الفصل الخامس والعشرون

قالت روث، عندما تُرِكت مع برات وحدهما في المدرج: «أظن أني سأتقيَّأ.»

قال برات: «لا أستغرب ذلك.»

«لماذا؟» فاجأها ما قيل؛ إذ لم يكن هذا ردَّ الفعل الذي توقَّعتْهُ نهائيًّا.

«ثلاثة مكعبات ثلجٍ على لحم السلطعون المُتبَّل.»

قالت بنبرة زاجرة: «ليس ذلك بسبب أي شيء أكلتُه. المسألة أنَّ جهازي العصبي حساس. فالإثارة تجعلني أشعر بالإعياء. وأتقيَّأ بسببها.»

نصحها برات: «لو كنتُ مكانك لذهبتُ وأنهيت الأمر.»

«تعني أذهب للتقيؤ!»

«أجل. إنه شعور مُذهل.»

قالت روث مُستسلمة: «إذا جلستُ ثابتةً تمامًا بلا حَراك ربما أصبح أفضل.»

كانت روث تشعُر بعدَم أهميتها اليوم. فقد تجنَّبت الخيول طوال الوقت لبقية العام لدرجة حرمَتْها من المُطالبة بأي حقٍّ في استعراض أيٍّ منها في هذا اليوم بعرض بيورز؛ لهذا جلست في المُدرَّج مرتديةً زيًّا رماديًّا أنيقًا من قطن الفلانيل واكتفت بالمشاهدة. وما كان موضع تقدير وإشادة لها أنها لم تَضِنَّ على توءمتها بموقعها المرموق الذي استحقَّتْه عن جدارة، وكانت في أشدِّ اللهفة لأن تحصد جين المركز الأول في فئتها.

«ها هو ذا روجر كلينت مع إلينور.»

بحث برات عن الاثنين ووجدهما.

«مَن روجر كلينت؟»

«لدَيه مزرعة كبيرة قريبة من هنا.»

كان روجر كلينت شابًّا أسودَ الحاجبَين، وصديقًا قديمًا لإلينور.

قالت روث، بعد أن فشِلَت في محاولةٍ من محاولاتها لافتعال دراما: «إنه يُحب إلينور.»

قال برات، ولكن بقلبٍ مُنقبض: «شخص مناسِب تمامًا للوقوع في غرامِه.»

«سيكون رائعًا إذا تزوَّجَتْه. فلدَيه أموال كثيرة ومنزل كبير جميل وأعداد كبيرة من الخيول.»

سأل برات رغمًا عن إرادته إن كانت إلينور تُفكر في الأمر.

فكَّرت روث في إيجابيات وسلبيات هذا الأمر كما يتناسَب مع الإطار الدرامي الذي وضعته.

«تجعله يخدم سبع سنواتٍ من أجل أن يتزوَّجها. أتعرف: مثل يعقوب. وهو ببساطة ثائر بشأن ذلك، ذلك المسكين روجر، لكنها الفتاة الحسناء العديمة الرحمة.»

ودَّعت الفتاة الحسناء العديمة الرحمة السيدَ كلينت مؤقتًا، وصعدت لتنضمَّ إليهما في المدرَّجات بينما اصطفَّ الناشئون تحت سن العاشرة في حَلْبة السباق.

قالت وهي تجلس إلى جانب برات: «هل تعلم أن توني نجح في دخول السباق بمعجزة؟ سيبلُغ عامه العاشر بعد غدٍ.»

كان هناك أحد عشر مُتسابقًا ناشئًا، أصغرهم طفلة بدينة في الرابعة تلبَس قُبعة فرسان مخملية سوداء، كانت تتواثَب على مُهرٍ ثابتٍ لم يكن لها أي سيطرة عليه بأي حال.

قالت إلينور: «حسنًا، على الأقل لم يبدُ توني بهذا القدْر من البشاعة حتى في أيامِهِ السيئة.»

علَّقت روث: «يبدو توني رائعًا»، وكان توني يبدو بالفعل رائعًا. فكما قالت إلينور في مناسبةٍ سابقة، بداخل توني بذرةُ فارس.

سار المتسابقون الناشئون، ثم ركضوا، ثم عدَوا ببطءٍ، تحت أعيُن الحكَّام الرءوفة، وبعد قليل بدأ تصنيف المتسابِقِين. حتى من المُدرَّج كان واضحًا للعيان الإصرار الجنوني في عينَي توني السوداوَين كسواد الحلزون. كان عازمًا إما على الفوز بالمال أو الموت. انحصر المتسابقون المحتمَلون في أربعة متسابقين بعد أن كانوا ستة، لكن هؤلاء الأربعة أثاروا حيرةَ الحكام. أُرسِلوا أكثر من مرةٍ للعدْو ببطءٍ والرجوع للتدقيق، ثم أُرسلوا للعدْو ببطءٍ مرة أخرى. لم يكن هناك سوى ثلاثة جوائز ولا بد أن يرحل واحدٌ منهم.

في هذه المرحلة لعِب توني بما اعتبره بوضوح ورقتَهُ الرابحة. عندما عدا ببطءٍ أمام المدرج انحنى حتى وصل إلى ركبتَيه في السَّرج وبدفعةٍ طفيفة وقف فيه، في استقامة وفخر.

قالت إلينور بوقارٍ وإحساس مؤثر: «يا إلهي.»

سَرَت موجةٌ من الضحك في المدرَّج. لكن توني كان في جَعبته محاولة أخرى. انزلق إلى ركبتَيه، وجذب الحافة الأمامية من السَّرج، ثم وقف على رأسه، فأخذت ساقاه الرفيعتان اللتان تُشبهان أرجُل العنكبوت تتأرجحان بتردُّد نوعًا ما في الهواء.

حينئذٍ انفجرت عاصفة من الضحك والتصفيق، وعاد توني، الذي كان في غاية السعادة، إلى مقعده على السَّرج ودفع حصانه المندهش، الذي كان قد تهادى حتى صار يمشي خببًا، ثم عاد إلى العدْو ببطءٍ مرة أخرى.

بالطبع حسم ذلك قرارُ هيئة التحكيم ببراعةٍ شديدة، وشعر توني بالإهانة عند رؤية أوشحة التكريم الثلاثة تُسلَّم إلى منافسيه. لكن إهانته لم تكن شيئًا بالنسبة إلى الإهانة التي أوقعها بمدرِّبته.

قالت: «أتمنَّى ألا أرى ذلك الطفل حتى أهدأ، وإلا قد أضربه بفأسٍ.»

لكن توني، بعد أن سلَّم مُهره إلى آرثر، اتجه مُتهللًا إلى المدرَّجات ليبحث عنها.

قالت: «توني، أيها الأحمق الصغير. ما الذي دفعك إلى فِعل شيء مثل ذلك؟»

«أردتُ أن أستعرض قُدرتي على ركوب الخيل يا إلينور.»

«وأين تعلَّمتَ القيام بتلك الحِيَل البهلوانية؟»

«تدرَّبت على المُهر الذي يقطع العشب. عند المدرسة، كما تعرفين. كان له ظهرٌ أعرض كثيرًا من مافيت؛ ولهذا لم أكن ثابتًا للدرجة اليوم.» وأضاف وهو يُومئ برأسه نحو هيئة التحكيم المُهينة: «أعتقد أن هؤلاء الناس لا يُقدِّرون الفروسية الماهرة.»

انعقد لسان إلينور من الصدمة.

قدَّم له برات قطعةً من النقود وأخبرَه بأن يذهب ويشتري لنفسه أحد المثلجات.

«لولا أني أريد رؤية عرض جين، لذهبتُ وواريت خجلي في غرفة السيدات. أكاد أتجمَّد من المهانة.»

كان منظر جين على حصانها راجا، وفي أبهى ثياب الفروسية، منظرًا مبهجًا. لم يكن برات قد رآها في أي ثيابٍ أُخرى سوى بنطالٍ رثٍّ وقميصٍ صوفيٍّ لا شكلَ له كانت ترتديهما في المنزل، وفاجأته هذه الهيئة الصغيرة المهندمة.

قالت إلينور بحُبٍّ وهي تُشاهد جين الجادةَ البارعة تدفع راجا إلى تغيير مِشيتِهِ بنظام: «تحظى جين بأفضل وضعيةٍ على الحصان بين جميع أفراد عائلة آشبي. هذه هي المنافِسة الوحيدة لها: تلك الفتاة الطويلة على الحصان الرمادي.»

كانت الفتاة الطويلة في الخامسة عشرة من عمرها وكان حصانها الرمادي جميلًا للغاية، لكن الحُكَّام آثروا جين وراجا. ربما كان من المُمكن أن تخسر جين السباق بسبب افتقاد أدائها للحماسة الكافية، لكن روث كانت متحمِّسة لأدائها.

قال سايمون، ظاهرًا بجانبهم: «أحسنتِ أيتها العزيزة جين. خبيرة متمرِّسة في التاسعة من عمرها.»

قالت إلينور في ألمٍ مرة أخرى عندما تذكَّرت: «حقًّا يا سايمون، أرأيت!»

قال وهو يضع يدَه على كتفها مواسيًا إيَّاها: «ابتهجي يا نيل. كان من الممكن أن يحدُث ما هو أسوأ.»

«وكيف يمكن أن يكون هناك ما هو أسوأ من ذلك؟»

«لم يصدح بالغناء بصوتٍ بكائي.»

وبدأت تضحك على ما قال، واستمرَّت في الضحك. ثم قالت وهي تمسح عينيها: «يا إلهي، أظن أن ذلك مضحك كثيرًا، وأتوقَّع أن أضحك عليه سنواتٍ، لكني في هذه اللحظة أتمنَّى فحسب لو استطعتُ أن أكون في أستراليا لِما تبقَّى من العصر.»

قال: «هيَّا يا نيل. حان الوقت لنجمع الخيول»، ثم انصرفا معًا عندما جاءت جين لتجلس في المدرج.

كان ردُّها على تهنئة برات لها: «الفئة القادمة الآن هي الفئة المُثيرة في السباق. ليس معضلًا الفوز في فئة الخامسة عشرة وما دونها. يومًا ما سأكون هناك في الأسفل معهم. مع العمة بي، وإلينور، وسايمون، وبيجي، وروجر كلينت، وجميعهم.»

أجل، كان روجر كلينت حاضرًا. كانت إلينور تمتطي الفرس سكابا ذات اللون الكستنائي والظهر الطويل، وكان يقف إلى جوارها روجر كلينت على حصان كستنائي ذي أربع قوائم هي أطول القوائم التي رآها برات في حياتِهِ وأنصعها بياضًا. وبينما كان الحُكَّام يمرُّون بمحاذاة الصف، تحدَّث هو وإلينور معًا بصوت خافت.

سألت جين: «مَن في رأيك سيحصد المركز الأول؟»

أزاح برات عينَيه عن إلينور وكلينت وأجبر نفسَه على التفكير في دخول المتسابقين. كان الحَكَم قد أرسل بي لتعدوَ بحصانها شيفرون، الحصان الكستنائي الذي كان سيدخل السباق عصر اليوم، وكانت في تلك اللحظة بصدد النزول أمام المدرجات. لم يكن قد رأى بي في زيِّ الفروسية الرسمي من قبلُ قط، وتفاجأ مرةً أخرى عندما كان جالسًا مع جين. كانت بي جديدة، وجادة، ومُخيفة نوعًا ما.

كرَّرت جين السؤال: «مَن برأيك يا برات؟»

«تيمبر بالطبع.»

«ليس حصان بيجي؟ ذلك الحصان الذي كان مِلكًا لديك بوب؟»

«رايدينج لايت؟ لا. ربما يفوز في سباق القفز، لكن ليس في هذا السباق.»

وكان مُحقًّا في ذلك. كانت هذه النظرة الأولى للحكام على تيمبر، وقد أبهرهم كثيرًا لدرجةٍ حالت دون أن يَستميلهم جمال رايدينج لايت وسُمْعته.

ونال الحُكم إجماعًا شعبيًّا. عندما عدا سايمون بالحصان تيمبر أمام المدرجات بعد أن تلقى وشاح التكريم انقلب التصفيق إلى هتاف.

قال صوتٌ جاء من الخلف: «أليس ذلك هو الحصان الذي قتل فليكس العجوز؟ كان من المُفترَض أن يطلقوا النار عليه بدلًا من أن يمنحوه جوائز.»

جاءت في المركز الثاني بيجي على حصانها رايدينج لايت، وقد بدت مُتورِّدة وسعيدة؛ فتبذير والدها صار له ما يُبرِّره. وفي المركز الثالث، وعلى غير المتوقع نوعًا ما، كانت بي على حصانها شيفرون.

قال الصوت: «عائلة آشبي تربح كالمعتاد»، لكنَّهُ أُسكِت في الحال، ومِن المُحتمَل أنه أشير إلى وجود أفراد آشبي على مسافة قريبة.

وصل اليوم إلى نقطة الإثارة الحقيقية عندما بدأت فئة سباق القفز المفتوح، وجاءت بي لتجلس في المدرج وتشاركهم.

أعلن مكبر الصوت: «رقم واحد، من فضلكم»، ودخلت إلينور مضمار السباق على سكابا. كانت سكابا واثبة متأنية وهادئة، لكن لم يكن من المُمكن إقناعها أبدًا بالوقوف بعيدًا عن الحواجز. ومع بعض التدريب الصبور بالاستعانة بحاجز حماية، تمنَّت إلينور أن تكون قد أقنعتها الآن بانتهاج طرقٍ أفضل. وسارت الأمور جيدًا لنصف الجولة، إلى أن لاحظت سكابا عدم وجود حاجز مُزعج لتحذر منه في نهاية حواجز القفز تلك، فأخذت تقترب مرة أخرى، لينتهي الأمر بالنتيجة الحتمية. لم يكن بوسع إلينور أن تفعل أي شيءٍ من شأنه أن يجعلها تنطلِق في الوقت المناسب. فقفزت قفزةً عالية «كادت أن تصدمهما بالقمر»، لكنها نزلت في المكان الخاطئ، ونزلت معها العوارض الخشبية ذات الطلاء الأبيض.

قالت بي: «مسكينة يا نيل. بعد كل هذا التدريب الذي درَّبتِه لها.»

لم يبدُ أن الحصان رقم اثنين ورقم ثلاثة قد تدرَّبا نهائيًّا.

أعلن مكبر الصوت: «رقم أربعة، من فضلكم»، فظهر رايدينج لايت. كان «الزي الجديد» الذي ارتدتْه بيجي مؤلَّفًا من معطفٍ لونُه بُني ضارب إلى الصفرة ضيقًا للغاية عند الخَصر، وسروال من الجلد لونه باهت قليلًا، لكنها بدَتْ أنيقةً على الحصان البُني وتعاملت معه بشكلٍ جيد. أو بالأحرى، جلست ثابتةً وتركت رايدينج لايت يقوم بعمله. كان بارعًا في الوثب يتخطَّى الحواجز بخطوته الواسعة، فيدفع نفسه عاليًا في الهواء في خطٍّ مُنحنٍ طويل بلا جهد ثم يَثني قدمَيه الخلفيتَين وراءه كقطةٍ. ثم خرج بعد أن أدَّى جولةً رائعة.

أعلن مكبر الصوت: «رقم خمسة، من فضلكم.»

كان رقم خمسة هو حصانَ روجر كلينت ذا القوائم البيضاء الطويلة. قالت بي: «هل تعرف ماذا يُطلق عليه؟ «أوبريشن ستوكينجس».»

قال برات: «إنه قبيح جدًّا. يبدو وكأنه سار في حوض من الطلاء الأبيض.»

«لكنه يستطيع القفز.»

كان يُمكنه القفز بالتأكيد، لكن كان لدَيه رُهاب من الماء.

ضحكت بي وهي تُشاهد ستوكينجس يرفض الماء: «مسكين روجر. كان يدفعه إلى القفز إلى الخلف وإلى الأمام عبر بحيرة البط في المنزل على أمل أن يُعالِجه من الرهاب، والآن يتصرف هكذا!»

ظل ستوكينجس رافضًا الماء، واضطر كلينت إلى إخراجه وسط موجةٍ من التصفيق على سبيل التعاطف.

ارتكب المتسابقان رقم ستة وسبعة خطأ واحدًا لكلٍّ منهما.

أما رقم ثمانية فكان سايمون على حصانه تيمبر.

دخل الحصان الأسود إلى الحلْبة تمامًا مثلما خرج من مقصورته في اليوم الذي رآه فيه برات لأول مرة، سعيدًا بنفسه وجاهزًا لنيل التقدير والاحترام. انتصبت أُذناه المُتحمستان الخفاقتان في انتباهٍ عندما أبصر حواجز القفز. وجَّهه سايمون إلى العدْوِ واتجه نحو حاجز القفز الأول. كان بوسع برات أن يشعر بسلاسة تلك الحركة حتى من المكان الذي كان جالسًا فيه. تلك السلاسة التي أذهلته في ذلك اليوم الأول في لاتشتس عندما كان مُمتطيًا إيَّاه على قمة التل. ارتفع الحصان الأسود بسلاسةٍ عاليًا في الهواء ثم نزل على الجانب البعيد من حاجز القفز، فصدرت غمغمات من الجمهور إعجابًا برشاقة القفزة التي كانت أشبه بقفزة قط. راقب برات، بأصدق مشاعر الاحترام، جسد سايمون يتأرجح مع ارتفاع الحصان الأسود وهبوطه وكأنه كان جزءًا منه. كان سايمون هو مَن يجِب فعلًا أن يَمتطيه. لم يكن أبدًا ليبلُغ تلك الدرجة من الإتقان ولو عاش مائة سنة. خيَّم صمت رهيب على الجمهور كلما تجاوز تيمبر حاجز قفز تلوَ الآخر. سيكون أمرًا بشعًا لو قُدِّر لهذا الجمال أن يفشل أو يتخلَّله خطأ. كانت الأجواء شديدة الهدوء عندما صار في مواجهة حاجز القفز فوق الماء لدرجةِ أنَّ صوت بائع صحف بعيد عند البوابة الرئيسية كان الصوتَ الوحيد الذي أمكن سماعه. وعندما هبط بسلاسةٍ ودقة عند الضفة البعيدة، عَلت شهقة انبهار من الجمهور. لقد شاهدوا أداءً رائعًا. لم ينخدعوا فيه في نهاية الأمر.

كانوا متأثرين بشدة حتى إن سايمون كان خارج الحلْبة تقريبًا قبل أن تنفجر عاصفة التصفيق.

كان قد أُلغي دخول آخر ثلاثة متسابقين، فكان سايمون هو المؤدِّي الأخير، ومن ثَمَّ بدأت الجولة الثانية بمجرد مغادرته.

عادت إلينور على فرسها سكابا، وبقليلٍ من الصوت والتحفيز نجحت في أن تجعل الفرس العنيدة تنطلِق عند المكان المناسب، وبهذا فعلت شيئًا لتستعيدَ احترامها لذاتها. أما الجمهور، مقدرًا الخطأ الذي وقع في البداية وما نجحت في تحقيقه في تلك اللحظة، فقد أشاد بها لما حقَّقته.

أدَّى الحصان رقم اثنين جولةً اندفاعية لكنها موفَّقة، والحصان رقم ثلاثة كانت جولته اندفاعية وغير موفَّقة؛ ثم جاءت بيجي مرةً أخرى، ولم تزل متورِّدة من أثر سعادتها بجولتها الرائعة.

مرة أخرى كان لها منطقٌ في أن تجلس ثابتةً بينما يرتفع بها رايدينج لايت في الهواء بدفعة من أرجُله الرائعة، ويجتاز حاجز القفز، ويتَّجِه إلى الحاجز التالي بأُذنَيه المُنتصبتَين الواثقتَين. لم يبدُ أن هناك شيئًا يعيق الحصان البُني عن فعلِ هذا طوال اليوم. كان ثمة إحساس بالاعتياد على هذه المهمة انتقص من أدائه بشكلٍ ما؛ فقد جعلها تبدو مهمةً أسهل مما ينبغي. كان هناك بعض الشك فيما يبدو في أنه سيؤدي جولةً أخرى رائعة. كان تقديرُه للمسافة صائبًا تمامًا. ولم يُضطر إطلاقًا إلى التوقُّف ليضع نفسه على مسافةٍ قصيرة تدفعه إلى نقطة الانطلاق المناسبة؛ فكان يصِل إلى نقطة الانطلاق بحساباته الشخصية، ثم يقفز بخطوته الواسعة وكأنها حواجزُ قصيرة. كان يقترب من السور في تلك اللحظة، فانتظَروا حتى يرَوا إذا كان سيتعامل معه كحاجزٍ قصير أيضًا.

صدحت طبلة فرقة بيورز سيلفر باند كمُقدمة لمارش «كولونيل بوجي» العسكري وكتمهيد لدخولهم البوابة الأماميةَ لساحة العرض لتقديم عرضهم لفترة العصر. خفقت أُذنا رايدينج لايت في تساؤل وشكٍّ. وانصرف ذهنه عن ذلك الجدار الذي كان يقترب منه سريعًا. اندفعت أذناه إلى الأمام مرةً أخرى في انزعاج عندما رآه وقد أصبح فوقه تقريبًا. فقصَّر خطوته، محاولًا مواءمَتَها مع المسافة المُتبقية، لكنه أساء تقديرها. ارتفع عند السور بعزمٍ وإصرار وهبط على الجهة الأخرى، مطوحًا قوائمه إلى أعلى في محاولةٍ ناجحة لتفادي الاصطدام بالحاجز المُرتفع الذي أصبح في تلك اللحظة قريبًا للغاية أسفل منه. لكن حدوة رجله الأمامية القريبة لامست السور عندما ارتفع فوقه، فانزلق أحد الأحزمة من مكانه. واهتز لوهلةٍ على الحافة، ثم سقط على الأرض.

تعالت تأوُّهات الجمهور في تعاطُف سريع، ونظرت بيجي إلى الوراء لترى ما حدث. رأت الشق الصغير في قمة الجدار، لكنه لم يُربكها. أحضرت رايدينج لايت، وربَّتت على رقبتِهِ في تشجيع، ووجَّهته إلى الحاجز التالي.

تمتمت بي: «أحسنتِ يا بيجي!»

كانت الفرقة الموسيقية البعيدة تعزف مارش «كولونيل بوجي»، ولم يُعِرها رايدينج لايت أي انتباه؛ إذ كان يعرف كل شيءٍ عن الفرق الموسيقية. كانت الفرق الموسيقية مصاحبةً لأفضل عروض أدائه. عاد مرةً أخرى إلى نظامه المعتاد، وأنهى العرض بالقفز فوق الماء بفارقٍ تعالى معه شهيق الجمهور.

قالت بي: «لن يقدر سايمون على هزيمة ذلك الحصان أبدًا. فتلك الجولة الرائعة لتيمبر كانت معجزة في المقام الأول.»

انطلقت القوائم الأربع البيضاء الطويلة لحصان روجر كلينت حول الحلْبة بوتيرةٍ سريعة ومُتأهِّبة إلى أن وصل إلى حاجز الماء. وعندما صار بمواجهة مسافةٍ طويلة إلى حاجز القفز الأخير، توقَّف ستوكينجس وفكر مليًّا. تناقش كلينت معه بلطفٍ، لكن ستوكينجز لم يكن ليتقبل أيًّا مما قاله. كان لسان حاله وكأنه يقول: «أعرف تمامًا ما وراء ذلك السور، ولا أُحبه!» ثم، ومع تلك اللاعقلانية الأزلية التي تتَّسِم بها الخيول، قرَّر أن يُجريَ محاولة. ومن تلقاء نفسه اتجه نحو حاجز القفز وبدأ يعدو ببطء. جلس روجر وقاده نحو الحاجز، فانطلق ستوكينجس مُسرعًا نحوه بعزمٍ تجلَّى في كل خط من خطوط وجهه. وفي النصف ثانية الأخيرة غيَّر قراره فجأةً مثلما توصَّل إليه فجأة، فغرز أطراف قدمَيه بقوةٍ، وانزلق إلى نقطة توقُّفٍ أمام الحاجز المرتفع.

ضحِك الجمهور، وكذلك روجر كلينت. جذب نفسه عائدًا إلى موضِعه في السَّرج إذ كان مائلًا للأمام عند رقبة حصانه. وأخذ ستوكينجس إلى الجهة الأخرى من الحاجز وأراه الماء. وسار به حولها وتركه يُلقي نظرةً على الحافة الأخرى. ثم أعاده إلى الطرف الأقصى للحلْبة ووجَّهه نحو حاجز القفز. وبإحساس مَن يقول: «حسنًا، لنُنْهِ هذه المهمة الكريهة سريعًا»، قفز ستوكينجس بردفَيه، وانطلق يقطع الحلْبة ركضًا، ثم قفز فوق الماء بفارقِ ياردةٍ أو ياردتَين.

ضحِك الجمهور مُبتهجًا، وتكشَّفت الأسنان البيضاء في وجه كلينت البُني. ورفع قُبعته استجابةً للتصفيق دون النظر إليهم، مثلما يرفع لاعب كركيت قُبعته، واتجه بالحصان خارج الحلْبة، سعيدًا أنه قد تجاهل عين الحَكَم الإقصائية لمدةٍ طويلة بما يكفي ليستحث ستوكينجس على تجاوز هذا الحاجز البغيض.

ارتكب الحصان رقم ستة خطأين. أما الحصان رقم سبعة فارتكب خطأين ونصفًا.

أعلن مُكبِّر الصوت: «رقم ثمانية، من فضلكم»، ارتجفت جين ووضعت يدَها في يدِ بي. ولمرةٍ واحدة لم تُضطر روث إلى تصنُّع أجواء درامية لتناسبها؛ كان فاها فاغرًا من الترقُّب ولم تكن مُنتبِهة تمامًا لروث آشبي.

لم يكن تيمبر يمتلك الخبرة أو القدرة الآلية التي تمتَّع بهما رايدينج لايت. كان يجب أن يُسيَّر. كانت إمكانية تغلُّبهما على أداء حصان بيجي جيتس الذي لا يَعيبه شيءٌ تعتمِد على تقدير سايمون بقدْرِ اعتمادها على قدرات تيمبر. رأى برات أن سايمون يبدو شاحبًا من حول فمِه. كان الأمر لسايمون يحمل في طياته شيئًا أكثرَ من مجرد الفوز بالكأس في عرضٍ ريفي صغير. كان عليه أن ينتزع تلك الجائزة من الفتاة التي حاولت أن تُساوِيَ رأسها برأسه بإدخالها حصانًا خُلق من أجل النجاح والفوز ليهزم خيوله التي لا تتمتَّع بالحنكة.

دخل تيمبر وقد بدت عليه الحيرة. بدا وكأنه يقول: «لقد فعلت هذا.» انتصبت أُذناه ما إن أبصر حواجز القفز ثم خفقَتا في شك. لم يكن لدَيه الحماسة أو اللهفة للتوجُّه نحوَها مثلما كان حين كانت التجربة جديدةً عليه. لكنه اتَّجَه بدماثةٍ نحو الحاجز الأول واجتازه بأسلوبه التلقائي السلس. ظن برات أن بوسعه سماعَ قلوب عائلة آشبي وهي تخفق بجانبه. وكان بوسعه بالتأكيد سماع خفقان قلبه؛ كان قلبه يُصدِر صوتًا يُشبه قرع طبول فرقة بيورز سيلفر. قطع سايمون نصف المسافة. أطبقت روث فاها وأغمضت عينَيها وبدت وكأنها تُصلي. فتحت عينَيها في الوقت لمناسب لترى تيمبر يتجاوز الحاجز؛ كان كنهرٍ أسود انسيابي ينساب في الحاجز الأبيض. قالت روث: «أوه، حمدًا لله.» ولم يتبقَّ سوى الجدار والماء.

عندما اتجه تيمبر نحو الطرف الأقصى للحلْبة حتى يعود إلى الجدار أطاحت هبَّةُ ريحٍ بقبعة سايمون من فوق رأسه لتتدحرج على الأرض من خلفه. كان رأي برات أن سايمون لم يكن حتى واعيًا لها. ولا حتى توني توسيلي أبدى تركيزًا كالذي أبداه سايمون. لم يكن هناك شيء في هذا العالَم بالنسبة إلى سايمون سواه، والحصان الأسود، وحواجز القفز. لا أحد، لا أحد مُطلقًا كان سيقِف حائلًا بين سايمون وبين الفوز بالسباق وينجو بفعلتِه.

كل شيءٍ عرَفَه سايمون عن ركوب الخيل، كل شيء تعلَّمه منذ أول مرةٍ امتطى فيها مُهرًا وعمره سنتان، كُرِّس لدفع تيمبر إلى تجاوز السور بأمان. لم يكن تيمبر يُحب الحواجز الصعبة للغاية.

كان قد بدأ يعدو ببطءٍ نحو الجدار عندما اندفع كلب ترير أبيضُ نابحٌ من المدرج وراء القبعة البعيدة، قاطعًا الطريق أمام تقدُّم تيمبر مثل كرةٍ رُكِلت بقوة، وهو ينبح من الإثارة بقدرِ ما يستطيع كلب ترير أن ينبح.

استفاق تيمبر من هذا الذُّعر وأخذ يتصبَّب عرقًا.

أغمضت روث عينَيها مرة أخرى ولجأت إلى مزيدٍ من الصلاة. هدَّأ سايمون من روع تيمبر بتفهُّمٍ وصبر، وركض به في المنطقة المُحيطة وأولاه اهتمامًا كبيرًا بينما تولَّى شخصٌ ما استعادة الكلب وإعادته إلى صاحبه. (الذي قال: «مسكين يا سكوتي العزيز، كان من المُحتمَل أن يُقتل!») وبينما كانت الثواني القاسية تمر، وبصبرٍ وتؤدة، عمل سايمون على تهدئة تيمبر. لا بد أنه يعرف أن الوقت ينفد، وأن واقعة الكلب قد انتهت رسميًّا في تلك اللحظة وأن كل ثانية تأخير أخرى ستتراكم عليه.

كثيرًا ما كان برات يندهش من قدرةِ سايمون على ضبط النفس، لكن لم يسبق له أن شَهِد نموذجًا أكثرَ روعةً على ذلك قط. لا بد أن الرغبة في توجيه تيمبر نحو حاجز القفز كانت شديدة. لكن سايمون لم يكن يُخاطر مع سايمون. فكان يُجازف بالوقت ليكتسب فُرَص فوزٍ أفضل قليلًا من أجل تيمبر.

ثم، وبعد أن حَسَب على ما يبدو وقتَه إلى أقرب هامش مُمكن، أحضر تيمبر، الذي كان لا يزال يتصبَّب عرقًا لكنه استجمع شتات نفسه، إلى الجدار مرةً أخرى. وقبل أن يصل تيمبر إلى الحاجز مباشرة تردَّد قليلًا.

وجلس سايمون ثابتًا.

لو كان من المُحتمَل أن يُعجب بسايمون آشبي، لأُعجب به في تلك اللحظة.

أما الحصان، الذي لم ينصرف تركيزه عن المهمة التي أمامه، فقد استجمع نفسه تمامًا ودفع نفسه فوق الحاجز البغيض. ثم ركض مبتهجًا نحو الماء وانطلق متجاوزًا إيَّاه مثل طائر شحرور، شاعرًا بالارتياح لتجاوزه.

لقد فعلها سايمون.

سحبت جين يدَها من يد برات، ومسحت كفَّيها في منديلٍ مُغضَّن على شكل كرة.

مرَّرت بي ذراعها في ذراع برات وقبضت عليها بقوة.

انفجرت موجةٌ هائلة من الهُتاف جعلت الحديث غير مسموع.

في الهدوء الذي أعقب ذلك قالت روث، وكأن شخصًا يتذكر التزامًا مُربكًا: «يا إلهي، لقد رهنت مصروفي الشهري.»

سألت عمتها: «لمن؟»

قالت روث: «للرب.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤