بيت يولالي

هو بيت صغير جميل في رقعة ساحرة من الريف — ركن قلما يغشاه أحد، من بلاد نورمندي، على مقربة من البحر — تكثر فيه البساتين، وتمتد الحقول والمراعي للماشية، وتستقيم الطرق الظليلة.

والمرء لا يسعه إلا أن يستغرب أن يجد هذا البيت قائمًا هنا، فقد كانت البيوت الأخرى مساكن فلاحين أو أكواخ عمال، ولكن هذا كان منزلًا أنيقًا مبيّضًا، وله نوافذ كالأبواب، وشرفات ذات أسوار من حديد فيه صنعة، وستائر من نسج البندقية، منزلًا للهو والمسرة تحيط به حديقة صغيرة نضيرة، وتعطر جوه الورود والأزهار المنسقة، وترتاح العين إلى الخضرة اليانعة حوله. وكان هناك، مما يلي الحديقة، بستان تقوم فيه صفوف من أشجار التفاح القديمة، وقد مال بعضها على بعض فكأنها كانت ترقص ثم وقفت ولزمت آخر ما كانت عليه من هيئة. وتدير عينك فترى حقولًا منبسطة، من القمح والبقول المنسطحة على الأرض، إلى البحر، وصخورًا بيضاء غير مستوية تستحم في الماء الأخضر، وترى لها ظلالًا لامعة خفّاقة.

ورأيت لوحًا معلقًا على الحائط عليه كتابة ساذجة، أيدت ما علمته من السمسار في «دييب» فصحيح إذن أن البيت للإيجار. وقد ركبت ساعتين طويلتين لأراه، والآن صرت على عتبته، فدققت الجرس. وهو جرس كبير معلق وله مقبض من البرنز مصنوع على هيئة حبل وزر. وخليق بصوته أن يذهب إلى بعيد في هذا الريف الساكن.

وقد ذهب الصوت، على كل حال، إلى مسكن كالكوخ على مسافة مائة ذراع، فخرج منه رجل وامرأة، ووقفا هنيهة ينظران إلى ناحيتي ثم أقبلا نحوي. وكان الرجل شيخًا والمرأة مثله، وكلاهما أسمر. وكان الرجل يلبس ثوبًا غليظًا مفتول الغزل طاقين، وعلى المرأة قبعة من القطن، بيضاء نظيفة، وفوطة زرقاء تلفها على وسطها. وكان خطوهما رويدًا على عادة أهل الريف.

فسألتهما: «السيد والسيدة ليرو؟»

وذلك بعد أن تبادلنا التحيات التمهيدية، وأخبرتهما أني جئت من دييب حيث أنبأني السمسار أن هذا البيت للإيجار، وكانا على ما بدا لي ينتظران مقدمي. فقد أبلغني السمسار أنه سيبلغهما رغبتي.

ولكن لشد ما استغربت إذ رأيت أن هذا الكلام العملي ربكهما! بل يخيل إليّ أنه أورثهما اضطرابًا وأحدث لهما ألمًا. فقد رفعا وجهيهما المغضّنين ونظرا إليّ نظرة القلق، وتبادلا النظرات الواشية بالحيرة، وقبضت المرأة بيد على الأخرى وجعلت أصابعها تتحرك، وتردد الرجل وتلجلج قبل أن يستطيع أن يقول: «جئت لترى البيت يا سيدي؟»

قلت: «نعم، أو لم يكتب إليك السمسار؟ لقد علمت منه أنك تنتظرني في هذه الساعة، اليوم؟»

قال الرجل معترفًا: «نعم، كنا في انتظارك.»

غير أنه لم يفعل شيئًا يتقدم به الأمر خطوة واحدة، وبادل امرأته نظرة حيرة أخرى فهزت رأسها كأنما تريد أن تقول إنه لا حيلة لها وأن الأمر لله، وأطرقت.

وقال الرجل بلهجة من يحاول جلاء الغامض: «شف١ يا سيدي … شف …» ثم تلجلج وزوى ما بين عينيه كأنما يعاني أزم التعبير.

فسألته مقترحًا: «هل استؤجر البيت؟»

فقال: «كلا، لم يؤجر.»

فقالت امرأته أخيرًا بلهجة المكروب ومن غير أن ترفع عينها عن الأرض: «يحسن أن تذهب وتجيء بالمفتاح.»

فانكفأ راجعًا يجر رجليه إلى كوخه، وبقينا نحن واقفين صامتين بجانب الباب، وكانت أصابع يديها المتشابكتين لا تزال تضطرب، وحاولت أن أجرها إلى الحديث، وأفتح لها أبواب الكلام، فأثنيت على موقع البيت وجمال المنظر، فتمتمت موافقتها في رقة ولطف، ولكن بضجر غير خاف. فلم يشجعني هذا على المضي في الكلام.

وعاد إلينا الرجل بالمفتاح، وشرع وامرأته معه يريني البيت، وكان فيه حجرتان جميلتان للجلوس والاستقبال في الطبقة الأرضية، وثالثة للطعام، ومطبخ واسع من الآجر الأحمر المصقول، ومدخنة، وأوعية شتى من النحاس اللامع، وكان المتاع في غرف الجلوس والاستقبال والطعام خفيفًا على الطراز الفرنسي، وكانت النوافذ تفتح على الشمس وعلى أرج الحديقة وخضرتها البهيجة، فأعربت لهما عن سروري وإعجابي بما شاهدت، وإذا بحالتهما تتغير شيئًا فشيئًا، من الكآبة، والتردد، والحيرة، إلى الاستجابة والانشراح، وصارا يتلقيان كلامي بابتسام، ويجيبان عن أسئلتي بلهفة وبإفاضة. ولكن الاضطراب لم يزايلهما، اضطراب العاطفة الجياشة، وكانت أيديهما المعروقة تختلج وترتعش إذ يفتحان لي الأبواب والنوافذ، وينحيان الأستار، وصوتهما يتهدج، حتى ابتسامهما كان عن ألم مكنون؛ فهو لا يجاوز السطح ولا يؤثر في المطوي من الهم.

وحدثت نفسي أن حاجتهما ملحة إلى المال، وأنهما عسى أن يكونا قد أنفقا على هذا البيت كل ما كان عندهما، فهما إذ يجدان مستأجرًا معذوران إذا اضطربا.

وقال الرجل: «والآن، إذا شئت يا سيدي، تفضل بنا إلى فوق لنريك غرف النوم.»

وكانت هذه الغرف حسنة التهوية، تدخل السرور على النفس، وكانت جدرانها مورّقة، وعلى نوافذها ستائر قطنية مطبوعة، وأثاثها كالمعهود في حجرات النوم الفرنسية. وكانت إحداها تبدو كأن هناك من يستعملها، فقد كان فيها متاع وأشياء — أشياء شخصية — لامرأة. وكانت آخر ما دخلنا من الغرف، وهي مقدمة وتطل على البحر، ورأيت على المنضدة فيها أمشاطًا وفرشًا، وعلى المكتب الصغير أقلامًا ومحبرة ومحفظة، وعلى الرفوف كتبًا مرصوصة، وعلى الصفة صورًا شمسية في إطاراتها، وفي الصوّان ثيابًا معلقة، وعلى الأرض أحذية وخفافًا نظيفة مرتبة، وعلى السرير حِبسًا مبسوطًا، من الحرير الأزرق، وعلى الحائط مما يلي السرير، صليبًا معلقًا وإلى جانبه وعاء من الخزف فيه ماء مقدس.

فالتفتُّ إِلى الرجل وامرأته وقلت: «يظهر أن هذه الغرفة مسكونة.»

فلم يبد على السيدة ليرو أنها سمعت ما قلت، فقد كانت شاخصة لا تطرف وكانت شفتاها متباعدتين، وعلى وجهها سيماء الضجر كأنما يكون من دواعي سرورها أن نفرغ من تجوابنا في البيت وطوافنا بغرفه، أما السيد ليرو فرفع يده إلى السقف بإيماءة غريبة وقال: «كلا، إن الغرفة ليست مأهولة في الوقت الحاضر.»

ونزلنا، وعقدنا الاتفاق على أن أتسلم البيت للسكنى مدة الصيف، وأن تقوم السيدة ليرو بطبخ الطعام لي، ووعد السيد ليرو أن يركب إلى دييب يوم الأربعاء ليعود بي وبحقائبي.

•••

وفي يوم الأربعاء، كنا عائدين، ومضى نصف ساعة ونحن صامتان، وإذا بالسيد ليرو يقول لي فجأة: «هذه الغرفة يا سيدي … الغرفة التي ظننت أنها مأهولة؟»

فقلت، وقد رأيته يسكت: «نعم … ما لها؟»

قال: «إن لي اقتراحًا أعرضه عليك.»

وكان يتكلم وبه على ما خيل إلي، خجل، وفي لهجته ما يدل على الإصرار وكانت عينه على أذني حصانه.

فقلت: «هات اقتراحك.»

قال: «إذا وافقت على أن تترك هذه الغرفة على حالها، بما فيها من المتاع، فإني مستعد لنقص الإيجار إذا رضيت أن تدعنا نحتفظ بها كما هي.»

قال ذلك بلهجة المتوسل المتلهف، وزاد عليه: «إنك وحيد، ولا حاجة بك إلى هذه الغرفة، فإن ما يبقى من البيت فوق الكفاية … أليس كذلك يا سيدي؟»

فوافقت، وقلت له إن في وسعه هو وامرأته أن يحتفظا بالغرفة إذا شاءا.

فقال: «شكرًا لك، وستحفظ لك زوجتي هذا الجميل.»

وعدنا إلى الصمت فترة، قال بعدها: «أنت أول مستأجر لبيتنا، فما أجرناه لأحد من قبل.»

فسألته: «صحيح؟ منذ كم بنيتماه؟»

قال: «أنا بنيته، بنيته منذ خمس أو ست سنوات.» وأمسك ثم قال: «بنيته لبنتي.»

وخفت صوته وهو يقول ذلك، ووقع في نفسي أن هذه ليست سوى فاتحة لشيء يريد أن يفضي به إلي، فقلت أستحثه وأشجعه: «آه! صحيح؟»

فقال: «إنك ترى أي ناس نحن — زوجتي وأنا — فلاحان … خشنان. ولكن ابنتي يا سيدي»، ووضع يده على ركبتي وحدق في وجهي، «ابنتي كالشفوف رقة.»

ورد عينه إلى حصانه، ولزم الصمت دقيقة أو اثنتين، ثم عاد يقول، وعينه على أذني حصانه لا يرفعها عنهما: «لم يكن في كل هذه الناحية سيدة أرق منها وألطف» — وكان يتكلم بسرعة وبصوت غليظ كأنما يحدث نفسه — «كانت جميلة، ومن أحلى خلق الله طباعًا، ومن أحسن الناس تعليمًا. تربت في الدير، بروان، دير «القلب المقدس» … ست سنوات قضتها في الدير تتعلم — من الثانية عشرة إلى الثامنة عشرة. وكانت تعرف الإنجليزية — لغتك يا سيدي … ونالت جوائز في التاريخ وفي الموسيقى. ما من أحد يحسن العزف على البيانو كما تحسنه.» وسألني فجأة وبعنف: «فهل كان يليق بها كوخ ريفي ككوخنا؟» وأجاب عن سؤاله فقال: «كلا، يا سيدي! فما يجوز أن تلوث الثياب الرقيقة بوضعها في صندوق قذر. وقد كانت ابنتي سَكْبَ ماءٍ من الرقة، وكانت يداها أنعم من مخمل «ليون» وآه! من حسن مشمهما! أعني يديها! لقد كان الطيب الذي أجده في يديها ينعشني. وكنت ألثمهما، وأشمهما كما تشم الزهرة.»

وأخفتت الذكرى صوته، ومضت لحظة أخرى من الصمت، ثم عاد يقول: «وكنت كثير المال — مدنَّرًا ومُدرهما — وكنت أغنى فلاح في هذه الناحية فبنيت هذه الدار — بناها المسيو كلير مون أكبر مهندس في روان، وخريج مدرسة الفنون الجميلة بباريس — هو الذي شيد الدار لابنتي — بناها وأثثها، وجعلها لائقة بكونتيسة. حتى إذا عادت من الدير لتقيم معنا وجدت الدار جديرة بها، انظر إلى هذا يا سيدي! أترى أن أفخم قصور العالم يكون كثيرًا عليها؟»

وأخرج كيسًا قديمًا من الجلد الأحمر، وناولني منه صورة غادة ناعمة لينة في السابعة عشرة من العمر، وفي وجهها قسامة، وفي معارفها عذوبة ورقة. وكان الرجل معلق الأنفاس محتبسها وأنا أتأمل الصورة، ثم ألح علي يسألني: «أليست ظريفة؟ أليست جميلة؟» وكأنه يناشدني أن أعطف عليه وأرق له فأشاركه في ثنائه. وقد أجبت بما وسعني، بخير ما قدرت عليه، فأعاد الصورة بيد مرتعشة إلى كيسها، وأخرج من ناحية أخرى من الكيس بطاقة صغيرة بيضاء، عليها ما اعتاد الفرنسيون أن يحفروه على قبورهم — صورة الصليب، وحمامة — تحتها ما يأتي:

يولالي — جوزفين — ماري ليرو. ولدت في ١٦ مايو/أيار سنة ١٨٧٤، وتوفيت في ١٢ أغسطس/آب سنة ١٨٩٢. صلِّ لها.

وقال: «الله يعرف ما هو صانع. لقد بنيت هذه الدار لبنتي، فلما تم تشييدها اختارها الله إلى جواره. وقد ذهب بعقلنا الحزن — زوجتي وأنا — ولكن هذا ما كان ليردها إلينا. وما يدريني؟ لعل عقلنا ما زال مذهوبًا به من الحزن. فما نستطيع أن نفكر في شيء آخر. وما نحب أن نتكلم عن شيء آخر. ولم نستطع أن نعيش في البيت — بيتها — وهي ليست فيه ولم يخطر لنا قط أن نؤجره. لقد بنيته لابنتي، وفرشناه وأثثناه لها، فلما جهّزناه … ماتت. أليست هذه قسوة يا سيدي؟ وكيف أؤجر البيت للأغراب؟ ولكني منيت في المدة الأخيرة بخسائر، فأنا مضطر أن أؤجر البيت لأقضي ديني. ولكني لا أستطيع أن أؤجره لأي إنسان. وأنت إنجليزي. ولو كنت لم أرتح إليك لما أجرته لك ولا بمليون من الجنيهات الإنجليزية. ولكني مغتبط بأن كنت أنت المستأجر. وستحترم ذكراها، وستأذن لنا في الاحتفاظ بتلك الغرفة — غرفتها — وسندعها كما هي، بما فيها من الأشياء. نعم، هذه الغرفة التي حسبتها مسكونة، كانت غرفة بنتي.»

وكانت السيدة ليرو تنتظرنا في الحديقة، فرفعت عينها إلى زوجها مستفسرة فهز رأسه وقال: «كل شيء على ما يرام. السيد موافق.»

فتناولت المرأة يدي وهزتها هزًّا عنيفًا وقالت: «آه يا سيد! إنك رجل طيب.» ورفعت عينيها إليّ ولكني لم أستطع أن أنظر فيهما، فقد كان الحزن الذي يطالعني من نظرتهما أهول وأقدس من أن أمتهنه بالنظر إليه.

•••

وصرنا أصدقاء أصفياء، في الشهور الثلاثة التي قضيتها في البيت. وكانت السيدة ليرو تتعهدني، وترعاني، وتبرني وتسرني، كأنها أمي. وكان كلاهما — كما قال السيد ليرو — يؤثر أن يجعل ابنته موضوع حديثه، وكنت أصغي إليهما بغير نفور أو ملل، فقد كان في حزنهما عليها، ودوام تفكيرهما فيها جمال عميق الوقع في النفس، وكان يخيل إلي أن طيف الفتاة يرود البيت، البيت الذي بناه لها الحب وهو لا يدري أن الموت سيعدو عليها ويغولها منه، وكانت المرأة لا تمل أن تقول لي: «آه يا سيدي، إن من بواعث السرور لنا أن تركت لنا غرفتها.» وقد صعدت بي مرة إلى الغرفة، وأرتني ثياب يولالي، وحليها، وكتبها المجلدة الجميلة التي فازت بها تجزية لها، على اجتهادها في الدير. وفي يوم آخر أطلعتني على رسائل يولالي وسألتني عن خطها أليس جميلًا؟ وعن عبارتها أليست حسنة؟ وعرضت عليّ صورًا لها في كل سن، وخصلة من شعرها وملابسها في حداثتها، وشهادة الأسقف، ورسائل من راهبات «القلب المقدس» بروان، تصف تقدم يولالي في الدرس والتحصيل، وتطري سلوكها وأخلاقها، وكانت المرأة ربما غلبها الحزن فتقول، وكأنها لا تصدق ما حاق بها من الفقدان، وما منيت به من الخسارة: «وتصور أنها ذهبت! تصور هذا!» ثم تعود فتقول همسًا بلهجة الاستسلام لقضاء الله: «إنه هو أدرى بما يصنع!» وترسم الصليب على صدرها!

وفي الثاني عشر من أغسطس — يوم ذكرى وفاتها — صحبتهما إلى كنيسة القرية حيث أقيمت الصلاة على روح يولالي، وبعد انتهائها جاء القسيس الطيب إليهما وضغط يديهما، ورفه عنهما بكلمات عذاب.

•••

وفي سبتمبر/أيلول بارحت البيت عائدًا إلى دييب. واتفق عصر يوم أن التقيت في الطريق الأعظم لهذه المدينة بقسيس القرية، فوقفت معه قليلًا نتحدث عن ليرو وامرأته، وطيب نفسيهما، وحزنهما على ابنتهما فقال القسيس: «لقد كان حبهما لها شيئًا فوق الحب. كان عبادة، وتأليهًا. وما رأيت في حياتي الطويلة مثل هذا أو ما يقرب منه. وقد خفت عليهما، لما قضت نحبها، أن يذهب عقلهما. فقد كانا مذهولين … غائبين عن الوعي. ولبثا مدة طويلة كالمجنونين. ولكن الله رحيم، فقد تعلما أن يعيشا ومعهما مصابهما.»

فقلت: «إن في احتفاظهما بذكراها، وعبادتهما لها، لجمالًا. وما أظن بك إلا أنك تعرف أنهما أبقيا غرفتها وفيها أشياءها، كما تركتها … هذا فيما أرى جميل … رائع.»

فسألني القسيس، وهو غير فاهم: «غرفتها؟ أية غرفة؟»

فقلت متعجبًا: «أوه، أَوَلم تكن تعرف؟ غرفة نومها في البيت. احتفظا بها كما هي، أشياءها، وكتبها، وملابسها.»

فقال القسيس: «لا أظن أني فاهم. فما كان لها قط غرفة نوم في هذا البيت.»

فقلت: «عفوًا. إحدى الغرف المقدمة في الطبقة الثانية كانت غرفتها.»

فهز رأسه وقال: «هنا بعض الخطأ، فما نزلت قط في هذا البيت، لأنها ماتت في البيت القديم. وكان البيت الجديد لم يكد يتم تشييده. العمال لم يكونوا قد خرجوا منه.»

فقلت: «كلا، لا بد أن تكون أنت المخطئ، ويظهر أنك ناسٍ. فإني على يقين من الأمر، وقد حدثني ليرو وامرأته بهذا مرات لا يأخذها حصر.»

فأصر القسيس على زعمه وقال: «ولكن يا سيدي العزيز، إني لست واثقًا فقط بل أنا أعلم. فقد حضرت وفاتها، وكنت إلى جانبها وهي تجود بنفسها، وقد ماتت في البيت القديم. وكانا لم ينتقلا إلى الدار الجديدة، وكانت الدار لا تزال تؤثث وتجهز، وقد وضعت فيها آخر قطع الأثاث قبل وفاتها بيوم. ولم يسكن أحد هذه الدار قبلك. أنت أول ساكن لها. وإني أؤكد لك هذا.»

فقلت: «إن هذا أمر غريب جدًّا.»

وساورتني الحيرة دقيقة، فلم أهتد على حل لهذا اللغز، ولكن حيرتي لم تطل أكثر من دقيقة، قلت بعدها: «فهمت. فهمت.»

فهمت، ورأيت، وأدركت كيف غالط هذان المنكوبان نفسيهما، وخلقا لهما وهمًا يتعزيان به، فقد بنيا الدار لابنتيهما، فلما اكتملت الدار وتجهزت ماتت الفتاة. ولكنهما لم يطيقا أن يتصورا أن لا تعيش في هذه الدار وتنعم بها ولو أسبوعًا واحدًا، بل ولو يومًا واحدًا، أو حتى ساعة مفردة! عجزا عن احتمال هذا الحرمان. ولم يستطع قلباهما الثاكلان أن يعترفا به، فأغمضا عيونهما حتى لا يريا ما يصنعان، وحملا متاع الفتاة الميتة في خشوع، إلى الغرفة التي أرادا أن يفرداها لها، ورتباها فيها، وقالا لنفسيهما بإلحاح: «هذه كانت غرفتها. هذه كانت غرفتها.» ليتقرر في روعهما بالإيحاء، وأبيا أن يصدقا النفس، أبيا أن يسمحا بأن يجري في خاطرهما أنها لم تنم فيها ولم تنعم بها ولا ليلة واحدة. أوحيا إلى نفسيهما هذه الأكذوبة الجميلة، هذه الخدعة الكريمة الرحيمة كأنهما طفلان يصدقان ما يتخيلان وهما يلعبان. وقد قالها القسيس: «الله رحيم! فقد استطاعا أن يخلطا كذبتهما الجميلة بالحقيقة، وأن يجدا في هذا عزاءهما، ووسعهما أن ينسيا أن ما غالطا به نفسيهما ليس أكثر من خدعة، ووهم وباطل ليس يجدي، وأن يعدا الأمر كله حقيقة يستمدان منها السلوان والصبر الجميل، وبهذا وقاهما الله أن يتقاضاهما الحزن آخر مجهودهما. فبقيت لهما هذه السلوة، فهي كنز لهما — كنز أنفس وأجدى من الذهب الإبريز.»

الباطل؟ — الحق؟ أحسب أن هناك أوهامًا ليست من الأباطيل — وإنما هي ابتسامات من الحق رحمة بنا، وعطفًا علينا.

هوامش

(١) شاف بمعنى رأى، صحيحة اللفظ.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤