الفصل الثاني والأربعون

معاملة المصريين للأوروبيين
كثيرةٌ هي الأعمال الجائرة التي قامت بها السلطات المصرية ضد الأوروبيين. ولما كان لا فائدة من إعادة ذكرها ها هنا لأن دور الطباعة قد اهتمت بتدوينها فعرفها الجميع، فإني لا أنقل إلا بعضها١ إكمالًا لموضوع كتابي فقط.

لا بدَّ لي، قبل أن أبدأ بها، من القول إن الأوروبيين حلموا أيضًا بتحسينات جمة. ظنوا أن حكوماتهم ستكون محترمة موقَّرة، وتطالب بامتيازات ينعم بها رعاياهم، ولكنهم ما لبثوا أن رأَوْا محمد علي يطبق على الأعمال التجارية في البلاد التي افتتحها إجراءات وتدابير جامحة ظالمة، فمنع منعًا باتًا التجار النازلين مصر من شراء منتوجات هذا الإقليم الواسع، سواءٌ أكان الشراء من الحواضر أو من الأرياف.

كان يأمر موظفيه المختصين بمنع كل تساهل وتجديد؛ فاضطُر الأوروبيون إلى أن يتجاوزوا دائمًا تعليمات السلطات؛ ومن هنا نشأت الحرب التي شهرتها السلطات على الفرنسيين، ولم تكفَّ عنها أبدًا. وقد عرفت سببها بعد مباحثة جرت بيني وبين إبراهيم باشا الذي يحب بطبيعته كثرة الكلام.

«لا ينعم الأوروبيون في الديار الشامية بما ينعمون به في مصر. هذا ما قاله لي عام ١٨٣٤، أما الرعايا الذميون فهم أوفر حظًّا من أبناء ذلك البلد.»

تفاقمت هذه الأمور حتى اضطُر القناصل مرارًا إلى مطالبة السلطات بالكفِّ عن إرهاق الفرنسيين، وإقامة العراقيل في وجههم.

كنا نفضل أن نتمشى على مبدأ مستقر ليعلم كلٌّ منا موقفه وواجباته تجاه الآخر. ولقد طالبت — عندما اطلعت على تعليمات نائب الملك — بإبقاء الأمر على حاله، ومعاملتنا وفقًا لما مُنحنا من امتيازات قديمة. ولكن لما كان الموظفون يتقيدون بالأوامر الصادرة لهم، ولا يهتمون إلا بإنماء دخل سيدهم فحسب، فقد لاقيت بعض الصعوبة في حماية إفرنسيي سوريا من خطر الإجراءات الجائرة التي هُددوا بها؛ فالسلطة تجاهلت امتيازاتنا، وأخذت تتصرف كما تشاء كأننا لم نُمنح واحدًا منها؛ فلم تكن تجيب مطالبنا العادة إلا بعد أن نصطدم بمقاومة وعناد عنيفين.

ضمَّت في غضون ثلاث سنوات كاملة جميع أساكل سوريا إلى قنصلية بيروت. وفي هذه المدينة كان يُنظر في القضايا المتعلقة بمواطنينا المنتشرين في جميع أنحاء هذه المقاطعة.

فالذين حكموا في سوريا باسم محمد علي لم يفرِّقوا قط بين القناصل وعمال القناصل. فلا يشتكي من أحد هؤلاء حتى تصدر الأوامر الشديدة وتُبلغ إلى الجميع دونما استثناء. ولما كانت اللهجة العنيفة، لا بل التهديدات، هي أسلوب المصريين الخاص، فقد كان يؤدي صدور كل أمر من هذه الأوامر إلى استفزاز حقيقي يفسح في مجال مناقشات وخلافات لا تنتهي.

لا ننكر أن بعض القناصل الأجانب ووكلاءهم وعمالهم قد استفادوا — في فترة من الزمن — من التسامح الذي أبداه موظفو الحكومة ليحموا عددًا لا يُحصى من الناس، وأن هذه الأعمال ظلت مجهولة من نائب الملك الذي ظن أن هذه الحمايات كانت تُشترى. فمُتسلمو الأساكل — وهم شركاء بعض القناصل في هذه الصفقة — قد حاولوا تطبيق أوامر الزجر على قناصل هم براء مما اتُّهم به أولئك؛ وهذا ما كان يدفع هؤلاء إلى رفع احتجاجات عنيفة كانت تنتهي أكثر الأحيان بالرجوع عن الأوامر مع بعض التعديلات. بَيْدَ أن تلك التعديلات كانت تظل مجحفة بحق من لم يتجاوزوا صلاحيتهم في ممارسة حقوقهم، ولا تمس من اتَّجروا بالحماية إلا مسًّا خفيفًا.

هذا هو — ويا للأسف — تقدير الرجال الصالحين في هذا البلد. لم يكونوا يُحسون إلا قليلًا من العطف لأنهم لا يحسنون — كغيرهم — السلب والنهب والدسيسة والمكر. وأما أولئك المنحطو الأخلاق فكانوا يظفرون — وحدهم — بإنعامات تُرفض بعنف إذا ما طلبها القناصل.

نعمت بنفوذ عظيم على عهد عبد الله باشا دون أن أرى نفسي مضطرًّا إلى المرور في شبكة من رسميات مخزية يتطلبها الحكام المصريون، وهي في أكثر الأحيان لا تسفر عن نتيجة؛ فعند ظهور التنظيم الأول لم يعترف الفاتحون إلا بحقوق القناصل المقيمين في حلب. أما قناصل الأساكل الأخرى فقد اعتبروهم وكلاء. ولما كان قنصل فرنسا وإنكلترا وسردينيا وتوسكانا يقيمون في بيروت، فقد احتجَّ ممثلو دولهم في الإسكندرية على هذا القرار الذي أصدره حاكم سوريا العام وأجاز لنفسه القول فيه: إن حلب تستحق وحدها — نظرًا لأهميتها — أن يكون فيها قناصل.

وبينما كان نائب الملك يُدهش للحمايات التي كان يبسطها الأوروبيون بسرعةٍ في سوريا، سمح بانتقاء وكلاء القناصل من رعاياه. لم يكن شيء يُستغرب أكثر من هذا؛ لأن تعيين كل وكيل كان سبب حماية ستة من الرعايا الذميين وإبعادهم عن متناول يد السلطات. فعملٌ كهذا يطبَّق في كل إسكلة كان ينتزع من قبضة السلطة عددًا لا يُحصى من الرعايا، وهذا أمر كان في إمكان الدولة تلافيه لو استمرت على تطبيق النظام العثماني.

قالوا إن لنائب الملك غرضًا في ذلك، فكيف يفعل هذا من كان هدفه الإكثار من المال والرجال؟! أيجهل أنه لا بد لكل وكيل من عدة رجال ينعمون بالحماية الأجنبية فلا يبقى له عليهم أي سلطان؟ إن ما يرمي إليه — كما قيل — هو حصد شوكة نفوذ القناصل الفرنسيين الذين كانوا يناهضون حكومته ويحاولون أن يَحُولوا دون تنفيذ مشيئته. والبرهان على ذلك هو استسلام وكلاء قناصل دمياط إليه وانقيادهم له، ومساندتهم إياه فيما يجريه للنيل من حقوقنا. فما انتظره نائب الملك قد تحقق — كما يظهر — عندما قام بتجربته الأولى.

لاقيت أنا شخصيًّا مشقات يصعب تصديقها٢ رويت أخبارها، ويمكنني القول إنها كانت نتيجة تتميمي واجباتي بدقة وإخلاص.

منع الحاكم العام إعفاء مئونتي من الرسوم المفروضة عليها، وأجبرني على أن أبعث إليه ببراءة تعييني قنصلًا. ولما أرسلتها وتعذر عليه التملص مما خولني إياه القانون من حق، سمح لوكلاء القناصل أن ينعموا هم أيضًا بهذا الامتياز، على الرغم من أن بعض القناصل الأجانب لم يحصلوا إلا على فرمانات بسيطة لا تمنحهم إلا قليلًا من الامتيازات.

وكما تجاهلت السلطات المصرية حقوقنا تجاهلت كذلك حقوق الضباط الفرنسيين في استيراد مؤنهم معفاةً من الرسوم، في حين أنها عفت من تلك الرسوم وسقات من الحبوب لا تخص الأوروبيين إلا في الظاهر.

قرر مجلس شورى عكا إلزام ضابط فرنسي بدفع المكوس المفروضة على المؤن النازلة إلى الشط، وإذا أبى دفْع ما يترتب عليه، فيعني ذلك أنه أضمر الضرر للخزينة.

وفي الفترة التي شاء خلالها المصريون أن يحتكروا حاصلات سوريا، ويفرضوا الرسوم الباهظة على البضائع المصدَّرة، استصدر الإنكليز فرمانًا من الباب العالي يُجبِر نائب الملك على العدول عما أمر به. وكانت الأوامر الصادرة بهذا الشأن مبهمة للغاية، فشاءت سلطات سوريا أن تفسرها كما تهوى وتريد، فأصرَّت ذات مرة على استيفاء رسم ثلاثة بالماية من تاجر كان يُصدِّر بعض القطن إلى يافا. فرفع شكواه إلى القنصل الإنكليزي المستر مور، فحضر بنفسه وتدخل بالأمر. ولما رأى مأمور الكمرك مصرًّا على ما زعم، ولم يبالِ بما قدَّم له القنصل من براهين، اضطُر ممثل إنكلترا إلى تصدير القطن عنوة. لم تبال السلطات المصرية — وهذه حقيقة تقال — بالقوانين ونُظم العدالة، إلا أن صلابة القناصل الذين تطاولت على حقوقهم، كانت توقفها عند حدها، وقلما رأيناها تجابه المقاومة المبنية على حقٍّ صريح.

اضطُررنا إلى اتباع خطة قنصل إنكلترا عندما حالت السلطة دون تصدير الحرير المشترَى من بيروت، أثناء الفترة الوجيزة التي احتُكر فيها هذا الصنف. انتهزنا فرصة وجود محمد علي في يافا فقدَّمنا له احتجاجاتنا الصارخة. والكولونل كامبل الذي كان إلى جانب نائب الملك دعم مطاليبنا وألغى ذلك الاحتكار بسرعة فائقة؛ وهكذا ساعدت الظروف القناصل بصورة غريبة، فاستطاعوا حماية حقوق رعاياهم. وكانت محاولة ثانية جرَّبت أثناءها الحكومة المصرية أن تحتكر تجارة الحرير، إلا أنها اضطُرت إلى العدول عن هذه الفكرة عندما وقفت بوجهها معارضة قناصل بيروت.

وإذا حاولنا أن نفكر بما تهدف إليه هذه التصرفات التي كان يقوم بها موظفو الحكومة فلا يمكننا تعليلها إلا بالفوضى في جهاز الدولة المصرية، وروح البغض والحسد في نفوس مأموريها، وأخص منهم أولئك الذين يحاولون اكتساب رِضَى رؤسائهم فيقومون بأعمال شاذة لا يردعهم عنها رادع مهما كان السبب وجيهًا. إن الأوامر التي كانت تصدر لم تكن تميز الفرنسيين بشيء عن أبناء هذه البلاد؛ فالسلطات كانت ترى أنه من الضروري أن نُعامَل والمواطنين على قدم المساواة.

إن جميع قضايانا كانت تفصل في الديوان الذي يضع أعضاؤه أصول العدالة نصب أعينهم … فالقضاة كانوا لا يأبهون للمعاهدات وما يتفرع منها. لم ينظروا بعين الاعتبار إلا إلى مصلحة الخزينة؛ وهكذا هُضمت حقوق الأوروبيين المعترَف بها، وسقطت امتيازاتهم المشروعة والمعروفة عرفًا.

وعندما بحثت قضية إعفاء السماسرة وأصحاب المخازن وخدام الأوروبيين من بعض الضرائب، زعمت السلطة بأنه لا تجار في الإسكندرية. أما تجار الأساكل الأخرى فلم يكونوا يقومون — حسب رأيها — بأعمال واسعة النطاق … والغاية من ذلك هي عدم منح هذه الامتيازات لغير التجار الذين ترغب فيهم هي.

وبهذه المناسبة نقول إن حمل السلطات على الاعتراف بحقوق تجار جميع أنحاء سوريا يعود الفضل فيه — بلا مراء — إلى قناصل بيروت.

كانت وظيفتي تحملني على إنباء القنصلية العامة في الإسكندرية بجميع ما يحدث ها هنا. وشد ما كنت أقف بوجه السلطات عند تحيُّزها وانحرافها عن جادة الحق، ولا سيما بعد أن رأيت بنفسي أساليب الإدارة الحكيمة التي كانت تُتبع في مصر. قد تبيَّن لي بعد الاستقصاء أن الموظفين الذين يتبعون طرقًا معوَجَّة هم الذين كانوا يعيثون بالنظام فسادًا. كنت آمل أنهم سيرجعون عن غيِّهم ويتقيدون بواجباتهم حالما يؤمَرون. وهذه التمنيات لم تكن ترمي إلا إلى إدارة حكيمة مستقرة كالإدارة التي ظننت أن نائب الملك يرغب في تطبيقها في بلده الجديد. وقد ظهر لي أن ظني في محله عندما حمل إليَّ السيد ميمو ثناءً وشكرًا من قِبل محمد علي؛ فالقنصل العام الذي قدم له ترجمة بعض الملاحظات التي تضمنها تقريري طلب مني المثابرة عليها، مؤكدًا لي أن جميع الأعمال السيئة التي حصلت في سوريا كانت مخالفة لمشيئة محمد علي.

ومع ذلك فقد بقيت الحالة على ما كانت عليه، لا بل ازدادت سوءًا؛ لأن أولياء الأمر يعملون كل ما بوسعهم ليبرروا تصرفاتهم، ولأن الحكومة كانت تفضِّل أن تستفيد من أعمال هؤلاء العمال بدلًا من أن تهتم في معاقبتهم.

كتب إليَّ السيد لاسبسس٣ بتاريخ ١٠ تشرين الأول ١٨٣٧ يقول:

أؤكد لكم أن الحكومة المصرية تُحسن التفريق بين تصرفاتكم وتصرفات القناصل الآخرين، وإنها تقدركم حق قدركم.

ولقد قرأ آخر متسلم في بيروت لمعاوني مقطعًا من تقريرٍ رفعه إلى رئيسه يقول له فيه: «لم يكن يجد سهولة إلا فيما تطلبه منه قنصلية فرنسا؛ فهي لم تكن تخرج قط على أصول اللياقة وآدابها حين كانت تطالب بحقوقها.»

وهذا يذكرني بالحديث الذي نقله إليَّ رحالة عن لسان سليمان باشا بينما كان يتحدث وإياه عن مشاكله المتواصلة في القناصل: «كنت أجد سبيلًا لمؤاخذة فلان أو فلان، إلا أن المسيو غيز الذي لا يتعدَّى نطاق حقوقه المشروعة لم يفسح لي في مجال مؤاخذته بشيء.»

وكثيرًا ما أجد بين المعلومات التي جمعتها حول كيفية الإدارة تفاصيلَ عديدة لِمَا كان يحصل بيني وبين سليمان باشا من خلاف ومشادة حول قضيةٍ ما. فما كاد هذا الباشا يتسلَّم زمام المهام المصرية حتى رأى نفسه مضطرًّا إلى العمل وفقًا للمبادئ التي كانت تنخر صدر هذه الدولة. ولما كنت لا أريد أن أحفظ عنه إلا ذكريات طيبة حلوة، فقد ضحيت — في سبيل هذه الغاية — بجميع ما دوَّنته من حوادث تدور حوله يوم كان قابضًا على ناصية الحكم. ومهما يكن من أمر، فأنا واثق من أن تصرفاته في تلك الفترة كانت تناقض كل المناقضة أمياله ونزعاته.

فسليمان باشا رجل عادل، ذو وجدان، أحب بكل ما أوتي من قوًى أسياده الجدد، بَيْدَ أن قلبه ظل دائمًا لنا، وإنه يرى شرفًا في انتسابه إلى الفرنسيين. إن أخلاقه تخون وطنيته عند الضرورة، وقد استطعت — حين كنت في حلب — امتلاكه قلبًا وقالبًا؛ فأصبحت علاقاتنا ودية خالصة بعد أن كانت ديبلوماسية بحتة.

وشاهدت أيضًا هذا القائد يهتم شخصيًّا بالعمليات الهامة التي أمر بالتمرُّن عليها في غضون مدة طويلة، ليعلم الجيش — وكان قائده الأعلى — كيف يطعن الأتراك في ظهورهم. فهذه الخطة نفسها — المكررة مائة مرة — هي التي اتُّبعت في نيزيب.

إن المناسبة الوحيدة التي أعربت فيها سلطات بيروت عن قليلٍ من اللطف كانت لدى وصول الأمير ده جوانفيل.

كنت على ظهر السفينة «إيفيجاني» عندما أتى الحاكم يقدِّم تحياته لسموِّه، وكنت أقوم بينهما بمهمة الترجمان. قام الحاكم بجميع أصول اللياقة التي سمح له بها مركزه. رجاه الأمير — بعد أن أعرب له عن امتنانه — في أن لا يكلف نفسه ما أزمع أن يقوم به من أعمال لأجل إجلاله وتكريمه، ولكن الحاكم أبى أن ينزل على إرادة ابن ملك الفرنسيس، وشاء أن يُعرب له — بما تُمكِّنه منه الحال — عن شرف قدومه الذي أفحم قلبه بالفرح والسرور؛ ولهذا أمر مدفعية حامية المدينة بأن تطلق واحدًا وعشرين مدفعًا إجلالًا لمقام الأمير، ثم أحاط طريقه بسياج من الجنود ابتداءً من المرفأ حتى القنصلية. كان يتقدم الأمير — وهو ذاهب إليها — فصيلة من الجنود يدقون الطبول وينفخون في الأبواق.

ثم أمر الحاكم أن يشيع الأمير كما استُقبل، عندما خرج من السراي بعد أن قام بزيارته.

وغداة اليوم التالي قدَّم للأمير خيولًا ليقوم بجولة في الجبل، ولكن الأمير لم يستطع التجول في لبنان بسبب انتشار وباء الطاعون فيه.

ولدى العودة إلى المدينة رأيت بدويًّا وقور الطلعة، فاخترته لسمو الأمير الذي يرغب في أخذ رسم عن اللباس العربي. إن عرب الصحراء قلَّما يؤمون هذه المدينة، ولكن القدَر أرسل إلينا هذه الغنيمة الباردة، فأتى به أحد الجنود وأدخله قاعة الاستقبال.

كان معه رفيق كهل، فجلس على كرسي وهو لا ينفك يتطلع إلينا؛ فالأثاث الأوروبي الذي لم يكن قد رآه بعدُ شَغل باله كثيرًا.

وعندما انتهى الأمير من أخذ صورته شاء أن يكافئ العربي، ولكن البدويَّ رفض أولًا قطعتَي الذهب اللتين قُدِّمتا له، وأخيرًا قبلهما بعد إلحاح شديد، وخرج من القاعة قبل أن نعلم أنه أحد مشايخ قبيلة عنيزة، وقد جاء بيروت ليفاوض إبراهيم باشا في قضيةٍ ما.

شد ما تأسفت وتأسف الأمير لعدم معرفتنا هذا الأمير؛ فقد كان بوسعنا أن نستقبله بلطف مُتناهٍ، رغم أن وقته لم يكن يسمح له بالبقاء إلا قليلًا. ثم علمت أن أمه — التي كانت تحذره من زيارة القائد المصري — قد نذرت أن لا تتحلى بمجوهراتها أو تنام قبل أن يرجع إليها. وهذه الأم الحنون تعزت لدى رؤيته عائدًا إليها سالمًا. لا شك في أنه قد خبرها عن رؤيته ابن سلطان فرنسا عن كثب، ولا شك في أنها تفاءلت بهذه الرحلة؛ فالالتقاء بأمير هو — عند الشرقيين — بشير بخير أو نذير بويل.

هوامش

(١) إن الذين قطنوا بيروت أو سوريا يوم أن كنت أنا فيها يستطيعون — وحدهم — أن يحكموا على تحفُّظي الكلي ها هنا. لقد وجدت بعض العار في نشر حوادث كنا نحن هدفها؛ ولذلك عديت عنها ولم أذكر إلا ما يحسن ذكره.
(٢) يصدق القارئ بصعوبة إذا قلت له إني طلبت من جميع السلطات التركية — ومن إبراهيم باشا نفسه — إجازة نقل سلاح لأحد هواة الصيد البالغ السن المفروضة، ولم أحصل عليها. إن أسبابًا عديدة تحملهم على منحي هذه الرخصة، وحسبي ما بذلت من جهود في سبيل إنشاء المحجر الصحي وما كلفني من تضحيات، ولكنهم لا يذكرون …
(٣) لا حاجة إلى التذكير بأن هذا القنصل الذي اعترف بوطنيته العظيمة إفرنسيو مصر قبل غيرهم، هو الذي جعلت منه حوادث عام ١٨٤٢ موضوع تقدير إفرنسيي برشلونة وإعجاب الرأي العام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤