سُلَّم القيم

ليست قيمة الشيء كائنة فيه جزءًا منه، كما تكون عقارب هذه الساعة التي أمامي جزءًا منها يتصل وينفصل، إنما تنشأ قيمة الشيء عن علاقتنا به، فنحن الذين نجعل للأشياء قيمتها، مهما يكن نوع تلك القيمة، اقتصادية أو خلقية أو جمالية، صادرين في تقويمنا للأشياء عن مصالحنا الذاتية، فما يخدم لنا صالحًا كان له من القيمة بمقدار ما يخدم؛ ولذلك ترانا ندرِّج الأشياء المختلفة التي تشبع فينا حاجة أو غرضًا، ندرِّجها في سُلَّم متفاوت من القيم، حسب تفاوتها في إشباعها لحاجاتنا وتحقيقها لأغراضنا.

لهذا قد تجعل للشيء قيمة في موضعٍ معين أو سياقٍ معلوم، حتى إذا ما تغير موضعه أو اختلف سياقه، فقدَ قيمته، وكلنا قد قرأ إبَّان الطفولة قصة المسافر الذي انقطع به الطريق في الصحراء، وقد فرغ منه الزاد وكاد الجوع أن يهلكه، فراح يخبط في سيره يمينًا ويسارًا حتى وقعت عيناه على صُرَّةٍ ملقاة ظنها طعامًا، فأخذته نشوة من الفرح ردت إليه الأمل في الحياة، لكنه فتحها بيدٍ مرتعشة ليجدها مليئة بالدر والجوهر، فألقى بمكنونها «النفيس» في يأسٍ وقنوط؛ إذ لم تكن لذلك الدر والجوهر عندئذٍ قيمةُ رغيفٍ واحدٍ من الخبز.

ويصدق هذا الكلام على القيم الأخلاقية والجمالية صدقه على القيمة الاقتصادية، فالفعل فضيلة أو رذيلة حسب ما يقوم به ذلك الفعل في نهاية الأمر بتهيئة أسعد حياة ممكنة لأكبر عدد ممكن من الناس، وليس في الفعل ذاته — كائنًا ما كان — شيء يجعله فضيلة أو رذيلة بغض النظر عن الظروف المحيطة به، حتى ليحدثنا علماء الأجناس البشرية بأنه ما من فعل يطوف بخيالك، إلا وجدته هو نفسه فضيلة عند بعض القبائل وفي بعض العصور، ورذيلة عند قبائل أخرى وفي عصور أخرى.

كان الرق فعلًا مباحًا فيما مضى فأصبح محظورًا محرَّمًا، كانت الطاعة العمياء لولي الأمر عبادةً أيام بناء الهرم الأكبر، فأصبحت عبودية تضع الدساتير لها قيودًا وحدودًا، كان الثأر واجبًا لا مندوحة لأفراد الأسرة أو القبيلة عن أخذه بأيديهم عاجلًا أو آجلًا، فأصبح علامة على الهمجية التي يقف في وجهها القانون، وهكذا وهكذا مما لا يكاد يحصيه عدٌّ من الأفعال والأوضاع.

وحتى حين يحكم فريق من الناس في عصرٍ معين على فعل بأنه خير، فهم لا يقصدون بالخير إلا صورة الفعل كما تبدو حركاتها الجسدية في عين الرائي، بل يقصدون إلى ما يترتب على ذلك الفعل من نتائج جالبة للعيش الرخيِّ السعيد، وإلا فلن تجد فرقًا في الصورة الحركية الظاهرة لفعل الشجاعة وفعل الجُبن: كلاهما مشي أو جري، الشجاع يمشي نحو عدوه أو يجري، والجبان يمشي مبعدًا عن عدوه أو يجري، لكن المشي أو الجري في الحالة الأولى ينتج نتائج نسعى إليها ونرضاها، وهو في الحالة الأخرى يعود علينا بما لا نحبه أو نبتغيه.

كذلك قل في القيمة الجمالية: فالشيء الذي نقول عنه إنه جميل، قد يكون شديد الشبه جدًّا في صورته الخارجية بالشيء الذي نقول عنه إنه قبيح؛ لأن جمال الجميل وقبح القبيح ليس كائنًا في الشيء ذاته، وإنما ينبعث من نظرتنا الذاتية لهذا وذاك، وإلا فما الفرق في الصورة بين ثدي «جميل» على صدر فتاة ناهد، وبين ورم «قبيح» على عنقها؟ وما الفرق بين ماء الشلال الدافق حين تنظر إليه ساعة التنزه، وبينه حين تنظر إليه وطفلك غارق فيه؟ لا فرق إلا ما تحدده أهواؤنا ومصالحنا الشخصية الذاتية.

أهواؤنا ومصالحنا — إذًا — هي التي تملي ما النفيس وما الخسيس في تقدير القيمة الاقتصادية، وهي التي تملي ما الفضيلة وما الرذيلة في تقدير القيمة الخلقية، ثم هي كذلك التي تقرر ما الجميل وما القبيح في تقدير القيمة الجمالية — هذا رأي من الوضوح بحيث تعجب أشد العجب كيف وقع الخلاف في أمره بين رجال الفكر ونقَدة الفنون، فمن هؤلاء فريق يزعم أن فضيلة الفعل الفاضل، وجمال الشيء الجميل، كائن في الفعل نفسه أو الشيء نفسه، كما يكون التربيع في الشيء المربع والتدوير في الشيء المستدير، وتترتب على ذلك بالطبع نتيجة من أخطر النتائج، وهي ما كان فضيلة عند آبائنا وأجدادنا ينبغي أن يظل كذلك بالنسبة لنا وإلى أبد الآبدين.

تعجب أشد العجب أن تجد هذا الفريق من رجال الفكر وأصحاب النقد الفني، ينظر هذه النظرة الموضوعية في القيم، وإذا طالبت أحدهم أن يحلل لك الشيء موضوع الحكم إلى عناصره ليريك عنصرًا من بينها اسمه «فضيلة» أو عنصرًا اسمه «جمال»، فلا يجيبك إلا بنظرة ازدراء؛ لأنك تكون في رأيه «ماديًّا» ممقوتًا ذميمًا، وأما هو «فروحاني» لا يريد أن يرى الفضيلة بعينيه ويلمسها بيديه، أو أن يرى الجمال ويلمسه عنصرًا مستقلًّا قائمًا بذاته على النحو الذي يرى أو يلمس قطعة من النحاس أو الحديد، هو «روحاني» يكفيه أن يقول إن الفعل الفاضل فضيلته جزء منه، وإن الشيء الجميل جماله جزء منه، ولا بأس عنده في أن تكون هذه «الأجزاء» من أفاعيل السحر، نحكم بوجودها لكننا لا ندركها بحاسة من حواس «الماديين» الأجلاف الغلاظ.

ليقولوا في ذلك ما شاءت لهم مثاليتهم، وأما نحن فرأينا في قيم الأشياء والأفعال هو كما أسلفنا: فالأفعال والأشياء في ذاتها محايدة، ونحن الذين تضطرنا ظروف العيش أن نفضل فعلًا على فعل، حين نرى أن الفعل المفضل أضمن الفعلين طريقًا إلى الحياة السعيدة القوية لأكبر عدد من أفراد المجتمع، أو من أفراد الإنسانية قاطبة إن شئت.

فإذا تغيرت ظروف العيش، تغير في إثرها — أو وجب أن يتغير — سلم القيم، فما كان في أعيننا ذا قيمة قد يصبح ولا قيمة له؛ لأنه لم يعد هو وسيلة احتفاظنا بوجودنا — وإذا تغيرت ظروف الحياة ولم يتغير في إثرها سُلَّم القيم، كان الأرجح أن يظهر مُصلحٌ عظيم ينادي بالثورة أو الانقلاب، وما الثورة أو الانقلاب عندئذٍ إلا تحوير في تقويم الناس للأشياء بحيث يجيء التقويم متناسبًا مع ما تقتضيه الظروف القائمة.

إنه من سوء حظ الإنسان في تاريخه، أن ظروف حياته المادية تتغير بخطًى أسرع جدًّا مما تتطور به طريقته في تقدير قيم الأشياء والأفعال والأوضاع، فتظل طريقة التقدير متلكئة حتى تصبح كالثوب الضيق الممزق، ويصبح خلعه ضرورة محتومة، يراها صاحب النظر السليم وإن عارضه فيها سواد الناس، فإن استطاع هذا أن يغير من وجهة نظر الناس حتى يدركوا ما أدركه، كان هو المصلح الاجتماعي العظيم.

وأعتقد أننا في مثل هذا الموقف الآن: فظروفٌ اجتماعيةٌ واقتصادية تغيرت واشتد بها التغير، وسلمٌ للقيم باقٍ على حاله، وإذًا فالثورة الحقيقية التي نريدها، هي أن نقلب هذا السلم قلبًا تتغير معه أوضاع درجاته بنسبة بعضها لبعض، وعندئذٍ نجد أن درجاتٍ سُفلى ستعلو، ودرجات عُليا ستسفل.

كنا أمة زراعية رعوية، نشتغل بالزراعة اليدوية فنتخلق بأخلاقها، وإلى جانب ذلك ورثنا أخلاق الرعاة البدو عن آبائنا العرب، فكان لنا من هذا المزيج الزراعي الرعوي أساس تقويمنا لكل شيء، لكن الزراعة والرعي قد مستهما عجلات الآلات الصناعية، وللصناعة أخلاق غير أخلاق الزراعة والرعي، فلا بد لنا من ثوب جديد ليلائم الجو الجديد.

•••

لم يعد بُدٌّ في الحياة الجديدة من رفع قيمة العلم الطبيعي وخفض قيمة الوسائل الكلامية؛ لأن آلات المصانع لا يديرها الشِّعر المقفَّى ولا النثر المسجوع، فإن كانت الإبل في حياة البدو الرُّحل بحاجة إلى حداء الشاعر لتقطع الفلاة على حلو النغم، فإن القطار لا يستمع إلى غناء ولكنه يريد قضبانًا من حديد، والطائرة لا غنى لها عن محركات من الصلب الصليب، كان آباؤنا العرب يتنافسون في عكاظ كل عام ليروا أيهم أشعر من أخيه ليتقرر بذلك أي القبائل أعلى منزلة وأعز جانبًا، لكن ميدان التنافس اليوم كائن بين مخابير المعامل وأنابيبها وغازاتها وعناصرها؛ لأن الغلبة للسابق في إعداد الآلة، ولم تعد الغلبة كما كانت للشاعر المجيد وعشيرته.

نفتح كيس البريد الوارد إلى «الثقافة»١ فإذا نسبة الوارد هي عشر قصائد من الشعر مقابل مقالةٍ واحدة، وبين المقالات النثرية نفسها تجد نسبة البحوث الأدبية إلى البحوث العلمية عشرة إلى واحد أيضًا. أعني أن في كل مائة ممن يهتمون بالكتابة تسعين شاعرًا وتسعة من الأدباء الناثرين وعالمًا واحدًا، وربما تطيب هذه النسبة الثقافية في قبيلة بدوية أو في قرية زراعية تجرُّ المحراث بالأيدي، فتعمل ساعة وتستريح خمس ساعات تستمع خلالها لما ينشده الشعراء من شعر، لكن العالم قد تغير، وقيم الأشياء ينبغي كذلك أن تتغير تبعًا له.

ولا يزال لواء الحكم معقودًا عندنا — في أغلب الأحيان — للخطيب البليغ في تنميق اللفظ، القدير في رفع الصوت وخفضه، لا للعالم الإحصائي في شئون الدنيا الجارية من حرب واقتصاد، وحتى الكاتب الذي يكتب للناس في الصحف، تراه أميل إلى صب أسلوبه في قالب الخطابة الذي يؤثر في النفوس الساذجة، أكثر منه إلى مراعاة الدقة والأمانة في رصد الحقائق.

ولم يعد بدٌّ في الحياة الجديدة من رفع قيمة العامل بيديه وخفض قيمة المفكر النظري الذي يشطح بفكره في السماء ويأبى النزول إلى الأرض مع أبناء آدم وبناته، فالكفاءة العملية لا «شهادة الكفاءة» النظرية هي مقياس التقدير، ومضى العهد وانقضى الذي كان فيه التفكير النظري المجرد من القدرة على التطبيق من علامات التهذيب والسيادة.

ولم يعد بُدٌّ في الحياة الجديدة من تغيير النظر إلى المرأة تغييرًا كاملًا شاملًا، ولستُ أقصر حقها على ما تطالب به من فتح الأبواب أمامها على مصاريعها لتعمل إلى جانب الرجل وتنافسه، بل أزيد على ذلك نقطة أخرى أغفلها المطالبون للمرأة بحقوقها، وأراها جوهرية في تكامل شخصيتها تكاملًا يلائم روح العصر الجديد النشيط العامل، وتلك أن المرأة مسئولة عن نفسها، وليس المسئول أخًا لها أو والدًا كما كانت الحال أيام القبيلة، حين كانت المرأة وعاء يستولده الرجل ما شاء لنفسه من بنين وبنات.

عفة المرأة في الحياة البدائية هي الشغل الشاغل، وهي محور الأخلاق كلها، فإن سلمتْ كانت الأخلاق بخير، مهما يكن بعد ذلك بين الناس من تقتيل وسرقة ونهب ورشوة وفساد؛ وذلك لأن الغريزة الجنسية عندهم هي الهدف الوحيد الذي يحيون من أجله، وها نحن أولاء نسمع كل يوم صراخًا ينبعث من هنا وهناك خوفًا من «المدنية الغربية» لأنها تهدم الأخلاق! و«الأخلاق» عند الصارخين المستغيثين هي عفة المرأة ولا شيء غير ذلك، ظنًّا منهم أن المرأة عندنا أعف منها عندهم، أما أن يكون من الأخلاق ألا تسرق أموال الدولة وأنت قيِّم عليها، وألا ترفع أنصارك وأصهارك على حساب أصحاب الحق، وألا تجبُن عن التصريح برأيك حين تشعر بأنه الحق، وألا تسكت على ظلمٍ تراه، وألا تسطو على العاجزين في طعامهم، حين تستبيح لنفسك أكثر مما ينبغي لك، فيتبقى للعاجزين أقل مما ينبغي لهم … إلى آخر هذه القائمة الطويلة العريضة من «الأخلاق» بمعناها الصحيح، فليس ذلك كله عندهم بشيء مذكور ما دام «الحريم» مصونًا في الخدور.

لكن لم يعد بُدٌّ من إعادة النظر في سُلَّم القيم، لنعيد الموازنة السليمة بين درجاته، فنضيف إلى هذا «الخُلق» الواحد الذي صببنا عليه كل اهتمامنا، عددًا كبيرًا جدًّا من «الأخلاق» الأخرى التي ليس من اكتسابها بُدٌّ.

ولم يعد بُدٌّ في الحياة الجديدة أن تكون الفردية هي أساس كل تفكير سياسي واجتماعي، فليس زيدٌ زيدًا لأنه عضو في أسرة كذا أو قبيلة كذا، بل إن زيدًا زيدٌ لأنه زيد، على أن زيدًا وعمرًا وخالدًا كلهم سواءٌ في المادة الإنسانية وإن تفاوتت بينهم ألوان العمل وأقدار المال، فإذا تكلمنا عن جماعة بلُغَة الحياة القديمة قلنا هذه قبيلة كذا التي يرأسها فلان، أما إذا تكلمنا عن تلك الجماعة بلغة الحياة الراهنة وجب أن نقول: هذه جماعة قوامها فلان وفلان وفلان.

وبعدُ، فربما أكون قد أخطأتُ في التطبيق هنا أو هناك، أما المبدأ الذي أردتُ أن أقرره — وهو أننا في أشد الحاجة إلى تغيير نسبة القيم بعضها إلى بعض؛ ليكون لنا بذلك سُلمٌ جديد نهتدي به — فلستُ أحسب أنني قد أخطأتُ في تقريره.

١  كان الكاتب مشرفًا على تحرير مجلة الثقافة عند كتابة هذا المقال.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤