نفس عارية١

«لا، إني لا أريد أن أكون سعيدًا، لا أريد اطمئنان النفس وراحة البال، وإني لأسعى دءوبًا إلى الشقاء والعناء والتعب، وأبحث عن أسباب البؤس والنكد؛ كذبٌ كله هذا الذي يكتبونه في الكتب ويعظون به في المحافل عن طلب الإنسان لسعادة نفسه، إنهم لا يعلمون عن النفس الإنسانية شيئًا أولئك الذين يحسبون الناس جادين في طلب السعادة وراحة البال، ويظنونهم جادِّين حقًّا في التماس الرفاهية والخير.

إني أريد لنفسي الألم، وأريده للناس؛ أريد لها ولهم أن يتعذبوا، ومنافق أنا مع سائر المنافقين حين أدَّعي بهتانًا وزورًا أنني كاره حقًّا للألم ينزل بي، وبالناس، ويشتملني ويشتملهم جسدًا وروحًا … إنني لن أنسى أبد الدهر ذلك الطفل الذي رأيته مرة يبكي على لعبة أفسدتها له أخته، فجاءت أمه تمسح له الدموع عن عينيه، وترضيه بحلو كلامها، فقال لها وهو يدفعها عنه بيديه الصغيرتين غاضبًا: عني لا تمسحي دموعي؛ لأنني أريد أن أبكي ولا أستطيع البكاء بغير دموع … لن أنسى أبد الدهر ذلك الطفل الذي أصاب من حقيقة النفس الإنسانية بفطرته الشفافة، ما لم يصبه أصحاب الكتب والمواعظ الذين قد راءوا حتى أفسدهم الرياء، ونافقوا حتى أنساهم النفاق أنهم منافقون. إنَّ الإنسان يريد أن يتألم ويبكي، ويبحث في الخفاء عما يثير فيه ذلك الألم وهذا البكاء، وكذبٌ كله هذا الذي يقولونه ويكتبونه من أن الإنسان ينشُد لنفسه وللناس راحة وطمأنينة وسعادة.

أنظر إلى هذه القطعة من الحلوى، قد وُضعت لي على المائدة منذ أمس، وهممتُ أن آكلها مرات عدة في غضون النهار، ثم أمسكت لأنني آثرت لنفسي الحرمان …»

بمثل هذه الدفعة العجيبة راح صديقي يحدثني عندما زرته فوجدته في داره وحيدًا، فلا أمه هناك ولا خادمته، وكانت الدار مغلقة النوافذ، والضوء فيها قبيل الغروب خافتًا بين الظلام والنور.

فتح لي الباب ولم يفرح للقائي كعادته؛ لأنه — فيما بدا لي — قد كان يريد الوحدة، بل لم يكفه أن يكون في الدار وحيدًا، فانتبذ من داره هذه الخالية ركنًا أبعد ما تكون أرجاؤها عن مصادر الضوء والصوت، كان في مستطاعه أن يضيء المصباح وأن يدير المذياع، لكنه لم يفعل.

وجلست إلى جواره فيما هو أشبه بظلام الليل منه إلى ضوء النهار، لا أجرؤ على إضاءة هذا المصباح لأني ضيفه، وليس للضيف أن يغير من أوضاع الدار التي تضيفه، أو أن يلاحظ عليها شيئًا إلا أن يكون استحسانًا ومدحًا. وظل هو إلى جانبي صامتًا يفرك يديه، ويطقطق أصابعه، ولم يمنعني خفوت الضوء من رؤية شفتيه الراجفتين وعينيه البارقتين وأطرافه المختلجة.

فقلت له: لستُ أراك في وحدتك هذه سعيدًا.

فاندفع يجيبني متدفقًا بالعبارة التي أسلفت بعضها: «لا، إني لا أريد أن أكون سعيدًا …»

وانتهزتُ لحظةً قصيرة وقف فيها تياره الدافق، وقلت: هل لك أن تذكر لي ما حدث لك اليوم حتى أتعقب ثورتك هذه إلى أصولها؟ وسترى عندئذٍ أنها ثورةٌ مؤقتة مرهونة بأسبابها، حتى إذا ما زالت الأسباب، عاد إلى النفس هدوءها وصفاؤها؛ فالأصل في الإنسان أن يكون هادئًا ساكنًا سعيدًا، والشذوذ أن يضطرب ويشقى.

فقاطعني قائلًا: هذا حديث شاعرٍ يسبح في أحلامه الجميلة مغمض العينين، أَوْلى لك أن تصيح بالرياح: أن اسكتي يا رياح حتى يهدأ البحر فلا يموج، أو أن تهتف بالشمس ساعة غروب جميل أن قفي يا شمس حتى لا يغيب عنا هذا الجمال … إن مثيرات النفس قائمة لنا في كل خطوة من الطريق وفي كل منعطف بها؛ سرْ هنا فهنا ما يثيرك، وسرْ هناك فهناك ما يثيرك، ومِلْ نحو اليمين أو مل نحو اليسار، تجد مثيرات النفس تتلقفك يمينًا ويسارًا، فماذا أنت صانع إذا أردت لنفسك الطمأنينة والهدوء؟ بل ارجع إلى دارك وغلِّق من دونك بابها ونوافذها كما تراني أفعل الآن، وستلاحقك المثيرات، حين تستعيد بالذاكرة ما رأيتَ وما سمعتَ، وحين تضيف إلى كل هذا الذي قد رأيته وسمعته جديدًا من عندك تُسِرُّ به إلى نفسك.

فسألته: ماذا تعني؟

فقال: ألم تلحظ في نفسك كيف تتوهم بخيالك أنك تتحدث إلى فلان أو علان، فيقول لك كذا فتقول له كيت، ويفعل كذا فتفعل كيت، وما تزالان — في خيالك — تتخاصمان بالقول وتتقاتلان بالفعل، حتى تنظر، فإذا أنت قد احتدمت في نفسك الثورة واشتد بك الغضب؟

فقلت: كأنما عداوات العالم الواقع لم تكفِنا فنزيدها بخيالنا عداوة، وكأنما مثيرات الدنيا من حولنا لم تُشبع نفوسنا، فألهبناها بأوهامنا حرارة وسعيرًا.

فقال — وقد هدأ بعض الشيء — نعم … لكن الخير كل الخير في أن تنكشف للناس هذه الخواطر الدفينة، حتى يعلموا حقائق نفوسهم وما يدور فيها، إنك قد تقاتل خصمك في خيالك قتالًا ينتهي بك فعلًا إلى غضبةٍ حقيقية تندفع معها إلى الأخذ بالانتقام والثأر … أليس جديرًا بالناس أحيانًا أن يضعوا نفوسهم عارية أمامهم لا يحجب مكنونَها حجابٌ، فلعل ذلك يفتح أعينهم على حقائق يجهلونها فيحوِّرون من سلوكهم بعضهم إزاء بعض بما قد يحدُّ من هذه الضغائن والسخائم التي يكتمونها في أنفسهم كارهين.

وصمت صديقي قليلًا ثم قال: ولماذا لا أبدأ بنفسي؟ هذه هي نفسي أضعها أمامك عارية كما وجدتُها طوال ساعات العصر — لن أستحي من مكنونها وخبيئها مهما يكن خبيثًا، فكل الناس هذا الخبيث — لكنه الرياء يستر ويخفي …

رأيت ظُهر اليوم طفلًا أمام الدار يلعب «بالنحلة» فيلف طرف الخيط حول نحلته الخشبية، ثم يقذف بها، فتدور النحلة على سنها فوق بلاط الإفريز دورانًا شديدًا، لكن الطفل يخشى على دورانها الفتور والضعف، فيظل يضربها بعذبة سوطه ضربًا متلاحقًا، حتى تدور ولا تكف عن الدوران. وعدت إلى هنا، فما هو إلا أن تنزو بنفسي الخواطر المثيرة، إذ صورت لنفسي فلانًا وقد قذف بي على الأرض قذف الطفل لنحلته، وراح يلهبني بعذبات سياطه حتى أدور ولا أكف عن الدوران لنفعه هو ومتعته، ولا عليه أن أدوخ وأتعب.

إنني تلك النحلة الدائرة لمتعة غيرها، أُضرب بالسياط لئلا أقف فتنقطع متعة المتمتعين — لا تَقُل إنه وهمك وخيالك؛ لأنه عندئذٍ لا فرق بين حقيقة وخيال، فانطلقت خواطري متلاحقة، ساعات العصر سوداء قاتمة، كأنها أسراب الغربان تحوم في الهواء سابحةً متعاقبة، ثم تدور دورتها لتعود من جديد … انطلقت خواطري السوداء متلاحقة فلا أرى الناس إلا معذِّبًا بعضهم بعضًا — كذب ونفاقٌ هذا الذي يكتبونه في الكتب ويعظون به في المحافل من أن الإنسان يرجو لغيره الراحة والخير، فأنت مشاهِد في كل خطوة تخطوها وفي كل ثنية ينعرج بك الطريق فيها، دليلًا شاهدًا على أن الناس يمقت بعضهم بعضًا ويوقع بعضهم ببعض الضر والأذى.

وخطر لي خاطر عجيب، وهو أن أمزق كتبًا عندي تمتلئ صفحاتها بمثل هذا الكذب الذي يكتبه الكاتبون على سبيل الوعظ والتقويم، أو لستُ أدري لماذا يكتبونه وهم يعلمون أنه كذب، أو لعلهم لا يعلمون.

لكن خاطر التمزيق لم يكد يطوف برأسي، حتى اشتدت سرعة الخواطر الهدَّامة المشتعلة بالحقد والانتقام؛ رأيت نفسي أنتظر حتى ينسدل ظلام الليل، فأتخفى تحت ستاره وأقصد إلى دار خصمي الذي يبتسم لي رياءً، والذي تصوَّرته يضربني بعذبة سوطه لأدور كما كان الصبي يضرب نحلته على بلاط الإفريز؛ أقصد إلى دار خصمي ذاك فأشعل فيها النار ثم أجري إلى التليفون القريب لأنادي رجال المطافئ، والعجيب أني استشعرتُ الراحة للصورتين معًا: لصورة النار أشعلها انتقامًا، ولصورة الشهامة أبديها في محاولة الإنقاذ …

قلت لصديقي: ليس عليك من بأس، فأنت خير حالًا من شيطانة دوستويفسكي؛ لأنك هدمت وأصلحت، أما هي …

فسألني: وما شيطانة دوستويفسكي؟

فقلت: هي «ليز» الفتاة التي أحبت «أليوشا» في قصة الإخوان كارامازوف، ثم أخذتها هذه الدفعة الجامحة نحو ارتكاب الشر وإيقاع الأذى حتى بنفسها، فأرسلت إلى «أليوشا» — وهو الشاب المتبتل الورع — فلما سألها: ماذا تريدين؟ قالت: أردت أن أعبِّر لك عن شوقٍ شديد بنفسي، وهو أن يتزوجني زوج ليعذبني ثم يخدعني ويفر عني هاربًا، إني لا أريد أن أكون سعيدة.

فقال لها «أليوشا»: أتنشدين السوء؟ فأجابته: أن نعم، وما أنفكُّ راغبة في إشعال النار في بيتي، بحيث لا يدرك الناس الخطر إلا بعد فوات الأوان فيحترق كل شيء.

قال صديقي — وقد اطمأن نفْسًا أن يرى النَّاس في ذلك سواء: يظهر أنَّ هنالك لحظات يحب الإنسان فيها ارتكاب الشر وينزع إلى الجريمة، ليس الناس ملائكة ولا قديسين، لكن ما الذي دفع «ليز» في قصة دستويفسكي أن تنزع إلى هذا الشر كله؟

فقلت: لعله مرضها؛ كانت كسيحة ثم برئت، لكنها لم تبرأ كل البرء، فربما أشعلت العلة في نفسها نار الحقد والرغبة في الانتقام.

قال: انتقام ممن؟! لقد أرادت أن تشعل النار في دارها هي، فهي الخاسرة.

قلت: نعم، هذا هو الإنسان وهذه هي طبيعته، يشتدُّ به الضيق فيشق ثيابه ويمزقها، ويضرب رأسه في الجدار ليتورَّم، بل قد يُزهِق نفسه بيديه … لقد ضاقت «ليز» نفْسًا حتى طردت حبيبها من الدار، وأغلقت الباب على إصبعها عامدة، ثم أخرجت إصبعها وهو ينز بالدم من أسفل الظفر، فراحت تتأوَّه من الألم وتفرح في دخيلة نفسها أن أوقعت بنفسها ذلك الألم … إنه الإنسان وطبيعته، يضيق نفسًا فيُنزل الأذى بالناس وبنفسه.

هنا قام صديقي وأنار مصباحه — وكان الظلام قد اشتد سواده — وعاد إلى مكانه منبسط الجبين، كأنما اطمأن على نفسه من شذوذٍ ظنَّه بها، وقال: لو لم تكن «ليز» مريضة لما أحدثت شرًّا ولا اقترفت إثمًا، فماذا أنت قائل فيمن نزل بهم المرض مضافًا إليه عُريٌ وجوعٌ وتشريدٌ؟

١  كُتبتْ بمناسبة حريق القاهرة التي شبَّت يوم ٢٦ يناير سنة ١٩٥٢م.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤