الفصل السابع

كانت أسلاك التلغراف تتحرك بسرعة وكأنها توشك على السقوط من أعمدتها والتفَّت الأرض حول نافذة العربة، بينما كان عقل بي يدور ويلتفُّ معها.

قال لها السيد ساندال على الهاتف: «كنت سآتي لمُقابلتك بالطبع.» ثم تابع قائلًا: «ليس من مبادئي تمامًا أن أتعامَل مع مثل هذه الأمور الشائكة عبر الهاتف. لكنِّي خشيتُ أن حضوري ربما يوحِي للأطفال بأن ثمة أمرًا خطِرًا يحدث. وسيكون من المؤسف أن أُكدِّرهم إذا كان هناك احتمال أن تكون … أن تكون الأزمة مؤقتة.»

كم كان السيد ساندال رقيقًا. كان في غاية الطيبة؛ فقد سألها إن كانت جالسة، قبل أن يبلغها بالخبر؛ ثم قال: «أنت لا تشعرين بالدُّوار، أليس كذلك يا آنسة آشبي؟» عندما أبلغها بخبرِه الصادم.

لم تكن تشعر بالدُّوار. كانت قد جلست فترةً طويلة حتى تسمح لركبتَيها باستعادة قوَّتهما، ثم ذهبت إلى غرفتها وبحثت عن صور باتريك. كان يبدو أنه لم يكن لدَيها أي صورٍ له عدا مجموعة صور التُقطت في استديو للتصوير عندما كان سايمون وباتريك في العاشرة من عمرهما وإلينور في التاسعة. فلم تكن من الأشخاص الذين يحتفظون بالصور.

كانت نورا شغوفةً بتجميع صور أطفالها، لكنها كانت ترفض استخدام ألبومات الصور، التي كانت تراها «مضيعةً كبيرة للوقت والمساحة.» (لم تكن نورا تُضيِّع أي شيءٍ قط؛ وكأنها كانت شِبه مُدركة أن أجلَها في الدنيا قصير.) كانت قد احتفظت بها جميعًا في مظروف من ورق المانيلا ممزقٍ ومهترئ مكتوبٍ عليه: «في خدمة صاحبة الجلالة»، وكان يُرافقها إلى أي مكانٍ تذهب إليه. وقد رافقها إلى أوروبا في تلك الإجازة، وكان جزءًا من ذلك الانفجار الذي وقع على ساحل كينت.

نظرًا لفقدانها الصور، صعدت بي إلى غرفة الأطفال القديمة، وكأنها بذلك ستُصبح أقرب إلى باتريك الطفل، رغم أنها كانت تعلم جيدًا أنه لم يتبقَّ بها أي شيءٍ لباتريك. فقد حرق سايمون كل شيء. وكان ذلك الدليل الوحيد الذي قدَّمه سايمون على أن موت توءمه كان حدثًا يفوق احتماله. كان سايمون قد سافر للالتحاق بالمدرسة بعد وفاة باتريك، وعندما كان يعود لقضاء إجازات الصيف كان يتصرَّف بأسلوبٍ طبيعي، إن اعتبرنا أن عدم التطرُّق إلى سيرة باتريك في مثل هذه الظروف أمر عادي بما يكفي. ثم ذات يوم وجدَته بي يُراقب مشعلةً كان الأطفال يمارسون عندها لعبة «الهندي الأحمر» ويُقيمون حولها حفلات سمر، خلف شجيرة، وفي النار كانت ألعاب باتريك ومتعلقات صغيرة أخرى. لاحظت كذلك أنه حتى كتب التدريبات قد أُلقي بها لتكون وقودًا للنيران. كتب ورسومات طفولية والحصان البسيط الذي كان مُعلقًا في طرف فراشه؛ كان سايمون يحرقها جميعًا.

كان غاضبًا لرؤيتها. فخطا نحوها في المساحة بينها وبين النار، واقفًا على مسافةٍ بعيدة، إن جاز القول، ونظر مُحدِّقًا إليها في غضب.

قال وهو يكاد يصرخ: «لا أريدها حولي.»

فأجابت قائلة: «أتفهَّم ذلك يا سايمون»، ثم انصرفت بعيدًا.

وهكذا لم يتبقَّ أي أثر لباتريك في غرفة الأطفال القديمة تحت سقف المنزل؛ ولا الكثير من متعلقات بقية الأطفال، على أي حال. عندما كانت هذه الغرفة مِلكًا لبي في طفولتها، كانت قبيحةً ومنعزلة، وأثَّثت مساحة كبيرة منها من الأشياء غير المرغوب فيها في الأجزاء الأخرى من المنزل. كان بها مُشمَّع مُزيَّن بنقوش، وسجادة بالية، وساعة وقواق، وكراسي متكسرة من الخيزران، ومَنْشَر ملابس، ومائدة خشبية يُغطيها مفرش أحمر من قماش مضلع ذو حواف مُزيَّنة بكراتٍ من القماش وملطخ ببقع حبر، ومطبوعات ملونة تحمل شكل «فقاعات» وأعمال فنية مشابهة مُعلَّقة على ورق حائط منقوش بزهور السنتيفوليا. لكن نورا جدَّدت المكان، حتى أصبح صورةً مأخوذة من إحدى مجلات ربَّات البيوت، فأضفت لونًا أزرقَ فاتحًا مع اللون الأبيض، مع ورق حائط مُزين بشخصياتٍ من أغاني الأطفال. والشيء الوحيد الذي بقِي من الغرفة القديمة هو ساعة الوقواق.

كان الأطفال يعيشون فيها في سعادة، لكنهم لم يتركوا أيَّ أثر فيها. والآن بعد أن صارت خاوية ومُرتَّبة، بدت تمامًا مثل غرفةٍ معروضةٍ في واجهة معرض أثاث.

عادت إلى غرفتها، حائرةً تعيسة، وحزمت حقيبةً صغيرة حتى تستخدِمها في الصباح. فلا بد أن تذهب غدًا إلى المدينة وتواجِهَ هذا الأمر الطارئَ المستجدَّ في تاريخ عائلة آشبي.

سألته: «هل تُصدِّق، أنت بنفسك، أنه باتريك؟»

لكن السيد ساندال لم يستطِع أن يمنحها تأكيدًا.

فأقر قائلًا: «لا يحمل سيماء شخص مُخادع. وإذا لم يكن باتريك، فمن هو إذن؟ طالما كان التشابُهُ بين أعضاء عائلة آشبي قويًّا على نحوٍ غير طبيعي. ولا يُوجَد ابنٌ آخر من هذا الجيل.»

قالت: «كان باتريك سيكتب لنا.»

تلك هي الفكرة التي كانت ترجع إليها دائمًا. لم يكن لباتريك أبدًا أن يتركها في حزن وشكٍّ طوال كل تلك السنوات. كان باتريك سيكتُب لها. لا يمكن أن يكون باتريك.

إذا لم يكن باتريك، فمن كان هذا الشخص؟

كان عقلها يدور ويدور في دوَّامة من الأفكار.

قال السيد ساندال: «ستكونين أفضلَ مَن يفصِل في هذا الأمر. فأنت الأكثر درايةً بالصبيِّ من بين الباقِين على قيد الحياة الآن.»

فأجابت: «هناك سايمون.»

«لكن سايمون كان صبيًّا صغيرًا حينها والصِّبية ينسَون، أليس كذلك؟ أما أنتِ، فكنتِ بالغة.»

وبذلك حملت المسئولية على عاتقها. لكن كيف لها أن تعرف؟ هي التي أحبَّت باتريك لكنها بالكاد يُمكنها الآن أن تتذكَّر هيئتَه في الثالثة عشرة من عمره. أي اختبار قد يُجدي؟

أم إنها ستعرف في الحال عندما تراه أنه باتريك؟ أو ليس … هو؟

وإذا لم يكن هو وظلَّ مصرًّا أنه هو، ماذا سيحدث؟ هل سيُقيم دعوى؟ هل سيتَّخِذ إجراءً قضائيًّا؟ أو سيجرجرهم إلى ضجة إعلامية في الصحافة اليومية؟

وإذا كان هو باتريك، ماذا عن سايمون؟ كيف سيستقبل عودة أخٍ لم يرَه طوال ثماني سنوات إلى الحياة؟ وخسارة ثروةٍ. هل سيُسعده الأمر، سواء في وجود ثروة أو عدمها، أم إنه سيكره أخاه؟

كان لزامًا تأجيل الاحتفال ببلوغ سن الرشد، كان ذلك أمرًا واضحًا. كانوا قد اقتربوا كثيرًا من الاحتفال به لدرجةٍ تمنعُهم من اتخاذ قرارٍ بشأن أي شيءٍ بحلول موعد الاحتفال. فما الحجة التي سيتذرَّعون بها؟

لكن يا إلهي، لو كان من المُمكن، بمعجزةٍ ما، أن يكون باتريك، لتحرَّرَت من ذلك الخوف الذي يُطاردها، من فكرة الصبي الذي ندم متأخرًا جدًّا لدرجةٍ تحول بينه وبين عودتِه.

ظلَّ عقلها يدور ويدور بينما كانت تصعد درجات السُّلَّم متجهةً إلى مكتب كوسيت وثرينج ونوبل.

قال السيد ساندال: «مرحبًا آنسة آشبي. إنه لمأزق صادم. واقعة لم يُسمَع بها من قبل؛ تفضَّلي بالجلوس. لا بد أنكِ متعبة. إنها محنة مريعة بالنسبة إليك. اجلسي، اجلسي. ميرسر، أحضِر بعض الشاي للآنسة آشبي.»

سألته: «هل ذكر سببَ انقطاعه عن المراسلة، طوال كل تلك السنوات؟» فكانت تلك هي أهم نقطة تشغَل عقلها.

«قال شيئًا بخصوص أنه «ربما كان يُفضِّل أن يبقى ميتًا».»

«يا إلهي!»

قال السيد ساندال، مهوِّنًا: «أزمة نفسية، بلا شك.»

«أتُصدِّق إذن أنه باتريك حقًّا؟»

«أقصد، أنه إذا كان باتريك، فإن «تفضيله البقاء ميتًا» لا شكَّ أنه نتاج الأزمة النفسية نفسها التي أسفرت عن هروبه.»

«صحيح. أتفهَّم ذلك. وأفترض هذا. لكن هذا ليس من طبع باتريك. ألا يكتب، هذا ما أقصده.»

«لم يكن من طبعه الهروب.»

«أجل؛ بالضبط. لم يكن ميالًا للهروب بطبيعته بتاتًا. كان طفلًا حسَّاسًا لكن كان في غاية الشجاعة. لا بد أن خطأ شنيعًا قد حدث.» جلست في صمتٍ برهة. ثم أردفت قائلة: «وها هو ذا قد عاد الآن.»

«نأمُل ذلك؛ نأمُل ذلك.»

«هل كان يبدو لك طبيعيًّا تمامًا؟»

أجاب السيد ساندال، بشيءٍ من الفتور في نبرة صوته: «إلى أبعدِ ما يكون.»

«بحثت عن صورٍ لباتريك، لكن لا يُوجَد أحدثُ من هذه.» وأخرجت صورة الاستديو الجماعية. ثم تابعت قائلة: «كانت تُلتقَط صور بالاستديو للأطفال بانتظام كل ثلاث سنوات، منذ أن كانوا صغارًا. وهذه كانت آخِر صورة لهم. وهذه الصورة الحديثة ربما التُقطت لهم في صيف السنة التي لقي فيها بيل ونورا مصرعهما؛ السنة التي اختفى فيها باتريك. هنا كان باتريك في العاشرة من عمره.»

راقبت السيد ساندال بينما كان يتفحص الوجه الصغير الطفولي.

وأخيرًا قال: «لا، من المُستحيل أن نجزم بأي شيء من صورة قديمة كهذه. كما قلتُ من قبل، التشابُه بين أفراد العائلة قوي جدًّا. في تلك المرحلة العمرية كانوا مجرد أطفال صغار من عائلة آشبي، أليس كذلك؟ لم يكن هناك قدْر كبير من التفرُّد في شخصياتهم.» رفع بصره عن تفحُّص الصورة ثم أردف قائلًا: «آمُل عندما ترين بنفسك الصبي — أقصد الشاب — ألَّا يساوركِ شكٌّ بشكلٍ أو بآخر. ففي النهاية، المسألة ليست مسألة تشابُه بحتة، إنما مسألة قدرة على التمييز، أليس كذلك؟ ثمة هالة … هالة تُحيط بالشخصية.»

«لكن … لكن إذا لم أكن متأكدة؟ ماذا سيحدث إذا لم أكن متأكدة؟»

«بخصوص ذلك: أعتقد أني توصَّلتُ إلى حلٍّ. لقد تناولت العشاء الليلة الماضية مع صديقي الشاب كيفين ماكدرموت.»

«مستشار جلالة الملك؟»

«بالضبط. كنتُ، بالطبع، مهمومًا بشدة، فأخبرتُه بمشكلتي، وأراحني كثيرًا عندما أكَّد لي أن إثبات الهوية ستكون مسألة بسيطة تمامًا. الأمر مُتعلق فحسب بالأسنان.»

«الأسنان؟ لكن أسنان باتريك كانت عادية تمامًا.»

«أجل، هذا صحيح. لكن لا شكَّ أنه قد ذهب إلى طبيب أسنان، وأطباء الأسنان لديهم سجلات. في الواقع، إن أغلب أطباء الأسنان يتمتعون بنوعٍ من الذاكرة البصرية، كما أفهم، للأفواه التي عالجوها — فكرة مزعجة للغاية — وسوف يُميزون الفم بالنظر. لكن السجل سيُظهِر ذلك بالتأكيد …» ثم أدرك النظرة المرتسِمة على وجه بي وتوقف. «ما الخطْب؟»

«ذهب الأطفال إلى هاموند.»

«هاموند؟ صحيح؟ هذا أمر بسيط، أليس كذلك؟ إذا استعصى عليك التعرُّف بصورة قاطعة على الصبي بأنه باتريك، فليس علينا سوى …» ثم توقف فجأة. ثم قال بهدوء: «هاموند! أوه!».

قالت بي، بنبرة مقتضبة مُتوافقة مع نبرة صوته: «نعم.»

«يا إلهي يا للنحس. يا للنحس الشديد.»

خلال الصمت الذي خيَّم بعدها قال السيد ساندال في بؤس: «أعتقد أنه من الواجب أن أخبرك بأن السيد كيفين ماكدرموت يرى أن الولد يكذب.»

قالت بي غاضبةً: «السيد ماكدرموت لا يعرف شيئًا عن الأمر. إنه حتى لم يرَه من قبل!» وعندما واصل السيد ساندال الجلوس في صمت بائس، تابعت قائلة: «ماذا إذن؟»

«لم يكن ذلك إلا رأي كيفين بشأن الموضوع.»

«أعرف، لكن لماذا ظن ذلك؟»

«قال إن … إن «توجُّهه مباشرةً إلى محامٍ به شيء من التضليل والاحتيال».»

«يا له من هراء! ما فعله كان عين العقل.»

«أجل. كانت هذه وجهة نظره. يرى أن ما فعله كان عقلانيًّا أكثر مما ينبغي. كان ملائمًا أكثر مما ينبغي. كل شيء، كما قال كيفين، كان أكثر ملائمةً من أن يحوز إعجابه. قال إن صبيًّا يعود بعد غياب سنوات كان سيعود إلى المنزل مباشرة.»

«إذن فهو لا يعرف باتريك. هذا بالضبط ما كان باتريك ليفعله: يفجر الأمر برفق بذهابه إلى محامي العائلة أولًا. طالما كان أكثر المخلوقات إيثارًا ومراعاة للآخرين. لا أعتقد كثيرًا في التحليل الفذ للسيد ماكدرموت.»

قال السيد ساندال بنبرة لا تزال بائسة: «شعرت أن من الصواب فحسب أن أُخبرك بكل شيء.»

قالت بي بلطف، مُستعيدةً هدوء أعصابها: «أجل، بالتأكيد. هل أخبرت السيد ماكدرموت بأن باتريك … أقصد ذلك الصبي تَذكَّر بكاءه في أوليمبيا؟ أقصد، بأنه تطوع بالإدلاء بتلك المعلومة.»

«أخبرته؛ أجل.»

«وهل ظلَّ معتقدًا أن الولد يكذب؟»

«كان ذلك جزءًا من «الملاءمة» التي أقرَّ بأنها لم تُعجبه.»

أصدرت بي صوتًا خافتًا من أنفها. ثم قالت: «يا لعقله!» وأردفت: «أفترض أن هذا ما تُمارسه المحاكم.»

«إنه عقل مُحايد؛ ذلك كلُّ ما في الأمر. شخصٌ غير منخرط عاطفيًّا مثلنا في الأمر. يجدُر بنا أن نُبقيَ عقولنا محايدة.»

قالت بي برصانة: «أجل، بالتأكيد. حسنًا، الآن بعد أن أصبح هاموند العجوز المسكين بلا جدوى لنا … هل عرفت أنهم لم يعثروا عليه قط؟ كل شيء ذهب أدراجَ الرياح.»

«نعم. نعم، سمعت بذلك؛ مسكين.»

«أما ولم يَعُد لدينا أي دليل مادي، أعتقد أن علينا الاعتماد على قصة الصبي. أقصد، على التحقق منها. أظن أن ذلك يمكن فِعله.»

«أوه، يمكننا القيام به بسهولة تامة. الأمر بسيط تمامًا في ظل وجود التواريخ والأماكن. هذا ما رآه كيفين أيضًا … أجل. أجل. بالطبع يمكن التحقق منه. وبالطبع أثق أن ذلك سيثبت صحةَ الأمر. فلم يكن ليُعطينا معلوماتٍ سيثبت أن لا أساس لها.»

«إذن لا يُوجَد حقًّا ما يدعو إلى الانتظار.»

«لا، أنا … لا.»

تحاملت بي على نفسها.

«ما أقربُ وقت يمكنك أن تُرتِّب لي فيه لقاء معه؟»

«حسنًا، كنت أفكر في الأمر، ولا أرى، كما تعرفين، أنه يجب ترتيب أي لقاءٍ نهائيًّا.»

«ماذا؟»

«ما أودُّ فعله — بعد موافقتك وبالتعاون معك — هو، إذا جاز التعبير، مباغتتُه بالزيارة. أن تذهبي وتقابلِيه دون سابق علم. وبذلك سترينَه كما هو وليس كما يُريدك أن ترَيه. إذا حدَّدنا موعدًا للقاء هنا في المكتب، فسوف…»

«أجل، فهمت. فهمت. وأتفق معك في ذلك. هل بإمكاننا الذهاب الآن؟»

قال السيد ساندال بتلك النبرة الحزينة التي يستخدمها المحامون عندما لا يُمكنهم تبيُّن أي سبب يمنعهم من شيء: «لا أرى سببًا يمنعنا. لا أرى حقًّا أي سبب يمنعنا. هناك بالتأكيد احتمال أن يكون بالخارج. لكن بوسعنا على الأقل أن نذهب ونرى. آه، تفضلي الشاي! هل ستشربينه بينما يطلب ميرسر من سيمبسون أن يطلب من ويليت إحضار سيارة أجرة لنا؟»

سألت بي: «أليس لديك أي شيء أقوى؟»

«أخشى أنه ليس لدي؛ أخشى أنه ليس لدي. لم أستسلم قطُّ إلى عادة الاحتفاظ بزجاجة في المكتب، الآتية عبر الأطلسي. لكن ويليت سيحضر لكِ أي شيء قد …»

«أوه، لا، أشكرك؛ لا بأس من هذا. سأشرب الشاي. يقولون إن تأثيره يدوم أطول بكثيرٍ على أي حال.»

بدا السيد ساندال كما لو أنه أراد أن يُربِّت على كتفَيها على سبيل التشجيع، لكنه لم يستطِع أن يُقرر اتخاذ تلك الخطوة. كانت تراه رجلًا عطوفًا ضئيل البنية، لكنه … لكنه لم يكن يصلح كثيرًا لأن يكون سندًا.

سألت عندما جلسا في السيارة الأجرة: «هل فسَّر لك سبب اختياره لاسم فارار؟»

أجاب السيد ساندال، ملتجئًا إلى نبرته الجافة: «لم يُفسِّر أي شيء.»

«هل استشففْت من حديثه أنه مُتعسر ماليًّا؟»

«لم يذكر أي شيء عن المال، لكنه بدا مُهندمًا للغاية ويرتدي ملابس ذات طابع غير إنجليزي قليلًا.»

«أكان هناك تلميح باحتياجه لسُلفة؟»

«لا، إطلاقًا. يا إلهي، لا.»

فقالت: «لم يَعُد إذن لمجرد أنه مفلس.» ثم شعرت بشيءٍ من السرور. واستراحت في جِلستها واسترخت قليلًا. لعل كل شيء سيسير على ما يرام.

قال السيد ساندال، قاطعًا حالة الصمت أثناء سيرهما في الشوارع ذات الشرفات الفخمة: «لم أفهم مُطلقًا لمَ تدنَّى المستوى الاجتماعي في بيمليكو بهذه السرعة. إن بها شوارعَ واسعة راقية، وحركة مرور محدودة، ومع ذلك لم يَعُد هناك أقذر من المناطق المجاورة لها. لِمَ هجرها الأثرياء وأقاموا في بلجرافيا؟ شيء مُحيِّر جدًّا.»

قالت بي، في محاولةٍ لمجاراته في حديثه الجانبي القصير: «ثمة قوة جاذبة في مسألة الهجرة. لقد تسبَّبت السيدة الحديدية المحلية في حدوث تيَّار النزوح برحيلها، وتبِعها بقية الناس الأقل أهمية. وتوافد السكان الأفقر حالًا من كِلا الجانبين لملء هذا الخَواء. هل هذا هو المكان؟»

تملَّكها خوفها من جديدٍ عندما نظرت إلى واجهة المنزل الكئيبة، وإلى الطلاء المُتقشِّر والزخارف الجصية الملطخة بالبقع، ومجموعة الستائر الباهتة المُعلَّقة على النوافذ، والمدخل المُتسخ ورقم المنزل الممحو على العمود المريع.

كان الباب الأمامي مفتوحًا فوَلَجا إلى الداخل.

أشارت البطاقات المختلفة على كل باب في الرَّدهة إلى أن المنزل كان يُستأجر كغرف فردية.

قال السيد ساندال: «العنوان هو ٥٩ كيه. أعتقد أن كيه هو رقم الغرفة.»

قالت بي: «تبدأ الغُرف من الدور الأرضي وتتدرَّج إلى الطوابق العلوية. هذه الغرفة بجانبي هي رقم بي.» ومن ثَم صعدا إلى أعلى.

قالت بي، وهي تُدقِّق النظر في أحد أبواب الطابق الأول: «هذه إتش. إذن الغرفة في الطابَق التالي.»

كان الطابق الثاني هو الطابق الأخير. فوقفا معًا على بسطة الدَّرج المظلمة يُرهِفان السمع إلى الصمت. إنه بالخارج، هكذا فكَّرت، إنه بالخارج، وسيتعيَّن عليَّ القيام بكل هذا مرة أخرى.

قالت: «ألديك غرفة مطابقة؟»

فقرأت على بابَي الغرفتَين الأماميَّتَين: «آي وجيه.»

إذن فهي الغرفة الخلفية.

وقفا في الظلام برهةً يُحدِّقان إليها. ثم تحرك السيد ساندال في عزمٍ إلى الأمام وطرق الباب.

صدر صوت قائلًا: «ادخل!» كان صوتًا صبيانيًّا عميقًا، مختلفًا تمامًا عن نغمات صوت سايمون الخفيفة الراقية.

كان بإمكان بي، التي كانت أطول من السيد ساندال بفارق نصف رأس، أن ترى من أعلى كتفَيه؛ كان أول إحساسٍ داهمها هو الإحساس بالصدمة من التشابُه الشديد بينه وبين سايمون أكثر بكثير مما كان يبدو باتريك. كان عقلها مُمتلئًا بصورٍ لباتريك: صور مشوشة غير واضحة حاولت جاهدة أن تجعلها واضحة حتى تتمكن من مقارنتها بشكل الشخص البالغ الماثل أمامها. كان كيانها كلُّه منشغلًا بباتريك على مدار الأربع والعشرين ساعة الماضية.

وفي تلك اللحظة صار هناك شخص يُشبه سايمون تمامًا.

نهض الصبي من حيث كان جالسًا على حافة السرير، ودون عجلةٍ أو ارتباك خلع من يده اليسرى الجورب الذي كان يرتقه. عجزتْ عن أن تتخيل سايمون يرتق جوربًا.

قال: «صباح الخير.»

أجاب السيد ساندال: «صباح الخير. آمُل ألا تمانع: جئت إليك بزائرٍ.» ثم تحرَّك جانبًا حتى يسمح لبي بالدخول. «هل تعرف مَن هذه؟»

دقَّ قلب بي في ضلوعها بقوةٍ ما إن التقت بنظرة الصبي الهادئة الوديعة وراقبتْه وهو يتعرَّف عليها.

قال: «صرتِ تُصفِّفين شعرك بطريقةٍ مختلفة.»

أجل، بالتأكيد؛ فقد تغيَّرت طرق تصفيف الشعر في تلك السنوات الثماني، وبالطبع كان سيرى اختلافًا.

قال السيد ساندال: «هل تعرفها إذن؟»

«أجل، بالطبع. إنها العمة بي.»

انتظرته يُقبل عليها ليرحِّب بها، لكنه لم يتحرك قيد أنملة. وبعد لحظةِ توقُّف استدار ليجد مقعدًا لها.

قال وهو يمسك بأحد تلك الكراسي الصلبة وكان له ظهرٌ مُقوَّس أسود ومقعد مسفوع من أثر الشمس به ثقوب صغيرة: «أخشى أنه لا يُوجَد سوى كرسي واحد. يفضَّل ألا تستندي للوراء.» لم تجد بي غضاضة في الجلوس عليه.

قال للسيد ساندال: «هل تمانع بالجلوس على الفراش؟».

أجابه السيد ساندال في نبرة متعجلة: «سأقف، شكرًا، سأقف.»

لم تكن تفاصيل الوجه تُشبِه تفاصيل وجه سايمون نهائيًّا، هكذا رأت بينما كانت تُراقِب الصبيَّ وهو يُثبِّت الإبرة بعناية في الجورب. كان الانطباع العام يوحي بأن الملامح واحدة، لكن بمجرد النظر إليه عن كثَب يختفي هذا التشابُه اللافت للنظر، ويبقى فقط التشابُه العام مع أفراد العائلة.

قال السيد ساندال: «لم تستطِع الآنسة آشبي انتظار اللقاء في مكتبي؛ لهذا أحضرتها إلى هنا. لا سيما وأنت لا تبدو …» وسمح للجملة بأن تتحدث عن نفسها.

نظر الصبي إليها بأسلوبٍ جادٍّ وَدودٍ ثم قال: «لست واثقًا للدرجة من الترحاب بي.»

كان وجهًا جامدًا على نحوٍ غريب. وجهٌ يشبِهُ رسمة طفلٍ، هذا ما جال بخاطرها في تلك اللحظة. كل شيء في المكان الصحيح وبالنِّسب الصحيحة، لكنها تفتقر إلى الحيوية. حتى الفم كان له خط مُستقيم ثابت جعله يُشبه فمَ طفلٍ صغير.

توجَّه ليضع الجوارب على منضدة الزينة، فلاحظت أنه كان أعرج.

سألته: «هل جرحت ساقك؟»

«بل كُسرت. في الولايات المتحدة.»

«لكن هل من المفترض أن تسيرَ عليها إذا كانت لا تزال ضعيفة؟»

فقال: «إنها لا تؤلِمني. لقد أصبحَت قصيرةً فحسب.»

«قصيرة! أتقصد أنها صارت قصيرة إلى الأبد؟»

«على ما يبدو.»

كانت شفتاه مُعبِّرتَين، كما لاحظت، رغم نحافتهما؛ فقد أفشتا شخصيتَه عندما قال ذلك.

قالت: «لكن من الممكن فِعل شيء حيال ذلك. هذا يعني فحسب أنها عُولجت بطريقةٍ خاطئة. أتوقَّع أنك لم تحظَ بجرَّاح ماهر.»

«لا أتذكَّر أي جراح. ربما فقدت الوعي. لكنهم قاموا بجميع الإجراءات الصحيحة: علَّقوا أوزانًا في نهايتها، وما إلى ذلك.»

بدأت قائلة: «لكن يا بات …» لكنها عجزت عن أن تكمل اسمه.

خلال هذا التوقف قال: «لست مضطرة إلى أن تدعوني بأي اسم حتى تتأكدي.»

فقالت محاوِلةً التغطية على هذا التوقف: «إنهم يصنعون المعجزات في العمليات الجراحية هذه الأيام. كم مرَّ منذ حدوث ذلك؟»

«عليَّ أن أتذكَّر. مر قُرابة سنتين الآن، على ما أظن.»

لم يكن لطريقةِ حديثه أي سمةٍ مميزة، فيما عدا نطقه لأحد الحروف بلكنة أمريكية.

«حسنًا، لا بد أن نرى ما بوسعنا أن نفعله بخصوص ذلك. كان بسببِ خيلٍ، صحيح؟»

«نعم. لم أكن سريعًا بما يكفي. كيف علمتِ أنه بسببِ خيل؟»

«لقد أخبرتَ السيد ساندال أنك كنت تعمل مع الخيول. هل استمتعتَ بذلك؟» جال بخاطرها أن هذا الحديث يُشبه تمامًا المحادثات القصيرة التي تدور في عربة السكة الحديدية.

«إنها الحياة الوحيدة التي أستمتع بها حقًّا.»

نسِيتْ كل شيء بشأن المحادثات القصيرة. وقالت في سعادة: «حقًّا؟ أكانت تلك الخيول الغربية جيدة؟»

«كان أغلبها خيولًا عادية بالطبع. لكنها كانت من نوع جيد للغاية بالنسبة إلى نوعية عملها؛ ما يعني في نهاية الأمر أنه حصان جيد، حسب ظنِّي. لكن من حين لآخر يصادفك خيل أصيل. ولبعضها جمالٌ آسِر. جمال يفوق في تفرُّده ما أذكره عن جمال الخيول الإنجليزية بكثير.»

«ربما أننا في إنجلترا نُروِّضها بتجريدها من تفرُّدها. لم أفكِّر في ذلك من قبل. هل تملك حصانًا بأي حال؟»

«أجل، كان لديَّ حصان. سموكي.»

لاحظت تغيرًا في صوته عندما قال ذلك. كان مسموعًا بقدرِ ما تُسمع النغمة الخفيضة في الجرس المكسور ضمن مجموعة أجراس.

«أكان رماديًّا؟»

«نعم، كان رماديًّا داكنًا له بُقَعٌ سوداء. ليس لون الحديد القوي. بل لونٌ دخاني هادئ. عندما كانت تُصيبه نوبة غضب كان يبدو كسحابة دخان تتحرك في شكلٍ دائري.»

سحابة دخان تدور في شكلٍ دائري. كان بإمكانها أن تتخيَّلَه. لا بدَّ أنه يُحب الخيول حتى يُمكنه تخيُّلها على هذا النحو. لا بد أنه كان يُكِنُّ لحصانه سموكي محبةً خاصة.

«ماذا حدث لسموكي؟»

«بِعتُه.»

يجب على المرء ألا يقتحمَ خصوصيات الآخرين. ولم تكن لتقتحِم خصوصياته وتجرح مشاعره أكثرَ من ذلك. من المُحتمَل أن يكون قد اضطُر إلى بيعه حين كُسِرت ساقُه.

بدأت تأمُل بقوة أن يكون هذا الشاب هو باتريك.

أعادتها هذه الخاطرة إلى الموقف الذي كان قد بدأ يغيب عن بالها. ونظرت إلى السيد ساندال بارتياب.

عندما لمح الانجذابَ في نظرتها، قال السيد ساندال: «الآنسة آشبي على استعدادٍ لدعمك بلا شك، لكنك ستتفهَّم أن المسألة تحتاج إلى مزيدٍ من الاستجلاء. لو كانت المسألة مجرد عودة غائب إلى منزله، لكان قبول عمَّتك لك كافيًا بلا أدنى شك لأن يُعيدك إلى أحضان عائلتك. لكن المسألة في الوضع الحالي تتعلَّق بممتلكات. مسألة المصير النهائي لثروة. وسيحتاج القانون إلى دليلٍ حاسم على هويتك قبل أن يُسمح لك بأن ترث أي شيء كان من نصيب باتريك آشبي. أتمنَّى أن تتفهَّم موقفنا.»

«أتفهَّم تمامًا. وسأظلُّ هنا بالتأكيد حتى تنتهوا من تحرياتكم وتصلوا إلى قناعة مُرضية.»

قالت بي وهي تنظر باشمئزازٍ إلى الغرفة وأنابيب المداخن المُحتشدة خلف النافذة: «لكن لا يمكنك البقاء هنا.»

«أقمتُ في أماكنَ كثيرة أسوأ من ذلك.»

«ربما. لكن ذلك ليس مبررًا لبقائك هنا. إن كنت بحاجة إلى المال بإمكاننا أن نُعطيك بعض المال.»

«سأظل هنا، شكرًا.»

«هل لمجرد أنك تشعر بالاستقلالية؟»

«لا. المكان هنا هادئ. وقريب. والمنزل يتمتَّع بخصوصية شديدة. عندما تعيشين في استراحات عمال، ستُقدِّرين الخصوصية بشدة.»

«عظيم، فلتبقَ هنا. هل هناك أي شيء آخر يُمكننا … يُمكننا أن نوفره لك؟»

«أحتاج إلى بذلة أخرى.»

«عظيم. السيد ساندال سيُقدِّم لك كلَّ ما يلزمك من أجل ذلك.» وتذكَّرَت فجأة أنه إذا ذهب إلى مُصمم ملابس عائلة آشبي، فربما ستحدث ضجة. لهذا أضافت قائلة: «وسيُعطيك عنوان مصمم الملابس الخاص به.»

قال الصبي: «ولِمَ لا أذهب إلى متجر والترز؟»

عجزت عن الكلام برهةً.

«ألم يعودوا موجودين؟»

«أوه، أجل؛ لكن ربما سيكون هناك مجال لتبريراتٍ كثيرة إذا ذهبتَ إلى والترز.» لا بد أن تُسيطر على نفسها. فبوسع أي أحد أن يعرف مَن كان مصمم ملابس عائلة آشبي.

«أجل، لا بأس. فهمت.»

لجأت بي إلى محادثةٍ جانبية قصيرة لتجاوز هذا الأمر وبدأت في الاستئذان للانصراف.

قالت أثناء استعدادها للانصراف: «لم نُخبر الأسرة عنك. رأينا من الأفضل ألا نفعل ذلك، حتى … حتى تتضح الأمور مثلما قال السيد ساندال.»

تجلَّت في عينَيه نظرةُ تندُّر خاطفة عند سماع ذلك. وللحظة جمعت بينهم ضحكة خفية.

«أتفهَّم ذلك.»

استدارت عند الباب لتُودِّعه. كان يقف في وسط الغرفة يُراقبها وهي ترحل، تاركًا المجال للسيد ساندال حتى يقودها إلى الخارج. بدا بعيدًا ووحيدًا. وفكَّرت: «إذا كان هذا باتريك فعلًا، فهذا يَعني أن باتريك قد عاد إلى الوطن مرة أخرى، وسأتركه أنا على هذا الحال، وكأنه معرفة عابرة …» كان التفكير في وحدة الصبي تفوق احتمالَها.

رجعت إليه، أخذت وجهه برفقٍ في يدِها التي تلبَس فيها قفازًا، وقبَّلت وجنته. ثم قالت: «مرحبًا بعودتك يا عزيزي.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤