الفصل الخامس

سُمِع صوتٌ عالٍ ينادي: «ناثانيال بيجوت.» وفي الحال أخذ مالكُ حانة جرين مان مكانَه على منصة الشهود، وأمسك بالكتاب المقدَّس عاليًا بشيء من التشريف، ثم حلف اليمين. كان الرجل يرتدي بزَّةَ يوم الأحد التي كان يرتديها غالبًا في الكنيسة، لكنه كان يرتديها بثقةِ رجلٍ يشعر بالارتياح في ملابسه، ووقف لحظةً يمرُّ بعينَيه بتأنٍّ على هيئة المحلَّفين بنظرةِ رجلٍ يُثمِّن مرشحين غير واعدين لوظيفةٍ شاغرة في الحانة. وفي النهاية ثبَّت نظره على محامي جهةِ الادِّعاء وكأنه واثقٌ من أنه سيتمكَّن من التعامل مع أي شيء يطرحه عليه السير سيمون كارترايت. وحسبما طُلِب منه، قدَّم ناثانيال بيجوت اسمه وعُنوانه: «ناثانيال بيجوت، مالك حانة جرين مان، بقرية بيمبرلي، مقاطعة ديربيشاير.»

كانت شهادته مباشِرةً ولم تستغرق إلا قليلًا. وردًّا على أسئلة محامي جهة الادِّعاء، أخبر المحكمةَ أن جورج ويكهام والسيدة ويكهام والكابتن ديني الراحل وصلوا إلى الحانة في يوم الجمعة الرابع عشر من شهر أكتوبر لآخرِ مرةٍ في عربة مستأجرة. كان السيد ويكهام قد طلب بعضَ الطعام والنبيذ واستئجار عربةٍ لتأخذ السيدة ويكهام إلى بيمبرلي في وقتٍ لاحق من تلك الليلة. وقد أخبرَته السيدة ويكهام حين كان يصطحب المجموعة إلى المشرب أنها كانت ستُمضي ليلتها في منزل بيمبرلي لتحضرَ حفل الليدي آن في اليوم التالي. «وقدَ بدت متحمسةً كثيرًا.» وردًّا منه على المزيد من الأسئلة، قال إن السيد ويكهام قد أخبره أنه بعد الذَّهاب إلى منزل بيمبرلي سيطلب من العربة أن تستمرَّ في طريقها إلى كينجز آرمز في لابمتون حيث سيقضي ليلتَه والكابتن ديني، وفي الصباح التالي سيذهب إلى مسرح لندن.

قال السيد كارترايت: «إذن لم تكن هناك إشارةٌ في ذلك الوقت بخصوص أن يمكث السيد ويكهام أيضًا في منزل بيمبرلي؟»

«ليس على حدِّ ما سمعت يا سيدي، ولم يكن ذلك متوقَّعًا. فالسيد ويكهام كما يعرف بعضُنا غيرُ مرحَّب به إطلاقًا في منزل بيمبرلي.»

سادت غمغمةٌ في أرجاء المحكمة. وبصورةٍ غريزية تيبَّس دارسي في جِلسته. كان الجميع يخوضون منعطفًا خطرًا في وقتٍ أبكرَ مما توقَّع. ثبَّت دارسي عينَيه على محامي جهة الادعاء، لكنه كان يعرف أن أعين هيئة المحلَّفين كانت مثبَّتةً عليه. لكن وبعد سكتةٍ قصيرة غيَّر سيمون كارترايت مسار الحديث. «هل دفع لك السيد ويكهام ثمنَ الطعام والنبيذ وأجرة العربة؟»

«فعل يا سيدي، حين كانوا في المشرب. وقد قال الكابتن ديني للسيد ويكهام: «إنها رحلتك، سيتعيَّن عليك أن تدفع. ليس معي إلا ما يكفي لبقائي في لندن».»

«هل رأيتهم وهم يُغادرون في العربة؟»

«رأيتهم يا سيدي. كانت الساعة حينها التاسعةَ إلا الربع تقريبًا.»

«وحين انطلقوا، هل لاحظت الحالة التي كانوا عليها، أقصد العلاقة بين السيدَين؟»

«لا يمكنني أن أقول إنني لاحظتُ ذلك يا سيدي. كنت أعطي التعليمات لبرات سائقِ العربة. كانت السيدة تُحذِّره ليكون حريصًا أكثرَ وهو يضعُ صندوقها في العربة؛ لأنه كان يحمل فستانَها الذي سترتديه في الحفل. لكن يُمكنني القول إنني رأيت الكابتن ديني كان هادئًا للغاية ولم يتغيَّر حاله عما كان عليه حينما كانوا يتناولون الشرابَ في الحانة.»

«هل عاقرَ أيُّ السيدين الشراب بكثرة؟»

«لم يشرب الكابتن ديني سوى الجِعَة وليس أكثرَ من نصف لتر تقريبًا. وشرب السيد ويكهام لترًا من الجِعَة ثم تحوَّل إلى الويسكي. وبحلول الوقت الذي انطلقا فيه، كان وجهه محمرًّا، ولم يكن أيٌّ منهما ثابتًا على قدمَيه، لكنه كان يتحدَّث بشكل واضح بما يكفي، رغم أن صوته كان عاليًا، وركب العربة من دون أي مساعدة.»

«هل سمعتَ أي حوار دار بينهما حين ركبا العربة؟»

«لا يا سيدي، ليس على حدِّ ما أذكر. كانت السيدة بيجوت هي مَن سمعت السيدَين يتجادلان، كما أخبرتني، لكن ذلك كان في وقتٍ مبكر.»

«سنسمع شهادة زوجتك. هذا كلُّ ما لديَّ من أسئلة لك سيد بيجوت، يمكنك النزولُ عن المنصة إلا إن كان لدى السيد ميكلدور ما يسألك بشأنه.»

التفت ناثانيال بيجوت ليُواجه محاميَ جهة الدفاع بشيء من الثقة، بينما كان السيد ميكلدور ينهض من مكانه. «إذن لم يكن أيٌّ من السيدَين في مِزاجٍ مناسب للحديث. هل وصلك انطباعٌ أنَّهما كانا مطمئنَّين إلى السفر برفقة أحدهما الآخر؟»

«لم يصدر عنهما أيُّ شيء يشير إلى كونهما غيرَ مطمئنَّين، ولم يكن هناك جدالٌ بينهما حين انطلقا في رحلتهما.»

«لم يكن هناك أيُّ إشارة على وجود جدالٍ أو شِجار؟»

«لم ألحظ شيئًا يا سيدي.»

لم يكن هناك المزيدُ من الاستجواب للشاهد، فغادر ناثانيال بيجوت منصة الشهود وهو واثقٌ من أنه ترك انطباعًا إيجابيًّا.

استُدعيت مارثا بيجوت بعد ذلك وسادت فوضى وجيزةٌ في الزاوية البعيدة من قاعة المحكمة، حيث كانت امرأةً قصيرة ممتلئة تُحاول أن تُحرِّر نفسَها من حشدٍ من الداعمين يُغمغمون لها بعبارات التشجيع، وراحت تتبختر في طريقها إلى منصة الشهود. كانت المرأة ترتدي قبَّعةً مزخرفةً بكثافةٍ بأشرطة وردية متموِّجة بدَت جديدة، ولا شك أنها اشترَتها كإجلالٍ منها لأهمية هذه المناسبة. كانت القبَّعة لتبدوَ أكثرَ إثارةً للإعجاب لولا أنها كانت تعلو كتلةً كثيفةً من الشعر الأصفر اللامع، وبين الحينِ والآخر كانت تلمس القبعة وكأنها تتأكدُ من أنها لا تزال على رأسها. ثبَّتَت المرأة نظرَها على القاضي حتى نهض محامي جهة الادعاء ليُخاطبها، بعد أن أومأت هي له إيماءةً مشجِّعة. قدَّمَت المرأة اسمَها وعُنوانها، وأقسمَت اليمين بنبرةٍ واضحة، وأكدَت على رواية زوجها بشأنِ وصول ويكهام والكابتن ديني.

همس دارسي إلى ألفيستون: «لم تُستدعى للشهادة أثناء التحقيق. أهذا شيء جديد؟»

قال ألفيستون: «أجل، وقد يُمثِّل ذلك خطرًا.»

سألها سيمون كارترايت: «كيف كان الجوُّ العام في الحانة بين السيد والسيدة ويكهام والكابتن ديني؟ أيُمكنكِ أن تقولي سيدة بيجوت إن تلك المجموعة كانت سعيدة؟»

«لم أكن لأقولَ ذلك يا سيدي. كانت السيدة ويكهام تتمتَّع بروحٍ معنوية طيبة، وكانت تضحك. فهي امرأة لطيفة وتتحدَّث بحريَّة يا سيدي، وكانت هي مَن أخبرتني والسيد بيكوت حين كنا في المشرب أنها كانت ستَحضر حفل الليدي آن، وأن ذلك سينطوي على متعة كبيرة؛ لأن السيد والسيدة دارسي لم يعرفا أنها كانت آتيةً وأنهما لن يتمكَّنا من صدِّها، ليس في ليلةٍ عاصفة كتلك. وكان الكابتن ديني هادئًا للغاية، لكن السيد ويكهام كان قلقًا وكأنه يريد الانصراف.»

«وهل سمعتِ أيَّ شجار أو جدال، أي حديث بينهما؟»

انتفض السيد ميكلدور واقفًا في الحال ليعترضَ أن جهة الادعاء تُوجِّه الشهادة، فأُعيدت صياغة السؤال: «هل سمعت أيَّ شيء من المحادثة التي دارت بين الكابتن ديني والسيد ويكهام؟»

أدركت السيدة بيجوت سريعًا ما يرمي إليه. «ليس أثناء وجودهما في الحانة يا سيدي، لكن بعد أن تناوَلا اللحم البارد والشراب، طلبت السيدة ويكهام أن يُحمَل صندوقها إلى الطابق الأعلى حتى يتسنى لها أن تُبدِّل ملابسها قبل أن ينطلقوا إلى بيمبرلي. ولم تكن ستَرتدي فستانَ الحفل، وإنما شيئًا لطيفًا لتدخل به منزل بيمبرلي. وقد أرسلت سالي وهي خادمتي لمساعدتها. وبعد ذلك ذهبت إلى المِرحاض في الباحة، وحين فتحت الباب بهدوء لكي أخرج منه، رأيت السيد ويكهام والكابتن ديني يتحدثان معًا.»

«وهل سمعتِ ما كانا يقولان؟»

«سمعت يا سيدي. حيث لم يكونا بعيدَين عني سوى بضعة أقدام. رأيت أن وجه الكابتن ديني كان شديدَ البياض. وقد قال: «كان الأمر خداعًا من البداية إلى النهاية. أنت أنانيٌّ تمامًا. ليس لديك أدنى فكرةٍ عما تشعر به المرأة».»

«وهل أنتِ واثقةٌ من تلك الكلمات؟»

تردَّدت السيدة بيجوت. «في الواقع يا سيدي، ربما أخطأتُ في ترتيب الكلمات، لكن لا شك أن الكابتن ديني قال إن السيد ويكهام أنانيٌّ، وإنه لا يفهم كيف تشعر النساء، وإن هناك خداعًا من البداية إلى النهاية.»

«وماذا حدث حينها؟»

«لم أكن أريد للسيدَين أن يرَياني وأنا أُغادر المرحاض؛ لذا فقد أغلقتُ الباب حتى آخرِه تقريبًا، ورحتُ أراقبهما من الفتحة حتى ذهبا.»

«هل تُقسمين على أنكِ سمعتِ هذه الكلمات؟»

«في الواقع، أنا حلفت اليمين بالفعل يا سيدي. وأنا أُدلي بشهادتي بموجب ذاك اليمين.»

«فعلًا أيها السيدة بيجوت، وأنا مسرورٌ من أنكِ تُدركين أهمية هذه الحقيقة. ماذا حدث بعد أن دخلتِ مرةً أخرى إلى الحانة؟»

«دخل السيدان بعدها ببرهةٍ قصيرة يا سيدي، وصعد السيد ويكهام إلى الغرفة التي خصَّصتُها لزوجته. ولا بد أن السيدة ويكهام كانت قد انتهت من تبديل ملابسها حينها حيث نزَل السيد ويكهام وقال إن الصندوق قد أُعيد إغلاقُه، وإنه جاهزٌ ليُنقَل إلى العربة. ثم ارتدى السيدان مِعطفَيهما وقُبعتَيهما ونادى السيد بيجوت على برات من أجل أن يُحضِر العربة.»

«وكيف كان حال السيد ويكهام حينها؟»

ساد الصمت لحظةً وكأن السيدة بيجوت لم تكن واثقةً من معنى سؤالِه. فقال هو بشيءٍ من نفاد الصبر: «أكان مستفيقًا أم كانت هناك علاماتٌ على تناوله الشرابَ؟»

«بالطبع كنتُ أعرف أنه تناول الشرابَ يا سيدي، وقد بدا وكأنه حظي بأكثرَ من كفايته. أعتقد أن صوته كان مدغمًا حين قال وداعًا. لكنه كان لا يَزال ثابتًا على قدمَيه، ودخل العربة من دون أيِّ مساعدة، ثم انطلقوا في طريقهم.»

وساد الصمتُ ثانيةً. ثم نظر محامي جهةِ الادِّعاء في أوراقه وقال: «شكرًا لكِ سيدة بيجوت. هلا تمكثين في مكانك في الوقت الراهن من فضلك؟»

ونهض جيريميا ميكلدور. وقال: «إذن، إذا كان هناك حديثٌ غيرُ ودِّي — ولنقُل بأنه كان خلافًا — فهو لم ينتهِ بالصراخ أو استخدامِ العنف. هل لمس أيُّ الرجلَين الآخرَ أثناء المحادثة التي سمعتِها في الباحة؟»

«لا يا سيدي، ليس على حدِّ ما رأيت. كان من الغباء أن يتحدَّى السيد ويكهام الكابتن ديني للدخول معه في عراك. فقد كان الكابتن ديني في رأيي أطولَ منه ببضع بوصات، وأقوى منه بِنيةً.»

«وهل رأيتِ حين دخلا إلى العربة إن كان أيٌّ منهما مسلَّحًا؟»

«كان الكابتن ديني مسلَّحًا يا سيدي.»

«إذن وعلى حدِّ ما تقولين، كان الكابتن ديني — وبغضِّ النظر عن رأيه في سلوك رفيقه — مسافرًا في العربة معه من دون أن يقلق بشأن وقوع اعتداءٍ جسدي عليه؟ فقد كان هو الأطولَ والأقوى منه بِنيةً. هل كان هذا هو الموقف على حدِّ ما تذكرين؟»

«أعتقد ذلك يا سيدي.»

«ليس الأمر بما تعتقدين سيدة بيجوت. هل رأيتِ الرجلين يدخلان إلى العربة، وكان الكابتن ديني وهو الأطولُ بينهما مسلَّحًا؟»

«أجل يا سيدي.»

«إذن وحتى لو كانا قد تشاجرا، فإن حقيقة أنهما كانا يُسافران معًا لم تكن لتُثير قلقكِ؟»

«كانت السيدة ويكهام تُسافر معهما يا سيدي. لم يكونا ليَشرعا في عراكٍ بينهما والسيدة ويكهام برفقتهما في العربة. كما أن برات ليس بأحمق. وعلى الأرجح، لو وقع أيُّ شجار بينهما، كان برات ليُوجه الجياد نحو العودة إلى الحانة.»

وطرح جيريميا ميكلدور سؤالًا أخيرًا. «لماذا لم تُقدِّمي هذه الشهادة في التحقيق سيدة بيجوت؟ ألم تَكوني مدركةً لأهميتها؟»

«لم يسألني أحدٌ عن ذلك يا سيدي. فقد أتى السيد براونريج إلى الحانة بعد التحقيق وسألني حينها.»

«لكن لا شكَّ أنكِ أدركتِ قبل حديث السيد براونريج معكِ أنكِ لديك شهادةٌ ينبغي تقديمها أثناء التحقيق؟»

«ظننت يا سيدي أنهم سيأتون ويسألونني إن هم أرادوا مني أن أتحدَّث، ولم أكن لأجعل جميعَ مَن في لامتون يسخرون مني. فمن الشائن ألا تتمكَّنَ امرأةٌ من الذَّهاب إلى المرحاض من دون أن يسأل الناسُ عن ذلك على الملَأ. ضع نفسك مكاني أيها السيد ميكلدور.»

هنا انطلقَت قهقهاتٌ قصيرةٌ سرعان ما كُتِمت. وقال السيد ميكلدور إنه لم يكن لديه المزيدُ من الأسئلة، وبعد أن ثبَّتت قبَّعتها على رأسها بقوةٍ أكبر، راحت السيدة بيجوت تخطو خطواتٍ ثقيلةً عائدةً إلى كرسيِّها في ارتياحٍ واضح وسط همسات التشجيع من داعميها.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤