الفصل السادس

تحدَّث الطبري عن السريِّ عن شعيب عن سيف عن عمارة بن القعقاع عن الحسن البصري قال: «كان عمر بن الخطاب قد حجر على أعلام قريش من المهاجرين الخروج في البلدان إلا بإذن وأجل، فشكوه، فبلغه فقام فقال: ألا إني قد سننت الإسلام سنَّ البعير، يبدأ فيكون جذَعًا ثم ثَنِيًّا ثم رَباعيًّا ثم سديسًا بازلًا. ألا فهل ينتظر بالبازل إلا النقصان؛ ألا فإن الإسلام قد بزل، ألا وإن قريشًا يريدون أن يتخذوا مال الله معونات دون عباده، ألا فأما وابن الخطاب حيٌّ فلا؛ إني قائم دون شِعب الحرَّة آخذٌ بحلاقيم قريش وحُجُزِها أن يتهافتوا في النار.»

قال الطبري متحدثًا عن السري عن شعيب عن سيف عن محمد وطلحة قالَا: «فلما ولي عثمان لم يأخذهم بالذي كان يأخذهم به عمر، فانساحوا في البلاد، فلما رأوها ورأوا الدنيا ورآهم الناس، انقطع من لم يكن له طَوْلٌ ولا مَزِيَّة في الإسلام، فكان مغمورًا في الدنيا وصاروا أوزاعًا إليهم وأملوهم وتقدموا في ذلك، فقالوا يملكون فنكون قد عرفناهم وتقدمنا في التقرب والانقطاع إليهم، فكان ذلك أول وهن دخل على الإسلام وأول فتنة كانت في العامة ليس إلا ذلك.»

وتحدث الطبري أيضًا عن السري عن شعيب عن سيف بن عمر وعن الشعبي قالا: «لم يمت عمر رضي الله عنه حتى مَلَّتْه قريش، وقد كان حصرهم بالمدينة فامتنع عليهم، وقال: إن أخوف ما أخاف على هذه الأمة انتشاركم في البلاد. فإن كان الرجل ليستأذنه في الغزو وهو ممن حبس بالمدينة من المهاجرين — ولم يكن فعل ذلك بغيرهم من أهل مكة — فيقول: قد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يُبَلِّغُك، وخير لك من الغزو اليوم ألا ترى الدنيا ولا تراك. فلما ولي عثمان خلَّى عنهم فاضطربوا في البلاد وانقطع إليهم الناس، فكان أحب إليهم من عمر.»١

فنريد أن نبدأ من رعية عثمان بقريش، وأن نترجم إلى لغتنا الحديثة ما روي من سيرة عمر فيها؛ فعمر لم يخف الفتنة من أحد كما خافها من قريش، ولم يخف الفتنة على أحد كما خافها على قريش؛ لأنه كان يعرف هذا الحي من العرب حق المعرفة، وكان يعرف بنوع خاص مواطن القوة القوية فيه كما كان يعرف مواطن الضعف الضعيف. فقد كانت قريش التي نشأ فيها عمر قبل أن تدعى إلى الإسلام ممتازة بالقوة والضعف جميعًا، وكانت قوتها تأتيها من مكانها حول البيت، واستئثارها بمناسك الحج تقيمها للعرب وتتسلط عليهم بها وتتحكم عليهم فيها، وترى لنفسها بذلك امتيازًا لا يشاركها فيه غيرها من الناس؛ فهي تزعم لنفسها أرستقراطية متفوقة. وقد اعترف لها العرب بهذه الأرستقراطية في جملتهم، لا لتفوقها في الحرب ولا لتسلطها بقوة السيف، فلم تكن قريش قبيلة محاربة، بل لاستئثارها بأمر الدين وامتيازها في الجليل والخطير منه. ثم كانت القوة تأتيها من تجارتها الضخمة التي تفوقت على كل تجارة في العرب أو التي تسلطت على كل تجارة في العرب. أتاح لها ذلك أمنها في الحرم واستقرارها حول البيت، ومنحها ذلك من الذكاء والدهاء ونفاذ البصيرة وبُعد الهمة ما لم يتح لغيرها من قبائل العرب لا نستثني منها إلا ثقيفًا. فقد كانت قريش صلة بين الشرق البعيد والشرق القريب في التجارة، وكانت بذلك صلة بين الشرق والغرب، أو قل بين الروم والهند. وقد أفادت من ذلك مالًا كثيرًا، وأفادت من التجربة أكثر مما أفادت من المال. وعلمتها كثرة المال الحرص وحسن المحافظة ودقة التدبير والبراعة في الاستثمار، وعلمتها التجربةُ المتصلة وممارسة الأمم المختلفة وزيارة الأقطار النائية مهارةً في مواجهة المشكلات والنفوذ منها والتغلب عليها؛ فكانت قبيلة ماهرة ماكرة أمكر العرب وأمهرهم من غير شك.

وقد دفعها هذا كله إلى بعد الهمة وامتداد أسباب الطمع إلى غير حد، والصبر على المكروه حتى تظهر عليه، والسخر من العقاب حتى تذللها، بل دفعها هذا كله إلى ما هو أشد من ذلك خطرًا، وهو ازدراء القيم المقررة، والاستهزاء بما تواضع الناس عليه من العقائد والتقاليد، واستباحة كل شيء في سبيل المنفعة القريبة والبعيدة، وسعة الحيلة التي أتاحت لها أن تظهر للعرب أمينة على الدين، وليست من الدين في شيء. فقد كان السادة من قريش على أقل تقدير ينظرون إلى الدين على أنه وسيلة لا غاية، وإلى هذه الأوثان المنصوبة على أنها أسباب لكسب الرزق وبسط السلطان لا أكثر ولا أقل. وكان السيد من قريش رجلًا أثرًا شديد الطمع بعيد الهم عظيم المكر داهية، كلما حزبته المشكلات عرف كيف يستقبل ما حزب من الأمر، وكيف يخرج منه سالمًا معافى موفورًا.

عرف عمر هذا كله في قريش، فلم تستطع أن تخدعه عن نفسها، بل لم يستطع إقبالها على الإسلام وإذعانها لسلطانه أن يُغَيِّرا رأيه فيها. وهو من أجل هذا آثر الاحتياط كل الاحتياط في سياستها، فلم يَلِنْ لها ولم يرفق بها، ولم يُخْلِ بينها وبين طمعها الشديد، وَهَمِّهَا البعيد واعتدادها بنفسها، وازدرائها لغيرها من الناس.

ولعل عمر أن يكون قد عرف للمهاجرين ما عرف لهم رسول الله من الفضل، فأنزلهم منازلهم، واختصهم بكثير من عنايته ورعايته؛ ولكن هذا كله لم يدفعه إلى الاطمئنان والهدوء والتخلية بين هؤلاء المهاجرين وبين ما كانوا يريدون حين استخلف على أمور المسلمين، وليس أدل على ذلك من سيرته هذه في قريش وقيامه عند شعب الحرة آخذًا بحلاقيمها وحجزها أن تتهافت في النار، وقوله لمن كان يستأذنه في الغزو من المهاجرين: «لقد كان لك في غزوك مع رسول الله ما يبلغك، وخير لك من الغزو ألا ترى الدنيا ولا تراك.» وربما كان من أدل الدلائل على ذلك ما كان من شدته على خالد بن الوليد رحمه الله وعزله إياه ومراقبته له، مع ما أبلى خالد من البلاء الحسن أيام النبي وأيام أبي بكر في حرب العرب والروم جميعًا. ليس لهذا مصدر إلا علمه بقريش وسوء ظنه بحسن استعمالها لما أبيح لها من قوة، وبحسن انتصارها على ما فرض عليها من ضعف. فقد كانت هذه القوة التي صورناها مصدر ضعف لقريش؛ لأنها كانت تدفعها إلى أن تغالي بنفسها فتتورط في الكبرياء، ولأنها كانت تدفعها إلى حب المال والحرص عليه فتتعرض لأخذه بغير حقه، ولأنها كانت تدفعها إلى إيثار أنفسها بالخير فتتعرض للانهزام أمام المنافع العاجلة وأمام اللذات القريبة التي لا تخلو من الإثم أحيانًا. وكانت تدفعها إلى الطمع الذي لا حد له فتعرِّضها لتجاوز الحد والطموح إلى ما لا ينبغي الطموح إليه، كما تعرضها للظلم والاستعلاء. وإذا أشفق عمر من هذا كله بالقياس إلى المهاجرين الذين طالت صحبتهم للنبي وَحَسُنَ بلاؤهم في المواطن كلها، فأحرى أن يشفق منه بل أن يشفق من أكثر منه بالقياس إلى من أسلم بِأَخَرَةٍ من قريش، من هؤلاء الشيوخ والفتيان الذين لم يُسلموا عن رغبة ولا عن رضا، وإنما أسلموا إما طمعًا حين تبينوا أن كفة الإسلام راجحة، وإما قهرًا حين دُخلت عليهم مكة من أقطارها. وأولئك وهؤلاء لم ينظروا إلى الإسلام على أنه دين يتصل بالقلوب والضمائر، وتُرعى فيه حرمات الله وحقوقه، وإنما نظروا إليه على أنه صفقة خطيرة من تلك الصفقات التي كانوا يباشرونها، ومغامرة جريئة من تلك المغامرات التي كانوا يغامرونها داخل بلاد العرب وخارجها. وقد ذكروا حين أسلموا أو حين هموا بالإسلام أن النبي كان قد وعد قريشًا حين دعاها إلى الدين الجديد ملك الدنيا وحسن ثواب الآخرة، ففكروا جميعًا في ملك الدنيا، وفكر بعضهم في ثواب الآخرة، ودفعهم هذا التفكير إلى أن يسلموا، ثم إلى أن يحتملوا من أثقال الجهاد والفتح ما احتمل غيرهم من الناس أو أكثر مما احتمل غيرهم من الناس.

وأراد كثير منهم عن نية صادقة أو غير صادقة أن يعوضوا بحسن البلاء في الفتوح ما فاتهم من حسن البلاء مع النبي في غزواته. ومن أجل ذلك لم يبطئوا حين دفعت العرب إلى الفتح، وإنما نفروا خفافًا وثقالًا، كثير منهم يريدون عرض الدنيا، وقليل منهم يريدون الآخرة. وكان زعماؤهم وسادتهم يحسون أنهم الطلقاء، وأنهم أقل درجة من الذين سبقوا إلى الإسلام وأبلوا فيه بلاء حسنًا؛ فكان ذلك يغيظهم ويُحْفِظُهم ويشعرهم بشيء يشبه ما نسميه تعقيد النقص أو مركب النقص. ثم كانوا يعرفون رأي عمر خاصة فيهم، فكان ذلك يغيظهم من عمر، ويدعوهم إلى أن يحسنوا البلاء في الجهاد، ليظهروا لعمر أن رأيه فيهم جائر عن القصد، وليظهروا ذلك للناس، وليظهروا ذلك لأنفسهم قبل أن يظهروه للناس.

وهذا هو تأويل ما روي من أن خالد بن الوليد أتى بعكرمة بن أبي جهل، وقد صُرِعَ في يوم من أيام الشام، فوضع رأسه على فخذه وجعل ينظر إليه ويقول: «زعم ابن حنتمة أننا لا نستشهد.» وابن حنتمة هو عمر.

كان عمر إذن يسوس قريشًا هذه السياسة العنيفة على علم بدخائل نفوسها، وبُعْدِ هَمِّهَا وحرصها على الاستمساك بما بلغت والوصول إلى ما لم تبلغ، حتى ولو خاضت إليه الغمرات خوضًا. «وقد روي أن النبي رخص لعبد الرحمن بن عوف في لبس الحرير لحكَّة كانت به، فيُقْبِل عبد الرحمن ذات يوم على عمر ومعه فتى من بنيه قد لبس قميصًا من حرير، فينظر إليه عمر ثم يقول: ما هذا؟ ثم يدخل يده في جيب القميص فيشقه إلى أسفله. قال عبد الرحمن: ألم تعلم أن رسول الله قد رخص لي في لبس الحرير؟ قال عمر: بلى! لشكوى شكوتها، فأما لبنيك فلا.»

وعلى هذا النحو كان عمر يشفق على المهاجرين أن يتوسعوا فيما رخص لهم فيه النبي، ويشفق على غير المهاجرين من قريش أن يتوسعوا حتى فيما لم يرخص فيه النبي. وقد قام عمر دون معاوية يأبى عليه غزو البحر إشفاقًا على المسلمين من هوله. وأكبر الظن أنه كان يرى غزو البحر هذا الذي كان معاوية يلح فيه مغامرة من هذه المغامرات التي لا تتردد قريش في ركوبها، كان يرى أن الحق عليه للمسلمين أن يجنبهم مغامرات فتيان قريش. وقد قدَّمت أن خلافة أبي بكر أتاحت لقريش أرستقراطية مفاجئة جديدة عوضتها من أرستقراطيتها القديمة، فكان عمر يشفق من هذه الأرستقراطية ويضرب لها الحدود، ويأبى أن تندفع إلى غير مدى.

هؤلاء بعض الرعية التي ابْتُلِيَ عثمان بولاية أمرها. وكان على عثمان أن يسلك إحدى سبيلين لا ثالثة لهما: فإما أن يشتد كما اشتد عمر فيمسك زعماء المهاجرين في المدينة، ويظهر لعامة قريش ما كان يظهر لها عمر من سوء الظن بها، ويقف فتيان قريش وكهولهم كما كان يقفهم عمر عند حدود لا يتعدونها، ويجعل أمور الحكم والولاية كما كان يجعلها عمر شائعة بين العرب بل بين المسلمين، لا ينهض بها منهم إلا القادرون على احتمال أعبائها، وإما أن يلين فيخلي بين قريش وبين الطريق تمضي فيها إلى غير غاية، لا حد لطمعها ولا لجشعها ولا لمغامراتها ولا لإيثارها نفسها بالخير. وسنرى أن عثمان قد اختار الثانية راضيًا عنها أو مكرهًا عليها.

الفريق الثاني من رعية عثمان الأنصار، ومكانهم في الإسلام معروف، وثناء الله عليهم في القرآن محفوظ، وأمر النبي برعايتهم موروث. وقد رأيتَ أن الخلافة قد صرفت عنهم حين روى أبو بكر أن الإمامة في قريش، وأن أبا بكر قال لهم: نحن الأمراء وأنتم الوزراء، وقد كان أبو بكر يستشيرهم كما يستشير غيرهم من المهاجرين، وكان عمر يستشيرهم كذلك. ولم يقصر عثمان في استشارتهم، ولكن هؤلاء الأئمة الثلاثة إنما كانوا يستشيرون أصحاب النبي من الأنصار، فأما الشباب الناشئون الذين لم يكن لهم خطر يذكر أيام أبي بكر وقد أخذوا يعقلون أنفسهم أيام عمر، ثم عرفوا أنفسهم حق معرفتها أيام عثمان — فلم يكن لهم شأن يميزهم من سائر الناس. وقد سن عمر في تولية الولاة واستعمال العمال ألا يلتمسهم عند قريش وحدها، وإنما يلتمسهم في العرب كافة. وكان خليقًا لو عاش أن يظهر لهؤلاء الشباب من أبنا الأنصار أنهم كغيرهم من الناس لا تقصر الدولة بهم عن بعض حقهم، وعن حقهم في الولاية والحكم خاصة. وما من شك في أن شيوخ الأنصار وذوي المكانة منهم قد أخلصوا الرضا برأي أبي بكر وبسيرة عمر، ولكن ما من شك في أن عامَّة الأنصار والشباب منهم خاصة قد ضاقوا بهذه الأرستقراطية القرشية الجديدة، وهم الذين ضربوا قريشًا على الإسلام في بدر، وهم الذين دخلوا مع المهاجرين مكة من أقطارها، وكان يعزيهم عن هذا أن عمر كان يشتد على قريش ولا يؤثرها بشيء من دون المسلمين، فكان موقف الأنصار بعد أن استخلف عثمان رهينًا بسيرة الخليفة في قريش، فإن سار فيها سيرة عمر نال الأنصار حظهم من شئون الدنيا كما يناله غيرهم من سائر المسلمين، وإن آثرهم وحاباهم عرف الأنصار أنهم الأرستقراطية الجامحة المستأثرة، وأن مكانهم من قريش مكان المغلوبين لا مكان الذين يشاركونهم في غير الإمامة من الأمر شركة سواء. وسترى أن عثمان آثر قريشًا راضيًا أو كارهًا، وأن إيثاره لقريش وقع من نفوس الأنصار موقعًا أليمًا كان له أثره الخطير في الفتنة، ثم فيما استتبعته الفتنة من الأحداث.

الفريق الثالث في رعية عثمان عامَّة العرب، أولئك الذين أسلموا طوعًا أو كرهًا، ثم دفعهم أبو بكر وعمر إلى الفتح فبلغوا منه ما بلغوا، ثم استقروا في أمصارهم وثغورهم ردءًا للمسلمين يذودون عنهم العدو من جهة، وجندًا للمسلمين يفتحون عليهم أرض العدو من جهة أخرى، وهؤلاء العرب قد وعدهم الإسلام المساواة التامة بينهم، لا فضل لأحد منهم على آخر إلا بالتقوى والكفاية وحسن البلاء.

وهم بعد هذا مادة الإسلام كما كان عمر يقول، وهم الذين فتحوا الأرض، وأذلوا العدو، ونشروا دين الله في الآفاق، فلهم بهذا كله الحق في ألا يستأثر بالأمر من دونهم أحد. ثم هم بعد هذا كله حديثو عهد بالإسلام وقريبو عهد بالجاهلية، لم ينسوا ما كان بينهم من خصومة وعصبية وتفاخر وتكاثر بالأحساب والأنساب، وقد أضافوا إلى مفاخرهم التي حفظوها عن جاهليتهم مفاخر جديدة أعظم منها خطرًا وأرفع منها شأنًا. فالسياسة الملائمة لهؤلاء الناس هي التي تنسيهم عصبيتهم الجاهلية أولًا، وتنشئهم تنشئة إسلامية خالصة ثانيًا، وتصدق لهم ما وعدهم الله من المساواة بينهم والعدل فيهم. وقد سلك عمر هذه الطرق كلها، فقاوم العصبية ما وسعته مقاومتها حتى أخاف الشعراء الذين كانوا يذكرون مآثر الجاهلية فيما كانوا ينشئون ويتناشدون، وجعل في الأمصار معلمين من أصحاب النبي يقرئون أهلها القرآن ويبصرونهم بالسنة ويفقهونهم في الدين، وينشئونهم هذه التنشئة الإسلامية الخالصة. ثم لم يميز منهم فريقًا على فريق، ولم يؤثر بأمور السلطان منهم حيًّا دون حي، وإنما أشاع فيهم المساواة والعدل الحازم، واختار ولاته من مضر وربيعة واليمن، وراقب هؤلاء الولاة جميعًا أشد المراقبة. وقد رأيت فيما روينا من كتب عثمان أنه قد أخذ نفسه وولاته في هذه الكتب بسيرة عمر. ولكنك سترى أن وصية عمر بإقرار العمال على أعمالهم عامًا، لم تكد تبلغ أجلها حتى أقبل عثمان على سياسة أخرى راضيًا عنها أو مكرهًا عليها، وإذا قريش تميز من العرب وتسلط عليهم، وتستأثر من دونهم بأجلِّ الأمصار خطرًا وأرفع المناصب شأنًا.

الفريق الرابع من رعية عثمان هم هؤلاء المغلوبون من أهل البلاد التي فتحت على المسلمين. والسنة الإسلامية في سياستهم معروفة، وهي أن يؤخذوا بما عليهم من الحق، فإن أدوه فلهم ما للمسلمين وعليهم ما على المسلمين، وقد عرف عثمان هذه السيرة وأخذ نفسه وولاته بها فيما روينا من كتبه آنفًا.

ولم يظهر أثناء خلافته لأهل الذمة شأن فيما كان من الاختلاف، لا لأن السياسة المرسومة قد اتبعت فيهم ولم يكن عنها انحراف، بل لأنهم كانوا مغلوبين لم يتح لهم بعد أن يشاركوا في السياسة مشاركة ذات خطر، وإلا فقد نحب أن نفهم ما كان بين عثمان وعمرو بن العاص من الحوار ذات يوم حين قال عثمان لعمرو: «قد درَّت تلك اللقاح بعدك يا عمرو.» فأجابه عمرو: «نعم وهلكت فصالها.» فليس لهذا الحديث إلا معنى واحد وهو أن خراج مصر قد عاد إلى بيت المال أيام ابن أبي سرح بأكثر مما كان يعود به أيام عمرو بن العاص، هذا معنى ما قال عثمان، وأن زيادة الدخل هذه لم تأت إلا عن إرهاق المعاهدين من أهل الذمة أيام ابن أبي سرح، هذا ما أراد إليه عمرو بن العاص. وليس من هذا مخرج إلا إحدى اثنتين: الأولى أن يكون عمرو بن العاص قد كان يحتجز لنفسه شيئًا من الخراج دون بيت المال. الثانية أن ابن أبي سرح كان يأخذ من المعاهدين أكثر من الحق. وكلا الأمرين شر. ثم لا يقف الأمر في سياسة الرعية عند هذه الحدود التي رسمناها، فقد كان عمر شديدًا على قريش كلها يسوي بينها وبين العرب لا يميزها منهم، ثم لا يميز حيًّا من أحيائها على غيره. ولم يستطع عثمان أن يحتفظ بهذه المساواة، فآثر قريشًا من دون العرب عن عمد أو غير عمد. ثم لم يستطع أن يسوي بين قريش نفسها، فآثر فريقًا منها على فريق راضيًا بذلك أو كارهًا له. ويقال إن عمر قد خاف شيئًا من هذا الإيثار، فتقدَّم إلى عثمان إن ولي أمور المسلمين في ألا يحمل بني أمية وبني أبي معيط على رقاب الناس، وتقدم إلى علي إن ولي أمور المسلمين في ألا يحمل بني عبد المطلب وبني هاشم على رقاب الناس. ولم يستطع عثمان أن يستجيب لعمر، فحمل بني أمية وآل أبي معيط على رقاب الناس، ما في ذلك شك. وقيل: إن عليًّا نفسه حين ولي الخلافة لم يستجب لعمر، فولي ثلاثة من بني عمه العباس، البصرة ومكة واليمن، حتى قال مالك الأشتر: ففيم قتلْنا الشيخَ إذن! ولكني على ذلك أفرق أشد التفرقة بين ما صنع عثمان وما صنع عليٌّ؛ فقد لام عليٌّ نفسُه عثمان في أمر الولاة، فاحتج عثمان بأن عمر قد ولى المغيرة بن شعبة الكوفة، والمغيرة بن شعبة ليس هناك، وبأن عمر قد ولى معاوية، فقال له علي: إن عمر كان يراقب ولاته ويخيفهم، وإن ولاتك يستبدون بالأمر من دونك، ويصدرون الأمر من عند أنفسهم ويحملونه عليك فلا تستطيع له تغييرًا. فسيرة علي مع ولاته من بني عمه هي سيرة عمر، كان شديدًا عليهم مراقبًا لهم، لا يتحرج من عزلهم إن قصروا أو انحرفوا دون أن يكرهه على هذا العزل أحد، على حين لم يعزل عثمان واليًا من بني أمية وآل أبي معيط إلا حين أكرهته الأمصار على ذلك إكراهًا.

ومهما يكن من شيء فقد كانت رعية عثمان هي رعية عمر، لم تكد تتغير إلا قليلًا حتى تقدم الزمن بعثمان. وكانت سياسة عمر هي السياسة الوحيدة التي كانت تصلح لضبط هذه الرعية وتدبير أمرها وحملها على الجادة.

ولكن الناس كلهم لا يستطيعون أن يسيروا سيرة عمر؛ لأنهم لم يركبوا كما ركب، ولم يتح لهم ما أتيح لعمر من هذه الشدة التي لا تعرف هوادة في الحق، ولا تأخذها في العدل والمساواة لومة لائم. وكان عثمان نفسه يعرف ذلك حق المعرفة! فكان مرة يقول لمحدثيه إذا حضروا طعامه اللين: ومن ذا يطيق ما أطاق عمر! وكان مرة يقول للائميه في صلة رحمه من بيت المال: ومن لنا بمثل عمر، وكان مرة أخرى يقول لعائبيه من فوق منبر النبي: لقد وطئكم ابن الخطاب برجله وضربكم بيده وقمعكم بلسانه، فخفتموه ورضيتم منه بما لا ترضون مني؛ لأني كففت عنكم يدي ولساني. فهناك فرق خطير بين الرجلين في الطبيعة والمزاج وفي السن أيضًا، ولكن هذا الفرق أو هذه الفروق لم تكن وحدها مصدر الشر والفرقة، وإنما كان للشر والفرقة مصادر أخرى لم يكن عثمان يستطيع لها تغييرًا. وسنرى بعض هذه المصادر فيما سنستأنف من الحديث.

١  تاريخ الطبري في أحداث سنة خمس وثلاثين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤