الفصل الخامس

نهض وأخذ علبةَ سجائره من جيب معطفه المعلَّق خلف الباب.

لماذا لم تكن صدمته أكبر عندما قدَّم لودينج عرْضه؟

هل لأنه خمَّن أن ثمة عرضًا سيُطرح؟ أم لأن وجه الرجل كان منذرًا بما يكفي بأن مصالحه ستكون مُريبة؟ أم لأنه، ببساطة تامة، لم يكن له صِلة به، ومن غير المحتمل أن يَمسَّه شيء؟

لم يكن مُمتعضًا من الرجل، ولم يسبق له أن قال: «يا لك من وغدٍ دنيء لكي تُفكر في الاحتيال على صديقك لكي تستولي على ميراثه!» أو كلمات بذلك المعنى! لكنه آنذاك لم يكن لدَيه أي اهتمامٍ قطُّ بشئون الآخرين، سواء آثامهم، أو أحزانهم، أو سعادتهم. وعلى أي حال، ليس بإمكانك أن تكون صدوقًا مع رجلٍ كنتَ تأكُل من طعامه.

اتَّجَه ناحية النافذة ثم وقف يتطلَّع إلى الخارج نحو الإطار الباهت لأنبوب المدخنة وسط الضباب الرقيق اللامع. لم يكن قد وصل إلى حدِّ الإفلاس بعدُ، لكن كان قد أضناه البحث عن وظيفة. ولم تكن الفُرَص مُشجِّعة على الإطلاق. كان يبدو أن عدد مَن يهتمون بالحصول على عملٍ في إسطبلات الخيول بإنجلترا أكبر بكثيرٍ من الإسطبلات الموجودة لاستيعابهم. فقد تقلَّص عالم الخيول في الوقت الذي ازداد فيه مُحبو الخيول. وكل هؤلاء الرجال الذين فقدوا اهتمامَهم الأساسيَّ في الحياة باختفاء الفروسية كانوا لا يزالون مُحتفظين بعافيتِهم ونشاطِهم، وكانوا يُطوِّقون مداخل الإسطبلات بمجرد العلم بوجود فرصة عمل.

إلى جانب ذلك، لم يُرِد أن «يمارس مهنته مرتَين في اليوم.» فإذا كانت هندسة الطرق ضمن اهتماماتك، فلن تتوقَ لقضاء أيامك في وضْع القطِران على سطح الطريق.

كان قد أجرى محاولات مع بعض المعارف، لكن لم يُظهر أيٌّ من الأماكن المرموقة اهتمامًا بغريبٍ أعرجَ دون قائمة مرجعيات تُزكِّيه. ولِمَ ينبغي لهم ذلك؟ فلدَيهم نخبةٌ من أكفأ الناس في إنجلترا. وعندما ذكر أن خبرته في ترويض الخيول كانت في الولايات المتحدة، بدت تلك النقطة حاسمةً لأمره. فكان ردُّهم: «أوه، خيول المزارع!» كانوا يقولونها بلطفٍ وأدبٍ جمٍّ — كان قد نسِي مدى دماثة خُلق المواطنين في بلاده إلى أن عاد إليها — لكنهم استشفُّوا بطريقةٍ أو بأخرى أن الأسلوب الغربي الذي يقضي إما بالنجاح التام أو الفشل الذريع ليس أسلوبَهم. ونظرًا لأنهم لم يذكروا ذلك قط بصراحة تامة، لم يكن بوسعه أن يُوضح أن ذلك ليس أسلوبه هو الآخر. وعلى أي حال، لم يكن الأمر ليُفيد في شيء. فقد كانوا يريدون أن يعرفوا شيئًا عنك في هذا البلد قبل أن يقبلوك للعمل معهم. في أمريكا، حيث يتنقل المرء كثيرًا من عملٍ لآخر، كان الأمر مختلفًا؛ لكن هنا تظلُّ في وظيفتِك مدى الحياة، وكانت شخصيتك على نفس قدْر أهمية العمل الذي تُمارسه.

كان الحل، بالتأكيد، هو الرحيل عن البلد. لكن المشكلة الحقيقية التي عجز عن التغلب عليها هي أنه لم يُرِد الرحيل. فالآن وبعد عودته، أدرك أن ما كان يحسبه تَرحالًا حرًّا بلا هدف كان مجرد طريقٍ طويلٍ مُلتفٍّ للعودة إلى إنجلترا. كان كل ما في الأمر أنه رجع، ليس عبر دييب، إنما عبر لاس كروسيس وأماكن ناحية الشرق. لقد وجد ما أراده عندما اكتشف الخيول؛ لكنه لم يحمل أيَّ شعورٍ آخر «بالانتماء» في نيو مكسيكو أكثرَ مما شعر به في مدرسة تعلُّم قواعد اللغة. بل إنه أحَبَّ نيو مكسيكو أكثرَ منها، هذا كلُّ ما في الأمر.

وما هو أفضل من ذلك أنه أَحَبَّ إنجلترا بعد أن أمعن النظر إليها وتفحَّصها. أراد أن يعمل مع خيول إنجليزية في أرضٍ خضراء إنجليزية على عشب إنجليزي.

على أي حال، كان الخروج من هذا البلد أصعب كثيرًا من الدخول إليه، إذا كنت مُفلسًا. كان قد تشارك في الجلوس على مائدةٍ في لايونز بشارع كونفنتري ستريت ذات يومٍ مع رجلٍ كان يحاول لثمانية عشر شهرًا أن يعمل مقابل سفره مجانًا على متن سفينةٍ إلى مكانٍ أو آخر. تحدَّث الشاب بغضبٍ قائلًا: «البطاقات! هذا كلُّ ما يقولونه دائمًا. أين بطاقتك؟ إذا حدث ولم تكن مُنتميًا إلى النقابة المتحدة لعمال تطبيق مناديل المائدة، فلن يُمكنك أن تساعد حتى خادمًا في تجهيز مائدة. أنتظر فحسب أن أراهم يتركون سفينةً تغرَق من تحتِهم لأن لا أحد على متنِها يحمل البطاقة المناسبة لتوظيفه بغرفة المضخات.»

نظر إلى العينَين الزرقاوَين الغاضبتَين لهذا الرجل الإنجليزي وتذكَّر الرجل في حانة هافر. «لا بد أن تحمل وثائقَ رسمية أيضًا.» أجل، لقد صار العالم يضجُّ بفوضى الأوراق.

من المؤسف أنَّ عرْض لودينج كان إجراميًّا إلى أبعد حد.

أكان سيُنصت إلى العرْض باهتمامٍ أكثرَ لو كان لودينج قد أشار إلى الخيول باكرًا؟

لا، بالطبع لا؛ كان ذلك عبثًا. كان العرض إجراميًّا ولم يكن ليُقبِل عليه.

قال صوتٌ بداخله: «سيكون الأمر آمنًا تمامًا.» ثم تابع قائلًا: «لن يقاضوك حتى لو اكتشفوا الأمر، خوفًا من الفضيحة. لودينج قال ذلك.»

قال: «اخرس. ذاك عمل إجرامي.»

ربما كان مُسليًا الذهاب في ليلةٍ ما ومشاهدة أداء لودينج التمثيلي. لم يسبق له قطُّ أن قابل ممثلًا من قبل. ربما سيكون حدثًا مُثيرًا جديدًا أن تجلس وتُشاهد الأداء التمثيلي لشخصٍ تعرفه «من بعيد.» كيف سيكون لودينج بصفتِه شريكًا في جريمة؟

قال الصوت بداخله: «شريك عبقري، صدقني.»

قال: «بل شخص في غاية السوء. لا أريد التورُّط معه في أي شيء.»

قال الصوت بداخله: «لستُ بحاجة إلى التورُّط في أي شيءٍ مُتعلِّق بالأمر. ليس عليك سوى الذهاب إلى لاتشتس وتقول: ألقوا نظرة عليَّ. هل أُذكِّركم بأحد؟ لقد تُركت على عتبة أحد الأبواب في تاريخِ كذا، ومن ذلك الحين وحتى اليوم وأنا أبحث عن وظيفة.»

«ابتزاز؟ إلى أي مدًى تظن أنني سأستمتع بعملٍ حصلت عليه بطريق الابتزاز؟ كفاك سخافة.»

«هم مدينون لك بشيء، أليس كذلك؟»

«لا، ليسوا مدينين بشيء. ولا بمثقال ذرة.»

«تبًّا، كفاك كذبًا! أنت أحد أفراد عائلة آشبي وأنت تعلم ذلك.»

«لا أعلم ذلك. كم من أشخاصٍ كانوا مُتشابهين من قبل. هتلر كان له أشباه كُثر. وكثير من المشاهير لهم أشباه. دائمًا ما تنشر الصحف صورَ الأشباه المتواضِعين للعظماء. جميعهم يُشبهون العظماء شكلًا دون الجوهر.»

«هراء. أنت أحد أفراد عائلة آشبي. من أين جئت بشغفك الفطري للتعامُل مع الخيول؟»

«كثير من الناس لديهم شغف طبيعي للتعامُل مع الخيول.»

«كان بدار الأيتام اثنان وستون طفلًا، هل بدأ أحدهم في الترفُّع عن وظائفَ مرموقة، أو التبنِّي من قِبل آباء أغنياء، حتى يتمكنوا من شقِّ طريقهم إلى الخيول؟»

«لم أكن أعرف أنني أتطلَّع إلى الخيول.»

«بالتأكيد لم تعرف. لكنَّ عِرقك الآشبيَّ كان يعرف.»

«تبًّا، اخرس.»

كان سيتَّجِه في الغد إلى بلدة لويس ليجري محاولةً مع إسطبل خيول القفز. ربما كان أعرجَ لكن لا يزال بوسعه امتطاء أي شيءٍ يسير على أربع. وربما يُبدون اهتمامَهم بشخصٍ بإمكانه ركوب حصان يزن مائة وأربعين رطلًا ولا يُمانع أن يخاطر بحياته.

«هل تخاطر بحياتك في حين أن بوسعك أن تعيش في نعيمٍ ورغد؟»

«لو كان النعيم الذي أردته، لاستطعت أن أعيش فيه منذ فترة طويلة.»

«صحيح، لكنه ليس نعيمًا فيه خيول.»

«اصمت. أنت تُضيِّع وقتك.»

بدأ في خلع ملابسه، وكأن الحركة قد تضع حدًّا لهذا الصوت. أجل: كان سيذهب إلى بلدة لويس. كانت على مسافةٍ قريبة للغاية من بلدته الصغيرة، لكن لن يتعرف عليه أحد بعد مرور ست سنوات. وكانت المسألة لا تُمثل حقًّا أي أهمية، بالتأكيد، إنْ تعرفوا عليه؛ لكنه لم يُرِد أن يعود إلى الخلف.

تهكَّم الصوت بداخله قائلًا: «بإمكانك دائمًا أن تقول: عفوًا، اسمي آشبي.»

«هل لك أن تصمت!»

بينما كان يُعلِّق مِعطفه على ظهر الكرسي فكَّر في ذلك الشاب آشبي الذي تخلَّى عن حياته. رغم امتلاكه كلَّ ما يمكن أن يعيش من أجله في هذا العالَم ذهب وألقى بنفسه من أعلى منحدرٍ. بدا الأمر غير منطقي. هل كان الأبوان يُمثِّلان كل هذه الأهمية؟

«لا، لقد كان مسكينًا، وأنت ستحلُّ محلَّه في إدارة لاتشتس على نحوٍ أفضل كثيرًا.»

سكب ماءً باردًا في الحوض واغتسل بقوة؛ كان ذلك أحدَ الأشياء التي تدرَّب عليها في دار الأيتام التي بقِيَت معه أمدًا طويلًا مثل تدريبات الخدمة العسكرية. وبينما كان يُجفِّف نفسه بالمنشفة التركية المهترئة — كانت قديمة لدرجةِ أنها صارت مُرتخية ومُبلَّلة قبل أن يجف — فكَّر في نفسه: «لن يَروقني الأمر، على أي حال. الخَدَم، ومثل هذه الأشياء.» كانت فكرته عن حياة الطبقة المتوسطة الإنجليزية مأخوذةً من الأفلام الأمريكية.

على أي حال، كان الأمر مُحالًا.

وكان من الأفضل أن يتوقَّف عن التفكير فيه.

قال أحد الأشخاص ذات مرة إنك إذا فكَّرت في الشيء المُستحيل وقتًا طويلًا بما يكفي، فإنه يُصبِح مقبولًا ومنطقيًّا إلى حدٍّ كبير.

لكنه كان سيذهب في وقتٍ ما ويرى تلك الصور التي أخبرَه بها لودينج. فلم يكن هناك ضَير في ذلك.

لا بد أن يرى كيف كان يبدو «توءمه».

لم يَرُقه لودينج كثيرًا، لكن الذهاب لمُقابلته لا يمكن أن يَضيره في شيء؛ كما أنه كان يريد حقًّا أن يرى صورًا للاتشتس.

أجل، سيذهب لرؤية لودينج.

ربما يومَ بعدَ غدٍ؛ بعد أن يزور لويس.

أو حتى غدًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤