حِصانُ الْجَوِّ
(١) هَدايا الْمَلِكِ «سِرْحانَ»
الْمَلِكُ «سِرْحانُ» — الَّذِي تَقَعُ مَمْلَكَتُهُ إِلَى جَانِبِ مَمْلَكَةِ الْمَلِكِ «ساسانَ» — عَرَفَ حِرْصَهُ عَلَى جَمْعِ التُّحَفِ؛ فَبَعَثَ إِلَيْهِ وَزِيرَهُ «جُنْدُعَةَ»، وَمَعَهُ ثَلاثٌ مِنْ غَوالِي التُّحَفِ ونَفائِسِها، لِيُقَدِّمَها هَدِيَّةً لِوَلَدِهِ الْأَمِيرِ «فَيْرُوزشاهْ»، بِمُناسَبَةِ زَواجِهِ السَّعِيدِ بِبِنْتِ عَمِّهِ الْأَمِيرَةِ «نُورِ الْحَياةِ» الَّتِي تَزَوَّجَها حَدِيثًا.
كانَ أَوَّلُ الْهَدايا الْعَظِيمَةِ طاوُوسًا ذَهَبِيًّا، بَدِيعَ الشَّكْلِ، يُصَفِّقُ بِجَناحَيْهِ كُلَّما انْقَضَتْ ساعَةٌ مِنْ ساعاتِ النَّهارِ، ثُمَّ يُعْلِنُ الْوَقْتَ بِلِسانٍ فَصِيحٍ وَصَوْتٍ مَسْمُوعٍ بِدِقَّةٍ مُتَناهِيَةٍ!
(٢) الْحِصانُ الطَّائِرُ
وَقَدْ أَثْبَتَتِ التَّجْرِبَةُ صِدْقَ ما قالَ «جُنْدُعَةُ» عَنِ الْهَدايا الثَّلاثِ؛ فَلَمْ يَنْقَضِ زَمَنٌ يَسِيرٌ حَتَّى صَفَّقَ الطَّاوُوسُ بِجَناحَيْهِ، وَأَعْلَنَ الْوَقْتَ فِي صَوْتٍ واضِحِ الْأَداءِ، حُلْوِ النَّبَراتِ!
وَكانَ مِنْ عَجِيبِ الْمُصادَفاتِ والاتِّفاقاتِ أَنْ يَدْخُلَ الْمَدِينَةَ — فِي ذَلِكَ الْحِينِ — أَحَدُ الْغُرَباءِ؛ فَما إِنْ يَجْتَزْ بابَها حَتَّى يُدَوِّيَ صَوْتُ الْبُوقِ، لِيُهَيِّئَ الْآذانَ لِسَماعِ تَحْذِيرِهِ، ثُمَّ يُذِيعَ اسْمَ الْوافِدِ، لِيَهْدِيَ إِلَيْهِ رِجالَ الشُّرْطَةِ وَحُرَّاسَ الْأَمْنِ!
كانَ الْأَمِيرُ «فَيْرُوزشاهْ» ابْنُ الْمَلِكِ «ساسانَ» الْأَكبَرُ أَكْثَرَ الْحاضِرِينَ دَهْشَةً مِمَّا رَأَى، وَأَشَدَّهُمْ إِعْجابًا؛ فَلَمْ يُطِقْ صَبْرًا عَلَى ما شاهَدَهُ مِنْ أَمْرِ هذا الْحِصانِ الْعَجِيبِ.
الْتَفَتَ الْأَمِيرُ «فَيْرُوزشاهْ» إِلَى «جُنْدُعَةَ»، يَسْأَلُهُ مُتَعَجِّبًا، قالَ لَهُ راجِيًا أَنْ يَجِدَ لَدَيْهِ تَوْضِيحَ هذا الْغُمُوضِ: «ما بالُ حِصانِكَ جامِدًا لا يَتَحَرَّكُ؟! ما السِّرُّ وَراءَ ذلِكَ؟»
فَلَفَتَ «جُنْدُعَةُ» انْتِباهَ الْأَمِيرِ، إِلَى لَوْلَبٍ صَغِيرٍ عَلَى كَتِفِ الْحِصانِ الْيُسْرَى، وَأَشارَ إِلَيْهِ أَنْ يُحَرِّكَهُ.
فَلَمَّا أَدارَهُ الْأَمِيرُ طارَ بِهِ فِي الْجَوِّ، بِسُرْعَةٍ عَجِيبَةٍ!
وَما زالَ حِصانُ الْجَوِّ يَرْتَفِعُ، ثُمَّ أَخَذَ يَطِيرُ فِي أَجْوازِ الْفَضاءِ، حَتَّى غابَ عَنْ عُيُونِ الْحاضِرِينَ، وَاخْتَفَى تَمامًا!
كَما لاحَظَ أَنَّ «جُنْدُعَةَ» لَمْ يُحِطْهُ عِلْمًا بِذلِكَ!
هُنا أَدْرَكَ الْأَمِيرُ «فَيْرُوزشاهْ» أَنَّ فِي الْأَمْرِ سِرًّا!
لكِنَّهُ طَمْأَنَ نَفْسَهُ، وَأَيْقَنَ أَنَّ اللّهَ مَعَهُ وَلَنْ يُسْلِمَهُ أَبَدًا لِلْهَلاكِ والضَّياعِ؛ لِأَنَّهُ يَنْوِي الْخَيْرَ، وَيَبْغِي مَصْلَحَةَ الْآخَرِينَ.
(٣) نَجاةُ الْأَمِيرِ
وَما لَبِثَ أَنْ رَأَى لَوْلَبًا ثانِيًا عَلَى كَتِفِ الْحِصانِ الْيُمْنَى، فَحَسِبَهُ لَوْلَبَ الْهُبُوطِ، فَمَدَّ يَدَهُ إِلَيْهِ فَأَدارَهُ.
وَما إِنْ أَدارَهُ حَتَّى زادَتْ سُرْعَةُ الْحِصانِ؛ فَانْطَلَقَ عَلَى التَّوِّ، طائِرًا فِي الْجَوِّ، كَما يَنْطَلِقُ السَّهْمُ إِلَى الرَّمِيَّةِ!
فَهَلْ أَفْقَدَ الْأَمِيرَ الْخَطَرُ شَيْئًا مِنْ قُدْرَتِهِ وشَجاعَتِهِ وَثَباتِهِ؟
كَلَّا، بَلْ زادَهُ حَرَجُ الْمَوْقِفِ وَدِقَّتُهُ ثَباتًا وَيَقَظَةً، شَأْنُهُ شَأْنُ الْحازِمِ الشُّجاعِ، رابِطِ الْجَأْشِ، الَّذِي لا يَضْطَرِبُ فِي الْمواقِفِ الْحَرِجَةِ، وَلا يَفْقِدُ صَوابَهُ فِي الْأَزَماتِ وَالْمُلِمَّاتِ.
فَما إِنْ أَدارَهُ حَتَّى تَناقَصَتْ سُرْعَةُ حِصانِ الْجَوِّ!
(٤) فِي قَصْرِ الرَّبِيعِ
كانَ أَعْجَبَ ما رَآهُ «فَيْرُوزشاهْ»، مِنْ بَدِيعِ مَزاياهُ، مُصَوَّرٌ يُمَثِّلُ الْكُرَةَ الْأَرْضِيَّةَ، يَتَحَرَّكُ فِيهِ سَهْمٌ صَغِيرٌ، لِيَدُلَّ راكِبَهُ عَلَى الِاتِّجاهِ الَّذِي يَبْغِيهِ وَالْجِهَةِ الَّتِي يَقْصِدُها، وَيُعَرِّفَهُ الْمَكانَ الَّذِي حَلَّ فِيهِ، حَتَّى يَعْرِفَ: أَيْنَ حَلَّ؟! وَلا يَضِلَّ طَرِيقَهُ فِي طَبَقاتِ الْهَواءِ، وَأَجْوازِ الْفَضاءِ!
كانَ أَوَّلُ ما دارَ بِخاطِرِ الْأَمِيرِ «فَيْرُوزشاهْ» فِي هذا الْوَقْتِ أَنْ يَزُورَ الْأَمِيرَةَ «نُورَ الْحَياةِ» بِنْتَ عَمِّهِ السُّلْطانِ «الْعادِلِ»، فِي قَصْرِها الْبَدِيعِ، الَّذِي أَلِفَتْ أَنْ تَقْضِيَ فِيهِ زَمَنَ الرَّبِيعِ.
(٥) مَصْرَعُ الْباغِي٢٣
قابَلَهُ الْفارِسُ الْجَرِيءُ بِصَرْخَةٍ أَعْلَى مِنْ صَرْخَتِهِ، وَهُوَ يُمْسِكُ سَيْفَهُ بِيَدِهِ، يُنْذِرُهُ بِالْهَلَاكِ إِذا تَعَرَّضَ لَهُ.
وَما إِنِ انْتَهَيا مِنْ وَعِيدِهِما، حَتَّى اسْتَوْلَتِ الدَّهْشَةُ عَلَيْهِما، وَكادَتِ الْحَيْرَةُ تَعْقِدُ لِسانَيْهِما مِمَّا شاهَدَا؛ فَقَدْ رَأَى كُلٌّ مِنْهُما صاحِبَهُ رَأْي الْعَيْنِ! وَعَجِبَ الْفارِسانِ: كَيْفَ جَمَعَتِ الْأَقْدارُ بَيْنَهُما، عَلَى غَيْرِ مَوْعِدٍ وَلا اتِّفاقٍ سابِقٍ؟!
•••
كانَ «سِرْحانُ» عَلَى مَوْعِدٍ مَعَ «جُنْدُعَةَ»، لِيَحْضُرَ إِلَيْهِ عَلَى ظَهْرِ حِصانِ الْجَوِّ، بَعْدَ أَنْ يَقْضِيَ عَلَى «فَيْرُوزشاهْ» بِخِنْجَرِهِ الْمَسْمُومِ، وَبِذلِكَ يَصْفُو لِـ«سِرْحانَ» الْجَوُّ، وَلا يَبْقَى لَهُ — فِي زَواجِ الْأَمِيرَةِ — مُنافِسٌ وَلا عَدُوٌّ.
وَقَدْ كادَ يَتِمُّ لِلْمَلِكِ «سِرْحانَ» وَوَزِيرِهِ ما أَراداهُ وسَعَيا إِلَيْهِ، لَوْلَا لُطْفُ اللّهِ تَعالَى، وَشَجاعَةُ «فَيْرُوزشاهْ» الَّتِي هِيَ مَضْرِبُ الْأَمْثالِ.
اشْتَدَّ حِقْدُ «سِرْحانَ» وَالْتَهَبَ غَيْظُهُ، وَانْدَفَعَ مِنْ أَجْلِ هذا إِلَى مُنافِسِهِ؛ فَقابَلَهُ الْأَمِيرُ «فَيْروزشاهْ» بِعَزْمٍ كالْجِبالِ.
وَما زالا يَتَصارَعانِ، ساعَةً مِنَ الزَّمانِ. اشْتَدَّ فَزَعُ الْأَمِيرَةِ عَلَى ابْنِ عَمِّها مخافَةَ أَنْ يَفْتِكَ بِهِ ذلِكَ الْوَحْشُ الْغادِرُ!
فَما إِنِ انْتَهَى الْأَمِيرُ مِنْ قَتْلِ عَدُوِّهِ، حَتَّى وَفَدَ عَلَيْهِ عَمُّهُ، شاكِرًا لَهُ ما أَسْداهُ مِنْ فَضْلٍ، وَما أَبْداهُ مِنْ شَجاعَةٍ.
وَلَمْ يَكْتُمْ إِعْجابَهُ وَفَرَحَهُ بِحِصانِ الْجَوِّ الَّذِي أَظْفَرَهُ بِهِ حَظُّهُ السَّعِيدُ وَشَجاعَتُهُ الفائِقَةُ، وَحَمِدَ اللّهَ تَعالَى!
(٦) عَوْدَةُ الْأَمِيرَيْنِ
وَلَمَّا حانَ مَوْعِدُ الرَّحِيلِ اصْطَفَّ الْجُنْدُ لِتَحِيَّةِ الْأَمِيرَيْنِ، وَعَلَا هُتافُهُمْ حِينَ رَأَوْهُما يُحَلِّقانِ فِي الْجَوِّ، طائِرَيْنِ فِي الْفَضاءِ!
كانَ الْأَمِيرُ «فَيْرُوزشاهْ» يَتَرَفَّقُ فِي طَيَرانِهِ، حَتَّى لا يُزْعِجَ الْأَمِيرَةَ، فَلَمَّا اقْتَرَبا مِنْ حاضِرَةِ مُلْكِهِ أَدارَ لَوْلَبَ الْهُبُوطِ.
وَبَعْدَ قَلِيلٍ اسْتَقَرَّ بِهما حِصانُ الْجَوِّ فِي بُسْتانِ الْقَصْرِ.
ابتَهَجَ الْمَلِكُ «ساسانُ» بِسَلَامَةِ وَلَدِهِ، أَيَّما ابْتِهاجٍ.
وَلَمَّا أَعَدَّ الْأَمِيرُ مُعَدَّاتِ الِاحْتِفالِ بِاسْتِقْبالِ الْأَمِيرَةِ ذَهَبَ إِلَيْها؛ حَتَّى إِذا بَلَغَ الْبُسْتانَ بَحَثَ عَنْها فِي كُلِّ مَكانٍ، دُونَ أَنْ يَجِدَها أَوْ يَعْثُرَ لَها عَلَى أَثَرٍ، فَعَجِبَ أَشَدَّ الْعَجَبِ!
(٧) أَيْنَ الْأَمِيرَةُ؟!
راحَ الْأَمِيرُ «فَيْرُوزشاهْ» يَسْأَلُ الْحُرَّاسَ، فِي لَهْفَةٍ وَدَهْشَةٍ: هَلْ وَقَعَتْ أَعْيُنُهُمْ عَلَى أَجْنَبِيٍّ داخِلَ الْبُسْتانِ، أَوْ خارجَ الْقَصْرِ؟
وَقَدْ صَحَّتْ فِراسَةُ الْأَمِيرِ، وَلَمْ يَكْذِبْهُ ظَنُّهُ وَتَخْمِينُهُ؛ فَإِنَّ الْمَلِكَ «ساسانَ» كانَ قَدْ أَوْدَعَ «جُنْدُعَةَ» السِّجْنَ، فَراحَ يُدَبِّرُ خُطَّةً لِلْهَرَبِ، حاوَلَ مِرارًا، لكِنَّهُ لَمْ يُتَحْ لَهُ أَنْ يَقُومَ بِتَنْفِيذِها إِلَّا ساعَةَ وُصُولِ عَدُوِّهِ «فَيْرُوزشاهْ».
وَما إِنْ دَخَلَ الْبُسْتانَ، حَتَّى رَأَى حِصانَ الْجَوِّ عَلَى مَقْرَبَةٍ مِنْهُ!
فَقالَ لَها: «إِنَّ الْأَمِيرَ لا يَثِقُ بِأَحَدٍ مِنْ أَتْباعِهِ، كَما يَثِقُ بِي، وَقَدْ خَصَّنِي بِكُلِّ ما يَكْتُمُهُ عَنْ غَيْرِي مِنْ أَسْرارِهِ.»
لَمْ تَشُكَّ الْأَمِيرَةُ «نُورُ الْحَياةِ» فِي حَدِيثِهِ، بَعْدَ أَنْ رَأَتْ خِبْرَتَهُ بِقِيادَةِ الْجَوادِ، وَما إِنِ اسْتَقَرَّتْ خَلْفَ «جُنْدُعَةَ» الْماكِرِ الْخَبِيثِ، حَتَّى أَدارَ لَوْلَبَ الصُّعُودِ، فَطارَ بِهِما الْجَوادُ حَتَّى غابَتْ عَنْ أَعْيُنِهِما مَعالِمُ الْمَدِينَةِ.
سَأَلَتْهُ فِي لَهْفَةٍ وَاسْتِغْرابٍ: أَيْنَ يَذْهَبُ بِها؟ وَأَيُّ مَكانٍ يَقْصِدُهُ؟
فأَجابَها قائِلًا: إِنَّهُ ذاهِبٌ بِها إِلَى مَوْلاهُ «سِرْحانَ».
هَبَطَ «حِصانُ الْجَوِّ» — بَعْدَ قَلِيلٍ — بِأَحَدِ الْمُرُوجِ النَّاضِرَةِ، فِي أَرْضٍ يَحْكُمُها السُّلْطانُ «مَسْعُودٌ».
فَلَمْ تُصْغِ إِلَيْهِ، وَاشْتَدَّ نُفُورُها مِنْهُ، وَمَقْتُها لَهُ، حِينَ أَفْضَى إِلَيْها بِما غابَ عَنْ عِلْمِها مِنْ تِلْكَ الْقِصَّةِ، وَأَطْلَعَها عَلَى رَغْبَتِهِ فِي الزَّواجِ بِها، بَعْدَ أَنْ هَلَكَ مَوْلاهُ.
وَراحَت تَنْدُبُ حَظَّها التَّاعِسَ، وَتَبْكِي مَصِيرَها المُؤْلِمَ!
كانَ مِنْ عَجائِبِ الِاتِّفاقِ أَنْ يَمُرَّ بِها السُّلْطانُ «مَسْعُودٌ»، وَهُوَ خارِجٌ مِنْ مَمْلَكَتِهِ إِلَى الصَّيْدِ، وَيَسْأَلَها عَنِ السَّبَبِ فِي حُزْنِها وبُكائِها، وَيَسْأَلَها أَنْ تُفْضِيَ إِلَيْهِ بِقِصَّتِها.
لكِنَّ «جُنْدُعَةُ» ابْتَدَرَهُ بِالْجَوابِ، زاعِمًا أَنَّها بِنْتُ عَمِّهِ.
وَهُنالِكَ تَنْبَرِي الْأَمِيرَةُ لِتَكْذِيبِ ما زَعَمَهُ، وَتُحَدِّثُ السُّلْطانَ أَنَّهُ لِصٌّ خادِعٌ، خَطَفَها فِي غَفْلَةٍ مِنْ حُرَّاسِها.
اشْتَدَّ غَضَبُ السُّلْطَانِ وَغَيْظُهُ مِنْ وَقاحَتِهِ وَجَراءَتِهِ؛ فَعاجَلَهُ بِضَرْبَةٍ مِنْ سَيْفِهِ قاتِلَةٍ، أَطارَتْ رَأْسَهُ عَنْ جَسَدِهِ.
كَما أُعْجِبَ إِعْجابًا شَدِيدًا بِحِصانِ الْجَوِّ، فَحَرَصَ عَلَى اقْتِنائِهِ، وَأَوْدَعَهُ مُتْحَفَ نَفائِسِهِ، دُونَ أَنْ يَعْرِفَ لَهُ — مِنَ الْمَزايا — أَكْثَرَ مِنْ جَمالِ هَيْئَتِهِ، وَدِقَّةِ صَنْعَتِهِ.
رَأَتِ الْأَمِيرَةُ «نُورُ الْحَياةِ» أَنَّها ما إِنْ خَلَصَتْ مِنْ كَيْدِ «جُنْدُعَةَ» الْخَبِيثِ، حَتَّى وَقَعَتْ فِي مَأْزِقٍ آخَرَ وَوَرْطَةٍ ثِانيَةٍ، لَمْ تَدْرِ: كَيْفَ تَخْلُصُ مِنْهُ وَتَنْجُو؟! فَقَدْ تَفَزَّعَتْ وَارْتَبَكَتْ، حِينَ كاشَفَها السُّلْطانُ «مَسْعُودٌ» بِعَزْمِهِ الْأَكِيدِ عَلَى الزَّواجِ بِها!
•••
وَقَدْ بَرَعَتِ الْأَمِيرَةُ فِي تَمْثِيلِ هذا الدَّوْرِ كُلَّ الْبَراعَةِ، حَتَّى خَيَّلَتْ إِلَيْهِ أَنَّ بِها مَسًّا مِنَ الشَّيْطانِ أَوْ شَيْئًا مِنَ الْجُنُونِ.
وَلا تَسَلْ عَنْ حُزْنِ السُّلْطانِ لِمُصابِها، وَتَأَلُّمِهِ لِخَبالِها؛ حِينَ رَآها تَرْتَمِي عَلَى الْأَرْضِ نادِبَةً مُعْوِلَةً، صارِخَةً مُوَلْوِلَةً!
فَلَمْ يَشُكَّ فِي جُنُونِها، وَوَكَّلَ بِحِراسَتِها بَعْضَ جَوارِيهِ.
ثُمَّ أَعْلَنَ السُّلْطانُ — فِي طُولِ الْبِلادِ وَعَرْضِها — عَزْمَهُ عَلَى أَنْ يُقَدِّمَ مُكافَأَةً كَبِيرَةً لِمَنْ يُوَفِّقُهُ اللّهُ إِلَى شِفاءِ الْأَمِيرَةِ، فَأَقْبَلَ عَلَيْهِ الْأَطِبَّاءُ — مِنْ كُلِّ مَكانٍ — راجِينَ أَنْ يَفُوزُوا بِهذِهِ الْمُكافَأَةِ.
(٨) لِقاءٌ بَعْدَ يَأْسٍ
أَراكَ — أَيُّها الْقارِئُ الْعَزِيزُ — تَسْأَلُنِي: ماذا صَنَعَ «فَيْرُوزشاهْ» بَعْدَ أَنْ خَطَفَ «جُنْدُعَةُ» بِنْتَ عَمِّهِ «نُورَ الْحَياةِ»، وَفَرَّ بِها إِلَى مَمْلَكَةِ السُّلْطانِ «مَسْعُودٍ»؟
•••
لَمْ يَكُنْ أَحَبَّ إِلَى نَفْسِ الْأَمِيرِ مِنْ مُتابَعَةِ حَدِيثِهِمُ الَّذِي فَتَحَ لَهُ بابَ الرَّجاءِ عَلَى مِصْراعَيْهِ، وَقَدْ أَثْلَجَ صَدْرَهُ ما لَقِيَهُ «جُنْدُعَةُ» مِنْ جَزاءٍ عادِلٍ، وَما وُفِّقَتْ إِلَيْهِ بِنْتُ عَمِّهِ مِنْ حِيلَةٍ بارِعَةٍ، لِلْخَلاصِ مِنَ الزَّواجِ بِالسُّلْطَانِ «مَسْعُودٍ»!
لَمْ يُضِعِ الْأَمِيرُ شَيْئًا مِنْ وَقْتِهِ، واسْتَأْنَفَ سَيْرَهُ. وَما زالَ يُواصِلُ لَيْلَهُ بِنَهارِهِ، حَتَّى بَلَغَ مَدِينَةَ السُّلْطَانِ «مَسْعُودٍ».
كانَ الْأَمِيرُ «فَيْرُوزشاهْ» قَدِ اهْتَدى — بَعْدَ تَفْكِيرٍ طَوِيلٍ — لِرَسْمِ خُطَّةٍ بارِعَةٍ لِإِنْقاذِ بِنْتِ عَمِّهِ مِمَّا تَتَعَرَّضُ لَهُ مِنْ إِحْراجٍ.
سَأَلَهُ الْأَمِيرُ أَنْ يُحَدِّثَهُ بِقِصَّتِها، مِنْ بَدْئِها إِلَى نِهايَتِها.
فَلَمَّا قَصَّها عَلَيْهِ سَأَلَهُ عَنْ مَكانِ الْحِصانِ الْخَشَبِيِّ، الَّذِي كانَ إِلَى جِوارِها، لَعَلَّ فِيهِ سِرًّا مِنْ أَسْرارِ خَبالِها.
بعْدَ أَنِ اطْمَأَنَّ «فَيْرُوزشاهْ» إِلَى سَلامَةِ الْحِصانِ، اسْتَأْذَنَ السُّلْطانَ فِي أَنْ يَلْقَى الْفَتاةَ عَلَى انْفِرادٍ، لِتَبُوحَ لَهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَنْ حالَتِها وَظُرُوفِ مَرَضِها، دُونَ أَنْ تَجِدَ حَرَجًا مِنْ ذلِكَ؛ فَيَسْهُلَ عَلَيْهِ وَصْفُ الْعِلاجِ لِعِلَّتِها فِي أَسْرَعِ وَقْتٍ وَبِأَيْسرِ حيلَةٍ!
•••
عِنْدَما دَخَلَ الْأَمِيرُ عَلَيْها حُجْرَتَها وَالْتَقَتْ أَعْيُنُهُما هَمَّتِ الْفَتاةُ بِالصُّراخِ، لِفَرْطِ ما اسْتَوْلَى عَلَيْها مِنَ الْفَرَحِ، بِاجْتِماعِ الشَّمْلِ، بَعْدَ أَنْ يَئِسَتْ مِنَ اللِّقاءِ كُلَّ الْيَأْسِ!
لكِنَّهُ أَشارَ إِلَيْها أَنْ تَعْتَصِمَ بِالصَّمْتِ، وَتَلُوذَ بِالصَّبْرِ.
ثُمَّ اقْتَرَبَ مِنْها، وَهَمَسَ فِي أُذُنِها بِما أَعَدَّهُ مِنْ خُطَّةٍ لِإِنْقاذِها.
وَبَعْدَ فَتْرَةٍ وَجِيزَةٍ خَرَجَ إلَى السُّلْطانِ، يُبَشِّرُهُ بِالْأَمَلِ فِي شِفاءِ الْفَتاةِ بِأَسْرَعَ مِمَّا يَظُنُّ؛ فَأَجْزَلَ لَهُ السُّلْطانُ الشُّكْرَ.
ابْتَهَجَ السُّلْطانُ «مَسْعُودٌ» كُلَّ الِابْتِهاجِ بِما سَمِعَ، حِينَ رَأَى سُكُونَها بَعْدَ الْهِياجِ، وابْتِسامَها بَعْدَ الْعُبُوسِ.
أَيْقَنَ أَنَّ طَبِيبَها ناجِعُ الدَّواءِ، وَأَنَّ مَرَضَها — عَلَى يَدَيْهِ — مَرْجُوُّ الشِّفاءِ. سَأَلَهُ السُّلْطانُ عَمَّا يَقْتَرِحُهُ لِعِلَاجِها؟
(٩) عَوْدَةُ الْمُنْتَصِرِ
انْعَقَدَتْ سُحُبُ الدُّخَانِ كَثِيفَةً مُتَصاعِدَةً فِي الْفَضاءِ، حَتَّى حَجَبَتْهُما عَنِ الْأَنْظارِ، وَأَتاحَتْ لَهُما الْفُرْصَةَ لِلْفِرارِ.
قَفَزَ «فَيْرُوزشاهْ» عَلَى ظَهْرِ «حِصانِ الْجَوِّ»، وَمِنْ خَلْفِهِ الْأَمِيرَةُ «نُورُ الْحَياةِ»، وَسُرْعانَ ما أَدارَ لَوْلَبَ الصُّعُودِ، دُونَ أَنْ يَفْطِنَ أَحَدٌ إِلَى حِيلَتِهِ … انْقَشَعَ الدُّخَانُ بَعْدَ قَلِيلٍ … لَمْ يَجِدُوا لِلْأَمِيرَيْنِ وَحِصانِهِما مِنْ أَثَرٍ.
أَيْقَنَ السُّلْطانُ «مَسْعُودٌ» — تَمامًا — أَنَّها حِيلَةٌ بارِعَةٌ، تَحَيَّلَها الطَّبِيبُ والْفَتاةُ، وَيَئِسَ مِنْ لِقائِهِما مَدَى الْحَياةِ!
لَمْ يَنْقَضِ زَمَنٌ قَلِيلٌ، حَتَّى بَلَغَ الْأَمِيرانِ أَرْضَ الْوَطَنِ.
كانَ مِنْ مَحاسِنِ الْمُصادَفاتِ الْبَهِيجَةِ وَعَجِيبِ الِاتِّفاقاتِ الْجَمِيلَةِ أَنْ بَلَغَ السُّلْطانُ «الْعادِلُ» — صِهْرُ الْأَمِيرِ «فَيْرُوزشاهْ» — بِلادَ أَخِيهِ الْمَلِكِ «ساسانَ»، فِي نَفْسِ اللَّحْظَةِ السَّعِيدَةِ الَّتِي قَدِمَ فِيها صِهْرُهُ وَبِنْتُهُ، كَأَنَّما كانُوا عَلَى مِيعادٍ!
(١٠) هَدايا الْأَعْداءِ
كانَتِ الْهَدايا الثَّلاثُ الَّتِي أَعَدَّها «سِرْحانُ» لِيَسْتَدْرجَ بِها «فَيْرُوزشاهْ» إِلَى الْهَلاكِ، سَبَبًا فِي اسْتِتْبابِ الْأَمْنِ، وَمَجْلَبَةً لِلْخَيْرِ وَراحَةِ الْبالِ! فَكانَ «فَيْرُوزشاهْ» يَمْتَطِي «حِصانَ الْجَوِّ»، طائِرًا بَيْنَ أَنْحاءِ بِلَادِهِ، مِنْ أَقْصاها إِلَى أَقْصاها، لِيَتَفَقَّدَ شُئُونَ مُواطِنِيهِ، وَيُثَبِّتَ دَعائِمَ الْأَمْنِ فِي أَرْجاءِ مَمْلَكَةِ أَبِيهِ!
وَرُبَّما صَحِبَ زَوْجَتَهُ الْأَمِيرَةَ «نُورَ الْحَياةِ» — بَيْنَ حِينٍ وَحِينٍ، كُلَّما سَنَحَتِ الْفُرْصَةُ — إِلَى مَمْلَكَةِ أَبِيها؛ فَأَقاما عِنْدَهُ لَيْلَةً، ثُمَّ عادا فِي صَباحِهِما، بَعْدَ مُدَّةٍ وَجِيزَةٍ مِنْ قِيامِهِما!
•••
أَراكَ تَسْأَلُنِي — أَيُّها الْقارِئُ الْعَزِيزُ — مُتَلَهِّفًا مُتَشَوِّقًا، وَقَدِ اشْتَدَّ بِكَ الشَّوْقُ: مَنْ «خَيْدَعَةُ»؟ وما حِكايَتُهُ؟
وَأَيُّ سِرٍّ أَخْفاهُ؟ وأَيُّ غَدْرٍ أَضْمَرَهُ وَانْتَواهُ؟
وَبَعْدَ أَنْ رَدَّدَ التَّحْذِيرَ، وَكَرَّرَهُ ثَلَاثَ مَرَّاتٍ، انْطَلَقَ فِي إِنْشادِهِ عَلَى مَسامِعِ النَّاسِ مُسْتَأْنِفًا:
أَرْهَفَ النَّاسُ آذانَهُمْ لِسَماعِ إِنْشادِهِ، وَتَلَقِّي ما يَقُولُ واسْتَبْشَرُوا خَيْرًا، وَفَرِحُوا حِينَ انْتَهَى إِلَى قَوْلِهِ:
وَها هُوَ ذا «خَيْدَعَةُ» الْخائِنُ، مُخْتَبِئًا مَعَ أَرْبَعَةٍ مِنْ رِفاقِهِ الْخُبَثاءِ، فِي كَهْفِ «سابُورَ» الْقَرِيبِ … حَتَّى إذا أَقْبَلَ اللَّيْلُ تَسَلَّلَ الْغادِرُونَ إِلَى مُتْحَفِ النَّفائِسِ، وَاسْتَوْلَوْا عَلَى «حِصانِ الْجَوِّ»؛ فَطارُوا بِهِ إِلَى قَصْرِ الْأَمِيرِ «فَيْرُوزشاهْ»، لِيَغْتالُوهُ. ثُمَّ يَعُودُوا — عَلَى ظَهْرِ الْجَوادِ — إِلَى قَصْرِ مَلِيكِهِمْ «آزادَ»، لِيُفاجِئُوهُ — وَهُوَ نائِمٌ — فِي غَفْلَةٍ مِنْ حُرَّاسِهِ وَأَعْوانِهِ! خَيَّبَ اللهُ مَسْعاهُمْ، وَرَدَّ سِهامَهُمْ إِلَى صُدُورِهِمْ وحَطَّمَ آمالَهُمْ!
•••
هكَذا أَذاعَ الْبُوقُ كُلَّ ما أَضْمَرَهُ «خَيْدَعَةُ» وَأَعْوانُهُ مِنْ كَيْدٍ، وَدَلَّ حُرَّاسَ الْمَدِينَةِ عَلَى مَكانِ الْمُؤْتَمِرِينَ؛ فَكانَ الصَّلْبُ جَزاءَ الْخائِنِينَ. وَكَذلِكَ نَصَرَ اللهُ بَطَلَ قِصَّتِنا الشُّجاعَ، وَمَكَّنَهُ مِنْ رِقابِ أَعْدائِهِ، وأَعانَهُ — كَما رَأَيْتَ — عَلَى إِهْلاكِهِمْ؛ بِما قَدَّمُوهُ لَهُ مِنْ هَدايا نادِرَةٍ، قَضَتْ عَلَى مُؤَامَرَتِهِمُ الْغادِرَةِ، وَرَدَّتْ سِهامَهُمْ إِلَيْهِمْ، وَأَعادَتْ هَداياهُمْ نِقْمَةً عَلَيْهِمْ!
•••
بَقِيَ أَنْ تَعْرِفَ: ماذا صَنَعَتْهُ الرَّعِيَّةُ بَعْدَ مَصْرَعِ «سِرْحانَ»: قَدْ كانَ مِنْ حُسْنِ الْحَظِّ أَنَّ راوِيَ الْقِصَّةِ لَمْ يُغْفِلِ الْحَدِيثَ عَمَّا تَسْأَلُنِي عَنْهُ … وَكانَ فِيما رَواهُ — صَدِيقِي الْعَزِيزُ — لَنا قَوْلُهُ:
كانَ الْمَلِكُ «سِرْحانُ» — لَعَنَهُ اللهُ — مِثالًا لِلظُّلْمِ والْجَوْرِ، وَنَمُوذَجًا لِلْخِداعِ والْغَدْرِ وَالْخِيانَةِ؛ ارْتَقَى الْعَرْشَ بَعْدَ أَنِ ائْتَمَرَ بِأَخِيهِ الْمَلِكِ «آزادَ»، وَانْتَهَتْ مُؤَامَرَتُهُ بِعَزْلِهِ وَسَجْنِهِ!
كانَ الشَّقِيقانِ الْخَبِيثانِ «جُنْدُعَةُ» و«خَيْدَعَةُ» مِنْ أَكْبَرِ أَعْوانِ ذلِكَ الْمَلِكِ الْغادِرِ، فَلَمْ يَدَّخِرَا جُهْدًا فِي أَنْ يُحَسِّنا لَهُ الشَّرَّ، ويُحَبِّبا إِلَيْهِ الْجَوْرَ؛ فَزَيَّنا لَهُ الْغَدْرَ بِأَخِيهِ الْمَلِكِ الْمَحْبُوبِ «آزادَ» الطَّيِّبِ، كَما أَغْرَياهُ بِأَنْ يَظْلِمَ رَعِيَّتَهُ وَيَبْطِشَ بِهِمْ!
فَلَمَّا أَراحَ اللهُ الرَّعِيَّةَ مِنْ شَرِّ «سِرْحانَ» وَوَزِيرِهِ «جُنْدُعَةَ»، وَهَيَّأَ سَبِيلَ الْخَلاصِ مِنْهُما، أَطْلَقُوا «آزادَ» وَأَعْوانَهُ مِنْ سِجْنِهِمْ، بَعْدَ أَنْ فَتَكُوا بِأَعْدائِهِمْ، وَأَبْطَلُوا ما كانُوا يُضْمِرُونَ مِنْ شَرٍّ!
وَخَشِيَ «خَيْدَعَةُ» أَنْ يَبْطِشُوا بِهِ — كَما بَطَشُوا بِأَعْوانِهِ — فَهَرَبَ مُتَسَلِّلًا إِلَى بِلَادِ «فارِسَ»، وَمَعَهُ رِفاقُهُ وَأَعْوانُهُ الْأَشْرارُ، لِيُدَبِّرَ — مَعَهُمْ — وَسِيلَةً لِلانْتِقامِ لِلْخائِنَيْنِ الشِّرِّيرَيْنِ: «سِرْحانَ» وَ«جُنْدُعَةَ»؛ فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ لَقِيَ مَصْرَعَهُ، وَهَلَكَ رِفاقُهُ مَعَهُ!
(١١) خاتِمَةُ الْقِصَّةِ
أَصْبَحَ الْمَلِكُ «آزادُ» والْأَمِيرُ «فَيْرُوزشاهْ» — مُنْذُ ذلِكَ الْحِينِ — صَدِيقَيْنِ مُؤْتَلِفَيْنِ، يَتَبادَلانِ الْمَوَدَّةَ والصَّفاءَ، وَيَنْعَمانِ بِالْمَحَبَّةِ والْإِخاءِ، وَيَتَعاوَنانِ فِي الْبَأْساءِ والضَّرَّاءِ.
وَلَمْ تَنْقَضِ أَعْوامٌ قَلائِلُ، حَتَّى ماتَ الْمَلِكُ «ساسانُ»، وَخَلَفَهُ وَلَدُهُ «فَيْرُوزشاهْ» عَلَى الْعَرْشِ؛ فَحَكَمَ بِلادَهُ — كَما حَكَمَها أَبُوهُ مِنْ قَبْلُ — بِالْعَدْلِ والْإِحْسانِ، وَلَمْ يُقَصِّرْ فِي تَشْجِيعِ الْمَوْهُوبِينَ، وَمُكافَأَةِ الْعامِلِينَ.
وَعاشَ الْمَلِكُ «فَيْرُوزُ شاهْ» وَالْمَلِكَةُ «نُورُ الْحَياةِ»، فِي ثَباتٍ وَنَباتٍ، وَخَلَّفا الصِّبْيانَ والْبَناتِ …
وَما زالَ النَّاسُ يَتَناقَلُونَ قِصَّتَهُمْ، واحِدًا عَنْ واحِدٍ، وَيَتَوارَثُونَها وَلَدًا عَنْ والِدٍ، وَيَتَعَلَّمُونَ مِنْها الدُّرُوسَ النَّافِعَةَ، ويَهْتَدُونَ بِما فِيها مِنْ مَواعِظَ وَعِبَرٍ، حَتَّى وَصَلَتْ إِلَى جَدِّي؛ فَقَصَّها عَلَى أَبِي.
ثُمَّ قَصَّها عَلَيَّ أَبِي حِينَ بَلَغْتُ مِثْلَ سِنِّكَ، وَهأَنَذا أَقُصُّها عَلَيْكَ، لِتَرْوِيَها — مَتَى كَبِرْتَ — إِلَى أَطْفالِ جِيلِكَ، إِنْ شاءَ اللّهُ.