الفصل السادس والعشرون

الآثار القديمة في لبنان: عين القبو، فقرا، صنين، جبل الكنيسة، فيطرون.

***

إن جميع السائحين الذين جاءوا بيروت أثناء إقامتي فيها، كان أقصى رغباتهم شيء واحد، ألا وهو رؤية بعلبك؛ فمدينة الشمس هي المكان الوحيد الذي أثار فضولهم إلى أبعد مدًى؛ بسبب ما خلفه الفن من آثارٍ لا تزال جميلة جدًّا. فالكثيرون من الناس لم يعرفوا هذه البقايا الأثرية إلا مما وصفها به الكُتَّاب الرحَّالة الذين غالَوْا في وصفها، مباريًا بعضهم بعضًا.

ولما كنت قد قمت بعدة اكتشافات فيها، فقد كنت أدل السائحين عليها جميعًا، فصاروا يقومون توًّا بزيارة الأمكنة التي عينتها لهم، إذا لم يَحُلْ دون ذلك أدلَّاؤهم الذين قلما يهمهم هذا الأمر لأنهم غير مطبوعين على التأمل.١

وأسديت نصائح أخرى عديدة إلى سياح عديدين كان في استطاعتهم اجتناء الفائدة كاملة من إرشاداتي لو تقيَّدوا بها، ولكنهم لم يفعلوا. إن مهمة اكتشاف الآثار محفوفة بكثير من المصاعب، وهي سبب مشاقَّ كثيرة لا يُذللها إلا رغبة قوية في مشاهدة الآثار القديمة الجليلة، وميل عنيف مفرط إلى معرفة الأشياء الطريفة، وهذا الأمر يتطلب كثيرًا من الوقت، وأصحابنا السياح — بوجه عام — يمرون عجالى بهذا البلد؛ ولهذا لا يفوزون من غايتهم بطائل.

إني لم أحجم قط — في كل رحلة أقوم بها — عن تغيير طريقي عندما كنت أعلم أن هنالك شيئًا تجدر رؤيته. ولا يُستطاع إدراك ذلك إلا إذا استخبرنا الأدلَّاء أو الأشخاص الذين نصادفهم في طريقنا.

لا أنكر أن فضولي البالغ حده قد حملني على القيام بعدة رحلات محفوفة بالأخطار وغير مجدية، ولكن أيجب الامتناع عن ركوب البحر إذا كان اليمُّ يزخر بالمخاطر؟

إن حبي الملحاح للاستطلاع كان — غالبًا — علة رحلاتي الخطرة غير المجدية. كنت أسأل مَن ألتقيهم: هل نجد في ضواحيكم أطلالًا هامة، وقصورًا قديمة، ومعابد وثنية، وأخيرًا بعض الحجارة الضخمة؟ فكانوا يقتادونني لأرى كتلًا من الصخور بوشر فعلًا قطعها وشغلها، إلا أن أهميتها لم تكن لتُنسيَني قط ما قاسيته في سبيلها من تعب ومشقة.

قرأت في كتاب «فولناي» أنه يوجد جسر طبيعي في جرود كسروان، ومع ذلك فليست الرغبة في رؤية هذا الجسر هي التي دفعتني — بعد عودتي من بعلبك — إلى القيام برحلة نحو آثار تلك الناحية التي لم يتحدَّث عنها رحَّالة واحد.

إن مشقات رحلتي الأولى جعلتني أسلك طريقًا أخرى غير التي سلكتها أول مرة عندما قمت بزيارتي الثانية لقلعة فقرا مارًّا بعينطورة وعجلتون وفيطرون … إلخ.

فأهوال الطريق التي سلكتها قديمًا اضطرتني أن أدور — هذه المرة — حول المخرم الضيِّق الواقع أوله عند أقدام صنين؛ وهكذا قُيِّض لي أن أرى بسكنتا — القرية الكبيرة — القائمة على منحدر جبل يشرف على وادي الجماجم الرهيب.

إن أهاليَ هذه القرية من الموارنة والروم، وهي مقر عشرات الأمراء ومشايخ عديدين من بيت الخازن. اشتُهرت هذه البلدة بالحياكة، وهي تصنع — بوجهٍ خاصٍّ — نسيجًا أكثره مصبوغ باللون الأزرق. وأكثر نسائها متحجبات بإزار أسود.

وإذا ما غادرنا بسكنتا مجتازين منحدر صنين الذي يشكِّل نصف دائرة، نصل إلى عين القبو، وهي مزرعة صغيرة تحيط بها أشجار التوت والعريش، ويجري في أسفلها نبع عذب المياه، يتفجَّر وسط قبوٍ معقود بشكل دائرة نُقشت على حنيَّته مخطوطة إغريقية.

ومن عين القبو نتسلق الجبل فنصل إلى مسجد تركي قديم كُرِّس — كما قيل — لجوناس. ومن هنالك نهبط في وادٍ جميل. فاتني أن أُدوِّن هذه الواقعة، ولا بأس من العودة إليها:

اضطررنا — ونحن على طريق بسكنتا — أن ننزل عن ظهور جيادنا ونقودها. وبعد أن أسقطت الطرقات السيئة نعالها وأصبحت حوافرها في حالة تلف يرثى لها، كان همنا الوحيد — لدى وصولنا — أن نستفيد مما يمكن أن نجده في هذه القرية الكبيرة من أسباب الراحة. ولكن لسوء حظنا صادف ذلك اليوم يوم عيد الرسل، والبيطار الماروني لا ينعل جيادنا ولو قبض ذهب العالم بأسره. اعتصم بشرائع كنيسته التي تأمر بترك كل شغل وعمل يوم ذلك العيد؛ فكدنا أن نقضيَ ليلتنا في بسكنتا لو لم ينبِّئونا أن البياطرة الروم — وهم ليسوا آنذاك من أصحاب العيد — يمكنهم أن يقوموا بهذه الخدمة التي رفض أن يقوم بها الموارنة. إن الاختلاف بين هاتين الملتين — الموارنة والروم — يدور على اثني عشر يومًا بالضبط، فأولاهما تتبع التقويم الغريغوري (الحساب الغربي)، والثانية ترفض أن تسلِّم به لأن أحد البابوات دقَّق هذا الحساب ونظَّمه.

وعند المساء حططنا رحالنا في دير سيدة النياح، وهو دير للراهبات المتعبدات من طائفة الروم الكاثوليك من حلب والشام. كان بينهن آنئذٍ راهبة كلدانية ذات صوت جميل جدًّا. حدَّثونا عنها فلم نكترث ولم نُعِرِ الأمر اهتمامًا؛ لأننا لم نسمع أحدًا من قبلُ يتحدث عن هذه العذراء المتعبدة وعن صوتها العذب.

وفي السهرة القصيرة جدًّا، رجونا الرئيس العام — وكان موجودًا في الدير هاتيك الليلة — أن يرافقنا برجل من خاصته يوصلنا إلى فقرا، فوعدنا بذلك.

ينام السيَّاح دائمًا في ساعة مبكرة لكيما ينهضوا قبل الفجر، ويعدُّوا أعتدة السفر التي تتطلب وقتًا طويلًا، ثم ليتخلصوا ما استطاعوا من حرارة الشمس المحرقة. فما نهضنا وانتهينا من إعداد خيولنا حتى سألنا عن الرفيق الدليل في هذه الرحلة، فقيل لنا إنه الكاهن الذي يصلي. ففضَّلنا أن نحضر القداس ونستريح في مكان مُضاء، على أن ننتظره خارجًا في شبه عتمة.

إن دخولنا الكنيسة المقبَّبة التي لم يكن ينيرها إلا شموع الهيكل ومسارجه قد أيقظ فينا شعورًا لا يمكن أن أنساه أبدًا. بُهتُّ أنا ورفاقي فبِتنا كأننا في غيبوبة، ولم نملك مقدرة الإفصاح عما نشعر به إلا بعد انقضاء عدة دقائق؛ فصوت مريم الكلدانية الساحر قد كهربنا. إن ألحان الروم في طقسياتهم بديعة جدًّا، وشجية تحمل على الخشوع؛ فالأنغام المختلفة الإيقاع لم تُلغَ منها، وقد كانت هذه الراهبة المتعبدة تجيد فيها وتُبدع كل الإبداع. كانت تجلس على السدة فيتعالى صوتها الرخيم إلى أجواء القبة، ثم يهبط إلى صحن الكنيسة فيوقظ جميع أصداء الهيكل الكثيرة العدد لأن الشرقيين كانوا يراعون، في البنايات التي يشيدونها، بعض القواعد المتعلقة بحاسة السمع ووقع الأنغام لتسد مسدَّ الآلات الموسيقية التي يفتقرون إليها.

فقداسة المكان، وساعة الصبح المبكرة التي لا ينام أثناءها السائحون إلا مدفوعين بتعبهم المفرط الذي يُنهك قواهم، وهذه العتمة التي كانت تخيم علينا قد زادت — ولا شك — في تأثير ذلك الصوت العجيب الذي لم يسمع مثله أحد منَّا. ويظهر أن ترانيم الراهبات — حسب هذا الطقس — مختلفة الإيقاع في كل مقطوعة من مقطوعاتها، فلا تشبه البتة ترانيم الأساقفة المسكوبيِّين الخنَّاء، وهذا الذي يزيد في روعتها وسحرها. تحدثت أمام كثيرين عن الراهبة الكلدانية، فذهب كثير من هواة الصوت الرخيم ليرَوْها، فطار صيتها، وأمست أحد الأشياء التي يُشتهر بها الجبل. أذهل صوتها الجميل السيد بودين بقدر ما أذهلني، فما استطاع أن يُخفيَ إعجابه به؛ فأعرب لها عن ذلك قائلًا: «أختاه، إن صوتك يحمل على تمجيد الله!» ولكن إطراءً يوجَّه إلى راهبة عليها أن لا تفاخر بموهبة دنيوية يذهب ضياعًا …

ثم ركبنا خيولنا بعد أن أفلتنا من هذا الدير الذي سنرجع إليه ثانية. فأنبأونا — لدى عودتنا — عن آثار ومخطوطات تبعد مسافة ساعة أو ساعتين عن الدير لجهة الشرق، في مكانٍ يُدعى بدين، إلا أننا لم نتمكن من الذهاب إليه.

تسلقنا الجبال العالية في طرقات ملتوية صعبة … لم نُبالِ قط بمشقات الطريق لأن المناظر التي كانت تتجدد على التوالي أنعشت أبصارنا. إنها أجمل بقعة وقع عليها نظري في جميع أنحاء لبنان؛ فالجبال المُخضرَّة التي تتوِّج رءوسَها كتلٌ ضخمة من الصخور، كأنها على أهبة الانقضاض، والأودية الحافلة بغابات السنديان والجوز والصنوبر، والأنهار ذات المياه البلورية٢ العذبة؛ هذه جميعها تُنسي الدرب الطويل الشاق، فالذاهب إلى فقرا من هناك يدركها بعد مشي ساعة.

وأول ما رأيناه، في فسحة كبيرة من الأرض تقارب مساحتها نصف فرسخ، بعض الجدران القائمة بين صخور مبعثرة هنا وهنالك. وهذه الجدران التي لم تتهدم مبنية بحجارة منحوتة متساوية الحجم، ولا تزال قوية متينة، إنها — ولا شك — معالم مدينة قديمة.

وإذا ما مِلنا بضع خطوات عن الطريق لجهة اليسار، نجد أنفسنا بين أنقاض هيكل فقرا.

يبلغ طول هذا الهيكل أربعة وثلاثين مترًا، وعرضه أربعة عشر مترًا. جدرانه مبنية بحجارة يبلغ طول الواحد منها تسعةً وثمانين سنتيمترًا، وسُمكه خمسةً وسبعين سنتيمترًا. وهذه الحجارة مبنية بدون طين.

تزين واجهة الهيكل ستة أعمدة من الطراز العصري، ويبلغ قطر قاعدة كل عمود مترًا وخمسة وعشرين سنتيمترًا. أما التيجان التي نجد أربعة منها مستديرة الحجم، واثنين مربعين لا يزالان بأحسن حال، فيبلغ علوُّها أربعة أمتار وعرضها مترًا وثمانية وستين سنتيمترًا. ويبلغ حجم واجهة القواعد مترًا وثلاثة وأربعين سنتيمترًا، وعرضها مترًا وأربعة وثلاثين سنتيمترًا، وعلوها مترًا وخمسة وتسعين سنتيمترًا. وقد حُفر في وسط القاعدة اليمنى رسم كاد أن يكون ممحوًّا.

أما طول الدار والفناء فثمانية وثلاثون مترًا، وعرضهما ثلاثون مترًا. وإذا جئنا الهيكل من الجهة الشمالية، إلى الجهة الواقعة في جانب واجهة الهيكل، وجدنا أن حائط الفناء مبنيٌّ حتى منتصفه أو أكثر بحجارة منحوتة نحتًا غير دقيق، أما من الجهة اليمنى فهو كذلك حتى الثلث. يظهر أنه كان يقوم حول الدار رواق تزينه أعمدة يونانية الطراز، يبلغ قطر دائرتها اثنين وسبعين سنتيمترًا. إن عامود الزوايا المزدوج مستلقٍ على الأرض، وهو يتألف من قطعة واحدة.

فالأعمدة وتيجانها وأعلى الهيكل وأسفله مبنية من حجر واحد، وقد قُطعت أحجارها جميعها من الصخور المجاورة التي اقتُطعت منها حجارة الأروقة الواقعة على مقربة منها. بَيْدَ أن جدران الواجهة الخارجية أو الفناء وأعمدة الأروقة الواقعة قبالة الهيكل مبنية بحجر مصفرٍّ رملي موجود أيضًا هنالك، ولكنه يختلف عن حجر الهيكل الذي يميل إلى لونٍ أشهب ضارب إلى الزرقة.

ولدى رؤيتنا هذه الكمية الوافرة من القطع والتيجان المبعثرة هنا وهنالك، يخامرنا الشك في قيام رواق أمام المدخل الأول — مدخل الفناء. وهذا ما نرجحه متى لاحظنا أن الأعمدة الخارجية هي أضخم من أعمدة الأروقة. ولقد رسمت صورة عامة مستعجلة لهذا الأثر.

إن اختلاف الطراز المعماري يدل أيضًا على أن هذين الأثرين لم يُشيَّدا في عصر واحد؛ فالبناية الخارجية هي أحدث عهدًا من الأخرى.

نجد تجاه هذه البوابة الرئيسية — على بعد خمسين خطوة منها — خربة مربعة الحجم يُدخل إليها من الجهة الجنوبية. تَهدَّم بناء هذه الخربة إلا ثلاثة مداميك يبلغ أطولها ثلاثة أمتار وستة وثمانين سنتيمترًا طولًا، وثلاثة وتسعين سنتيمترًا علوًّا، وخمسة وسبعين سنتيمترًا سُمكًا، وأضخمها يبلغ طوله مترين وخمسة وثمانين سنتيمترًا، وعلوه مترًا وستة وثمانين سنتيمترًا، وسُمكه مترًا وعشرين سنتيمترًا.

وعلى مسافة عشر دقائق للجهة الشمالية نجد أيضًا هرمًا صغيرًا لا يزال قائمًا منه ما يقارب الثلث، وتبلغ مساحة قاعدته المربعة الحجم نحو ستة عشر مترًا وواحدًا وأربعين سنتيمترًا، أما علوه الحالي — لجهة البوابة — فيبلغ سبعة أمتار ونصف المتر.

إن باب المدخل كبير جدًّا، وأذكر أنه مزين بكتابة أتلفتْها الأيام وشقَّقتها. ولما كنت قد قمت بزيارة هذا الهيكل في ساعات مختلفة من النهار، تمكَّنت من استغلال الفترة التي تظهر فيها الحروف جلية، ونقلت هذه المخطوطة، والمخطوطة الأخرى المحفورة على حجر الزاوية، للجهة اليمنى.

إن هذا الباب يؤدِّي إلى ردهة واسعة، وتجاهه باب آخر يقود إلى دهليز معوج،٣ معقوف، ينتهي من الجهة اليمنى إلى الدهليز الرئيسي. وإذا ما صعدنا وقطعنا حوالي ثلثَي المسافة للجهة الشمالية، نجد بابًا يؤدي إلى الدهليز الواقع في الوسط؛ فمن هنا يمكننا أن ندخل الدهليز الذي ينتهي بنا إلى السطح حيث يقوم الدَّرَج الذي يوصل إلى نافذة صغيرة تنتهي فوق المدخل.

ويدخل النور هذا المكان من ثغرة تشبه المرمى، وهي تخترق كثافة الحائط كلها، وعند منتصف هذا الدهليز نجد ممرًّا يوصل إلى غرفة يبلغ علوها ثلاثة أمتار وثلاثين سنتيمترًا، وإذا ما دخلنا إليها نجد في إحدى زواياها — للجهة اليمنى — فرجة يبلغ عرضها ثلاثة وثلاثين سنتيمترًا، وعلوها ستة وستين سنتيمترًا، وعمقها مترًا واحدًا. ونرى على جوانب الممر — الذي يقود إلى هذه الغرفة — تقويرًا بشكل نصف دائرة، أو خطًّا أجوف يبلغ عرضه أربعة عشر سنتيمترًا، ورفرفه الخارجي عشرة سنتيمترات بعلو خمسة أمتار تقريبًا، وهو يربط بين أعلى الممر وأسفل جهتيه الجانبيتين حيث كان يدحرج الباب الزحَّاف، فيحكم سد الحجرة المختصة بدفن الموتى.

وفي أسفل الدهليز الرئيسي فرجة توصل إلى غرفة صغيرة أخرى تقوم فوق باب المدخل، يبلغ عمقها في الجهة الشرقية مترًا وسبعة وخمسين سنتيمترًا، ويبلغ عند أسفل زاوية الممر الشمالي والزاوية الخارجية مترًا وواحدًا وخمسين سنتيمترًا.

يبدو أن هذا البناء قد شُيد أو رُمم بأمر من «تيبر كاود» الذي وضعه تحت حماية الإله الكبير «رافولون» ورفع هيكل فقرا إكرامًا له.

نجد في الجهة الجنوبية للهرم عدة أساسات لأبنية مربعة الشكل منحرفة حجارتها، ونجد حول هذه الأشكال من المدافن، وبين الصخور، كميةً كبيرةً من بقايا الحجارة المنحوتة وهي من الرخام الأبيض.

إنها جميلة جدًّا ومختلفة الألوان، ونرى أيضًا عدة نواويس أخرى فنحكم — بِناءً على إتقان أحد أغطيتها — أنه غطاء لَحْدِ رجل ذي غنًى وجاه.

وعلى مسافة ساعة واحدة شرقي فقرا، يندفع نبع اللبن ثائرًا معربدًا في وادٍ عميق وضيِّق. يعلو هذا النبع الضخم الغزير جسر من صخرة واحدة، وهو — ولا شك — من عمل الطبيعة لا البشر، إلا أنه من الجائز أن تكون يد الإنسان قد أنجزت صنعه، والدليل على ذلك هو أن الأقدار لا تستطيع أن توجد قناطر في مثل هذا الإتقان تراعى فيها — في مدًى ما — المقاييس الهندسية. إن هذا الجسر الفريد في نوعه يبلغ عرضه واحدًا وثلاثين مترًا، وطوله اثنين وخمسين مترًا، وعلوه في أعلى نقطة ثمانية وخمسين مترًا، وسطحه مغطًّى بطبقة كثيفة من التراب تُزرع حنطة.

إن منظر هذا الجسر هو بالحقيقة جليل مهيب؛ فثرثرة المياه التي توقفها عند جريها حجارة ضخمة أفلتت من الصخور وتجمعت في النهر، والصيحات الحادة ترسلها العقبان التي ترتاد هذا المكان، ونَوْح اليمام الشاكي الذي عشَّش هناك، والهواء الذي تتدافع دونه ألوف خفافيش ترفرف بين زاوية وأخرى في شبه عتمة؛ كل هذه المرئيات تُكسب هذا المكان المنعزل المنفرد منظرًا موحشًا. إلا أنه مهيب جدًّا، وله لذَّته أيضًا.

إن مياه هذا الينبوع الذي يبعد حوالي مائتي قدم عن الجسر تنبثق مرغية مزبدة لتفلت من بين صخرتين بسرعة لا يمكن أن يحدها عقل. إنها باردة كالثلج، وميزتها الهضمية مشهورة في جميع أنحاء تلك المنطقة.

وعندما تتدفق المياه من نبعها، يجري نهر اللبن بسرعة هائلة في مجريين يرويان عدة أماكن، ثم يلقيان أخيرًا عصا الترحال في نهر الكلب ونهر بيروت.

ويزعم الأهلون أن صخرةً كالرحى سقطت في هذا الينبوع فحالت قوة تدافع مياهه دون وصولها إلى قعره. ويزعمون أيضًا أن تلك الصخرة لا تزال تُرى حيث وقفت.

إن أبناء لبنان يزورون فقرا أحيانًا، ولا يدفعهم إلى تلك الزيارة إلا نهر اللبن ومياهه العذبة. أما رؤية الآثار القديمة فلا تهم العرب مطلقًا؛ فالأنقاض تبعث فيهم الهلع لأنها ليست سوى أنقاض الأبنية الدارسة.

أراد شيخان أن يولياني شرفًا بمرافقتهما إياي في رحلتي الثانية، فتزوَّدا بما يستطيبانه ويستسيغه ذوقهما، وعلى الأخص بزق من الخمر. وحوالي الساعة العاشرة أخذ الجوع يحرك أمعاء الشيخين، وبينما كنت أخشى — وقد عيل صبري — أن يفوتني النور الكافي فلا أتمكن من قراءة مخطوطة استنفدت جميع قواي، أنذرني هذان الجائعان بأن وقت الغداء قد حان، ولهذه الغاية ذبحا الجدي الذي اصطحباه، حتى إذا ما شرعا بتقطيع اللحم ليُشوى على النار، أخذا يفتحان قابليتهما بقلب الحيوان وكبده السخنين، بعد أن مهَّدا لهما الطريق ونضحاهما بكئوس مليئة من الخمرة الذهبية، وهي أقوى الخمور اللبنانية وأشدها بطشًا بالشاربين.

تركنا هذين المولعين بالخمرة يتلذذان كما يشتهيان، وما مشتهاهما غير أسلوب نحن نراه أكثر ما يكون انحطاطًا في الذوق. ولكيلا نُظهر لهما أننا فقدنا تمامًا القابلية لدى رؤيتنا ما يستعملانه من أساليب استحضرنا زادنا وتناولنا طعامنا وإياهما بألفة معتادة. إن هذين البطلين تمكَّنا من أكل الجدي وشرب زق الخمر كله دون أن يذوقا مياه النبع الشهيرة التي ظننت أنهما سيطلبان منها المساعدة.

ولدى عودتي إلى فقرا طفت في الحقول الواقعة للجهة الجنوبية، والتي تحوي كمية كبيرة من أنقاض تدل — ولا شك — على أنها معالم مدينة قديمة نجهل اسمها حتى يومنا هذا.

إننا نجد بين هذه الأنقاض هيكلًا صغيرًا في طرفه حجرة تقوم المدافن عن يمينها وشمالها، كما نرى ديماسين نالا قسطًا وافرًا من العناية، وهما محفوران في الصخرة.

وعلى صخرة تقع في الجبل القائم تجاه فقرا، على بُعد مسافة نصف فرسخ منها، وجدت هذه الحروف الثلاثة المحفورة بصورة غليظة T E B. إن أول هذه الحروف بحجم خمسة وعشرين سنتيمترًا، والاثنين الأخرين بحجم ستة وثلاثين سنتيمترًا، وهي تعلو عن الأرض مترين ونصف المتر.

ولدى عودتنا إلى دير النياح رأينا ناووسًا غير بعيد عنه، تزينه عدة نقوش. أما على جنباته فقد كانت محفورة رسوم تروس.

كان علينا أن نختار في رجوعنا قَطع أحد واديين: وادي جهنم ووادي الصليب. أخافنا الاسم الأول؛ فهذا الوادي — كما يقال — هو أكثر الأودية خطرًا. ومع ذلك فلا يسعنا أن نُثني على الثاني؛ إن طوله غريب حقًّا ومهبطه في غاية الانحدار. سرنا فيه ما يقارب الثلاث ساعات بعد أن قدنا جيادنا وراءنا، وهذا تدبير لا بد من الاعتصام به إذا شئنا أن نأمن التدهور في تلك الجبال.

وفي رحلتي الثانية التي قمت بها إلى فقرا زرت آثار فيطرون، فلم أجد فيها ميزة خاصة. إنها حجارة ضخمة مبنيٌّ بعضها فوق البعض الآخر. أما الأخرى فهي في غاية التشويش، وأظن أنه كان في هذا المكان مرقب تعطى منه المعلومات والإشارات.

إن ذرى جبل صنين لها أيضًا مرقبها؛ فالبناية المربعة الحجم التي ترى آثارها على أعلى قمة من الجبل لا يُعقل أن تكون قد خُصصت لغير هذا الغرض. والبنايات التي تلاحظ اليوم هنالك لم تكن سوى مقر متولي هذه المؤسسة. إن القبو الواسع استُخدم — ولا شك — لجمع مياه المطر.

أما جبل الكنيسة فسُمي هكذا لأن كنيسة صغيرة كانت تتوِّج رأسه، ولهذا الجبل مرقب كما لجبل صنين، وفيه غرفة معقودة بالحجر تُستخدم صهريجًا.

هوامش

(١) إن السيد شاناي الذي دللته على الطريق التي أنشأها الأقدمون بين بعلبك وبيبلوس وبيروت، كتب إليَّ في ١٨ تشرين الأول ١٨٣٠ يقول: إن المكاري أبى أن يرافقه في اتباع طريق يجهلها، رغم أنه لا خوف من أن يضلَّا، ومع ذلك فقد تمكَّن من اكتشاف الطريق القديمة.
(٢) ربما يجهل القارئ أن مياه بيروت سخنة كأنها مغلية على النار، وأن إحدى ملذات السائح الذي غادر المدينة في الصيف التنعُّم بمياه الجبل العذبة.
(٣) وفي طرف الدهليز باب محاط بسور يوصل إلى غرفة ثانية مخصصة لدفن الموتى تقوم تحت الأخرى. وارتفاع هذه الغرفة وضخامة الهرم يُثبتان ذلك.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤