتَين على مستوًى واحد.

قال سايمون باديًا عليه التندُّر قليلًا: «ليلة سعيدة لك يا … باتريك.» ونجح في أن يجعل وقْع الاسم يبدو وكأنه استفزاز.

سمِع برات بي تسأله عند صعوده الدَّرج: «هل ستصعد الآن؟»

«ليس بعد.»

«هل ستتأكد من إطفاء الأنوار، إذن؟ وتتأكد من غلق الأقفال؟»

«نعم، بالطبع سأفعل ذلك. ليلة سعيدة، حبيبتي بي.»

عندما انعطف برات نحو بسطة الدَّرج رأى ذراعَي بي تحاوطان سايمون. وطعنه شعور بغيرةٍ شديدة مُحبِطة أصابه بصدمة. فيمَ يعنيه ذلك؟

تبِعته بي إلى غرفة الأطفال القديمة في غضون لحظات معدودة. نظرت بعينٍ مُتمرسة إلى الفراش ثم قالت: «وعدَتْ تلك البلهاء بأن تضعَ زجاجة مياه ساخنة ونسِيَتْ.»

قال برات: «لا تقلقي. كنتُ سأخرجها مرة أخرى فحسب. فأنا لا أستخدِم تلك الأشياء.»

قالت: «لا بد أنك ترانا جمعًا من أشخاصٍ هادئين.»

قال: «بل أراكم جمعًا من أشخاصٍ لطفاء.»

نظرت إليه وابتسمت.

«هل أنت مُتعَب؟»

«نعم.»

«متعب إلى حدٍّ يمنعك من تناول الإفطار في الثامنة والنصف؟»

«يبدو موعدًا متأخرًا بالنسبة إليَّ إلى حدِّ الترَف.»

«هل استمتعت بها، بتلك الحياة الشاقة … يا برات؟»

«بالتأكيد.»

قالت: «أرى أنك لطيف أيضًا،» ثم قبَّلته برقة. «أتمنَّى لو أنك لم تغِب عنا هذه السنوات الطويلة، لكننا سعداء بعودتك. ليله سعيدة يا عزيزي.» وبينما كانت تتَّجه إلى الخارج: «لا فائدة تُرجى من دقِّ الجرس بالطبع؛ لأن لا أحد سيُجيبك. لكن إذا انتابتك رغبة مجنونة في تناول جمبري مقلي، أو شرب ماء مثلج، أو الحصول على نسخة من رواية «رحلة الحاج» أو شيء كهذا، فتعالَ إلى غرفتي. لا تزال على اليمين في الجهة الأمامية.»

قال: «طابت ليلتك.»

وقفت وهلةً خارج غرفته، ولا يزال مقبض الباب في يدِها، ثم انصرفت مُتجهةً إلى غرفة إلينور. طرقت الباب ودخلت. على مدار السنة الأخيرة أو نحو ذلك كانت إلينور مصدر راحةٍ كبيرة لها. لقد قضت أمدًا طويلًا بمُفردها في حاجتها إلى الفصل في كل شيءٍ وإيجاد حلولٍ حتى إنَّ طاقتها قد تجدَّدت حين حظيت بصحبةٍ من بني جنسها؛ حين صار رأي إلينور السديد المجرد من العاطفة متاحًا لها في أي وقتٍ تشاء.

قالت إلينور، وهي ترفع بصرها لأعلى من بين شعرها الذي كانت تُمشطه: «مرحبًا بي.» كانت قد بدأت في إسقاط لقب «العمة»، مثلما أسقطَه سايمون.

أرخَت بي ظهرها في كرسيٍّ وقالت: «حسنًا، ها قد انتهى اليوم.»

قالت إلينور: «أراه قد مر بنجاحٍ كبير. لقد أحسن سايمون التصرُّف. مسكين سايمون.»

«صحيح. مسكين سايمون.»

«ربما سيعرض عليه برات — باتريك — شراكة من نوعٍ ما. هل تعتقدين ذلك؟ فرغم كل شيء، أسهم سايمون في إنشاء الإسطبل. ولن يكون من الإنصاف أن يأتيَ ويقتنص الثروة بعدما صرف اهتمامه عنها سنواتٍ وسنوات.»

«لا. لا أعرف. آمُل ذلك.»

«تبدين مجهدة.»

«ألسْنا جميعًا هكذا؟»

«أتعرفين يا بي، لا بدَّ أن أعترف بأنني أجد صعوبةً بالِغةً في الربط بين الاثنين.»

«الاثنين؟ سايمون وباتريك؟»

«لا. باتريك وبرات.»

حلَّت لحظةٌ من الصمت، ملأها صوت المطر الهادئ وضربات فرشاة إلينور الخفيفة.

«تقصدين أنك … أنك تعتقدين أنه ليس باتريك؟»

توقفت إلينور عن تمشيط شعرها ورفعت بصرَها لأعلى، وقد اتسعت عيناها من المفاجأة. ثم قالت في اندهاش: «بالطبع إنه باتريك. مَن عساه أن يكون؟» ثم وضعت الفرشاة وبدأت تعقد شعرها بشريط أزرق. «كلُّ ما في الأمر أنني لا أشعر بأنني قد قابلتُه من قبلُ قط. إحساس غريب، أليس كذلك؟ في حين أننا قضَينا ما يقرُب من اثني عشر عامًا من حياتنا معًا. أنا أُحبُّه؛ ألا تُحبِّينه؟»

قالت بي: «بلى. أُحبه.» هي الأخرى لم يُساورها شعورٌ بأنها قابلتْهُ من قبلُ قط، ولم تفهم كذلك «مَن عساه أن يكون».

«ألم يكن باتريك يبتسِم كثيرًا؟»

«نعم؛ كان طفلًا جادًّا.»

«عندما يبتسم برات تنتابني رغبة في البكاء.»

«يا إلهي، إلينور.»

«يمكنك الاندهاش كما تشائين، لكني أتوقع أنكِ تعرفين ما أعنيه.»

رأت بي أنها تفهم ما تعنيه.

«ألم يُخبرك بسبب امتناعه عن مراسلتنا كل تلك السنوات؟»

«لا. لم تُتَح فرصة لتناول أي أسرار.»

«ظننتُ أنكِ ربما سألتِه عندما كنت تتجوَّلين معه عبر الإسطبلات مساء اليوم.»

«لا. كان مُهتمًّا أشدَّ الاهتمام بالخيول.»

«تُرى لِمَ عزف عن الاهتمام بنا بعدما رحل عنَّا؟»

«لعلَّه كان يكنُّ لنا ما اعتادت أن تُسمِّيَه المُربية القديمة «بغضاء شنيعة». وهذا ليس مفاجئًا للدرجة، بطريقةٍ ما، في ظل حقيقة أنه هرب من الأساس. لا بد أن الدافع الذي كان لدَيه ليُلقي لاتشتس وراء ظهره كان ساحقًا.»

«أجل. أظن ذلك. لكنه كان دائمًا إنسانًا طيب القلب: هكذا كان بات. وكان مولعًا بنا جميعًا. ربما لم يرغب في العودة، إنما يمكنك الاعتقاد أنه كان يريد أن يُخبرنا بأنه بخير.»

ولمَّا كان هذا لغزًا بالنسبة إليها شخصيًّا، لم يكن بيد بي ما تقدِّمه.

قالت إلينور، وهي تُمرِّر الفرشاة في شعرها: «لا بد أن العودة كانت خطوةً صعبة. بدا مجهدًا بشدة الليلة، حتى إنه بدا كرجلٍ «ميت». لا ينبض وجهه بالحيوية في أفضل الأوقات، أليس كذلك؟ إذا قطعتِهِ من وراء الأُذنَين وعلَّقتِهِ على الحائط، فلن يُدرك أحد الفرق.»

كانت بي تعرف إلينور جيدًا بالدرجة الكافية التي تُمكِّنها من تفسير ذلك بنجاح، واتفقت معها تمامًا.

«ألا تعتقدين أنه سيرغب في الرحيل مرةً أخرى بمجرد انطفاء حماسة العودة؟»

«أبدًا، لا، أنا واثقة تمامًا أنه لن يفعل ذلك.»

«أترَين أنه سيظل هنا إلى الأبد؟»

«بالطبع أرى ذلك.»

لكن برات كان يتساءل عن تلك المسألة تحديدًا وهو واقف في الظلام أمام نافذة غرفته المفتوحة يتأمَّل انحناءة التل في ضوء النجوم الذي يتخلَّله المطر. لقد نجحت الخطة بما يفوق أكثر وعود لودينج إفراطًا، فماذا بعد؟

إلى أين سيذهب بعد ذلك؟ كم من الوقت سيمرُّ حتى يقع تحت قبضة سايمون؟ وإذا فشل سايمون، فإلى متى يُمكنه الاستمرار في حياةٍ قد يدمرها أي شخصٍ في أي لحظة؟

كان ذلك بالطبع ما عزم على تنفيذه. لكنه بطريقةٍ ما لم يفكر فيما بعد المراحل الأولى. لم يكن بمقدوره أن يصدِّق في قرارة نفسه أنه سينجح. والآن بعد أن حالفه النجاح انتابه شعور شخصٍ صعد إلى قمةٍ عالية ولا يُمكنه النزول مرة أخرى. انتابه شعور بالفرح والنشوة وإن لم يخلُ من الهواجس.

ابتعدَ عن النافذة وأضاء المصباح. كانت صاحبة المنزل الذي كان يسكن فيه في بيمليكو تقول دائمًا إنها «مجهدة لدرجة أنها تشعُر بأنها كانت في معصرة»، وأدرك في تلك اللحظة كم كان ذلك الوصف بليغًا. كان ذلك بالضبط ما يشعر به. معتصرًا خائر القوى. كان ضعيفًا حتى إنَّ رفْعَ يدِه لخلع ملابسه كان مجهودًا شاقًّا. خلع حُلته الجديدة الأنيقة — الحلة التي أشعرتْهُ بالذنب في تلك الحياة الأخرى في لندن — وحمل نفسه على تعليقها. نزع ملابسه الداخلية تدريجيًّا ثم ارتدى منامته القديمة الباهتة بصعوبة. تساءل لوهلةٍ إن كانوا سيُمانعون إذا دخلت مياه الأمطار ولطَّخت السجادة، لكنه قرَّر المجازفة. فترك النافذة مفتوحةً على مصراعيها وذهب إلى الفراش.

ظل لوقتٍ طويلٍ مضطجعًا في فراشه يُنصت إلى صوت الأمطار الهادئ ويتأمَّل الغرفة. كانت تلك اللحظة هي موعد قدوم شبح بات آشبي إلى الغرفة ليُضفي برودةً عليها. انتظر الشبح لكنه لم يأتِ. كانت الغرفة دافئة ولطيفة. وبدت صور الشخصيات على ورق الحائط، الصور التي كبر معها هؤلاء الأطفال، لطيفةً ومُحتفظةً برَونقها. أدار رأسه ليتأمَّل مجموعات الصور بجانب الفراش. ليتأمَّل الصورة التي كانت إلينور مغرمةً بها. الرجل المصوَّر من الجانب. وتساءل إن كانت واقعة في غرام أي شخصٍ الآن.

انتقلت عيناه إلى خشب الفراش، وتذكَّر أن هذا الفراش هو فراش أليك لودينج، وسُرَّ مرةً أخرى من سخرية القدَر. كان ملائمًا إلى حدٍّ مذهل أن يأتيَ إلى لاتشتس لا لشيء إلا لينام في فراش أليك لودينج. لا بد أن يُخبرَه بذلك يومًا ما. فهذا من الأشياء التي كان لودينج سيُقدِّرها.

تساءل ما إذا كانت إلينور أم بي هي مَن وضعت الزهور في الوعاء. زهورٌ للترحيب بعودته.

لاتشتس، هكذا حدَّث نفسه مُتأمِّلًا الغرفة. هذه هي لاتشتس. أنا هنا. هذه هي لاتشتس.

كان لِوقْع الكلمة تأثير مُخدِّر، مثل تمايُل أرجوحةٍ شبكية. مدَّ يدَه وأطفأ النور. لكن صوت المطر بدا في العتمَة أكثر صخبًا.

في صباح هذا اليوم نهض وارتدى ملابسه في تلك الغرفة الخلفية تحت البلاط الصخري، وأنابيب المداخن المُتراصَّة خلف النافذة. وها هو هنا سيخلد إلى النوم في لاتشتس، ورائحة التل الباردة العذبة التي تُعبِّق الهواء الرطب تهبُّ عليه من النافذة.

بينما كان النوم يغلبُه انتابَه شعورٌ غريب بالطمأنينة. شعورٌ بأنَّ بات آشبي لم يُمانع وجوده هناك؛ بل بالعكس أسعده كلُّ ما جرى.

استفاق قليلًا جراء بُعد هذا الاحتمال، واتجهت أفكاره المتواصِلة ما بين استحسان الاحتمال واستهجانه، إلى بي. ما ذلك الشعور الذي انتابه عندما أخذت بي يدَه لتقودَه إلى المقابلة في عصر ذلك اليوم؟ ما الفرْق هذه المرة عن آلاف المصافحات الأخرى التي حظِيَ بها طوال حياته؟ ما سبب ذلك الدفء الذي غمر قلبه، وأي نوع من المشاعر ذاك على أي حال؟ لقد مرَّ بتلك المتعة الغامضة ذاتها عندما دسَّت بي ذراعَها في ذراعِهِ في طريقهما إلى الإسطبل. ما المُميز إلى هذا الحد في أن تضع امرأة يدها على ذراعه؟ إلى جانب ذلك، فهيَ امرأة لم يكن مُغرَمًا بها، ولم يكن واردًا أبدًا أن يُغرَم بها.

كان ذلك لأنها امرأة بالطبع، لكن ما جعل الأمر مميزًا مرةً أخرى كان شيئًا آخر. كان الأمر متعلقًا بتقبُّلها له كحقيقةٍ واقعة مُسلَّمٍ بها. لم يسبق لأحدٍ أن أخذ يدَه بهذه الطريقة تحديدًا. طريقة عابرة لكن … لكن بلا إيحاء بالتملك. كثيرون هم مَن عاملوه بتملك، ولم يكن يشعر بأي رضًا إطلاقًا. طريقة عابرة لكن … ماذا؟ الإحساس بالانتماء. كان الأمر متعلقًا بالانتماء. لقد أخذته تلك اليد كحقيقة واقعة بسبب انتمائه إليهم. ودٌّ عفوي من امرأة تجاه أحد أفراد عائلتها. أكان ذلك لأنه لم يشعر قط بإحساس «الانتماء» من قبل، لدرجةٍ جعلت من لفتةٍ عادية نوعًا من المباركة؟

ظل يفكِّر في بي بينما كان يستغرق في النوم. نظرتها الجانبية عندما تفكِّر في شيء؛ شجاعتها؛ الطريقة التي استعدَّت بها للقائه في ذلك اليوم في الغرفة الخلفية في بيمليكو؛ الطريقة التي قبَّلته بها قبل أن تتأكد من هويته، تحسبًا أن يكون هو باتريك؛ الطريقة التي تعاملت بها مع حالة الترقُّب لغياب سايمون عندما وصل اليوم.

كانت بياتريس آشبي امرأة جميلة، وقد أحبَّها.

كان قد استغرق في النوم عندما انتابته صحوة مفاجئة.

لقد تذكَّر شيئًا.

عرف من ذلك الذي ذكَّره به سايمون آشبي.

كان تيمبر.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤