ندوة الخميس

لو كان الله قد أتاح لندوة الخميس التي تنعقد في دار لجنة التأليف والترجمة والنشر كل أسبوع، والتي لبثتْ على هذا النحو قرابة أربعين عامًا، وكثيرًا ما ضمت نفرًا من أئمة الأدب وقادة الفكر في مصر، بل وفي بعض الشقيقات العربية أحيانًا؛ أقول لو كان الله قد أتاح لهذه الندوة عاملين: عنصر المرأة المثقفة والقلم الذي يسجل، لكان لنا بذلك «صالون» أدبي قل أن يكون له نظير، ثم لكان لنا كذلك ديوان من أخصب دواوين الأدب والفكر المعاصرين، فالحديث في هذه الندوة يجري على غير نسق معلوم، ولا يتقيد المتحدثون فيه بشيء من التحفُّظ والتزمُّت اللذين يلازمان الكاتب إذا كتب للناس؛ ولذلك تراهم يرسلون أنفسهم إرسالًا، هو أصدق ما يعبر عن خواطرهم ومشاعرهم، وهو بالتالي — لو رصده الراصد — مرآةٌ لجانب حيٍّ من حياتنا الفكرية والأدبية على السواء.

وسأسوق للقارئ هنا خلاصة لحديث الندوة يوم الخميس الرابع من شهر أكتوبر عام ١٩٥٢م، ذاكرًا من أسماء المتحدثين أحرفها الأولى؛ لأني لم أستأذنهم في هذا النشر، على أنني إذا استطعت أن أنقل أمهات الأفكار التي دارت في الحديث، فلست بمستطيع أن أبث خلال ذلك ما يسود المجتمِعين في هذه الندوة دائمًا من روح الفكاهة العابرة أحيانًا، والساخرة أحيانًا، فكأنما أنقل للقارئ هنا «رأسًا» بغير «قلب»، و«عقلًا» بغير «وجدان». إنني أسوق هنا إطارًا، وللقارئ أن يملأه بما يسعفه به خياله من نبضات الحياة.

أ : زارنا في هذه الندوة أديب صيني منذ سنوات، وأراد أن يعلم شيئًا عن الاتجاهات الأدبية في مصر، فسأل عن كبار الأدباء الذين يكتبون الأدب «الكلاسيكي» — إذا صحت هذه الكلمة — ثم سأل عمن يكتبون للجمهور ويتصلون به اتصالًا مباشرًا، وعجب وأسِف حين أنبأناه أن ليس بين أدبائنا من يتصل بالجمهور الشعبي هذا الاتصال المباشر الذي يريد.
ت : إنه كان على خطأ؛ لأن الأديب الحق لا يتصل أبدًا بغمار الناس اتصالًا مباشرًا، إن هذا الاتصال المباشر مهمة الصحفي لا الأديب، وينبغي أن نفرق بينهما تفرقة واضحة.
ح : لماذا لا نقول عن «م. أ» وأمثاله من «الصحفيين» إنهم هم الأدباء الشعبيون؟ إنهم يكتبون في جرأة تلفت لهم أنظار الناس.
ن : ومن الذي هيأ لهم هذا الجو الذي يستطيعون أن يكتبوا فيه بهذه الجرأة التي تستوقف لهم معظم الجمهور القارئ؟ الذي هيأ لهم هذا الجو هم أدباء ممن يعينهم الأستاذ «ت».
أ : يظهر أننا قد وصلنا إلى شيء من التحديد، فالأديب يخلق الجو الفكري، والصحفي يكتب في هذا الجو الجديد لجمهور القراء، فيتصل بهم اتصالًا مباشرًا.
ت : هذا صحيح، فالتأثير في الناس يتم على درجتين: الأديب يؤثر في الصحفيين ومن إليهم من الكُتاب، وهؤلاء يكون لهم التأثير المباشر، والأمر في ذلك شبيه بأستاذ الجامعة الذي لا يتصل بتلاميذ المدارس الابتدائية والثانوية، إنما يخلق الشبان الذين يكون لهم هذا الاتصال، وهذا الاتصال بطبيعة الحال يجيء في نفس الجو الفكري الذي نقله الشبان عن أستاذ الجامعة.
ن : أظن أن هذا هو المقصود دائمًا «بتأثير» الأدب في الناس، أعني أن الأديب الكبير دائمًا ينحصر تأثيره في الطبقة المستنيرة وحدها، ومن هذه الطبقة ينتقل الأثر إلى من دونهم، فلا أظن — مثلًا — أن برنارد شو يقرؤه الفلاح والعامل في إنجلترا.
م : وماذا تقولون في شكسبير الذي كان يعرض مسرحياته على طبقات الشعب رأسًا، وفي هومر الذي كان ينشد أشعاره في حلقات من الجماهير الدنيا؟ أليس ذلك دليلًا على أن الأديب بأعلى معانيه، قد يكون اتصاله بالشعب مباشرًا وبغير واسطة؟
ت : لا، ليس ذلك بدليل على هذا، فلئن كانت طبقات الشعب قد استمعت لهومر أو شكسبير، فما ذاك إلا لأنه لم يكن لديهم من يستمعون إليه غير هؤلاء، ولو وجدت لهم الصحافة أو ما يشبهها من الكتابة، لانصرفوا عنهم إليها — أتظن أن امرأ القيس حين كان يقول شعره في الناس كان يفهم عنه من الناس إلا القلة المستنيرة؟ لقد كان الناس يقولون عنه إنه مجنون! أتظن أن المتنبي ومثاله كانوا يهدفون بأشعارهم إلى غير حاشية الحاكمين؟ فإن استمع الناس لما ينشده امرؤ القيس والمتنبي، فلأنه لم يكن هناك من يستمعون إليه عن فهم، أما الآن فقد تغير الموقف، إذ وجد المقروء الذي يصلح للشعب إلى جانب الأدب الرفيع، فاقتصر الأدب الرفيع على الطبقة المستنيرة، وقصد الشعب إلى حيث يفهم ويتأثر.
ن : يخيل إليَّ أن «الطبقة المستنيرة» عبارة تريد شيئًا من التحديد، من أهم أفراد هذه الطبقة؟
ت : نستطيع أن نقول إنهم خريجو الجامعات ومن إليهم.
م : أظن أن الأمر هنا لا يتوقف على التعليم الجامعي: فالطبقة المستنيرة هي أولئك الذين يتغذون بالأفكار، فلا تناقض بين أن يكون الشخص بائعًا في متجر أو عاملًا في مصنع، لكنه إذا ما فرغ من عمله التمس الأفكار النظرية في الكتب أو المحاضرات — وأمثال هؤلاء كثيرون في أوروبا — وعندئذٍ نقول عنهم إنهم من «الطبقة المستنيرة».
ن : ستيفن سبندر له مقالة في مجلة إنجليزية صدرت الشهر الماضي، يحاول فيها تحديد الطبقة المستنيرة، ويكاد يشترط للداخل فيها أن يكون كاتبًا؛ ليعبر بكتابته عن فكره.
أ : وماذا يقول مثل هذا الكاتب الذي يعبر عن فكره؟ هل ينبغي أن ينصرف إلى الكتابة فيما يُصلح المجتمع، أم الأمر مقصور على مجرد التعبير؟ بعبارة أخرى: هل يجب على الكاتب أن يلتزم حدود الأخلاق فيما يكتب؟
ت : لا، لا شأن للأديب بالمعايير الخلقية، إنه يفكر ويعبر، ومقياسه الجمال وحده؛ ولذلك تسمعهم يقولون لك عن بعض الأدباء إنهم كانوا في مجتمعهم كالأفاعي تنفث السموم، أي أنهم كانوا يفتُّون في بناء المجتمع، ومع ذلك فهم أدباء، الحقيقة أن الأديب الحق كالنحلة تعطيك الشهد، لكنها قد تلسع.
ن : إن مجرد ذكرنا لكلمتي «السموم» و«اللسع» يبين أننا ما زلنا متأثرين في تقدير الأدب بمعيار المصلح الاجتماعي، والأدب الخالص لا يهدف إلى الإصلاح الاجتماعي المباشر، ولا يقاس بمقياسه.
ت : هذا صحيح، لكنك من ناحية أخرى تستطيع أن تقول إن الهدف في النهاية البعيدة هو هذا الإصلاح المنشود، فحتى الذين يكتبون أدبًا مكشوفًا عن الشئون الجنسية، يريدون أن يضعوا تحت أعين الناس حقائق قد أغمضوا أعينهم عنها على خطرها وأهميتها، هذا د. ﻫ. لورنس يرى الناس في إنجلترا قد أهملوا غرائزهم إلى حد الخطورة، فراح بكتابته في تمجيد الغريزة الجنسية السليمة ينبه الناس إلى ما قد غفلوا عنه. إن الرجل إذا ما تحفظ في طعامه تحفظًا يؤذي معدته بحيث لا تعود صالحة إلا لهضم «اللبن الزبادي» هو بحاجة إلى من يستثير شهيته للطعام بالتوابل القوية، ولورنس كان في مجال الغريزة الجنسية عند الطبقة المستنيرة أشبه شيء بالتوابل التي تحرك الغريزة السليمة.
ن : الغريب في هذا هو أن الطبقة المستنيرة في إنجلترا انتقلت في نظرتها إلى الأمور الجنسية من النقيض إلى النقيض، كان «المستنير» في العصر الفكتوري (القرن ١٩) يستبشع كل ما له اتصال بهذه الأمور من بعيد أو قريب، وأصبح «المستنير» في هذه الأيام أقرب إلى العقيدة بأنها لا تقل ولا تزيد عن سائر ضرورات العيش التي لا ينبغي أن يكون فيها شيء من الخجل، ولعل هذا الانتقال قد جاء بسبب ما كتبه لورنس ومن إليه.
أ : إن العرب لم يقولوا أدبًا عن الطبيعة فيه جِدة.
ز : لماذا تعيبون على العرب أنهم لم يقولوا عن الطبيعة جديدًا والطبيعة نفسها لم تخلق الجديد، فالأزهار العطرة ما تزال هي الأزهار العطرة …
ش : أراك بذلك تخاف كلمة أذعتها عن الجديد والقديم.
ز : وهل من شك في أننا لا بد أن نُبقي من القديم على الطيب؟
ن : على شرط أن نحدد ما هو «الطيب» — ماذا نعده طيبًا؟
ز : هو المشهور المعروف بأنه كذلك، فشعر المتنبي «طيب».
ن : لا يكون طيبًا إلا إذا وافق عليه الناقد الأوروبي الحديث بمعياره في فهم الشعر وتقديره.
ز : أنا لا أنتظر الناقد الأوروبي الحديث ليحدد لي ما أطرب له — أنا أقرأ شعر المتنبي وأطرب له، وفي هذا الكفاية.
ن : وإذًا فلا بد أن تعطي هذا الحق لساكن الأدغال حين يطرب لضربات «الدربكة» لأنه هو الآخر يستطيع أن يقول: إني أطرب لهذه الضربات وفي هذا الكفاية … الأمر نسبي في كل ما يتعلق بالمدنية إذا استثنيت العلوم وحدها، فما يعد «طيبًا» هو ما يعده أهل المدنية القائمة كذلك، وقد يتغير الأمر بعد كذا من السنين، فتعد عوامل المدنية القائمة الآن علامة همجية عندئذٍ …
أ (وقد أمسك كتابًا في يده) : هذا كتاب كتبه أوروبي عن «إقبال» فهل يكون ذلك إلا دليلًا على أنه قدره حق قدره بغض النظر عن عصره؟
ن : وهذا ما أقوله، فالمتنبي شاعر يعد من يطرب له «متمدنًا» لو وافق عليه نقدة هذه المدنية القائمة، وإلا فهو ليس كذلك بالنسبة لهذه المدنية أيضًا، فالقديم الذي يستطيبه أصحاب الرأي من أهل العصر الحاضر، هو الذي يدخل في جملة العناصر التي لا بأس في أخذها والإبقاء عليها.
أ : أنا أطرب للمتنبي وأعدُّه شاعرًا عظيمًا، و«نيكلسن» لم يعجبه شعر المتنبي، فماذا تقول؟
ن : الأقرب منكما إلى تشرب روح هذا العصر وذوقه في الأدب هو الذي يعبر برأيه عن رأي العصر وذوقه.
د : قل لي، هل تطربك أنت موسيقى فاجنر؟
ن : إذا لم أطرب لها فلأني لم أنشأ النشأة الصحيحة، فالعيب عيبي أنا، ولا أعد في هذه الناحية بين المتمدنين؛ لأنني لو أصررت على أن الأمر متوقف على ما أطرب له، بغض النظر عن أهل المدنية الحاضرة هل يطربون معي أولا يطربون، فلا بد كذلك أن أعطي أهل الغابات هذا الحق نفسه حين يفضلون «الدربكة» على فاجنر.
أ : أو ليست «الدربكة» خيرًا من موسيقى «الجاز» التي يطرب لها أهل هذا الزمان؟
ن : ولو أخذ العالم المتمدن بهذه «الدربكة» نفسها لانتقلت إلى عناصر المدنية، الأمر كما قلت اعتباري صرف، والعبرة بما يقوله أهل الخبرة الذوقية في كل عصر.
ز : لقد التقيت اليوم مع صديق قصَّ عليَّ قصة فتاة فرطت في نفسها فثار عليها أهلها، وكان هذا الصديق ساخطًا على هؤلاء الناس الذين يتدخلون في شأن الفتاة، فهي وحدها المسئولة عن نفسها ما دامت قد بلغت الحادية والعشرين؛ أي أنه يريد لنا أخلاق أوروبا في ذلك.
ن : وما وجه الخطأ في ذلك؟ إن كانت هذه هي «أخلاق» المدنية الحاضرة، فهل يعيبها أنها ليست «كأخلاق» المدنيات السابقة؟ إن المقياس هو ما يقرره أهل هذا الزمان لا أهل الأزمان الماضية.
أ : وجه الخطأ هو أن هذا فساد محقق.
ن : الفساد هو ما يخرج على ما تواضع عليه أهل الزمن المعين، وقد يصبح فسادُ زمن صلاحَ زمن آخر ثم يعود فسادًا، وهكذا تتغير النظرة مع تغير ظروف العصر. الحكم على السلوك بالصلاح أو الفساد في عصر ما، متوقف على هذا السؤال فيه: هل يسود هذا السلوك في هذا العصر المعين أو لا يسود؟
أ : وهل تريد أن يكون الشرق كالغرب فيما يسود وما لا يسود؟
ن : ليست التفرقة بين شرق وغرب، وإنما تكون التفرقة بين من أخذ بنصيب من المدنية ومن لم يأخذ.

وانفضت عند هذا ندوة الخميس.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤