الفصل التاسع عشر

كان من المقرَّر أن يأتيَ السيد ساندال ليل الخميس على أن يبقى لِما بعد الغداء يوم الجمعة.

في صباح يوم الخميس قالت بي إنها ستذهب إلى ويست أوفر لتتسوَّق بعض الأشياء الخاصة من أجل الوجبات التي سيتناولها السيد ساندال، وسألت عما يرغب برات في أن يفعله خلال يومِه.

أجابها برات بأنه يودُّ مرافقتَها ويرى ويست أوفر مرة أخرى، وبدت بي سعيدة بذلك.

قالت بي: «يُمكننا التوقُّف على الطريق عبْر القرية، وندَع السيدة جلوم تُلقي نظرةً سريعة عليك. ستُعفى بذلك من مقابلة شخصٍ واحد بعد قداس يوم الأحد.»

لذا توقَّفا عند متجر بيع الصحف، وقُدِّم برات، ورشفت السيدة جلوم آخرَ قطرة سعادة من وعاء دراما عودته، وضحكا معًا عليها وهما يتَّجهان مُسرعَين نحو البحر.

قالت بي بعد قليل: «إن الأشخاص الذين يعجزون عن الغناء هم أشخاص شديدو الإحباط.»

اعتبر برات هذا كلامًا لا يتسق مع الموقف. فقال مُقدِّمًا ردًّا غير مُتسق بدوره: «أعلى جبلٍ في بريطانيا هو جبل بن نيفيس.»

ضحكت بي على ذلك وقالت: «لا، كنت أقصد فقط أني أودُّ الغناء بأعلى صوتي، لكن لا أجيد سوى النعيق. هل تجيد الغناء؟»

«لا. أنا أيضًا أنعِق. بإمكاننا أن ننعِق معًا.»

«أشكُّ إن كان النعيق قانونيًّا في منطقة آهلة. لا أحد يدري أبدًا في هذه الأيام. وعلى أي حال، ها هو ذاك.» ولوَّحت بيدِها تجاه لافتة كبيرة كُتب عليها:

تنبيه إلى سائقي السيارات. يُرجى الامتناع عن استخدام بُوق السيارة. هذا مُستشفى.

نظر برات لأعلى نظرةً سريعة إلى المبنى المُقام على المنحدر أعلى المدينة، وأشار إلى أن الموقع رائع على نحوٍ استثنائي لمستشفى.

«أجل؛ أقل ترويعًا بكثير عن المكان الطبيعي. من المُحزن كثيرًا أن يُسمح بحدوث ذلك.» وأشارت بذقنها بحركةٍ سريعة نحو صفِّ المتاجر الرخيصة على الجهة المقابلة من الطريق، التي لم يكن بعضها أكثرَ من أكواخٍ صغيرة. مقاهٍ قذرة، متجر لإصلاح الأحذية، «مستودع» للدراجات، بائع أكاليل وصُلبان، بائع زهور منافس، متجر بقالة، شركات مجهولة لها نوافذ مطليٌّ نصفها العلوي وإعلانات غريبة مثبتة بمسامير في النافذة.

كانا يسيران مُسرعَين عبر المنحدر متجهين إلى المدينة، وكان هذا القطاع التجاري المتنوع الواقع على جانب الطريق آخر الضواحي الأكثر فقرًا الآخِذة في الانحسار عن الأعين. ومن ورائها كانت ويست أوفر الحقيقية: ويست أوفر النظيفة الجميلة المتلألئة في الضوء المنعكس من البحر.

عندما دخلت بي موقفَ انتظار السيارات قالت: «لست بحاجة إلى اتباعي لتفقد «المأكولات البحرية» من أجل طعام السيد ساندال. اذهب وروِّح عن نفسك، وسنلتقي على الغداء في مطعم أنجل في حوالي الساعة الواحدة إلا ربعًا.»

كان بعيدًا بعضَ الشيء عندما نادته ليعود مرةً أخرى. «نسيتُ أن أسألك إن كنتَ بحاجةٍ إلى نقود. يُمكنني أن أقرضك إذا كنت …»

«أوه، لا، شكرًا؛ لا يزال معي بعض مما أعطيتموني إيَّاه كسلفةٍ مقدَّمة على حدِّ تعبير كوسيت وثرينج، وعلى حدِّ تعبيرك أنتِ أيضًا.»

اتجهَ أولًا إلى الميناء ليرى المكان الذي يُفترَض أنه قد انطلق منه منذ ثماني سنوات. كان مُمتلئًا بسفن الشحن الساحلية ومراكب الصيد، وبدا متلألئًا للغاية في الضوء المتراقص. استند إلى أحجار حاجز الأمواج الدافئة وأخذ يتأمَّل المكان. هنا المكان الذي جلس فيه أليك لودينج ليرسم «سفينته الصغيرة القديمة» في اليوم الأخير من حياة بات آشبي. ومن فوق تلك المنحدرات الصخرية الشاهقة على اليمين سقط باتريك آشبي ليَلقَى حتفه.

دفع نفسه مبتعدًا عن حاجز الأمواج وذهب ليبحث عن مكتب صحيفة «ويست أوفر تايمز». استغرق منه البحث بعضَ الوقت حتى عثر عليه؛ لأنه بالرغم من أن جميع قاطني ويست أوفر يقرءون الصحيفة المحلية، فإن قلةً قليلة منهم هم مَن اضطروا إلى البحث عنها في مقرها. كان مقرها على مسافة قريبة من الميناء، في منزل صغير قديم بشارع صغير قديم أيضًا لا يزال محتفظًا بأحجاره المُستديرة الأصلية. كان المدخل منخفضًا بشدة لدرجةِ أن برات خفض رأسه دون تفكير عند دخوله. كان وراء هذا المدخل ظلامٌ دامس يعمُّ الأجواء بعد ضوء الشمس المشرق في الخارج. لكن جاء من العتمَة الصوتُ الصبيانيُّ الذي لا تُخطئه أذن لساعي المكتب: «تحت أمرك؟»

أخبره برات بأنه يودُّ مقابلة السيد ماكالان.

قال الصوت إن السيد ماكالان بالخارج.

«أعتقد أنه ليس بوسعك أن تُخبرني أين يمكنني العثور عليه؟»

«المنضدة الرابعة في الطابق العلوي على اليسار عند بلو بيرد.»

«ذلك واضح.»

«لا يمكن تغيير الثوابت؛ ذاك هو مكانه. ذاك هو المكان الذي يُوجَد فيه دائمًا في هذا الوقت من اليوم.»

كانت بلو بيرد، على ما يبدو، مقهًى قريبًا من واجهة الميناء. وكان السيد ماكالان بالفعل يجلس على المنضدة الرابعة في الطابق العلوي على اليسار، التي كانت بجانب النافذة البعيدة. كان السيد ماكالان يجلس وأمامه فنجان قهوة شُرِب نصفه، ويحملق في عبوس إلى الواجهة المشرقة. غير أنه رحَّب ببرات بلطفٍ كترحيبِ صديقٍ قديمٍ بصديقه، ثم سحب كرسيًّا له.

قال برات: «أخشى أنني لم أكن ودودًا كثيرًا معك.»

قال السيد ماكالان: «الطريقة الوحيدة التي سأتصدر بها الصفحة الأولى من صحيفة «كلاريون» على الإطلاق هي في صندوق التخزين.»

«صندوق تخزين؟»

«في جثةٍ مقطعة إلى أجزاء. ولا يسعني أن أمنع نفسي من الشعور بأن الخبر سيكون قاسيًا قليلًا.» وفَرَد عددَ هذا الصباح من صحيفة «كلاريون» حتى صارت الطباعة الشديدة السواد تكاد تخرج صارخة من المنضدة. كانت جريمة القتل في صندوق التخزين لا تزال تتصدَّر الصفحة الأولى بعد مرور ثلاثة أيام، بعد أن اكتُشف أن الرِّجْلَين اللتَين في الصندوق هما لشخصَين مختلفَين؛ وهو تعقيدٌ جعل القضية الحالية لا منافسَ لها في فئة جرائم صناديق التخزين.

قال السيد ماكالان متأملًا: «الأمر البشع في جريمة القتل ليس أنها تحدث، إنما أنها تحدُث لعمتك أجنيس، إذا كنت تفهمني. من فضلكِ! يا آنسة! فنجان قهوة لصديقي هنا. يذهب الأخ جوني إلى الحرب فيُقتل ويُصبح كل شيء مُحزِنًا للغاية، لكن لا أحد يتعرَّض لصدمة؛ فهذه هي الحضارة المدنية. لكن إذا قَتَل أحدٌ العمةَ أجنيس ذات ليلةٍ في طريق عودتها إلى المنزل فتلك هي الصدمة. فهذا النوع من الأشياء لا يحدُث للأشخاص الذين تعرفهم.»

«لا بد أن الأمر يكون أسوأ عندما يقوم شخص تعرفه بقتل عمة شخصٍ ما.»

قال السيد ماكالان وهو يُلقي بملعقةٍ أخرى ممتلئة بالسكر في قهوته شبه الباردة ويقلب بشدة: «من المؤسف أنني شهدتُ بعضًا من تلك الجرائم. في العائلات كما تعرف. ويظلُّ الأمر واحدًا دائمًا: يعجزون عن التصديق فحسب. لا يُصدقون أن فتاهم المدلَّل هو مَن فعلها. ذلك هو مصدر الرعب في القتل. أن يأتيَ من الأقرباء.» ثم أخرج علبة سجائره وقدَّمها له ليأخذ واحدة. «كيف ترى كونك رجلَ كلير الأثير؟ هل أنت سعيد بالعودة؟»

«لا يُمكنك أن تتصوَّر مدى سعادتي.»

«بعد تلك الحياة الحرة الرائعة التي قضيتها في أريزونا أو تكساس أو أينما كنت؟ هل تعني أنك تفضل هذا حقًّا؟» حرَّك السيد ماكالان رأسه فجأة نحو واجهة ويست أوفر المكتظة بالمتسوقين الهادئين. ثم، عندما أومأ برات برأسه، قال: «فلتتنزل الرحمة هنا! أكاد لا أصدِّق ذلك.»

«لماذا؟ ألا يعجبك المكان؟»

خفض السيد ماكالان بصره ناظرًا إلى الإنجليز الجنوبيين وهم يتجوَّلون في ضوء الشمس الإنجليزية الجنوبية، ثم بصق مَجازيًّا. ثم قال: «إنهم في غاية السعادة بأنفسهم لدرجةٍ تُعجزني أن أُشيح ببصري عنهم.»

«راضون بحظِّهم في الحياة، أهذا ما تقصده؟ ولمَ لا؟»

«لا شيء في هذا العالَم نشأ من الرِّضا.»

قال برات: «باستثناء الجنس البشري.»

ابتسمَ السيد ماكالان. «سأوافقك على ذلك.» لكنه واصل التحديق إلى أسفل مُتجهِّمًا في مشهد الميناء المشرِق. «أنظر إليهم وأفكر: «هؤلاء القوم جعلوا اسكتلندا تُحارب أربعمائة سنة»، ولا أستطيع أن أتوصَّل إلى إجابة.»

«الإجابة بالطبع أنهم لم يفعلوا ذلك.»

«حقًّا؟ دعني أُخبرك بأن بلدي …»

«لقد كانوا منشغلِين كثيرًا على مدار الألف سنة الماضية بحماية سواحل إنجلترا. لكن بالنسبة إليهم فبلدك اسكتلندا كانت ستُصبح جزءًا من إسبانيا اليوم.»

كانت هذه الفكرة على ما يبدو جديدةً على السيد ماكالان. لكنه قرَّر أن يتجاهلها.

«لم تكن تبحث عنِّي، صحيح؟ عندما جئت إلى مقهى بلو بيرد؟»

«بلى. ذهبت إلى المكتب أولًا فأخبروني بأنك ستكون هنا. ثمة أمرٌ أريدُه وظننتُ أنك ربما ستُساعدني فيه.»

قال السيد ماكالان بنبرةٍ جافة: «أظنُّ أنه ليس من أجل حملة دعاية.»

«لا، أريد أن أقرأ نعيي.»

«يا رجل، ومَن لا يريد ذلك! فأنت شخص مُميز يا سيد آشبي، شخص مميز كثيرًا.»

«أظنُّ أن صحيفة «ويست أوفر تايمز» تحتفظ بالأعداد القديمة من الصحيفة.»

«أوه، صحيح، هذا العدد صدر في ١٨ يونيو ١٨٢٧. أم إنه كان في يوم ٢٨؟ لقد نسيت. إذن تريد أن تطَّلع على الملفات. لا بأس، لا تحوي الكثير، لكنك ستجد الأمر مُثيرًا للاهتمام بالطبع. فلا بد أن حادثَ وفاة المرء هو موضوع مُشوِّق للقراءة عنه.»

«قرأت عنه، إذن؟»

«أجل. بحثت عن خبر وفاتك بطبيعة الحال قبل الذهاب إلى لاتشتس يوم الثلاثاء.»

نزلا يتلمَّسان طريقَهما عبْر درجات السُّلَّم المُظلم نحو القبو القابع أسفل مكاتب صحيفة «ويست أوفر تايمز»، وتمكَّن السيد ماكالان من وضْع يدِه على النسخة المطلوبة في الحال ودون أن يُثير الغبار المتراكِم على مدار مائةٍ وخمسين عامًا في وجهيهما.

قال السيد ماكالان، باسطًا المجلدَ مفتوحًا تحت الضوء الواضح على المكتب المائل القديم الطراز: «سأتركك معه. أتمنَّى لك وقتًا مُمتعًا. إن كان هناك أي شيء آخر يمكنني أن أفعله من أجلك، فأخبرني به فحسب. ولتأتِ وقتما تشاء.»

هرول صاعدًا على درجات السُّلَّم الحجري، وتلاشى صوت قرع نِعاله وهو مُتجهٌ لأعلى إلى عالم البشر، وتُرك برات وحدَه مع الماضي.

كانت صحيفة «ويست أوفر تايمز» تصدُر مرَّتَين في الأسبوع: أيام الأربعاء والسبت. كان حادث وفاة باتريك آشبي قد وقع يومَ سبت، وبذلك حمل إصدارٌ واحد ليوم الأربعاء كلًّا من خبر وفاته وتقريرًا عن التحقيق الشرطي في القضية. بالإضافة إلى الإعلان المُعتاد الذي وضعتْه العائلة في صحيفة الوفيات، نُشِر خبر صغير في الصفحة الوسطى. كانت صحيفة «ويست أوفر تايمز» مملوكة لعائلة من ويست أوفر، وكانت تحت إدارتِهم منذ تأسيسها، وكانت لا تزال مُحتفظةً بأبَّهتها، وسموِّها، وتحفُّظها مثل عربة قديمة يجُرُّها حصان واحد مملوكة لطبيبٍ إدواردي تجوب بين شارع هارلي ستريت ونايتس بريدج. أعلنت الصحيفة عن الخبر الحزين وقدَّمت مواساتها إلى العائلة في هذا المُصاب الجلَل الذي حلَّ بهم بعد فترةٍ قصيرة من فاجعةِ فقْدهم للسيد آشبي وزوجته في حادث تحطُّم طائرة. لم تُقدِّم أيَّ معلوماتٍ خلاف حقيقة أنه في غضون عصر أو مساء يوم السبت لقي باتريك آشبي حتفَه إثر سقوطه من فوق المنحدَر الصخري غرب المدينة. وكان هناك بيانٌ عن التحقيق في الصفحة الخامسة.

في الصفحة الخامسة كان هناك عمود كامل عن التحقيق. ولم يكن عمودٌ واحد كافيًا بالطبع ليوفِّيَ التحقيق حقَّه بالتفصيل، لكنه حوى جميع الحقائق البارزة، ومن حينٍ لآخر يرِدُ أحد الأدلة ساردًا كلمةً بكلمة.

كان عصر يوم السبت إجازةً لأطفال آشبي وكانوا مُعتادين في الصيف أخذَ «عملة معدنية» معهم وممارسة اهتماماتهم المختلفة في الريف حتى يحين وقت العودة إلى المنزل لتناول وجبة العشاء. لم يُثَر أي قلقٍ بشأن غياب باتريك في المساء حتى مرَّ على تغيُّبه عدة ساعات. كان الاعتقاد البديهي أنه ذهب إلى أبعدَ مِما كان ينوي وهو يُمارس أحدث هواياته في مُراقبة الطيور، وأنه تأخَّر فحسب. عندما حلَّ الظلام وما زال لم يَعُد إلى المنزل، أُرسِلت استفسارات بالهاتف إلى جميع أرجاء الريف في محاولةٍ للعثور على شخصٍ يكون قد رآه، حتى إذا أصابه حادث يُمكن توجيه فريق إنقاذ إلى الموقع الصحيح. ولمَّا لم تؤتِ الاستفسارات أيَّ جدوى، أُعدَّ فريقُ بحثٍ ليجوب الأماكن المحتملة كافة بحثًا عن الصبيِّ المفقود. أُجري البحث سيرًا بالخيول وعلى الأقدام على حدٍّ سواء، وبالسيارة عبْر الطرق، دون أن يُكلَّل بأي نجاح.

مع أول شعاع ضوء في الصباح الباكر عَثر على معطفِ الصبي أحدُ جنود خفر السواحل الذي كان في دوريةٍ عبْر المنحدرات الصخرية. أدلى ألبرت بوتيكاري، جندي خفر السواحل المعني، بشهادة تفيد بأن المعطف كان على مسافةِ نحو خمسين ياردة من حافة المنحدر الصخري، حيث يبدأ المسار من تانبيتشس في الانحدار عبْر الفجوة المؤدية إلى الميناء في ويست أوفر. كان المعطف على بُعد بضع ياردات عن المسار الواقع على الجانب الأقرب من المنحدر، وكان مُثبَّتًا في مكانه بواسطة حجر. كان مبللًا بالندى عندما التقطه، وخلَت جيوبه من أي شيءٍ عدا رسالة مكتوبة بقلم حبر ذي سنٍّ رفيعة. وكانت الرسالة هي التي دلَّت عليه في تلك اللحظة. أبلغ الجندي الخبر إلى الشرطة عبْر الهاتف وعلى الفور بدأ البحث عن جثة على الشاطئ. لكن لم يُعثَر على أي جثةٍ. كانت الليلة السابقة قد شهدت مدًّا بلغ ٧ : ٢٩، وإذا كان الصبي قد سقط في الماء، أو إذا كان قد سقط قبل ارتفاع الماء بحيث يكون التيار قد سحب جثمانه، فلم يكن تيار المد ليجرفه مرة أخرى إلى شاطئ ويست أوفر. فلم يغرَق أحدٌ في ضاحية ويست أوفر وقد جُرف لمكان أقربَ من كاسلتون، التي تقع بعيدًا جهة الغرب؛ وأغلبهم يُجرف غربًا لمناطق أبعدَ من تلك. لذلك لم يكن هناك أملٌ في العثور على أي جثةٍ عندما بدأ البحث. فلم يكن إلا إجراءً روتينيًّا.

تبيَّن أن آخر شخص رأى باتريك آشبي كان آبل تاسك، راعي الغنم. كان قد التقى بالصبي في بداية العصر، في منتصف الطريق تقريبًا بين تانبيتشس والمنحدر الصخري.

س: ماذا كان يفعل؟

ج: كان مُستلقيًا على بطنه فوق العشب.

س: أكان يفعل أي شيء؟

ج: ينتظر طائر قُبَّرة.

س: أي نوعٍ من القُبَّرة؟

ج: القُبَّرة الإنجليزي.

س: تقصد أنه كان يُراقِب الطيور. هل بدا بحالته الطبيعية؟

نعم، هكذا أجاب آبل؛ فقد بدا بات آشبي كالمعتاد حسبَ تقديره. فلم يكن في أي وقتٍ «ثرثارًا». أكان صبيًّا هادئًا؟ نعم، كان صبيًّا لطيفًا هادئًا. تناقشا في الطيور قليلًا ثم افترقا. كان آبل تاسك في طريقه إلى ويست أوفر من مسار المنحدَر الصخري، وكان أيضًا في إجازته الشخصية لنصف اليوم. ولم يَعُد حتى ساعةٍ متأخرةٍ من الليل ولم يَسمع عن عملية البحث عن الصبي حتى صباح يوم الأحد.

سُئل إن كان الكثير من الناس يرتادون مسار المنحدر الصخري فأجاب بالنفي. كانت هناك حافلات من القرية توصِلك إلى ويست أوفر في عُشر الوقت، لكنه لم يكن يعوِّل على تلك الحافلات. فقد كان السير على ذلك الجزء الصخري من المسار صعبًا، ولم يكن مناسبًا لنوع الحذاء الذي يَرتديه الذاهبون إلى المدينة. لهذا لم يكن أحدٌ سيُفكِّر في الذهاب إلى ويست أوفر من ذلك الطريق غير شخصٍ مثله كان على جانب البحر من تل تانبيتشس.

أدلت بي بشهادتها بأن وفاة والدَيه كانت صدمةً كبيرة للصبي، لكنه تقبَّل الأمر وكان يبدو أنه يتعافى. لم يكن لدَيها مُبرِّر يدفعها إلى الاعتقاد بأنه كان يُفكِّر في إنهاء حياته. لقد تفرَّق الأطفال عصر يوم السبت؛ لأن اهتماماتهم كانت مختلفة؛ لهذا لم يكن بقاء باتريك وحدَه أمرًا استثنائيًّا.

س: ألم يُرافقه توءمُه؟

ج: نعم. كان باتريك مُغرمًا بالطيور، لكن ميول سايمون كانت ميكانيكية.

س: هل رأيتِ الرسالة التي عُثر عليها في معطف الصبي، وهل تعرفتِ الخطَّ بأنه خطُّ باتريك ابن أخيك؟

ج: نعم. كان لباتريك طريقةٌ مميزة للغاية في كتابة الحروف الأولى من اسمه. وكان هو الشخص الوحيد الذي أعرفه يكتب بقلَم حبر.

أوضحت طبيعة قلم الحبر. كان القلم الذي يمتلكُه باتريك من مطاطٍ مقسًّى أسود، وله لولب حلزوني رفيع أصفر أسفل الأنبوب. أجل، كان ضائعًا. كان يحمِلُه معه دائمًا؛ فقد كان من مقتنياته المحبَّبة إليه.

س: هل يمكنك التفكير في أي سببٍ يُفسِّر سيطرة هذه الرغبة المفاجئة عليه في إنهاء حياته، في حين أنه بدا إلى صديقه، راعي الغنم، سعيدًا كعادته على نحوٍ عادي وقت العصر؟

ج: لا يسعني سوى أن أفترض أنه كان سعيدًا على نحوٍ طبيعي أثناء العصر، لكن عندما حان وقت العودة إلى المنزل، كانت فكرة العودة إلى منزلٍ غاب عنه مَن جعلوا الحياة رائعةً له فوق احتماله، وتملَّكتْه رغبة عارمة كانت وليدةَ لحظةٍ من اليأس.

وكان ذلك هو قرار المحكمة أيضًا. أن الصبيَّ استسلمَ لرغبةٍ عارمة عابرة في لحظةٍ اختل فيها ميزان عقله.

كانت تلك هي نهاية العمود ونهاية باتريك آشبي. قَلَّب برات صفحات الإصدار التالي، الذي كان زاخرًا بالتفاصيل الصغيرة المهمة عن ويست أوفر في فصل الصيف: عروض، مسابقات بولينج، دورات ألعاب تنس، اجتماعات المجلس، الجولات التجارية؛ لكن لم يَرِد أي ذكرٌ لبات آشبي. لقد صار بات آشبي مُنتميًا إلى الماضي.

اضطجع برات مُسترخيًا في الهدوء المُطبِق الذي ساد القبو وأمعن التفكير في الأمر برُمته. كان الصبي مُستلقيًا على عشب الصيف في انتظار هبوط طيور القُبَّرة المُحبَّبة له من السماء. ثم حل الليل. ولم يَعُد أيُّ صبيٍّ إلى منزله عبر تل تانبيتشس.

اهتمامات ميكانيكية، هكذا قالت في وصفها لكيفية قضاء سايمون لعطلة نصف اليوم. افترض أن المقصود بذلك كان مُحرِّك الاحتراق الداخلي. ففي عمر الثالثة عشرة يبدأ الشغف بالسيارات. كان سايمون على الأرجح يعبث ببراءةٍ في مرأب لاتشتس. ولم تَرِد بالطبع أيُّ إشارةٍ في التحقيق، كما نُقل في الصحافة، إلى أن مكانه كان موضع شك.

عندما انضمَّ إلى بي لتناول الغداء في مطعم أنجل كان مُتلهفًا لكي يسأل بي بصراحةٍ عن المكان الذي كان فيه سايمون في عصر ذلك اليوم. لكنه بالطبع لم يَستطِع أن يقول: «أين كان سايمون عصر اليوم الذي هربتُ فيه من المنزل؟» كان سؤالًا لا معنَى له على الإطلاق. لا بد أن يختلق طريقةً أخرى ليطرح الموضوع للحوار. شتَّت انتباهه رئيس النُّدُل العجوز في مطعم أنجل، الذي كان يعرف جميعَ أبناء آشبي وبدا وقد اقشعرَّ بدنُه حتى النخاع من عودة باتريك غير المُتوقَّعة. فقد ارتجفت يداه الهرمتان عندما وضعتا الأطباق المتنوِّعة أمامه، وكان كل طبقٍ يُوضَع يُصاحبه عبارة «السيد باتريك، سيدي» بصوت مرتجِف، وكأن استخدام الاسم يُسعده. لكن جاءت ذروة الأحداث مع طبق التحلية. كانت التحلية فطيرةَ فواكه، وكان قد قدَّمها بالفعل إلى بي وبرات، لكنه عاد في الحال وبحماسةٍ شديدة وضعَ حلوى مرينج كبيرة على طبقٍ فضي أمام مكان برات. حدَّق برات فيها بدهشة ثم رفع بصرَه ليجد الرجل العجوز في انتظار تعليقِه بابتسامةٍ واسعة وعيناه مغرورقتان بالدموع. لكن ذهنه كان مُنشغلًا بسايمون حتى إنه لم يكن سريع الاستجابة بالدرجة الكافية، وكانت بي هي مَن أنقذت الموقف.

قالت: «كم هو رائع من دانيال أن يتذكَّر أنك كنت دائمًا تتناول تلك الحلوى!» فحذا برات حذوَها وانصرف الرجل العجوز سعيدًا وتحرَّك، مُكفكفًا دموعَه بمنديلٍ أبيض رائع بدا كبيرًا بحجم ملاءة سرير.

قال برات لبي: «شكرًا لكِ، لم أكن أتذكر ذلك.»

«دانيال العجوز العزيز. أعتقد أن الأمر ربما يبدو له أشبَهَ برؤية ابنه عائدًا. كان له ثلاثة أبناء، كما تعرف. وجميعهم ماتوا في حربٍ واحدة، وجميع أحفاده ماتوا في الحرب التي تلتها. كان مغرمًا بِكُم وأنتم أطفال؛ لهذا أتوقَّع أن يكون الأمر رائعًا له كثيرًا أن يرى أي شخصٍ أحبَّه وقد عاد من الموت. ماذا كنت تفعل بصباحك؟»

«كنت أقرأ نعيي.»

«يا لكآبتك. لكن لا، بالتأكيد، الأمر ليس كئيبًا. هذا ما نُريد جميعًا أن نفعله. هل قابلتَ السيد ماكالان؟»

«قابلته. أرسل إليكِ أطيب التحيات. عمة بي …»

«أنت أكبر من أن تبدأ نداءك لي بالعمة.»

«بي، ماذا كانت «الاهتمامات الميكانيكية» لسايمون؟»

«لم يكن لسايمون أي اهتمامات ميكانيكية على حدِّ علمي.»

«هكذا ذُكِرت في التحقيق.»

«أقلت ذلك؟ لا أتصور ماذا يمكن أن تكون تلك الاهتمامات. ماذا كانت مناسبةُ ذلك؟»

«لتُفسِّري عدم قيامِنا بأشياءَ معًا عصر يوم السبت. ماذا كان يفعل سايمون عندما كنت أذهب لمراقبة الطيور؟» حاول أن يجعلَ السؤال يبدو كمحاولةٍ لتذكُّر نمَط حياةٍ قديم.

«أتوقع أنه كان يتسكع. طالما كان سايمون مُتسكعًا. لم تدُم له هواية قطُّ أكثر من أسبوعَين على أقصى تقدير.»

«إذن لا تذكُرين الهواية التي كان سايمون يُمارسها في اليوم الذي هربت فيه؟»

«هذا سُخف منِّي يا عزيزي، لكني لا أعرف. حتى إنني لا أتذكَّر أين كان في ذلك اليوم. عندما يقع حدَث مُريع، كما تعرف، تدفعه إلى أعماق عقلك ولا تسترجعه مرةً أخرى لو كان الأمر بيدك. أتذكَّر جيدًا أنه قضى الليل كلَّه على مُهره يبحث عنك بجنونٍ. مسكين سايمون. لقد آذيتَه حقًّا يا برات. لا أعرف إذا كنتَ تُدرك ذلك. لقد تغيَّر سايمون بعد رحيلك. لا أعرف إن كان ذلك من صدمة هروبك أو لافتقاده رفقتك المُتزنة، لكنه صار شخصًا مختلفًا بعدها.»

ولمَّا لم يجد برات ردًّا على ما قيل، أخذ يأكل في صمت، وبعد قليل قالت: «وآذيتَني بامتناعك عن مُراسلتي. لماذا لم تكتُب لي يا برات؟»

كانت هذه هي نقطة الضَّعف في الحبكة بأكملها، كما كان لودينج يُشير باستمرار.

قال: «لا أعرف. صدقًا لا أعرف!»

كان إحساس الغضب واليأس في نبرة صوتِهِ في محلِّهما لدرجةٍ لم يكن قد توقَّعها.

قالت: «لا بأس. لن أزعجك يا عزيزي. لم أقصد ذلك. كان ذلك أمرًا أثار حيرتي فحسب. لقد كنت شديدةَ الولع بك عندما كنتَ صغيرًا، وكنا صديقَين مقربَين. لم يكن من طبعك أن تعيش حياةً خاصة بك من دون أن تُلقيَ نظرةً سريعة إلى الخلف.»

نقَّب عن ردٍّ في أعماق خبرته الشخصية. «من السهل أن تُلقيَ الماضي وراءَ ظهركِ عندما تكونين في عمر الرابعة عشرة أكثر مما قد تتخيَّلِين. إذا كنتِ تُواجِهين خبراتٍ جديدةً باستمرار، هذا ما أقصده. الماضي لا يحمل واقعًا أعظمَ من شيءٍ رأيتِه في سينما. أقصد، ليس هناك واقع شخصي.»

قالت بمرح: «لا بدَّ أن أُجرِّب الهروب يومًا ما. ثمَّة أحداث كثيرة من الماضي أودُّ أن أُلقيَها وراء ظهري.»

ثم جاء دانيال حاملًا الجبن، وأخذا يتحدثان عن أمورٍ أخرى.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤