الفصل التاسع عشر

تجارة بيروت — أهميتها — الأساليب التي يجب أن تتبعها فرنسا في سبيل ازدهارها.

***

تتمتع مدينة بيروت في الخارج بشهرة تجارية حازتها بحق؛ فهي اليوم أكثر المدن السورية إنتاجًا للمنتوجات الصالحة للأعمال التجارية. حبَتْها الطبيعة مرفأً أمينًا، فأصبحت ملتقى سفن أقطار العالم الأربعة. ورثت هذه المدينة الأهمية التي أدركتها عكا ويافا وصيدا وطرابلس واللاذقية في مختلِف العصور، ولم تَعُقْها عن ذلك معارضة الباب العالي الذي ناهض دائمًا، لا بل منع ازدهار التجارة عن طريق بيروت؛ لأنها كانت إقطاعة من الجبل.

وعندما أصبحت هذه المدينة تحت حكم السلطان المباشر، لم يجرؤ الأوروبيون قط على الإقامة فيها؛ لأنها كانت خاضعة للجزَّار المشهور بكرهه للإفرنسيين الذين أخرجهم من ولايته.

أُنشئت أولى مؤسسات بيروت في أثناء الحرب البحرية، على عهد سليمان باشا الذي أنسى الناس ظلم سلفه، وأعاد الاطمئنان إلى سوريا.

فأخلاق هذا الوزير المتناهية في الحلم والوداعة شجَّعت «الرؤساء» كثيرًا؛ فلم يجدوا أية صعوبة في الاستقرار بهذه المدينة؛ إذ رأَوْا فيها حصنًا أمينًا نظرًا لقربها من الجبل.

كان هذا الباشا يتعاطى التجارة، وكان التجار يومذاك لا يستطيعون شراء جميع المنتوجات التي كانت في حوزته نظرًا لقلة رأس مالهم؛ ولهذا كانت تُعقد صفقات مقايضة بينه وبين شاحني المراكب الذين كانوا يتردَّدون على سوريا في أثناء الحرب.

كنت في بيروت عام ١٨٠٩ عندما وصلت باخرة إفرنسية «بطلة جنوى» مُدجَّجة بالبضائع، تنشد الثروة. وكان في إدارة الجمرك مأمور مكلف — من قِبل سيده — مفاوضة من ينزلون إلى الشاطئ، فأرسل يستقدم القبطان إليه. وإذ كانا محتاجين إلى ترجمان؛ دُعيتُ أنا للاهتمام بقضيةٍ تختص بسليمان باشا صديق الإفرنسيين، فعقدت الصفقة على حمولة الباخرة كلها دون أقل عناء؛ وهذا ما يحدث حيث تكون الصراحة متوافرة والنية الحسنة؛ فمدير الجمرك لا يستطيع أن يكون سمسارًا لأنه ممثل سليمان باشا، والمَثَل في هذه البلاد يقول: الناس على دين ملوكهم.

وقبل أن أنتقل من هذا الموضوع لا بد لي من إبداء شعور أزعجني؛ شعور أوحتْه إليَّ هذه الفكرة التي أوردتها. لقد شيَّدوا ضريحًا فخمًا للجزَّار، في حين أن ضريح سليمان باشا يكاد يكون مشارًا إليه فقط؛ وهذه بادرة أخرى يجب أن تدوَّن هنا لتدل على أننا والشرقيين على طرفَي نقيض في كل شيء.

إن رفات هذا الظالم — أحد أولئك الرجال الذين لم يَرَ لهم الشرق مثيلًا في تعطُّشهم إلى الدماء — يوضع في ضريح فخم، أما أشلاء صديق الإنسانية الذي كان يُسمِّيه المسلمون باباس باشا نظرًا لتحلِّيه بصفات الراعي الصالح — أو الكاهن الجليل حسب التعبير الديني — فلا يكاد يُعرف أين هي. إن هذا يرجع إلى عقلية الشرقيين التي تعزو كل شيء إلى مشيئة الله، ولا تعرفه إلا حين يغضب ويضرب ضرباته المخيفة. فعندهم أن الجزَّار — الرجل الفاني — لم يكن ليقدر أن يؤدِّيَ رسالة هذا الظلم والجور لو لم يكن الله قد اصطفاه لإلقاء تلك الدروس القاسية على العالم. رَويتُ فيما سبق كيف يُحترَم المجانين عند هذا الشعب الكثير الأوهام والتخيلات، إن لهذا الوهم عذرًا واضحًا لأن له على الأقل وجهته الأخلاقية، فالاهتمام بالشخص المهمل المعتوه يستحق فاعله أجرًا عليه، أما الاهتمام بقبر طاغية كالجزَّار فعلامَ يؤجَر بانيه؟

قلتُ في فصولي الأولى إن العرب هم أول من أنشأ المؤسسات التجارية في بيروت، أما أكبر محل أوروبي يتعاطى التجارة مع سوريا في حقلَي التوريد والاستيراد فكان إذ ذاك في جزيرة قبرص. فمن هنالك كان يتبضع تجار هذه البلاد مصطحبين الحاجيات التي كانوا يتجرون بها. والذين لا يتمكَّنون من الذهاب إلى الجزيرة كانوا يطلبون كتابة الحاجيات التي يرغبون فيها. وبعد هذه التجارب حوَّل العرب وجوههم صوب أزمير وإسطمبول، فاستوردوا منها بضائعهم لأنهم كانوا يجنون من الاتِّجار بها منافع ملموسة. واستمرت هذه الحال مدة الحرب، وعندما أعاد السلام حرية التجارة البحرية أخذ التجار العرب — مدفوعين بطمعهم الفطري — يقومون بشراء حاجاتهم رأسًا من البلاد التي تُنتجها، وشاء البعض منهم أن يتعوَّدوا تجشُّم أخطار الأسفار؛ فانتقلوا إلى أوروبا حيث صادفوا نجاحًا وفلاحًا، فلم يبارحوها.

وظلت الصلة قائمة بينهم وبين أصدقائهم السوريين الذين عهدوا إليهم إذ ذاك بقضاء جميع حاجاتهم، فوجدوا على يدهم منافع لم يجدوها على يد تجار أوروبا. كانوا يكتبون لهم بلغتهم الخاصة، وهم موقنون أنهم يفهمونهم نظرًا لمعرفتهم بواردات البلاد واحتياجاتهم، ثم جمعتهم المصلحة ووحَّدت بينهم، فاحتكروا جميع أعمال تجارة سوريا، فارتأت بيوت مرسيليا التجارية وجنوى وليفورنا أن يكون لها عملاء من العرب ليتفاهموا والذين لا يحسنون سوى هذه اللغة. ثم إن الإغريقيين ما لبثوا أن تمركزوا في الأماكن الهامة ليتفاوضوا مع أبناء أمتهم المنتشرين في جميع أنحاء الشرق؛ لأن اليونان هم بطبيعتهم بعيدو الهمة جسورون، والتجارة تلائم نشاطهم الطبيعي كل الملاءمة.

ذلك كان سبب الانقلاب الذي شعرت به تجارة هذا البلاد، وهو الانقلاب الذي تبيَّن منه — بادئ ذي بَدء — أنه لم يكن له من مفعولٍ سوى نقل التجارة من أيادٍ إلى أخرى؛ لأن الذي كانت تُخرجه مصانع فرنسا لمؤسساتها الوطنية كانت تُخرجه بمقدارٍ واحد للإفرنسيين والشرقيين. بَيْدَ أنه لما كانت أهمية الابتياعات تنشأ عادةً عن الذين يقومون بها، فإن التجار الشرقيين يعقدون صفقاتهم بتردد وخشية. إنهم يقومون دائمًا بتجارب وينقادون بسهولة لآراء عملائهم الذين يتملقونهم كثيرًا ويزيِّنون لهم اجتناء أرباحٍ لا تكون في الغالب إلا وهمية؛ ولهذا انحصرت في موانئ تريستا وجنوى وليفورنا ومرسيليا، وعلى الأخص موانئ إنكلترا التي بلغت تجارتها مع سوريا — بالنظر إلى ازدهارها — ما لم تبلغه في جميع البلدان مجتمعة.

كانت محلات سوريا التجارية في الزمن القديم فروعًا من محلات مرسيليا. والتجار الذين سبق لهم أن أقاموا في المشرق كانوا يديرون مؤسساتهم بوجهٍ يتفق مع حاجات المكان وأذواق أهاليه. أما الوكيل فلم يكن يهتم إلا بتنسيق البضائع التي كان يتسلَّمها، وإعداد شحنات العودة. كانت التجارة يومذاك على قدم وساق، وكان يمارسها من يتعاطَوْنها باستقامةٍ عظيمة، فمن كان يجرؤ أن يُظهر سوء النية أو أقل ميل إلى الغش؟!

كان القنصل يدعو محكمته للالتئام لدى ظهور أي عمل شائن ويحكم بحجر المذنب الذي كان يسمونه «بطَّال».

هذا عُرْفٌ حملتْنا على اتِّباعه اتصالاتنا الطويلة بسوريا، وهو ذو أثر فعال يجعل «الرؤساء» وناقلي البضائع وجميع رعايا السلطان الذين تربطهم علاقات بالأوروبيين حذرين في تصرفاتهم؛ لأنه إذا ما قُدر ولُفظت هذه الكلمة المحترمة — بطَّال — يصبح الشخص غير أهل لخدمة الأمة. وهذا العرف أُدخل فيما بعدُ في قانون قنصلية حلب الذي نقل منه السيد دي بوكافيل، في مذكراته،١ مادته الرابعة.

إن السوريين الذين يتعاطَوْن أعمال تجارتهم مع أوروبا لم يوفَّقوا دائمًا في صفقاتهم رغم التسهيلات الجمَّة التي توافرت لهم، ورجَّحت كفتهم على التجار الفرنسيين — مزاحميهم في الأساكل — مما جعلهم يرجعون إلى أسلوب تعوَّدوه وفهموه، وهو أكثر انطباقًا على عقليتهم وذهنهم.

وأرى أنه لَمن الأصح — وفي ذلك مصلحة متبادَلة — أن يقوم الإفرنسيون وحدهم بتجارة فرنسا، وأن تبقى التجارة المحلية أو تجارة سوريا في يد العرب. إن هؤلاء هم الوسطاء الطبيعيون بين الفرنسيين الذين يبيعون جملة وأصحاب الحوانيت الذين يبيعون تفاريق، كما هي حالة هؤلاء الآخرين بين التجار الوطنيين والمستهلكين، وعندما تُتبع هذه القاعدة في سير الأعمال يصبح كل شيء طبيعيًّا. إني لم أجد تاجرًا فرنسيًّا أو بائعًا عربيًّا لم يُقِرَّ بأن الاستمرار على الطرق القديمة هو أفضل من اتِّباع الطرق الحديثة. إنهم كانوا يرغبون جميعًا في هذا الانقلاب. ومع ذلك فإن أحدًا منهم لم يكن يهتم بالمطالبة به. إن مثل هذا الانقلاب يجب أن تكون النكبات مركبته.

فالإفرنسي يجيد معرفة إنتاج بلده. ولما كان هذان البلدان مضطرَّين للمقايضة بمنتوجاتهما، فمعلومات هؤلاء التجار — إذا ما اجتمعت — تحملهم على توسيع نطاق أعمالهم وتجارة بلدهم، فتتضاعف أرباحهم.

إن العرب — وهم لا يميلون إلى التجديد — لا يمكنهم طلب أشياء يجهلون وجودها؛ فلو كان لدى المؤسسات الفرنسية في الأساكل ممثلون في مرسيليا لكان بإمكانها أن تفاوض مصانع المملكة؛ وهكذا فإنها تُقوِّي نفوذها بفتحها منفذًا لأصحاب المصانع الغاصة محلاتهم بالبضائع؛ لأنه لا يمكنهم توريدها على حسابهم؛ نظرًا لعدم وجود ضمانة أخلاقية توحي الثقة.

إن مزاحمة الأوروبيين للعرب هي في غاية الصعوبة، لا سيما وأن هؤلاء يتمتعون بامتيازات كبيرة لم تتوافر لأولئك؛ إنهم لا يدفعون أجور المحلات أو المخازن أو رواتب المستخدمين، وهم بغنًى عن المصارفات الأخرى التي تتطلبها التجارة، ناهيك بأنهم يقومون بنوع من الأعمال لا يُجارَوْن فيه، ألا وهو أنهم يمدون ويدينون أبناء الجبل من أمراء ورجال دين، وخواص وعوام، مالًا بربًا فاحشٍ تسليفًا على موسم الحرير، أو يقدمون لهم ملابس وحبوبًا بثمن باهظ.

إن السوريين يُحبون هذا النوع من الضروب التجارية؛ لأنه لا يتطلب تداول جميع الأموال في وقت واحد، وهو لا يمنع من يقوم به من مزاولة أعمال تجارته الخاصة التي تُدرُّ عليه، وينصرف إلى سائر أعماله بما تبقَّى له من رأس مال.

إن الاعتمادات التي يمكن تجارة أوروبا أن تمدَّ بها هي التي تشجِّع التاجر العربي. إنه يعتبرها بمثابة بنك يمكنه أن يستدين منه ما يعوزه من مال؛ ومن ثَمَّ فإنه يمكننا أن نجعل مضرب المَثَل قولنا: إن الاعتماد هو قلب التجارة عند شعوب هذه البلدان هنا؛ ذلك لأن العرب لا يتاجرون إلا بالمبالغ التي يقرضونهم إياها. إن المبالغ المسلفة التي يدينهم إياها تجار أوروبا تكون بفائدة ستة بالمائة، مع أن الفائدة التي يطلبها أبناء سوريا هي عشرون بالمائة. أما الذين يُقرضون بفائدة تراوح بين ٣٦ و٤٠ بالمائة عن كل سنة، فعددهم كبير جدًّا، فإذا اتُّخذت مثل هذه التدابير التي تلائم العرب فسوف لا يفكرون إلا ببيع البضائع التي قدَّمها لهم عملاؤهم وترويجها وقبْض أثمانها.

إن العربي لدى تسلُّمه البضائع يفكر بما يحتاج إليه من المال في أعماله التجارية، أكثر مما ينظر إلى الظروف الملائمة للبيع. إن كل شيء هنا يُعمل حسب مقتضيات الحال، وعندما تبدو هذه الضرورة، لا يهتم تاجر هذا البلد بالخسارة التي ستلحق به؛ وهذا أحد الأسباب الهامة التي تجعل مزاحمة العرب شؤمًا على الأوروبيين.

إن هؤلاء يجدون ربحهم في الواردات، بينما إن ما يقدمونه للشرقيين هو الصادرات التي يستطيعون الحصول عليها بقيمة تنقص عن ٢٥ بالمائة عما يحصل به عليها الأجانب.

وهذه ليست سوى صورة مصغرة عن نتائج المزاحمة السيئة التي لاقتها تجارتنا وجعلت الكثيرين من تُجارنا يملون ويقنطون. وقد اضطُروا إلى الإحجام عن دفع نفقات مؤسساتهم بعد أن خدعهم سماسرتهم، وسرقهم مشتروهم، واستذلهم رجال الجمرك، شركاء التجار المواطنين.

والذين لم يتخلَّوْا عن مركزهم استسلموا للتيار وماشَوُا الظروف، وعرفوا أن يستعيدوا مكانتهم. إنَّ هنالك قسمًا قد آثر أن يتعاطى العمولة، وآخر اكتفى بقبض جعالة زهيدة.٢

أما المحلات التجارية الراسخة القدم فلم تخفها المزاحمة وإن ضايقتها كثيرًا. حولت نظرها إلى تعاطي التجارة المحلية فكفل لها تفوقها — في العدة — عجْز العرب عن تقليدها؛ وهذا ما بحثتُه حين تكلمتُ عن طريقة حل الحرير الغليظة في هذه البلاد. إن المقدرة التي يتصف بها التاجر الأوروبي تساعده — ولا شك — في المهمة التي يتعاطاها؛ فعليه قبل مباشرة عمله أن يظفر بثلاثة أشياء: معرفة البلاد، لغتها، سمسار قدير. فلا بد إذنْ من معرفة بعض نقاط تصلح لأن تكون قاعدة ومقياسًا لأعمالنا، وتمكِّننا من مفاوضة المشترين مباشرة. إلا أنه لا ينتظر أن نتفوق على رجل هو تاجر وسمسار في وقتٍ معًا، ولا سيما إذا كان يتحلَّى بشيء من المقدرة وبكثير من الثقة. إنها قضية حياة أو موت لكل مؤسسة تجارية. ولقد توافرت لديَّ عدة شواهد على هذه النقطة تمكِّنني من إبداء رأيٍ هو غاية في المتانة: إن تاجرًا عنده سمسار قدير، يمكنه أن يجمع بين المقدرة الأوروبية والحيلة الشرقية. وقد ثبت أن مهمة السماسرة كانت جد مجدية وضرورية، حتى إن الحكومات سعت لدى السلطات لتمتع هذه الطبقة من الموظفين بالامتيازات والحصانة الشخصية التي يتمتع بها التراجمة، فمن فور دخولهم في خدمة التاجر تُفارقهم رعوية جلالته ويصبحون من رعايا قنصل الدولة التي يخدمونها.

كثيرًا ما كان التجار الأوروبيون — قبل أن يُمنحوا هذا الامتياز — هدفًا للتعديات البالغة الحد؛ لأن السلطات التركية كانت تُحرج إلى أبعد مدًى موقف «الرؤساء» الذين عرفت أن فرنسا تدعمهم مدفوعة بحبها للإنسانية. إنه — والحقيقة تُقال — ما من تضحية أسمى من التي يقوم بها تاجر بدافع الشفقة أو المصلحة لإنقاذ من هو موضع ثقته وأعماله … وهكذا فإن كان يبذل ماله لينجيَ عميله المعرَّض لسيف العدالة الغادرة في هذه البلاد.

لاقيتُ بعض المشقات عندما دعوت إلى احترام مبدأ حماية السماسرة في بيروت؛ هذه الإسكلة الجديدة التي يجب أن نخلق فيها كل شيء. وَلَكَمْ تألَّمت عندما رأيت هذا المبدأ ينهار لدى الذين اعتقدوا أنه يجب عليهم أن يكونوا أقل تسامحًا مما هم عليه العثمانيون تجاهنا؛ إذ لم يظنوا مطلقًا أننا نتطلب منهم أكثر مما تطلبنا من الآخرين.٣

فهمت بعد محادثة طويلة جرت بيني وبين إبراهيم باشا أن هنالك خطة مدبرة لكيفية معاملتنا في سوريا؛ فهو يعتبر «أن موقف الأوروبيين في مصر كان أقوى مما هو عليه في سوريا، إلا أن موقف أهالي سوريا كان أفضل من موقف شعوب البلد الآخر.» وهذا ما أكَّد لي — وكثيرًا ما دلت عليه تصرفات السلطة — إن نائب السلطان كان ينوي التخفيف عن السوريين والانتقاص من امتيازات الأوروبيين الذين توسَّعوا كثيرًا — حسب رأيه — في مصر بعد أن أثقل كثيرًا عاتق المصريين التعساء.

إن التدابير الحليمة التي اختطَّها محمد علي لم تُتبع في هذا الحقل كما اتُّبعت في كثير من الحقول الأخرى؛ فأفضل وسيلة لترويج منتوجات مصانعنا تكون في إنشاء مستودع ضخم (عنبر) يمكنه أن يقدِّم لتُجار دمشق — في الداخل والإسكلة — الحاجيات اللازمة بأسعار معتدلة، وأن يهتم بأمر بضائع المقايضة التي يمكن هؤلاء التجار أن يقدموها، بشرط أن يسترجعوا الحاجيات التي يتبيَّن أنها لا توافق بُلداننا في المملكة العثمانية حيث تعوَّد هؤلاء التجار أن يأتوا بأنفسهم إليها، ووفقًا لهذه الطريقة يجب أن تورَّد المنتوجات إلى فرنسا، حتى إذا لم تتناسب وحاجيات البلاد أعيدت كتلك.

إن مؤسسة تجارية كهذه يجب أن تقوم بإنشاء مدينة صناعية. وعندما يساهم فيها جميع أصحاب المعامل فسوف يُقوُّونها ويُنشطونها لأنها لن تفتقر إلى بضائع اهتمَّ أصحابها بترويجها عن هذه الطريقة.

وهنالك قاعدة يجب أن يتبعها تجارنا؛ إنها تنحصر في أن لا يقرضوا شيئًا السلطات المحلية وألا يبيعوها شيئًا — مهما تكن قيمته متدنية — لقاء دفع مؤجَّل، ما لم يقدِّم الشاري كفيلًا مليًّا يقدم بدوره ضمانة وافية، ومن يعمل خلاف هذا في بلاد تكثر فيها — ويا للأسف — الحوادث الاستثنائية يُعرِّض مصالح العملاء للخطر. وقد بُحثت هذه الفكرة بإسهاب في مذكرة هي بين يديَّ،٤ وهاكم ما جاء فيها:

اتُّبعت هذه القاعدة اتباعًا دقيقًا في وقتٍ ما، فتجارنا لم يكونوا يبيعون إلا في محلاتهم، كما أنهم لم يورِّدوا قط على حسابهم الخاص. أما تجار دمشق والمحلات الأخرى في سوريا فكانوا يهبطون الأساكل ليقوموا بابتياعاتهم، أو إنهم كانوا يشترونها بواسطة أناس يتقاضَوْن عليها عمولة؛ ولهذا لم يكن خطر في الدفع، ولا مشادات حول الأسعار، ولا مخاطر في التوريد.

إلا أن كلب الجشع، والمحسدة البغيضة، والرغبة المُلحَّة في القبض سلفًا، وأخيرًا الفوضى في النظام؛ أنست — لبضع سنوات خلت — هذه الطريقة الحكيمة؛ وهكذا سارع كل واحد ليقوم بالعرض، فالإغراء على القبول، فالتوريد. أخذ الشرقي بادئ ذي بدء — وهو داهية دقيق متمسك بتجارته — يجس باحتراس مثل هذه العروض، وأخيرًا حملهم على أن يرجوه، ثم انتهى بفرض أسعار البضائع وشروط الدفع؛ فنتجت عن مثل هذه التصرفات المغفلة خسائر جسيمة لحقت بالأمة. كان من المتوجب على تُجارنا أن لا يخطئوا الاعتقاد بأن منتوجاتهم — وهي أهم ما يحتاج إليه هذا البلد — يمكن أن تُطلب وتنفق دائمًا.٥

كان الاتِّجار مع إنكلترا عن طريق أزمير وليفورنا؛ فكان العرب يستوردون منها المنسوجات والقطن المغزول الذي يحتاجون إليه في قليل من الأعمال. غير أن تجارة هذا الصنف ازدادت بمعدل ١٠ / ١ عندما خصَّها التُّجار الإنكليز عام ١٨٣١ بكل النشاط الذي كانت تتطلبه؛ وهكذا بلغت قيمة القطن الإنكليزي المغزول المورَّد إلى سوريا، ابتداءً من عام ١٨٣٣، مبلغًا ضخمًا قدره ٦٢٧٤٧٠٠ فرنك.

إن الأنسجة البيضاء المصبوغة والموشَّاة ظلت تتمتع برواج عظيم، وأظن أن السبب الأساسي في ذلك يعود إلى البؤس العام وغلاء الحرير واليد العاملة؛ وهذه العوامل مجتمعة جعلت الأنسجة الأجنبية في متناول جميع الطبقات غنيةً كانت أو فقيرةً. أضِفْ إلى ذلك الزيَّ (الموضة)؛ فقد ساعد على رواج الأقمشة التي هي أكثر زركشة وألوانًا لمَّاعةً من غيرها كالتي يحبها الشرقيون.

هذا فيما يتعلق بالأنسجة المنقَّشة والأنسجة القطنية والكوفيات. أما فيما يتعلق بالأقطان المغزولة والخام والأنسجة البيضاء القطنية فأسبابها ليست كتلك.

كانوا يغزلون قديمًا في البلاد كمية وافرة من القطن لحياكة الخام،٦ أما الأنسجة البيضاء وخيط الغزل الدقيق فكانا يَرِدَان من الهند لتُحاك منها الأجواخ التي كانت لُحمتها من قطن البلاد. إذنْ، فإلى إدخال مثل هذه البضائع وليدة المصانع، وإلى الميزة التي كانت تتفوق بها على شبيهاتها المعروفة من قبل، يجب أن نعزوَ الرواج الكبير الذي لاقته مصنوعات إنكلترا في سوريا.

إن سويسرا تقدم أيضًا النسيج الموشَّى، وميلهوزن تمدنا من حينٍ إلى آخر بكمية من النسيج المنقَّش. إننا نعجب لأول وهلة كيف أن تجارنا لا يستثمرون مثل هذا النوع الهام من التجارة، ثم لا نلبث أن ندرك أن إحجامهم يعود إلى عملاء مرسيليا الذين لا يمكنهم أن يورِّدوا لممثليهم العرب إلا الأشياء التي يطلبونها منهم.

أجلْ، إننا متى أتقنَّا الصنع أكثر مما يتقنه الإنكليز، لا يلائمنا أن نبيع بالثمن نفسه. إلا أن التفوق في الحياكة وعلى الأخص في الصباغ — ولا شك — الزيادة في الثمن؛ فالمناديل والأجواخ الربيعية المصنوعة في «روان» تتمتع اليوم بأفضلية ملموسة، مع أن ثمنها أكثر ارتفاعًا من ثمن شبيهاتها في البلدان الأخرى.

إن مصر تقدِّم أيضًا إلى أسواق سوريا كمية كبيرة من المنسوجات والقطن المغزول؛ وهذا ما يسمح لها أن تصدِّر الحاجيات التي تتوافر لديها من صناعة أهليها. ولو ظلت سوريا في يد محمد علي لشاهدنا الاهتمام بتنفيذ مشروعه الرامي إلى نقل المصانع القطنية إليها لتعمل على أوسع مدًى فيها، بعد أن حال مناخ مصر دون ذلك.

إن عزل كل منتوج إنكليزي عن أسواق هذه البلدان نتج عن طبيعة الأمور نفسها؛ فالخيوط والأنسجة المصنوعة في هذا البلد من قطنه، وبأيادٍ تقاضت أجرًا ضئيلًا، أو على حساب السلطة العامة؛ أمست تباع بأسعار ضئيلة أدَّت إلى العدول عن الإتيان بها من الخارج.

فالتُّجار الإنكليز لا يوحون عادةً الارتياح الذي يوحيه الفرنسيون؛ إنهم يتطلبون من العرب دِقةً ليست من طبيعتهم ولا من عاداتهم، ولا يمكنها أن تكون إلا صنيعة الأيام. إن استقامة التُّجار ترتبط باستقامة أصحاب الحوانيت الذين هم بحاجة إلى أن يقبضوا مالهم كاملًا من المستهلكين.

وهنالك عدة دواعٍ أُخَرَ تعاضدنا، ويمكننا أن نستخلص منها أنه إذا كان مقدم التجار الإنكليز قد ساهم في ترويج موارد إنكلترا، فإن حلول الأشخاص الموفدين من فرنسا يُحدث المفعول نفسه بالنسبة للحاجيات المصنوعة في وطننا. فلا بد — إذنْ — من أن يزود المحل الذي يُنوى إنشاؤه برأسمال كبير، ويُفضَّل كثيرًا أن يكون المساهمون فيه من أصحاب المصانع في مختلِف المدن الصناعية.

وهنالك نصيحة أخرى أسمح لنفسي أن أُسديَها إلى الذين يُقدِمون من مواطني إلى بيروت، وهي أن يهتموا بأن يُعيدوا إلى التجارة الفرنسية تراثها القديم في الاستقامة، أو على الأقل أن يحافظوا على ما ظلت تحتفظ به من شهرة قديمة. لقد عرفتُ أشخاصًا انقادوا لإغراءات مقيتة، في مخادعات زعزعت ثقة تجار هذه البلاد، فوافقوا على الإكثار من عدد التيجان المذهبة المطبوعة في أعلى الأقمشة دون أن ينظروا إلى جودتها التي كانت تدل عليها تلك التيجان؛ فنتج على أثر كل صفقة مشادات طويلة، مع أن المشترين كانوا — قبل هذه الخدعة — يثقون باستقامة أصحاب المصانع، ولا يخامرهم أقل شك بعدد التيجان وبيان (قائمة) مستورد هذه البضائع. ولكن الخدعة الآنفة فتحت الأعين وأيقظت الأفكار؛ فأصبحوا يتذمرون من نقصٍ في طول «الأثواب» الذي كان لا ينقص.

ثم إنَّ هنالك عيوبًا أخرى فُتحت في مجال الملاحقة على أثر اكتشافها.

إن اسم الصانع لم يعد موجودًا على هذه الأقمشة، كما أنه لم يُرَ عليها أثر أي خاتمٍ ما، والألوان — وبصورة خاصة الناتئة منها — أصبحت باهتة معتمة، ولعلها غير منسقة أيضًا.

إن رزم البضائع كانت مرسلة بدون نموذج، أو إن هذا النموذج أو هذه الرزم كانت مقلدة.

لقد استبدلوا نماذج المصانع المشهورة بنماذج ليست من عملها وصنعها.

وهذه الخدع أضرت بنا، بل ساعدت الأقمشة الأجنبية على أن تحل محل أقمشة مصانعنا.

كانت المراكب تتردد كثيرًا إلى بيروت، إلا أنها كانت تعود كلها فارغة تقريبًا؛ لأن إنتاج سوريا — حتى في الحالة التي تكون فيها أسعار الحرير ملائمة — لا يكاد يشحن باخرتين أو ثلاثًا.

كانوا يدفعون ثمن البضائع المستوردة ذهبًا وفضة. ولولا الحرير الذي تحتاج إليه كثيرًا مصر وأنحاء سوريا الأخرى، لخلت البلاد من النقود.

إن استهلاك كميات كبيرة من الحرير في أوروبا قد أساء جدًّا إلى أعمال التجارة؛ إذ تجاوز الحدود التي فرضتها التجارب لتبقى الأسعار ثابتة. كان يتوجب على التجار الأوروبيين أن يُحسنوا فهم هذه النظريات والحسابات لأن العرب يفتقرون إلى بُعدٍ في النظر سواء أكان في أعمالهم البيتية أم في أعمالهم التجارية. إنهم أناس يفسدون الحرفة، والاهتمام البالغ الحد في عُرفهم كفر بالعناية الإلهية. استقى المسلمون مثل هذا الاعتقاد من القرآن، والمسيحيون الذين هم قرود المحمديين يجدون مبررًا لهذا التوهُّم عندما يتمسكون بحرفية بعض آيات الكتب المقدسة.

وأرى لزامًا عليَّ أن أقول هنا إن الاختلاف البيِّن الذي يلاحَظ بين الواردات والصادرات ناتج أولًا عن أن سفاتج النقد والأشياء الثمينة التي جرى التداول بها بصورة خفية لم تُفضح أو تُعلن. ثانيًا أن المرتجعات كانت تُعقد في مقابل سندات لحاملها؛ وهكذا كان يقتطع تجار البلاد لأنفسهم جزءًا من السفاتج التي يرسلونها على أثر توقيع بولصة الشحن.

وخلال السنوات الثلاث التي تيسرت لي فيها مراقبة جميع أعمال مرفأ بيروت مراقبةً دقيقة، يوم كانت التجارة لا تمارَس بسبب الإغريقيين، إلا على سفن أوروبية، استطعتُ أن ألاحظ بأنه استُورد في الأعوام:

١٨٢٥
المجموع ١٠٢١٩٢٠ فرنك
لآلئ ١٩٠٠٠ فرنك
ريش نعام ٤٠٠٠ فرنك
شالات ٢٨٠٠٠ فرنك
حاجيات مختلفة ٩٧٠٩٢٠ فرنك
١٨٢٦
المجموع ٧٢٠٠٠٠ فرنك
لآلئ ٩٨٠٠٠ فرنك
شالات ٣٠٠٠ فرنك
حاجيات مختلفة على سفن تجارية ٤٦٩٠٠٠ فرنك
حاجيات مختلفة على سفن حربية ١٥٠٠٠٠ فرنك
١٨٢٧
المجموع ١٠٨٨١٠٠ فرنك
لآلئ ٣٩٠٠٠ فرنك
شالات ٢٠٠٠٠ فرنك
حاجيات مختلفة ١٠٢٩١٠٠ فرنك

وهكذا يمكننا أن نعتمد معدل هذه السنوات الثلاث لنقيس عليه البضائع المصدَّرة الأخرى التي لم نعرف عنها شيئًا؛ ومن هنا نتج أن المدفوع كان أكثر من المقبوض.

إن البضائع المصدَّرة التي كانت تنقلها كل شهر المراكب الهوائية أو البخارية لا تنقص قيمتها على الستماية أو السبعماية ألف فرنك.

ففي أزمير والإسكندرية ومالطة ومرسيليا كانت تُحوَّل السفاتج إلى سندات لحاملها لترسل من ثَمَّ إلى المراكز التي يجب أن تُدفع فيها.

هوامش

(١) عندما كان المغاربة والتجار الأتراك أو المسيحيون من رعايا السلطان يجورون أو يظلمون أو يوقعون ضررًا بالغًا بالتجار الفرنسيين — أثناء ممارستهم أعمال التجارة — كان يستطيع هؤلاء أن يقاضوهم عند قنصلهم، وإذا وجد القنصل أن التاجر الأجنبي مذنب، سواءٌ أحضر الفريقان أم لم يحضرا، فإنه كان يصدر عليه وعلى بضائعه حكمًا يسمى «التبطيل» وهو حَجْر مدني. وبموجب هذا الحكم يحظر على جميع الإفرنسيين والذين يتعاطَوْن التجارة معهم أن يكون لهم علاقة مباشرة أو غير مباشرة مع المحجور عليه، ومن يخالف يُغرَّم من ٢٠٠ قرش فصاعدًا، حسب أهمية القضية. إن هذا الحكم كان يُبلَّغ على أثر ذلك إلى قناصل الدول الأخرى، وكان هؤلاء يُطلعون عليه رعاياهم؛ وهكذا كانت تُمنع كل علاقة مع هذا التاجر. أما بضائعه فكان يُحجر عليها إلى أن يُرفع الحجر بصورة قانونية (المذكرات المذكورة آنفًا، ص٥٠).
(٢) إنها وظيفة من نسميه نحن عميلًا؛ فهؤلاء مكلفون في بيروت تسلُّم البضائع التي تخص تُجار دمشق ومدن الشاطئ الأخرى التي لا تدخلها السفن، وتسفيرها.
(٣) بينما كنت أكتب ذلك (١٨٤٣) كانت هذه القضية مطروحة على بساط البحث. ورغم تمتُّعنا بالامتيازات زمنًا طويلًا في سوريا، رجعت الدولة العثمانية عن بعضها لأننا لم نكن قد تصرفنا بها بعد. جميل أن نجابهها بهذه الحجة: إن مجموعة الشواهد لها في تركيا مفعول القانون.
(٤) مذكرة السيد شابوسو الذي سنتكلم عنه فيما بعد.
(٥) إننا نلاحظ أن هذه المذكرة كُتبت قبل أن زاحم العرب الفرنسيين في تجارة أوروبا.
(٦) إني أتحدث عن فترة تأتي بعد الفترة التي كانت تُنتج فيها سوريا كميات كبيرة من البضائع التي تنقلها السفن عند عودتها إلى فرنسا. إن الأنسجة القطنية والمنقشة كانت إحدى مواد هذه الوسقات.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤