الفصل الثاني والثلاثون

تابع أخلاق سكان لبنان وعاداتهم
عندما يتلاقى شخصان في الطريق يقذف كلٌّ منهما الآخر بدفعة كبيرة من المجاملات. وإذا أحسنَّا التعبير قلنا إنهما يقومان بهجوم لا هوادة فيه، حتى إذا ما فرغت جعبة أسئلتهم يفترقان وكلٌّ منهما يتمنَّى للآخر جميع أنواع السعادة له ولأولاده وأنسبائه وأصدقائه ومواشيه. ثم لا يكفَّان عن الكلام إلا عند حصول مانع طبيعي يَحُول دون سماع أحدهما الآخر. إن الأسئلة التي يطرحانها تتناول أقرباءهما وأملاكهما وبهائمهما …١

يحاول الموارنة تقليد المسلمين بإلقاء التحية، فيُحيِّي بعضهم بعضًا بأسلوب واحد، وبكلمة واحدة. ففي أول كانون يُحيِّي بعضهم بعضًا ﺑ «صباح الخير» منذ طلوع الشمس حتى غروبها؛ لأن هذا النهار — حسب اعتقادهم — عيد صباح الخير. أما في غير ذلك النهار فإنهم يُحيُّون ﺑ «مساء الخير» ابتداءً من الظهر.

يلفظ أبناء الجبل كلامهم لفظًا بشعًا؛ فهم يمغطون آخر الكلمة ويضيفون إليها نهاية اعتادوها. إنهم يحورون ويمسخون تمامًا الكلمات، ويستعملون كلمات أخرى لم يألفها العرب.

إن قلة كياسة السوريين — وخصوصًا اللبنانيين — جديرة بأن تكون مضرب المثل؛ فهم لا يتحدثون أبدًا عن امرأة دون أن يستدركوا بقولهم: أجلك الله. وبلا سبب موجب يقول لك بعضهم: لا تؤاخذني على هذه الكلمة. وهنالك تشبيه آخر يستعملونه، فلا يدل أبدًا على تعلُّقهم بحياتهم الزوجية، ولا يحمل على الاعتقاد أنهم يشعرون طويلًا بألم فقدان الزوجة. إنهم يشبهون فقدها بالألم الذي يُشعر به عند اصطدام الكوع بشدة؛ يقولون: إنه ألم موجع، ولكنه لا يلبث أن يزول سريعًا.

وبالطبع ليس إلى مثل هذه التشابيه يجب أن نرجع لنجاري مدام دي ستايل في قولها: إنهم يستعملون في جنوبي فرنسا تعابير شعرية بعيدة عن الكلفة، حتى نكاد نقول إنها مستوحاة من الهواء والشمس. وذلك لأن مثل هذه التعابير التي يستعملها العرب لا يستطيع غير القمر أن يوحيَها.

إن هذا الشعب الذي قلما يحترم الجنس اللطيف أناني، مدَّعٍ، يحب ذاته. قال بيفون: إن الإنشاء هو الرجل نفسه. وعليه فيمكننا أن نستند إلى طريقتهم في مخاطبة بعضهم بعضًا في رسائلهم لنحكم على مدى تفكير هؤلاء الجبليين.

إنهم يبالغون في منح الألقاب كما يبالغون في مجاملاتهم وجميع أقوالهم وأحاديثهم. ولكن الشقة بعيدة جدًّا بين أقوالهم وأعمالهم؛ فالوعد والوفاء به هما شيئان يختلفان تمام الاختلاف في الشرق وجبل لبنان.

إن البروتوكول المتبع عندهم في تدبيج الرسائل وتوجيهها لا يعرف حدودًا؛ فكل عائلة وكل طبقة من الناس لها ألقابها وتبجيلاتها التي تتميز بها من غيرها. وهذا علم خاص وصعب لا يُحسن حفظه وإتقانه أي امرئ كان؛ فعلينا عند الاقتضاء أن نفتش عن الذين يحسنون الكتابة لنكتب حسب الأسلوب الذي نرغب فيه. أما هؤلاء الأشخاص المختصون بهذا الفن فيتميزون بدواة يشكونها في زنارهم، وهي تكون عادةً من الفضة. إن أسلوب المجاملات في الكتابة قضية على جانبٍ كبير من الخطورة في نظرهم؛ فرب كلمة واحدة أُهملت فأدت إلى عدم قضاء الحاجة التي تطلبها.

فوصف الرجل بالرفيع الشأن، والأجلِّ الأمجد، والمحترم، لا بل المقدس؛ تُستعمل عندهم بكثرة غريبة. إنهم يرفعون الرجال عاليًا حتى يخيل إلينا أنهم يخاطبون أنصاف آلهة لا بشرًا. ويجب أن نعترف هنا أنهم بقدر ما يجلون الآخرين ويبجِّلونهم يتضعون هم ويحقرون أنفسهم. فصاحب الرسالة يُسمِّي نفسه الفقير والحقير، أو عبدك، أو المطيع لك، أو أخاك، وصديقك عندما توجَّه رسالة إلى نسيب قريب أو صديق مخلص.

ليس يسعنا نحن أن نُعرب لرئيسٍ ما أو زعيم خطير كالباشا — مثلًا — عن كثيرٍ من هذا التذلل والخضوع؛ وهكذا نجد هنا تناقضًا كبيرًا بين عاداتنا وعاداتهم؛ إذ بينما نجرؤ نحن على مخاطبة الله بسؤالنا إياه أن يحرسنا كبؤبؤ العين، يكون الشرقي جد سعيد إذا تشرف وسمح له أحد الباشوات مثلًا أن يقبل التراب الذي يدوسه.

ولا يجوز — عملًا بأحكام هذا البروتوكول — أن توجَّه الرسائل إلى جناب الست مثلًا، بل إلى حضرتها. أما الزعماء الكبار فلا يخاطَبون بهذا أو تلك، بل بهاتين اللفظتين معًا: إلى جناب حضرة …

أُسندت إلى غندور الخوري أعمال قنصلية فرنسا، ولم يكن من عائلة شهيرة، فتناقشوا طويلًا حول منحه ألقابًا جديدة بداعي المهمة الجليلة التي رفعته عاليًا؛ ومن ثَمَّ لتعريفه إلى الناس بمجرد الاطلاع على عنوان الرسائل الموجَّهة إليه؛ فاجتمع الأقارب والأصدقاء لبحث هذه القضية الخطيرة، فاقترح كلٌّ منهم لقبًا ظنه كافيًا، إلا أنه لم يُسلَّم بواحد من تلك الألقاب لأنهم رأَوْها جميعها لا تفي بالمرام، ولا تؤدي الغاية. وأخيرًا وقف أحد المؤتمرين قائلًا وقد نفد صبره: «أرى أنكم سوف لن تحكموا على اقتراحي الذي سأتقدم به كما سبق لكم أن حكمتم على سواه. أرجوكم أن تضيفوا إلى اسمه البروتوكولي: أيها الرب ربنا، كم هو جدير اسمك بالاحترام في جميع أنحاء الأرض. إن عظمتك رفعتك إلى ما فوق السماوات.»٢

إن أبناء الجبل خبثاء جدًّا حتى إنهم ينشغلون بمعنى الكلام المجازي عن انشغالهم بمعناه الصحيح؛ وهكذا، دون أن ينتهبوا إلى موضوع الحديث، فإنهم يعلقون أهمية كبرى على معنيَيِ الكلمة اللذين لم يقصدهما المتكلم. ومن هنا نشأ التحفظ في انتقاء التعابير عند من يدققون في كلامهم، أو الاستدراك بقولهم: بلا معنًى، بلا قافية، عندما لا يسعهم الاستغناء عن الكلمة التي تكون ذات معنيين.

أما إذا تكلموا عن مرض أو حادث مؤسف فيضيفون: بعيدًا عنك، أو وقاك الله.

ولقد بلغوا أقصى هذه الوساوس فصاروا يتحاشَوْن ذكر أسماء نسائهم حينما يتحدثون عن أسرتهم؛ فيعبر الرجل عن زوجته في معرض الحديث — كما يعبَّر عن ذلك عند الأتراك — بهذه التعابير التقليدية: أهل البيت، بنت عمي، أو أم فلان — إذا رُزقت ولدًا. وعليهم، إذا ما استعملوا كلمة امرأة فحسب، أن يشفعوها حالًا بالاستدراكات اللائقة، كما لو كانوا يتحدثون عن شيء خسيس، دني.

ولا يحق لك أن تستطلع العربي عن أخبار أو أحوال أو صحة أهل البيت إذا لم تكن بينك وبينه أقصى الألفة. وإذا ما اضطُروا إلى التحدُّث عنها في حضرة أحد أمرائهم وزعمائهم فإنهم يُطلقون عليها اسم العبدة. والزوجة في معرض كلامها عن رجلها تسميه سيدها، أو ابن عمها، أو أبو فلان، سواء أسبقت هذه التسمية ولادة الصبي أو عقبته.

وكثيرًا ما يميل الجبليون إلى إبدال اسمهم بكلمة أبو فلان، حتى إنهم تعوَّدوا أن يتكنَّوا قبل أن يتزوجوا.

يرَوْن في الزواج عملًا مشرِّفًا يرفع من قدر الرجل، ويبتهجون إلى أبعد مدًى إذا ما كان ولدهم الأول ذكرًا؛ وهكذا تطلق عليهم في اليوم الذي يلي الولادة الكنية الجديدة: أبو جرجس، أبو حنا، أبو يوسف، تبعًا لاسم القديس الذي يقتبسونه من الروزنامة أو الإنجيل، فلكل يوم قديس. إنهم يغضبون ويكدرون من أصبح أبًا إذا ما ظلوا يخاطبونه في المجتمعات بالاسم الذي كان له قبل هذا الحادث السعيد.

والذي حدا إلى استعمال الكنية قبل الزواج هو أن الكنية عندهم هي خير الألقاب. ومن قلة الأدب أن يخاطَب الرجل باسمه. وقد لا يُرزق الرجل أولادًا ذكورًا أو يحرم العقب سواء أكان ذكرًا أو أنثى؛ ولذلك يحتاطون لهذه المصيبة قبل وقوعها، فلا يعيش الرجل بلا كنية طول عمره.

وقد تلتصق الكنية بصاحبها فلا تبارحه مطلقًا وإن رُزق صبيًّا وسُمي باسمٍ يختلف تمام الاختلاف عنها. والطبقات المرموقة تهتم أكثر من العامة باتباع هذا العرف؛ فالأمير ملحم الحالي، الذي رُزق خمسة صبيان، لم يُعرف إلا بأبي فاعور — كنيته التي عُرف بها قبل الزواج والإعقاب. والذين يخشَوْن أن يفوتهم بعض الذوق في انتقاء اسمٍ ما يكتفون عادةً بكنية أُطلقت على إحدى الشخصيات العظيمة؛ وهكذا أصبح مألوفًا اليوم أن يُكنَّى جرجس بأبي عساف، وإلياس بأبي ناصيف، ويوسف بأبي الحسن، وموسى بأبي نجيم؛ لأنه سبق لرجالات أشداء في الجبل أن حملوا هذه الكنى، فصارت عندهم اليوم من التقاليد.

بَيْدَ أنه لما كان لكل قاعدة شذوذ حتى في لبنان، فقد وجدتُ أن الميل إلى تبديل اسم الرجل العازب باسم ولده، عندما يتزوج ويُرزق ولدًا، ليس عامًّا عندهم … وعرفت أشخاصًا عديدين ظلوا متمسكين باسمهم الأول ورغبوا رغبة قوية في المحافظة عليه رغم ولادة صبي لهم؛ فكانوا يعمدون ولدهم حينذاك بطريقة سرية، ويسمونه أبا إلياس مثلًا، فيستحيل على من يريد أن يكنيهم أن يقول لهم: أبو أبو إلياس … وبهذه الحيلة كانوا يحافظون على اسمهم الذي يُؤْثرونه على الكنية.

ويزعمون هنا أن محبة الذات تعمل عملها في عادة إطلاق اسم الابن على الأب، وقد كانت الدافع لاستنباط هذه الوسيلة؛ فكلمة أبو فلان فقط لا توحي لنا أي انقباض، أما أن ندعوَ امرءًا أبا أبا فلان فهذا لم يُسمع بمثله، وإذا كنا سمعنا بشيء مثل هذا فسببه المصانعة والمداجاة أيام الظلم والاستبداد. أيكون هنالك اسم أجمل من اسم الأب؟ لقد قدست جميع الشعوب الأبوة، ويجب أن تقدس أيضًا في لبنان حيث لا يزال الناس يحافظون فيه على عادات الأزمنة الأولى البسيطة.

إن النساء لا يتخفَّيْن أبدًا في الجبل، فالشباب ينتقون بأنفسهم زوجاتهم، وعندما يعلن الأهلون رضاهم تبدأ حفلة الخطبة التي يكون لها بعض الرونق؛ فالعقد ينظم بحضرة شاهدين يكون أحدهما أو كلاهما من القسوس، وفي هذه العقد يذكر ما يقدمه العريس أو العروس من أموال ثابتة ومنقولة، وعندما يمنح الكاهن البركة يُعتبر هذا العقد الديني كأنه نصف سر مقدس؛ فلا يمكن نقضه بدون سبب موجب، أو بدون رِضَى الفريقين، أو إخلال أحدهما بتعهداته، كما أنه لا يجوز أن تتجاوز مدة الخطبة — لغير مبرر شرعي — مدة سنة؛ ففي نهاية هذا الأجل يجب أن يتم الزواج، وإلا فالسلطات تجبر المتعاقدين على ذلك.

إن الأعراس مستحبة كثيرًا في القرى، تنعشها، وتخلق فيها — ولو لبضعة أيام — أسباب اللهو الكثيرة الجلبة. والعرب يبتهجون في هذه المناسبات حتى الجنون. إن هرج هؤلاء الرجال وهذيانهم يبلغان أشدَّهما في المرافع وفي الأعراس؛ فكل واحد يريد أن يُعرب عن مقدار اهتمامه واندفاعه أمام قريبه أو صديقه، ويحاول أن يتميز من سواه كيما يقال فيما بعدُ إن هذه الحفلة كانت أكثر الحفلات بهجة وإبداعًا.

تكون الحفلات في منزل العريس، وأهل العروس لا يُظهرون أية بهجة كي لا يفسحوا مجالًا للقول بأنهم يتملَّصون بسرورٍ من ابنتهم.

إنهم لا يصحبونها إلى بيت العريس، ولا يحضرون حفلة الزفاف لئلا يُظن أنه لا يسعها الاستغناء أو أنها تحتاج إلى مساعدتهم.

ترافق العروس قريبة بعيدة النسب ورجل فقير يمسك بزمام الجواد؛ وذلك لأنه لا يجوز مطلقًا أن تقطع العروس الفسحة التي تفصل بين بيتها ومسكنها الزوجي مشيًا على الأقدام، وإن لم يكن يفصل بين كليهما سوى زقاق واحد. يجب أن تقوم بهذه الرحلة ممتطية جوادها فلا تنزل عنه إلا عند وصولها أمام منزل العريس. والذي يمسك برسن فرسها يرتدي عادةً عباءة أو جبة — وهما ضربان من ثياب هذه البلاد. وهذا الرجل يسرَّح حالًا بعد أن يأكل أكلًا عنيفًا.

أما إذا كانت العائلة لا تملك جوادًا أو فرسًا فإنه يصعب عليها أن تقترض أو تكتريَ فرسًا من القرية؛ لأن من خرافات الجبل أن المطية التي تنقل العروس تلاقي حتفها في بحر السنة نفسها؛ ولهذا يُضطرون إلى التفتيش عن فرس في أمكنة بعيدة جدًّا، بعد إخفاء سبب احتياجهم إليها.

أما أنا فكنت موقنًا — إذا ما وُجدتُ عرضًا في الجبل — من أنهم سيطلبون جيادي لدى كل حفلة زفاف في الضواحي، وكنت أقرضها بسرعة مدهشة لأُفهم الذين ينعتونني بالتهور وقلة التبصُّر أنها كانت تزداد نشاطًا وعافية.

يتألف موكب العروس من عدد غفير من سكان قرية العريس. وهؤلاء — بعد أن يرتدوا أجمل ملابسهم — يبدءون بالأغاني وتصعيد هتافات الفرح، ثم يتبعونها بطلقات نارية. إنهم يتوقفون من وقتٍ إلى آخر ليغنوا دفعة واحدة، أو ليرقصوا، ثم لا تلبث أن تدوِّيَ الأهازيج، والصراخات الحادة، والهتافات للحكام والأقارب والأصدقاء.

تصطحب العروس صندوقًا يضم ثيابها وفراشها ولحافها. والعريس لا يحلق ذقنه أو يرتدي ثيابه إلا بعد وصول عروسه، أما الإشبين وأصدقاء العريس فينتهزون بدورهم هذه الفرصة ليحلقوا هم أيضًا، زاعمين أن في ذلك فأْلًا مليحًا.

وعندما يصل الموكب، يفتش العريس في المكان الذي تتوجه إليه العروس عن نقطة مرتفعة ويقف عليها ليقال إنه نزل حتى وصل إليها؛ أي إنه أسمى منها.

وقبل أن تدخل العروس بيت عريسها تلصق على عتبة باب البيت خميرة وترمي رمانة أو رمانات. وهذه العادة ضرب من التفاؤل في حياة الزوجين ومصيرهما.

وغداة اليوم التالي يقوم العريس بزيارة أهل العروس، بعد أن تكون قد تقدمته الهدية. بَيْدَ أنه يتحتَّم عليه أن يعود في المساء إلى منزله، فلا يبيت عندهم تلك الليلة. إن أقارب العروس يأتون جميعهم في النهار الثامن ويصطحبون هدية (نقوط) تراوح قيمتها بين العشرين والماية قرش تُهدى إلى العروس خاصة، ويمكنها أن تتصرف بها على هواها. والعريس يقوم بتقديم مثل هذه القيمة عند زفاف أحد أخوة العروس. وأخيرًا تُقام وليمة عائلية يجتمع فيها جميع الأنسباء، وهذه الوليمة هي نهاية حفلات العرس.

أما الفلاحون فقد تعوَّدوا أن يعيِّنوا — لدى موافقتهم على زفاف ابنتهم — مبلغًا من المال هو ثمن العروس كما لو كانت صفقة تجارية. وهذا المبلغ يراوح بين المائتين والخمسماية قرش ويسمى «نقدًا». إن هذا المبلغ مقدس، وعند موت الزوج يباع جميع ما يملكه — إذا اقتضت الحال — ليُدفع كاملًا. وهذا النقد هو الذي يُمكِّن الأرامل من التزوج ثانية.

إن الهبات بين الأحياء معمول بها حتى ثُمن ما يصيب الرجل من إرثه.

وهنالك عادة درجوا عليها في الجبل ثم ألغاها الأمير بشير منذ اثنتي عشرة سنة خلت. لم يكونوا يسلمون العروس لأهل العريس وأصدقائه إلا بعد أن يصيب أحد هؤلاء برصاصةٍ هدفًا ما يعلق في طرف ركيزة عالية. وإذا لم يتمكن أحد هؤلاء الموفدين من قِبل العريس أن يصيب الهدف، ازدراهم جماعة العروس واحتقروهم. وكثيرًا ما كان يؤدي ذلك إلى المنازعات، لا بل إلى نقض الزواج.

وفي زمن متأخر جدًّا لم تكن تُسلَّم العروس — وهي في صحبة جمهور غفير من شباب قريتها — إلى أهل العريس وأصدقائه، إلا بعد قتال وهمي ينتهي بظفر هؤلاء. وإذا لم يأتهم الله بالظفر أرجئ التسليم إلى يوم ثانٍ. إن اتِّباع مثل هذا العرف أدى — في كثير من الأحيان — إلى معارك حقيقية بين شباب القريتين إذا رأَوْا في هذا الحادث مسًّا بشرفهم.

تنصرف العروس إلى تدبير شئون المنزل في اليوم الثامن لزواجها. وعليها أن تطبخ، وتسقيَ الماء من العين، وتقطع الحطب أحيانًا. والنساء عندما يقمن بأشغالهن يشمرن أثوابهن ويشددنها بقمصانهن حتى تبلغ ما فوق الركبتين فتربط بالزنار؛ ولهذا كن يزينَّ سراويلهن بالتدبيج والتطريز.

وفي المدن — حيث تقوم النساء بأشغال المنزل أيضًا — تراهن يجلسن مقرفصات بعد أن يستعنَّ بأعقابهن أو ركابهن. إنهن يغسلن ويعجنَّ ويطبخن ويصنعن القهوة ويتحدثن أو يدخنَّ وهن في إحدى هذه الجلسات. أما عندما يتعبن فيكون كرسيهن حجرًا.

إن الدرزيات والمارونيات لا يلففن جميع جسدهن بملاءة غليظة أو شفافة كما هي عادة نساء المدن؛ فقطعةٌ من القماش أو الحرير تبلغ مترين أو ثلاثة مُحكَمة الوضع في قمة الطنطور تسترسل إلى الوراء حتى ثلثي جسدهن يحجبن بها وجوههن إذا دعت الضرورة إلى ذلك. والمسيحيات لا يحتجبن إلا عندما يشاهدن رجلًا مسلمًا أو درزيًّا. أما نساء هذين الشعبين فيختفين عن أبصار جميع الرجال من أي طائفة كانوا.

إن عادة استعمال الطنطور ترجع إلى الدروز، والملاءة إلى مسيحيي كسروان. ثم ما لبث أن اتبع القسم الأكبر من هؤلاء — وعلى الأخص الذين يقطنون البلدان الدرزية — عادة لبس الطنطور.

إن الأميرات وزوجات المشايخ والأشراف كن يلبسن طناطير من ذهب، أما الذين يتعاطَيْن الحِرف فنطناطيرهن من الفضة يُحلى قسم من مقدمتها بالذهب. إن طناطير الدروز قصيرة أكثر من غيرها، وطناطير نساء العُقَّال والشعب خشبية أو مصنوعة من القرون.

أما عادة ارتداء الطرابيش الكبيرة فهي حديثة العهد، لم تُتبع في الجبل إلا منذ حوالي مائة سنة. وهذا الزي قد أُتي به من بغداد، مع أن هذه الطرابيش تُصنع في تونس، ثم ما لبثت فرنسا أن قلدتها في ذلك.

وهذه العادة قد زالت عندما أخذت عادات مصر تعمل عملها في سوريا. فعودة الأمير بشير إلى الجبل، عام ١٨٢٣ بعد حصار عكا، على إثر عصيان عبد الله باشا، أحدثت انقلابًا كبيرًا في أزياء الملبوسات؛ وهكذا استحسن الجميع ذوق الأمير لأن الأزياء التي درج عليها كانت فخمة جدًّا.

إن الجبليين يميلون كثيرًا إلى الفخفخة؛ فهم لا يملكون إلا الملبوسات والأسلحة. واللبنانيون يحبون كثيرًا تقديم الهدايا، حتى في زياراتهم البسيطة التي يقومون بها؛ ولذلك يقولون إن اليد الفارغة كريهة الرائحة. يجب دائمًا تقديم هدية للسلطة التي تحكمهم. ويزعمون أن هذا التقليد مُستوحًى من وصية موسى للإسرائيليين، وهي أن لا يأتوا إليه فارغي الأيدي.

لم يعد من أثر في الجبل لليزبكية والجنبلاطية اللتين قامتا مقام اليمنية والقيسية. إلا أن البلاد انقسمت بعد وقوع الحوادث الأخيرة إلى دروز ومسيحيين. وأهالي بيروت بصفتهم يمنيين كانوا أعداء الجبل.

العدل في بيروت خاضع لتأثير ذوي النفوذ الذين يرجحون دائمًا كفة الميزان؛ وهكذا لا يكفل الحق ربح القضايا الخاضعة لأحكام القضاة.

ذهب شخص — بعد أن حُكم عليه في دعوى رغم توافر حججه وبراهينه — إلى كنيسة قريته وأخذ يدق الجرس دقات حزن، وعندما رأى الناس يتراكضون متسائلين عن الرجل المُتوفَّى، قال: «إنه الحق! ولما كان الحق شخصًا هامًّا فقد أحببت أن أُعرب عن الأسف الذي أشعر به عند موته في فترةٍ أنا بحاجةٍ فيها إلى مساعدته وحمايته.»

إني أقول — اعترافًا بالحقيقة — إن أعمال رجال الأمن يمكن المفاخرة بها رغم عنايتهم القليلة؛ فالرأي العام مطبوع على حب الفضيلة والشرف؛ وهكذا فقلما يذنب شخصان من الجنسين المختلفين إلى شرائع الطبيعة. وإذا كانت العادات العامة قد فسدت فإنما ذلك يكون في القرى المجاورة لبيروت؛ فيتوجب علينا إذنْ أن نعزوَ إلى هذه الضاحية ما قلته عن نساء لبنان؛ إذ إن هنالك اختلافًا بين اللواتي يسكنَّ الساحل، والأخريات اللواتي يعتصمن بالجبل.

أما إذا تُوفِّي شخص فيُخطر على الأثر عموم الأقارب والأصدقاء والمعارف، فيهتم هؤلاء بإيواء المعزين الوافدين من القرى المجاورة وإطعامهم. فكلٌّ منهم يصطحب إلى داره حسب مكنته شخصين أو ثلاثة. إنهم يتسابقون إليهم بعد عودة الموكب من الدفن؛ إذ قلما تكون المدافن بعيدة، لا بل تكون عادة حول الكنائس والمعابد.

وعندما يكون المُتوفَّي رجلًا مرموقًا يكرم — وفقًا للتقليد — إلى مدًى بعيد. إن أمراء البلدة أو الضواحي يوفدون رجال حاشيتهم ليعزُّوا أقرباء الفقيد، وتتدافع الجماهير من الرجال والنساء لحضور المأتم، فيأتون من جميع القرى المجاورة. ولما كان لا يجوز إضرام النار في بيت الراحل، فأصدقاء الفقيد هم الذين يَقْرُون هذه الجماهير وينزلونها عندهم.

وعند وصول كل وفد أو شخص من المعزِّين يتعالى صراخ محزن مقدمة لنواح تصعده النسوة الملتفات حول النعش ويُنهينه بتأوُّه شامل حاد.

والمرطبات التي تُصب للمعزين يقدمها على اختلاف أنواعها الأقرباء والأصدقاء وزعيم القرية أيضًا. فالأمراء والأميرات يرسلون عدة قطع من الأقمشة المزركشة بالذهب والفضة ليُلف بها نعش الميت، ويُلبسون الفراء كلًّا من أولاده، وعند عدم وجودهم يلبسها أنسباؤه الأقربون، وأسرة الفقيد تعد هذا شرفًا لها. وقد تكون هذه اللفتة الأميرية في بعض الأحيان هي المكافأة الوحيدة لخدمات جُلَّى قام بها الفقيد.

إن الجبليين الذين يتمسَّكون كثيرًا بتقاليدهم وأنانيتهم يحاولون في مثل هذه المناسبة أن يحيطوا أنفسهم بهالة كبيرة من التقدير، وهذا ما يدعوهم إلى تكبُّد مصارفات لا يحتملونها ليُفسحوا مجالًا للتحدث عن عظمة المأتم؛ ولهذا قيل في الأبهة: أنها تدغدغ — في هذه البلدان — كبرياء الأحياء أكثر مما تخلد ذكرى الأموات.

إن الكهنة الذين يحضرون دفن الميت عند الطائفة المارونية كثير عددهم، وهذه الكثرة لا تدل على منزلة الفقيد؛ فالكاهن لا يعطَى إلا ما يقارب الأربعين سنتيمًا، ثم يعطَى مثل هذا المبلغ بعد حين إذا ما أقام قداسًا وجَنَّازًا عن نفس الفقيد.

يُحترم الفرنسيون — بلا ريب — أكثر من غيرهم في الجبل. والفضل في هذه المنزلة التي اكتسبوها يعود إلى من سبقهم؛ فهنالك بين الذين أتَوْا حديثًا من يفضِّلون أن يبرزوا بمظاهر أجنبية عوضًا من أن يحافظوا على أخلاقهم الطبيعية الدمثة الحليمة؛ هذه الصفات التي يستعذبها أبناء البلد هنا، لا سيما وأنهم لم يتعودوها في زعمائهم الوقورين بطبيعتهم، والذين لا يبتسمون كما يبتسم الإفرنسي دائمًا.

لا يضع العرب الخاتم في السبابة أو الإصبع الوسطى أبدًا. أما الأصابع الأخرى فيزيَّن كلٌّ منها بثلاثة خواتم أو أربعة في أكثر الأحيان، حتى إن الإبهام قد لا تُحرم نصيبها من الخواتم.

ولما كانت السبابة إذا أشير بها متدلية تعني التهديد، فإنه يُخشى استفزاز الناس وإهانتهم عند المباهاة بالخواتم التي تزينها.

إن الإصبع الوسطى متهمة بقلة النظافة، وهذا ما يَحُول دون تزيينها.

هوامش

(١) إن السيد بواريه — العالم بالطبيعيات — يروي هذه الواقعة نفسها في أخباره سفره إلى إفريقية.
(٢) ترجمة الأب دي لابودوري، ص١٧٦.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤