الفصل الثامن والعشرون

كان صباح يوم الخميس وكان من المقرر أن يصل تشارلز آشبي مُبحرًا عبر مياه ساوثهامبتون، ولا شيء كان سيمنع الاحتفالات التي ستعقب وصوله. تبِع بي إلى الرَّدهة في لاتشتس وفي نفسه شعور باليأس.

سأل بي: «هل تُمانعين إذا تركتُكِ وذهبتُ إلى ويست أوفر؟»

«لا، أرى أنك تستحقُّ بعض الراحة من العائلة. سايمون هارب دائمًا من المنزل.»

وهكذا استقلَّ الحافلة قاصدًا ويست أوفر وانتظر إلى أن حان موعد تناول السيد ماكالان لقهوته في منتصف الصباح. اتجه إلى مكتب صحيفة «ويست أوفر تايمز» وطلب أن يَطلِع على الملفات. رافقه ساعي المكتب، الذي لم يُبدِ أي علامة على أنه قد رآه من قبل، إلى القبو وأطلَعَه على مكان الملفات. قرأ برات تقرير الاستجواب كاملًا من جديد، لكنه لم يعثُر على ما يُفيده.

أيُمكن أن يكون في التقرير الكامل شيء يفيده؟

انصرف وبحث عن اسم الكولونيل سموليت في دليل الهاتف. سأل الكولونيل: أين قد يكون تقرير الاستجواب الخاص بواقعة وفاته؟ أهو مع الشرطة؟ حسنًا، أمِنَ المُمكن أن يُسهِّل له الاطلاع عليه؟

كان الكولونيل سيُسهِّل له الأمر، لكنه اعتبر مطلبَه هذا طموحًا مروعًا ومكروهًا إلى أقصى حد، وناشد آشبي الصغير أن يُعيد التفكير.

لذا ذهب برات لمقابلة شرطي في غاية المرح، بناء على تعريفٍ من قِبل الكولونيل عبر الهاتف، وأجلسَه في مقعدٍ جلدي ذي مسندَين وقدَّم له سجائر، ثم وضع أمامه تقرير مُحقِّق الوفيات منذ ثماني سنوات بحماسةِ ساحرٍ أخرج الأرنب من قُبَّعته.

قرأه كاملًا بتمعُّن عدة مرات. لم يكن إلا تقرير صحيفة «ويست أوفر تايمز»، ولكن بمزيدٍ من التفصيل.

أعربَ عن شكره إلى الشرطي، وعرض عليه سيجارة بدَوره، وانصرف خاليَ الوفاض من أي إشارةٍ يهتدي بها مثلما جاء. واتَّجَه نحو الميناء وظلَّ مستندًا إلى السور يُحدِّق جهة الغرب في المنحدرات الصخرية.

كانت لدَيه نقطة ثابتة، على أي حال. نقطة ثابتة لا يمكن تغييرها. كانت تلك النقطة هي أن سايمون آشبي كان في كلير في ذلك اليوم. وهي نقطة أكَّدها رجلٌ لم يكن لدَيه مُبرر للكذب، ولم يكن لدَيه شكٌّ في أنَّ تلك الحقيقة لم تكن تُمثل أي أهميةٍ تُذكر. فلم يبتعِد سايمون مدةً طويلة كافية عن جوار السيد بلبيم بحيث يستشعر غيابه.

لا بد أن بات آشبي قد قُتل في الفترة التي تخلَّلت مُقابلة آبل العجوز له في بداية العصر واللحظة التي اضطُر فيها السيد بلبيم إلى أن يُوصِّل سايمون إلى المنزل من أجل تناول العشاء في الساعة السادسة.

حسنًا، ثمة مقولة قديمة تقول إذا لم يأتِ إليك الجبل، فعلَيك أن تذهب إليه.

أمعِن التفكير في نظرية الجبل، لكن ما حيَّره وجود المعطف على قمة المنحدر. كان سايمون هو مَن كتب تلك الرسالة، لكنه لم يخرج نهائيًّا من كلير.

كانت الساعة الثانية حينما استفاق من أفكاره، فذهب لتناول الغداء في حانةٍ صغيرة في الميناء. لم يتبقَّ لدَيهم الكثير من الطعام، لكن ذلك لم يكن مُهمًّا؛ إذ جلس مُحدقًا في طبقِه حتى وُضعت الفاتورة أمامه.

عاد إلى لاتشتس ومن دون أن يذهب إلى المنزل اتجَهَ إلى الإسطبلات وأخرج أحد الخيول التي لم تذهب إلى بيورز. لم يكن هناك أحدٌ سوى آرثر، الذي أبلغَه بأن جميع الخيول قد عادت بسلام وجميعها بصحةٍ جيدة فيما عدا أن باستر قد اصطدم الجزءُ الخلفيُّ من قدمه الأمامية بمقدمة قدمِه الخلفية.

سأل آرثر وهو يُومئ برأسه إلى بذلةِ برات الصوفية: «هل أُخرِجه على هذه الحال يا سيدي؟» فأجابه بالإيجاب.

اتجه نحوَ التلِّ مثلما فعل في صباح اليوم الأول له حينما خرج بتيمبر، وكرَّر ما فعله على ظهر تيمبر مرةً أخرى. لكن تبدَّد أي إحساسٍ بالجلال والزهو هذه المرة. فقد بدا العالَم باعثًا على الاشمئزاز. والحياة نفسها صار مذاقُها مرًّا.

ترجَّل عن الحصان وجلس حيثما جلس في ذلك الصباح منذ شهرٍ مضى، شاردًا ببصرِه نحو الوادي الأخضر الصغير. بدا المكان في عينَيه جنةً حينها. حتى تلك الفتاة الحمقاء التي جاءت وتحدَّثت إليه لم تكن كفيلةً بإفساد المشهد عليه. تذكَّر كيف جحظت عيناها حينما اكتشفت أنه ليس سايمون. كانت قد جاءت إلى هناك وهي واثقة أنها ستُقابل سايمون؛ لأن ذلك المكان كان مكانه المُفضَّل لتدريب الخيول. لأنه كان …

رفع الحصان الذي بجواره رأسه سريعًا حينما هزَّت الحركة المفاجئة التي صدرت من برات الشكيمة في فمه.

لأنه كان …؟

استمع إلى صوت الفتاة في عقله. ثم نهض ببطءٍ ووقف مدةً طويلة يحدق في الجهة المقابلة من الوادي.

أدرك حينها كيف ارتكب سايمون فَعلته. وعرف كذلك الإجابة عن شيءٍ كان يُثير حيرته. أدرك لماذا خشِيَ سايمون أن يكون باتريك الحقيقي هو مَن عاد بمعجزةٍ ما.

امتطى الحصان وعاد إلى الإسطبلات. كانت السُّحب الضخمة تتسارع من الجنوب الغربي وبدأت السماء تمطر. في غرفة معدَّات ركوب الخيل أخذ ورقةً من المكتب وكتب عليها: «سأتناول العشاء في الخارج. من فضلك اتركي قفل الباب الأمامي مفتوحًا من أجلي، لا داعيَ للقلق إذا تأخرت.» ووضع الرسالة في مظروف، وكتب عليه اسم بي، ثم طلبَ من آرثر أن يُسلِّمه في المنزل عندما يمرُّ به. وأخذ معطف المطر من وراء باب غرفة معدَّات ركوب الخيل، وخرج في المطر، مغادرًا لاتشتس. لقد صار على دراية بالأمر الآن. فماذا هو فاعل بشأنه؟

سار على غير هدًى، غير مُدرك لأي شيء غير السؤال المُخيف الذي يجب الإجابة عنه. وصل إلى ورشة الحدادة حيث كان السيد بلبيم لا يزال يُزاول عمله، فرحَّب به، وتبادلا الآراء حول العمل الذي كان بين يدَيه وحول حالة الطقس في الفترة المقبلة، دون أن يتوقف لحظةً عن مصارعة الأفكار التي تدور في عقله.

اتجه نحو المسار المؤدي إلى تانبيتشس وصعد التل على العشب النديِّ ومنه إلى القمة التي تضم أشجار الزان، وهناك أخذ يسير جَيئة وذهابًا بين جذوع الشجر الكبيرة، في حالةٍ من الصدمة والتشتُّت.

كيف سيتسبَّب في هذا الألم لبي؟

ولإلينور؟ وللاتشتس؟

ألم يضر بعدُ بلاتشتس بما يكفي؟

هل سيُهِمُّ كثيرًا لو تُركت لاتشتس في حوزة سايمون مثلما كان على مدى ثماني سنوات؟

مَن الذي تضرَّر من ذلك؟ شخص واحد فقط: باتريك.

إذا كان سايمون سيُقدَّم إلى العدالة بتهمة قتل باتريك، فسيعني ذلك ذُعرًا ما بعده ذعر لبي وبقية العائلة.

لم يكن عليه أن يفعل ذلك من الأساس. بإمكانه أن يرحل؛ أن يُدبِّر واقعة انتحار. في النهاية، لقد دبَّر سايمون حادث انتحار باتريك، ومر الأمر على تحقيقات الشرطة. إذا كان قد تمكن من فِعل ذلك وهو صبيٌّ في الثالثة عشرة، فبوسعه أن يفعل ذلك الآن. بإمكانه أن يسقط من علو، وستعود الأمور كما كانت منذ شهر.

وبات آشبي؟

لكن بات، لو كان بيده الاختيار، لم يكن ليرغب في تقديم سايمون إلى العدالة على حساب تدمير عائلته. ليس بات مَن يفعل ذلك، بات الذي كان عطوفًا ويُفكِّر دائمًا في الآخرين أولًا.

وسايمون؟

هل سيُحقِّق افتراض سايمون السافر بأنه لن يُصدِر أيَّ ردَّ فعل؟ هل سيقضي سايمون حياةً طويلة كمالك لاتشتس؟ هل ستئول لاتشتس لأبناء سايمون؟

لكن سيظلُّون مُنتمين إلى عائلة آشبي. وإذا قُدِّم سايمون إلى العدالة، فلن يكون هناك أجيال أخرى من عائلة آشبي في لاتشتس.

وما النفع الذي سيعود على لاتشتس بتأمين توارثها بالتغاضي عن جريمة قتل؟

أليس من المُمكن أن يكون قد جاء إلى لاتشتس بتلك الطرق الغريبة لكي يكشف عن تلك الجريمة؟

لقد قطع نصف العالَم ليلتقيَ بلودينج في الشارع، وقال لنفسه إن مثل هذه الصدفة الغريبة لا بد أنها قَدَر مكتوب. لكن لم يتخيَّل أن يكون قَدرًا مُهمًّا. وها هو ذا الآن يبدو أنه قَدَرٌ بالِغ الأهمية.

ماذا عليه أن يفعل؟ مَن بوسعه أن ينصحه؟ أن يُقرِّر له؟ لم يكن من الإنصاف أن يُلقى بهذا العبء على عاتقه. فلم يكن لدَيه من الحكمة والخبرة ما يؤهلُه للتعامُل مع أمر بهذه الخطورة.

لقد قال لسايمون: «أنا جزاؤك»، وكان يعني ما يقول. لكن ذلك كان قبل أن يحصل على السلاح الذي سيُطبِّق به الجزاء.

ماذا عليه أن يفعل؟

أيذهب إلى الشرطة الليلة؟ أو غدًا؟

لا يفعل شيئًا، ويسمح بإقامة الاحتفالات عند عودة تشارلز آشبي؟

ماذا عليه أن يفعل؟

كان الوقت متأخرًا في تلك الليلة حين كان جورج بيك جالسًا في مكتبه، مستشعرًا من حينٍ لآخر صوتَ ارتطام المطر على نافذة منزل القس في كلير، حتى من مكانه البعيد في مملكته، وسمع صوت نقرٍ عند تلك النافذة، فعاد من مملكته واتجه إلى الباب الأمامي. لم تكن تلك هي المرة الأولى التي يأتي فيها الناس وينقرون على تلك النافذة في ساعةٍ متأخرة من الليل.

في الضوء القادم من الرَّدهة رأى أحد أفراد آشبي، لكنه عجز عن تبيُّن هويته؛ إذ كادت قُبعته المبتلة تمامًا تحجُب وجهه.

«أيها القس، هل تأذن لي بالدخول والتحدُّث إليك؟»

«بالطبع يا باتريك. ادخل.»

وقف برات على عتبة الباب، ومياه الأمطار تنهمِر من معطفه.

قال بنبرة غير واضحة: «أخشى أنني مُبتلٌّ للغاية.»

خفض القس بصرَه ولاحظ أن بنطاله المصنوع من صوف التويد الرمادي بات أسود، وصار حذاؤه كقطعة عجينٍ تنزُّ ماءً. اتجهت عيناه سريعًا إلى وجه برات. كان قد خلع قُبعته المترهلة وكانت مياه المطر المتساقطة من شعره المُشبع بالماء تنساب على وجهه.

قال القس: «اخلع معطفك واتركه هنا. سأعطيك معطفًا آخر حينما تستعدُّ للانصراف.» واتجه إلى غرفة المعاطف في الرَّدهة وعاد بمنشفة. فقال: «جفف رأسك بتلك.»

نفَّذ برات ما أُمِر به، بانصياعٍ وحركاتٍ مُرتبكة كأنه طفل. وتوجَّه القس إلى المطبخ الفارغ وأحضر غلاية ماء.

قال: «تعالَ، ضعِ المنشفة حيثما وضعتَ معطفك المُبتل.» ثم قاده إلى مكتبه ووضع الغلاية على عين موقدٍ كهربائي. «سيُصبح ساخنًا في لمح البصر. غالبًا ما أُعِدُّ الشاي لنفسي حينما أسهر لوقتٍ متأخر. ما الأمر الذي جئتَ لتتحدَّث معي بشأنه؟»

«جُبٌّ في دوثان.»

«ماذا؟»

«عذرًا. لقد توقف عقلي عن التفكير. ألديك أي نوعٍ من الكحوليات؟»

كان القس ينتوي أن يضع له الويسكي في الشاي، كشراب التودي، لكنه صبَّ صنفًا قويًّا في تلك اللحظة وشربه برات.

«أشكرك. أعتذر عن مجيئي وإزعاجي لك هكذا، لكن كان يجب أن أتحدَّث إليك. آمُل ألا تمانع.»

«أنا هنا ليتحدَّث معي الناس. أتريد مزيدًا من الويسكي؟»

«لا، شكرًا.»

«إذن دعني أُعطِك حذاءً جافًّا.»

«لا عليك، شكرًا لك. أنا معتادٌ أن أكون مبتلًا، كما تعرف. سيدي القس، أريد مشورتك بشأن أمرٍ بالغ الأهمية، لكن هل لي أن أتحدَّث إليك وكأنه … وكأنه اعتراف؟ أقصد من دون أن يُخالِجك شعور بأنك ملزَم بالقيام بشيءٍ حيال الأمر.»

«سأتعامل مع ما ستقول كاعترافٍ بالتأكيد.»

«حسنًا، في البداية يجب أن أُخبرك بأمر ما. أنا لست باتريك آشبي.»

أيَّده القس قائلًا: «نعم، لستَ هو.» فحدَّق برات في دهشة.

«أتقصد … أتقصد أنك كنتَ تعرف أني لستُ باتريك؟»

«تبلور لديَّ اعتقاد بأنك لست هو.»

«لماذا؟»

«هناك أشياءُ ترتبط بالشخص أكثر من الحضور الجسدي؛ هناك هالة، شخصية، كينونة. وكنتُ شِبهَ واثق في أول مرة قابلتُك فيها أنني لم أُقابلك من قبل. لم أتعرَّف على أي شيءٍ فيك، رغم أن لديك أشياءَ كثيرة مشتركة مع باتريك إلى جانب الشكل.»

«ولم تفعل شيئًا بشأن ذلك!»

«ما الذي كان ينبغي لي أن أفعله من وجهة نظرك؟ محاميك، وعائلتك، وأصدقاؤك تقَبَّلوك جميعًا ورحَّبوا بك. ولم يكن لديَّ دليل لأثبت أنك لست باتريك. لا شيء غير اعتقادٍ شخصي بأنك لست هو. بمَ كان سيفيد لو صرحتُ بشكِّي؟ لم يبدُ لي أنه سيمضي وقتٌ طويل قبل أن يُحَلَّ الموقف من تلقاء نفسه دون تدخُّلٍ منِّي.»

«أتقصد أن أمري سيُفتضَح.»

«لا. أقصد أنك لم تبدُ لي شخصًا سيسعد بالحياة التي اخترتها. ومن واقع زيارتك لي الليلة، فقد كنتُ مُحقًّا في ظني.»

«لكنِّي لم آتِ إلى هنا الليلة فقط لأعترف بأني لستُ باتريك.»

«لم تأتِ لذلك؟»

«نعم، الأمر فقط … كان عليَّ أن أبوح لك بذلك لأنها الطريقة الوحيدة التي يُمكن أن تفهم بها ما حدث … أتمنَّى لو كان ذهني أكثرَ صفاء. لقد كنتُ أتجول بلا هُدًي في محاولة لتصحيح الأوضاع.»

«ربما إذا أخبرتني أولًا كيف جئتَ إلى لاتشتس في المقام الأول، فسيرتاح عقلي على الأقل.»

«قابلتُ … قابلتُ شخصًا في أمريكا كان يعيش في كلير. ظنَّ … أقصد ظنَّت أني أُشبِهُ أحد أفراد آشبي، واقترح عليَّ أن أدَّعي أني باتريك.»

«وكان عليك أن تدفع لها حصةً من العائد الذي ستجنيه من عملية الاحتيال.»

«أجل.»

«لا يسعني إلا أن أقول إنها تستحقُّ نِسبتها أيًّا كانت. لا بد أنها مُعلِّمة مذهلة. لم أرَ قط تدريبًا أفضل من ذلك. أنت أمريكي إذن؟»

أجاب برات: «لا»، فابتسم القس ابتسامةً باهتة على تشديده بالنفي. «لقد نشأتُ في دار أيتام. تُركت على عتبة بابها.»

ثم حكى للقس بإيجازٍ قصة حياته.

قال القس عندما انتهى: «لقد سمعتُ عن دار الأيتام التي نشأتَ فيها. وهذا يفسر لي شيئًا حيَّرني وهو تنشئتك الصالحة.» صبَّ الشاي وأضاف الويسكي. «بالمناسبة، هل ترغب في شيء يُشبِعك أكثرَ من البسكويت؟ لا؟ إذن تفضَّل بسكويت الشوفان؛ إنه مُشبِع.»

«كان عليَّ أن أُخبرك بكل هذا لأني اكتشفتُ أمرًا ما. باتريك لم ينتحِر. بل قُتِل.»

أنزل القس الفنجان الذي كان يحمِلُه. وبدا فزعًا لأول مرة.

«قُتِل؟ ومَن قتله؟»

«أخوه.»

«سايمون؟»

«نعم.»

«لكن يا باتريك! ذلك … ما اسمك، بالمناسبة؟»

«نسيت. لم أحمل اسمًا. كنت أُنادى دائمًا باسم برات. تحريفٌ لاسم بارثولوميو.»

«لكن يا عزيزي، هذا عبث. ما دليلك على اتهامٍ لا يمكن تصديقه بهذه الدرجة؟»

«لدي اعتراف سايمون بذلك.»

«هل أخبرك سايمون؟»

«تباهى بفَعلته. قال إنني لا أستطيع فِعل أي شيء حيال ذلك؛ لأن هذا سيعني أني سأوشي بنفسي. عرف أني لستُ باتريك بمجرد أن رآني.»

«متى دار هذا الحوار الغريب؟»

«الليلة الماضية، في قاعة رقص بيورز. لم يكن تصريحًا مفاجئًا كما يبدو. لقد بدأتُ أفكر في سايمون منذ فترةٍ طويلة قبل ذلك، وتحدَّيتُه في ذلك لأنه قال شيئًا عن معرفته بأني لستُ باتريك، فضحِك وتباهى بفَعلته.»

«أرى أن مكان هذا المشهد يُفسِّر الكثير ممَّا قيل.»

«أتقصد أنك تعتقد أننا كنَّا ثمِلَين؟»

«ليس بالضبط. لنقُل في حالة انتشاء. وأنت تحدَّيتَ سايمون في تلك المسألة، وسايمون بمنطقِه الشيطاني المُنحرِف قدَّم لك ما تتوقَّعه منه.»

سأله برات بهدوء: «هل تعتقد حقًّا أنني محدود الذكاء إلى هذا الحد؟»

«عليَّ أن أعترف بأن ذلك يُدهشني. طالما اعتبرتُك على قدرٍ كبير من الذكاء.»

«إذن صدقني، لستُ هنا بسبب خديعة ارتُكبت من جانب سايمون. باتريك لم ينتحِر. بل قتلَه سايمون. وعمدًا. والأكثر من ذلك أني أعرف كيف فعل فَعلته.»

وأخبره.

«لكن يا برات، ليس لديك دليل حتى في تلك اللحظة. ما أخبرتني به مجرد فرضية. أقرُّ بأنها فرضية ذكية ومُمكنة. وتتَّسِم ببساطتها. لكن ليس لديك دليل على الإطلاق.»

«بإمكاننا أن نصِل إلى دليل، إذا عرفت الشرطة بالحقيقة في الحال. لكن ليس ذلك ما أريد أن أعرفه. ما أريدُه هو نصيحةٌ عمَّا … حسنًا، عما إذا كان ينبغي ترك الأمور على حالها.»

ثم شرح مُعضلته.

لكن القس لم تُخالِجه أيُّ شكوك حول الموضوع من الأساس، وهو ما كان مفاجئًا نوعًا ما في ضوء صمتِهِ على شكوكه في هوية برات. إذا كانت قد وقعت جريمة قتلٍ، فلا بد من الاحتكام إلى القانون. وأي شيءٍ خلاف ذلك يُعتبَر فوضى.

كانت وجهة نظره أن برات لم يمتلك دليلًا مقنعًا ضد سايمون. لقد أطال عقلُه التفكير في جريمة القتل، وتحدَّى سايمون بها بطريقةٍ مهينة، وواتت سايمون إحدى لحظاته الشيطانية المعروفة واعترف، وبعد تفكيرٍ طويل توصَّل برات إلى نظرية مُتسقة مع الاعتراف المزعوم.

«أتَراني كنتُ أسير في المطر منذ الساعة الرابعة بسبب خدعة دنيئة من سايمون؟ أتعتقد أني جئتك هنا الليلة واعترفتُ بأني لستُ باتريك بسبب خدعة دنيئة من سايمون؟» ظل القس صامتًا. «أخبِرني أيها القس، ألم تتملَّكك الدهشة حين انتحر باتريك؟»

«إلى أبعدِ حد.»

«هل تعرف أحدًا لم يندهش لذلك؟»

«لا. لكن الانتحار واقعة مفاجئة.»

قال برات: «أُقرُّ بقلةِ حيلتي.»

في لحظات الصمت التأمُّلي التالية، قال القس: «أعرف الآن ما قصدتَهُ من قصة جُب دوثان. كان ذلك من صلاح التربية في دار الأيتام.»

«كانت على هَدْي الإنجيل بمعنى الكلمة، إذا كان ذلك ما تَعنيه. سايمون أيضًا يعرف تلك القصة، بالمناسبة.»

«أتوقَّع ذلك، لكن كيف عرفت؟»

«عندما علِم بعودة باتريك لم يستطِع أن يمنع نفسه من الشعور بخوفٍ من أن يكون ذلك حقيقيًّا، رغم إنكاره. كان يخشى أن يُواجِهَ الجانب الآخر من قصة الجُب، كما تعلم. أن يكون الضحية قد نجت بمعجزة هذه المرة. كان سايمون يخشى أن يكون باتريك قد نجا بمعجزة. عرفت ذلك؛ لأني في أول يومٍ لي هناك، كان متوترًا من مواجهة شيء مُخيف عندما دخل تلك الغرفة. وكان الارتياح الذي علا وجهه عندما رآني مُريبًا.»

ازدرد ما تبقَّى من الشاي ونظر إلى القس نظرةً مُتسائلة. ورغمًا عنه بدأ يشعر بتحسُّن.

«إحدى الخدع الأخرى الدنيئة لسايمون كانت إرسالي في ذلك اليوم الأول على الحصان تيمبر، من دون إخباري بأنه حصانٌ مشاغب. لكنِّي أظنُّ أن ذلك كان مجرد «حس الإيذاء الضال» الذي يملكه. ومن مقالِبِه الدنيئة أيضًا إرخاء حزام السَّرج الخاص بي بالأمس قبل أن أبدأ السباق على الفرس شيفرون. ولكني أظنُّ أنها كانت فحسب إحدى «لحظاته الشيطانية المعروفة».»

كان القس يتفحَّص برات بعينَيه العميقَتَين.

«لا أدافع عن سايمون؛ فلم يكن يومًا شخصيةً مُثيرة للإعجاب؛ لكن الحِيَل التي تُمارس على شخصٍ دخيل مخادع، حتى لو كانت حيلًا خطِرة، شيء، وقتل أخٍ عزيز على القلب شيء آخر تمامًا. بالمناسبة، لماذا لم يُبلِّغ عنك سايمون في الحال إذا كان لا يُصدِّق أنك أخوه؟»

«للسبب نفسه الذي منعك من ذلك.»

«فهمت. ربما أنه استصعب الأمر فحسب.»

«وبالطبع، بعد أن تخلَّص من باتريك الأول من دون أن يلقى جزاءه، تطلَّع بثقةٍ إلى التخلُّص من باتريك الآخر.»

«برات، ليتني أستطيع إقناعك بأن هذا من نسج خيالك.»

«لا بد أن تُكِنَّ احترامًا شديدًا لقُدراتي التخيُّلية.»

«إذا استحضرتَ ما حدث، بصدقٍ وعينٍ ناقدة، لا مفرَّ من أن ترى كيف تطور هذا الاعتقاد في عقلك من بداياتٍ بسيطة للغاية. قصة من صنْعك أنت.»

وظل ذلك رأي القس عندما استأذن برات في الانصراف في حوالي الساعة الثانية صباحًا.

عرض على برات المبيت، لكن برات تنازل وقَبِل أن يُعار معطفًا للمطر ومشعلًا، ثم شقَّ طريقَهُ عائدًا إلى لاتشتس عبر مسار غارق في مياه الأمطار بين الحقول والمطر لا يزال ينهمر على أشده.

كان القس قد قال: «تعالَ وكرِّر الزيارة مرةً أخرى قبل أن تُقرِّر أي شيء»؛ لكنه كان مفيدًا على الأقل في أحد الاتجاهات. فقد أجاب عن سؤال برات الرئيس. إذا كان الاختيار منحصرًا بين الحُبِّ وإقامة العدل، فلا بد أن يكون الاختيار للعدل.

وجد الباب الأماميَّ للاتشتس مفتوحًا، ورسالة من بي على طاولة الرَّدهة تقول فيها: «الحساء على الموقد في غرفة المؤن»، ووجد كأسًا فضيةً على حاملٍ من خشب الأبنوس تحمل بداخلها رسالة بخطِّ يد إلينور تقول: «لقد نسيتَ هذا يا راعِيَ البقر اللامبالي!»

أطفأ الأنوار وتسلَّل عبْر المنزل الهادئ إلى فراشه في غرفة الأطفال القديمة. شخصٌ ما وضع زجاجة ماء ساخن في فراشه. فغطَّ في النوم قبل أن يلمس رأسه الوسادة.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤