مكانته في الصناعة الشعرية

نشأ جميل نشأة أدبية صالحة لموطنه وعصره، وتخرج في مدرسة الشعر كأحسن ما يتخرج الشاعر بالحجاز في القرن الأول للهجرة، فكان — كما جاء في كتاب الأغاني — «راوية هدبة بن خشرم، وكان هدبة شاعرًا وراوية للحطيئة، وكان الحطيئة شاعرًا راويةً لزهير وابنه»، فاجتمعت له الرواية والشعر مسلسلة من أساتذة فحول مشهود لهم بين الرواة والشعراء.

وكان بعض المشهورين بعلم الشعر في زمنه يفضلونه على الشعراء كافة، ويقولون أنه أشعر أهل الإسلام والجاهلية.

فرُوي عن نُصيب الشاعر أنه قال: قدمت المدينة فسألت عن أعلم أهلها بالشعر فقيل لي: الوليد بن سعيد بن أبي سفيان الأسلمي، فوجدته بشعب سلع مع عبد الرحمن بن حسان وعبد الرحمن بن أزهر، فإنَّا لجلوس إذ طلع علينا رجل طويلُ بين المنكبين، طوال، يقود راحلة عليها بزة حسنة. فقال عبد الرحمن بن حسان لعبد الرحمن بن أزهر: يا أبا جبير، هذا جميل؛ فادعه لعله أن ينشدنا. فصاح به عبد الرحمن: هيا جميلُ! هيا جميلُ! فالتفت فقال: من هذا؟ فقال: أنا عبد الرحمن بن أزهر. فقال: قد علمت أنه لا يجترئ عليَّ إلا مثلك. فأتاه، فقال له: أنشدنا. فأنشدهم:

نحن منعنا يوم أوْل نساءنا

إلى آخر الأبيات … ثم قال له: أنشدنا هزجًا. فسأل: وما الهزج؟ لعله هذا القصير؟ قال: نعم. فأنشده:

رسم دار وقفتُ في طلله
كدت أقضي الحياة من جلله

حتى فرغ من القصيدة، ثم اقتاد راحلته موليًا.

«فقال ابن الأزهر: هذا أشعر أهل الإسلام. فقال ابن حسان: نعم والله، وأشعر أهل الجاهلية، والله ما لأحد منهم مثل هجائه ولا نسيبه. فقال عبد الرحمن بن الأزهر: صدقت!»

ثم قال نُصيب: وأنشدت الوليد فقال لي: أنت أشعر أهل جلدتك، والله ما زاد عليها.

ذلك رأي المتأدبين المشهود لهم بعلم الشعر في عصره، ولعلهم غلبوا فيه النظر إلى العشق والنسيب على النظر إلى فنون الشعر كله، ففي هذا — ولا ريب — مجال لمن يشاء أن يقدِّم جميلًا على شعراء الجاهلية وشعراء الإسلام إلى زمانه؛ إذ ليس في الجاهلية من اشتهر بالعشق والنسيب خاصة كما اشتهر بعض الشعراء في القرن الأول للهجرة، وليس في شعراء القرن الأول للهجرة من يرتفع على المقابلة بينه وبين جميل في أغراضه ومعانيه، فإذا قال القائل على هذا الاعتبار: إنَّ جميلًا أشعر أهل الإسلام والجاهلية، فليس في قوله غلو كبير، وإن جاز فيه الخلاف.

ومع تعدد الآراء في هذا يمكن الاتفاق على أنَّ جميلًا كان ملحوظ المكانة بين شعراء زمانه، وكان معترفًا له بالإجادة والأستاذية إلى ما بعد زمانه، كما يظهر ذلك من نظر الشعراء المبرزين إلى معانيه واقتباسهم من أقواله.

لقي الفرزدق كثيرًا بقارعة البلاط — بالمدينة — فقال له الفرزدق: يا أبا صخر، أنت أنسب العرب حين تقول:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثَّلُ لي ليلى بكل سبيل

يعرِّض له بسرقته من جميل؛ حيث يقول:

أريد لأنسى ذكرها فكأنما
تمثَّلُ لي ليلى على كل مرقب

فأجابه كثير: وأنت يا أبا فراس أفخر الناس حين تقول:

ترى الناس ما سرنا يسيرون خلفنا
وإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا

وهذا البيت أيضًا مسروق من قول جميل:

نسير أمام الناس والناس خلفنا
فإن نحن أومأنا إلى الناس وقَّفوا

وهذان شاعران بارزان من أبناء عصر جميل يعترفان فيما بينهما بالاقتباس من معاني جميل، وهو اقتباس لا يخلو من شهادة وإكبار ودلالة على مكانة ملحوظة بين الشعراء.

وقد بقيت له هذه المكانة إلى ما بعد عصره عند أناس من شعراء العصر العباسي في طبقة الفرزدق وكثير، فروي أنَّ ابن الحسين المهلبي لقي أبا العتاهية، فاستنشده من شعره فأنشده:

يا صاحب الروح ذي الأنفاس في البدن
بين النهار وبين الليل مرتهن
لقلما يتخطاك اختلافهما
حتى يفرق بين الروح والبدن
لتجذبنِّي يد الدنيا بقوتها
إلى المنايا وإن نازعتها رسني
لله دنيا أناس دائبين لها
قد أرتعوا في رياض الغي والفتن
كسائمات رواع تبتغي سمنًا
وحتفها لو درت في ذلك السمن

قال ابن الحسين المهلبي: فكتبتها ثم استنشدته من شعره في الغزل، فقال: يا ابن أخي، إنَّ الغزل يسرع إلى مثلك، فقلت له: أرجو عصمة الله — جل وعز — فأنشدني:

كأنها من حسنها درة
أخرجها اليمُّ إلى الساحل
كأنَّ في فيها وفي طرفها
سواحرًا أقبلن من بابل
لم يبق مني حبها ما خلا
حشاشة في بدن ناحل
يا من رأى قبلي قتيلًا بكى
من شدة الوجد على القاتل

فقلت له: يا أبا إسحاق، هذا قول صاحبنا جميل:

خليليَّ فيما عشتما هل رأيتما
قتيلًا بكى من حب قاتله قبلي

فقال: هو ذاك يا ابن أخي، وتبسم!

وأقل ما يدل عليه هذا وأشباهه أنَّ شعر جميل كان يقرأ ويستحسن ويقتدى به في معناه، وأنه ينال هذا الاستحسان عند فحول الشعراء فضلًا عن الشُّداة المبتدئين، وهذه مكانة «الأستاذية» لا مراء.

وقد يزكي هذه المكانة أنَّ الذين شهدوا بها كان بينهم أناس عرفوا بالخيلاء وشدة الاعتداد بالقدرة الشعرية بين النظراء، ومنهم من كان يستحمق لفرط خيلائه كالشاعر العاشق كثير، وهو أحرى الناس بمنافسه جميل.

فمن خيلائه أنَّ عمر بن أبي ربيعة والأحوص ونصيبًا اجتمعوا في مكان، فأرسلوا إليه راويته يدعونه إليهم، فأكبر الأمر وسأل صاحبه متبرمًا: أما كان عندك من المعرفة بي ما كان يردعك عن إتياني بمثل هذا؟ … قل لابن أبي ربيعة: إن كنت قرشيًّا فإني قرشي، وإن كنت شاعرًا فأنا أشعر منك … قال راويته: هذا إذا كان الحكم إليك. فقال: وإلى من هو؟ ومن أولى به مني؟ … ثم رجع الرسول إليهم فأخبرهم بما سمع منه، فضحكوا ثم نهضوا معه، فدخلوا عليه في خيمة، فوجدوه جالسًا على جلد كبش، فما أوسع لهم من مجلسه.

فهذا الشاعر على خيلائه كان لا يني قائمًا قاعدًا بالشهادة لجميل وتفضيله عن نفسه، حيث يسأل وحيث لا يسأل، وهو مزهوٌّ بالسماع منه والرواية عنه والتتلمذ عليه.

سأله نصيب: أجميل أنسب أم أنت؟ فقال: وهل وطأ لنا النسيب إلا جميل!

وسئل مرة أخرى فقال: وهل علم الله — عز وجل — ما تسمعون إلا منه؟

وربما نقلوا عن كثير في صدد إعجابه بجميل ما نستبعد صدقه سواء قاله أو لم يقله، كزعمهم أنه ذكر يومًا أنه يروي لجميل ثلاثين قصيدة لا يعرفها الناس، وأنه أمات له ألف قافية لينتحلها ويدعيها لنفسه؛ فإنَّ ميدان جميل لا يتسع لألف قافية تسرق، ولا لثلاثين قصيدة تسقط من جملة شعره، وهو محدود الأغراض متشابه الأنماط، وإنما يفهم من هذا الكلام — إن صدر من كثير — أنَّ فخره بالرواية عن جميل أكبر من فخره بشعره الذي ينسب إليه، ولولا مكانة جميل عنده وعند الناس لما وقع في خاطره وجرى على لسانه هذا الفخار.

ولا نحسب أنَّ أحدًا ناظر جميلًا على قصد منه — أو على غير قصد — كما ناظره عمر بن أبي ربيعة الذي كان كثير يستطيل عليه.

فقد كانت المناظرة بينهما طرائق متعددات لا طريقة واحدة، فكان كلاهما شاعرًا، وكلاهما مشهورًا بالنسيب، وكلاهما إمامًا لأمثاله من المتغزلين، فكان جميل في عصره إمام العشاق المقصورين على معشوقة واحدة، وكان عمر بن أبي ربيعة في عصره إمام المشغوفين بمغازلة النساء، وكانا فوق هذا التقابل في شتى الطرائق متقابلين في تمثيل البداوة والحضارة، وفي عزة النسب وعراقة الأصول، فهما متناظران يقترنان في الميزان كلما عرض الناقد لشعراء ذلك الزمان، وقد تلاقيا وتناشدا وقيل: إنَّ جميلًا سمع منه اللامية التي فيها:

جرى ناصح بالود بيني وبينها
فقربني يوم الحصاب إلى قتلي

فقال: هيهات يا أبا الخطاب! لا أقول والله مثل هذا سجيس الليالي، وما خاطب النساء مخاطبتك أحد، وقام مشمرًا.

ونميل نحن إلى قبول هذه الرواية؛ لأن الشاعرين قد تشابها في معانٍ هي أقرب إلى نمط ابن أبي ربيعة منها إلى نمط جميل.

فقال جميل:

إذا خدرت رجلي وقيل شفاؤها
دعاء حبيب كنت أنت دعائيا

وقال عمر:

إذا خدرت رجلي أبوح بذكرها
ليذهب عن رجلي الخدور فيذهب

وقال أيضًا:

أهيم بها في كل ممسى ومصبح
وأكثر دعواها إذا خدرت رجلي

وهو من القصيدة التي سمعها جميل وشهد من أجلها لعمر بالسبق في مخاطبة النساء، والبيت أقرب إلى كلام الذين تعودوا محادثة النساء منه إلى كلام العاشق المقصور على معشوقة واحدة، كذلك قال جميل:

وهما قالتا لو أنَّ جميلًا
عرض اليوم نظرة فرآنا
بينما ذاك منهما رأياني
أعمل النص سيره الزفيانا

وهو أشبه بقول عمر وبفعله أيضًا وخلائقه؛ حيث يقول:

بينما يذكرنني أبصرنني
دون قيد الميل يعدو بي الأغر
قلن تعرفن الفتى قلن نعم
قد عرفناه وهل يخفى القمر

وقد قيل: إنَّ عمر بن أبي ربيعة أنشد بثينة تلك الأبيات الثلاثة من كلام جميل فقالت: «إنه استملى منك فما أفلح، وقد قيل: اربط الحمار مع الفرس، فإن لم يتعلم من جريه تعلم من خلقه.»

ومن قصائد جميل المشهورة رائية مطلعها:

أغادٍ أخي من آل سلمى فمبكر
أَبِنْ لي أغادٍ أنت أم متهجِّر

وهو كمطلع عمر في قصيدته الرائية التي هي أفضل شعره؛ حيث قال:

أمن آل نعم أنت غادٍ فمبكر
غداة غد أم رائح فمهجّر

والقصيدة كلها مما قيل: إنَّ جميلًا سمعه من شعر عمر، فأقر له وأثنى عليه.

وفي الديوانين قطعة جيمية رويت لعمر ورويت لجميل، منها هذه الأبيات:

قالت وعيش أخي وحرمة والدي
لأنبهنَّ الحي إن لم تخرج
فخرجت خيفة قولها فتبسمت
فعلمت أنَّ يمينها لم تحرج
فلثمت فاها آخذًا بقرونها
شرب النزيف ببرد ماء الحشرج

وهو كلام فيه من عبث المجون والمماحكة بين عمر وصويحباته، وليس فيه من جد العشق الذي كان بين جميل وبثينة، ولا هو مما يوافق فخر جميل باقتحام المنازل والمناجزة لمن يترصدون له بالسيوف حول بيت بثينة، ومنهم أبوها وأخوها كما جاء في بعض الأخبار، وتكرر في سيرته على روايات مختلفات.

فالذي نرجحه أنَّ جميلًا كان يحب أن يحكي عمر في بعض ما قال، ولكننا لا نرجح هذا الترجيح لنخلص منه إلى تقديم عمر على جميل في الصناعة الشعرية، فهما فيها متكافئان يختلفان حينما اختلفا في المزاج والخليقة، ولا يدعو ذلك إلى تفضيل أحدهما على الآخر في صناعة النظم والتعبير، وإنما نحمل اقتباس جميل من عمر على اقتداء البدوي بأهل الحضارة حيثما كان وكانوا، ولا سيما إذا كان الحضري شاعرًا مقبول الشعر بين العلية والمترفين من أبناء المدينة وبناتها، وهم أهل الطبقة التي تروع من البدو خاصة من كان قريبًا إلى معيشة المدن غير منقطع لخشونة البادية، على مثال جميل.

•••

فهما إذن في الشعر ندان متكافئان، جميل وعمر بن أبي ربيعة. وقد خرجا معًا بالغزل كله من ناحيتيه في القرن الأول للهجرة بأرض الحجاز بين حاضرة وبادية، فلو زال شعر الغزل في تلك البيئة وفي ذلك العصر جميعًا، فلم يبق منه إلا ما نظم هذان الشاعران لأغنانا عن كل ما عداه في الدلالة على حالة المرأة وحالة النساء، كما ينعتها العاشق وزير النساء.

وقد يبدو على شعر جميل إذا قوبل بشعر عمر أنه أفحل وأجزل وأبلغ في الصناعة الشعرية وأجمل، وذلك فيما يبدو لنا التباس بين فحولة المزاج وفحولة الشعر لا يثبت على التمحيص. فمن المألوف أن يظهر الجد في شعر العاشق الذي ينسب بامرأة واحدة ويعيرها كل قلبه وهواه، ولا يظهر مثل هذا الجد في شعر الرجل الذي يقضي زمانه كله في التحدث إلى النساء والتنقل بينهن، وقلَّ أن يسلم رجل كهذا من اصطناع التأنث، ولو لم يكن مطبوعًا عليه، فيسري التأنث إلى كلامه وتتوارى منه قوة الفحولة التي تقترن بالجد حيث كان.

ومع هذا لم يسلم جميل ممن يأخذ عليه التأنث في نصف بيت هو قوله:

ألا أيها النُّوام ويحكمو هبوا
أسائلكم هل يقتل الرجل الحب

فالشطر الأول كما قال صالح بن حسان «أعرابي في شملة»، والشطر الثاني «مخنث يتفكك من مخنثي العقيق».

ولكن نصف بيت ولا مئات من الأبيات ليس فيها أعرابي واحد في شملة، ومعظم أبياتها هوادج تسفر عن حسان مدللات وأخدان حسان مدللات! وذلك ديوان ابن أبي ربيعة في جملته على التحقيق.

ويشبه الالتباس بين فحولة المزاج وفحولة الشعر التباس آخر يعرض لكثير من المعجبين بنسيب جميل، فهو عندهم إمام الشعراء؛ لأنه إمام المحبين، وقد سئل عنه نصيب فقال: ذاك إمام المحبين، وهل هدى الله — عز وجل — لما ترى إلا بجميل؟

وجائزٌ أن يكون صدق الحب سببًا من أسباب جودة الشعر الذي يعبر عنه، ولكن صدق الحب وجودة التعبير يظلان بعد هذا شيئين مختلفين، فيصدق المحب ولا يجيد الشعر، ويجيد الشاعر ولا يبلغ مبلغ ذلك المحب الصادق في وجده وشوقه ووفائه … إنَّ أحدهما لسبب للآخر — ونعني الحب والتعبير — ولكنهما قد يفترقان كما يتفقان.

ولا يزال الحكم على عشق جميل وغزل جميل وشعر جميل يتطلب الحكم على ثلاثة أشياء لا على شيء واحد، وإن لم يكن من الضروري أن تتناقض هذه الأشياء.

فالذين قالوا: إنه أشعر أهل الإسلام والجاهلية؛ لأنه أصدق المحبين يخطئون؛ إذ ربما ثبت له أنه أصدق من أحب في زمانه، ولم يثبت له أنه أصدق من تغزل، فضلًا عمن هجا ومدح، كما أراد بعض النقاد في زمانه أن يقول.

وحقيقة الرأي الذي يدل عليه شعره، فيما نعتقد أنه كان شاعرًا يجمع بين البلاغة والسهولة، ويرتقي في الصناعة الشعرية مرتقًى لا يعلو عليه شاعر من أبناء عصره، وهم على الإجمال فطريون في هذه الصناعة، لهم مزايا الفطرة وعيوبها في آنٍ، ولا سيما العيوب التي لها اتصال بكل صناعة من الصناعات.

ومن مزايا الفطرة الصدق والبساطة وقرب الأداء، ومن عيوبها النقص والسذاجة وقلة الإتقان. ومن رأينا أنَّ شعراء الجاهلية وشعراء القرن الأول للإسلام كانوا جميعًا أوفر الشعراء حظًّا من مزايا الفطرة وعيوبها على السواء؛ فهم أصحاب معنى مستقيم ولغة قوية وشعور لا بهرج فيه ولا التواء، وهم إلى جانب هذا مبتدئون متعثرون في صوغ الشعر، لم يصلوا بالقصيدة ولا بالأغنية إلى مبلغ الإتقان ووحدة المدلول، ولعلهم لم يبلغوا في ضرب من الشعر مبلغه من الإتقان غير الرجز؛ لأنه مفكك بطبيعته، لا يحتاج إلى تنسيق وانسجام.

وما زال الإتقان الصناعي يزداد، والشعور الفطري ينقص حتى تناهيا زيادةً ونقصًا في أواخر عهد العباسيين، فأصبح الإفراط في الصناعة بهرجًا، والإفراط في ضعف الشعور الفطري تكلفًا واصطناعًا، وتلاقى هذا وذاك في الغثاثة المزيفة التي لا هي صناعة جيدة ولا فطرة جيدة، ولكنها مسخ للصناعة والفطرة لا خير فيه.

فالشعراء العباسيون — مثلًا — أجود صناعة من الشعراء الأمويين والمخضرمين، وأنأى منهم عن استقامة الفطرة وبساطة التعبير، ولا استثناء لأحد من الأمويين والمخضرمين والجاهليين في ضعف الصنعة، الذي يأخذ كل منهم بنصيب منه حتى شعراء المعلقات.

وشأن جميل في هذا شأن غيره من أبناء عصره وسابقيه: يأتي بالكلام السهل البسيط؛ لأن معناه سهل بسيط، ولأنه يملك القدرة الفنية التي يعمد بها إلى المعاني المركبة فتسلس له، فإذا هي مجلوة في ثوب من البساطة يخدع السامع حتى ليحسبه خلوًا من كل تركيب.

وقلما تجاوز الأبيات في القصيدة الواحدة، واعتمد الإطالة إلا تعثر والتفت بمن يتحدث عنه بين الخطاب والغياب وضمير المفرد وضمير الجمع في نفس واحد، كما قال:

فإن تبيني بلا جرم ولا ترة
وتولعي بي ظلمًا أيّ إيلاع
فقد يرى الله أني قد أحبكم
حبًّا أقام جواه بين أضلاعي
لولا الذي أرتجي منه وآمله
لقد أشاع بموتي عندها ناع

أو كما قال:

إلى الله أشكو لا إلى الناس حبها
ولا بد من شكوى حبيب يروَّع
ألا تتقين الله فيمن قتلته
فأمسى إليكم خاشعًا يتضرع

وقد يخطئ في قواعد اللغة أو يتجوز في أبيات غير قليلة، منها قوله في قصيدة من أشهر قصائده:

فإن لم تكن «تقطع» قوى الود بيننا
ولم تنس ما أسلفت في سالف الدهر
فسوف يرى منها اشتياق ولوعة
يبين وغرب من مدامعها يجري

ومنها قوله:

ولو أنَّ «داعٍ» منك يدعو جنازتي
وكنت على أيدي الرجال حييت

وهو في هذا وعمر بن أبي ربيعة وغيرهما من شعراء عصرهما سواء أو متقاربون.

وفي حيز هذه القدرة الفنية يبدع غاية الإبداع الذي يتاح لشاعر قديم أو حديث، فلا يقول شاعر في البيت والبيتين أو الأبيات القلائل أبلغ من قوله في تعذر نسيان الحبيب:

ولو تركتْ عقلي معي ما طلبتها
ولكن طلابيها لما فات من عقلي

أو قوله لمن يقدحن في صاحبته ليحللن عنده في محلها:

ولربَّ عارضة علينا وصلها
بالجد تخلطه بقول الهازل
فأجبتها بالرفق بعد تستر
حبي بثينة عن وصالك شاغلي
لو أنَّ في قلبي كقدر قلامة
فضلًا وصلتك أو أتتك رسائلي
ويقلن إنك قد رضيت بباطل
منها فهل لك في اعتزال الباطل
ولباطلٌ ممن أحبُّ حديثه
أشهى إليَّ من البغيض الباذل

أو قوله في حيرته بين حبه لغيرها وحب غيره من المحبين:

سلا كل ذي ود علمت مكانه
وأنت بها حتى الممات موكَّل
فما هكذا أحببت من كان قبلها
ولا هكذا فيما مضى كنت تفعل

أو قوله في الفراق:

كأني سُقيت السم يوم تحملوا
وجدَّ بهم حادٍ وحان مسير
على أنني بالبرق من نحو أرضها
إذا قصرت عنه العيون بصير
وإني إذا ما الريح يومًا تنسَّمت
شآمية عاد العظام فتور
ألا يا غراب البين لونك شاحب
وأنت بروعات الفراق جدير
فإن كان حقًّا ما تقول فأصبحت
همومك شتى والجناح كسير
ودرت بأعداء حبيبك فيهمُ
كما قد تراني بالحبيب أدور

أو قوله في تمني الصلة الدائمة بصاحبته حيًّا وميتًا ثم سخطه على لجاجة الحب بعد هذا:

أعوذ بك اللهم أن تشحط النوى
بثنة في أدنى حياتي ولا حشري
وجاور إذا ما مت بيني وبينها
فيا حبذا موتي إذا جاورت قبري
عدمتك من حب! أما منك راحة
وما بك عني من توانٍ ولا فتر؟

ولهذه الأبيات الأخيرة لا نستغرب مبالغته التي تندر في شعره وشعر أبناء عصره؛ حيث يقول:

إذا ما دنت زدت اشتياقًا وإن نأت
جزعت لنأي الدار منها وللبعد
أبى القلب إلا حب بثنة لم يرد
سواها وحب القلب بثنة لا يجدي
تعلق روحي روحها قبل خلقنا
ومن بعد ما كنا نطافًا وفي المهد
فزاد كما زدنا فأصبح ناميًا
وليس إذا متنا بمنتقض العهد
ولكنه باقٍ على كل حالة
وزائرنا في ظلمة القبر واللحد

ففي هذه المبالغة مسحة من شطحات ابن الفارض وأضرابه، ولكن المبالغة هنا تتسلسل وتتدرج وتنمو على جذورها حتى تبلغ ذروتها، ولا غرابة فيها ولا تناقض بين أعلاها وأدناها، فمن قال البيت الأول قال الأبيات التي تليه كما يصعد النفس مطيلًا فيه حتى يستوفيه.

إلا إنَّ الذي يأباه الذوق والعقل أن تنسب إلى جميل أبيات، كهذه الأبيات التي ضمت إلى ديوانه:

خليليَّ إن قالت بثينة ما له
أتانا بلا وعد؟ فقولا لها: لها
أتى وهو مشغول لعظم الذي به
ومن بات طول الليل يرعى السها، سها
بثينة تزري بالغزالة في الضحى
إذا برزت لم تبق يومًا بها بها
لها مقلة كحلاء نجلاء خلقة
كأن أباها الظبي أو أمَّها مَها
دهتني بود قاتل وهو متلفي
وكم قتلت بالود من ودها دَها

فهذا كالانتقال من الشملة العربية إلى ثياب المرافع قبل أن تخلق المرافع بقرون، ولو جاز أن يقول جميل مثل هذه الأبيات مرة لوجب أن تتكرر نظائرها في قصائده هنا وهناك؛ لأن المحسنات من هذا الطراز عادة تجر لا محالة إلى الإدمان.

وقياسًا على هذا كله ما جاوز الصدق الفطري والبلاغة السهلة والجد في وصف الشعور، فهو منحول له وليس بالنسج الذي يندس بين لحمته وسداه.

إنما الرجل ابن زمانه في معناه وصناعته، وله من الإمامة بين شعراء العشق في ذلك الزمان مكان لم ينازع فيه؛ لأن عيوبه أقل من عيوبهم ومزاياه أظهر من مزاياهم، وشعره في جملته يجمع خير ما قالوه.

وهنا يحسن بنا أن نقيد «خير ما قالوه» بما قالوه في النسيب دون غيره، فالحق أنه لم يأت بطائل في الهجاء ولو بالقياس إلى معاصريه، أو لعل الذي نظم في هذا الباب ورجح به على الشعراء في رأي نقاد عصره قد ذهب به الزمن، ولم يصل إلينا مع سائر شعره، وهو ظن ضعيف.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤