القول في صحافتنا

كان فن الصحافة أو نشر صحف الأخبار في جملة ما أخذناه في القرن الماضي عن الغرب، ولما كانت الثقافة العامة يومئذ ناقصة، والأمية غالبة والجهل مطبقًا، جاءت الصحافة عندنا فقيرة ضعيفة. ولم تنشأ للعرب صحافة بالمعنى الذي تدل عليه في أوربا وأميركا إلا في مصر على عهدها الأخير، ثم في الشام. وسار العراق مؤخرًا على قدم هذين القطرين، فكانت له صحافة كالصحافة الشامية ودون الصحافة المصرية. ولم تقم في جزيرة العرب صحافة، ولو ضعيفة، لأنها تكاد لم تخرج إلى اليوم عن البداوة، ويقل جدًّا المثقف من أبنائها ثقافة عصرية. والصحافة في شمالي إفريقية لا تُعد راقية للضغط على الأفكار والاستبداد بالحرية.

أتت الصحافة بفوائد جُلَّى عرف بها مَنْ كُتب لها الرواج بينهم معانيَ المدنية، وأطلعتْهم على أحوال الأُمم ونهوضها، والدول وسياستها. وحملت إليهم مجملات من العلوم والآداب كان يتعذر الوصول إليها على غير أرباب الأخصاء من العلماء. فالصحافة كانت مدرسة سيارة جمعت فأوعت، أنارت الأفكار وجعلت من قرائها طبقات راقية يصح عَدُّها في الأُمم المتمدنة، وأخرجتهم عن عزلتهم فعرفت بها كل أمة ما عند الأخرى.

صحافة كل أمة مرآتُها، يتجلى فيها علمها وجهلها، ومليحها وقبيحها، وقوتها وضعفها. فإذا كانت فقيرة بمادياتها أو معنوياتها أو بكليهما معًا وجدت الحكومات والأحزاب والشركات سبيلًا إلى إفسادها، تعطيها قليلًا لتفسدها كثيرًا، فيضيع الغرض الأسمى منها.

ومن البلاء أن يعتقد العاجزون عن تحصيل رزقهم أن الصحافة مورد عيش هنيء يبرَّز فيه حتى من ليست له أهلية سابقة، ومن لا يحسن قراءة جريدة كيف له أن ينشئها ومن فقد أبسط الدعائم لقيام الأعمال أَنَّى يتأتى له النجاح في عمل عظيم يتوقف على معرفة ومِرَان ومالٍ وتنظيم.

وتساهلت الحكومات بمنح امتيازات الصحف لبعض الطفيليين على هذه الصناعة الشريفة، ولو عرفت سوء عاقبة ما ارتكبت لساقتهم إلى الفحص أولًا كما يفحص الأطباء. ذلك لأن الضرر الذي يُحدثه الصحافي الجاهل في العقول ليس أقل مما ينجم عن يد الطبيب الدجال في الأجسام. وكم من صحافي طماع أو جهول جَرَّعَ قُرَّاءَهُ السم الزعاف ولو علم لأتاهم بالترياق النافع، وكم من صحف ورَّطت بأُمتها في حرب كان منها تراجع أمرها، وخلقت لها مشاكل سياسية أعيا الحذاقَ حَلُّها.

ولذلك وجب على الصحافي أن يكون على علم كثير وخبرة واسعة، وأقل ما يتحلى به إتقان لغة أو لغتين من لغات العلم والسياسة، وأن يكون من طبقة تُحسن استعمال عقلها والاحتفاظ بكرامتها، وممن عانى البحث والدرس وتذوق الشرائع، وأحاط، بتاريخ أُمته واجتماعها وحياتها الاقتصادية، وثوراتها وضعفها وقوتها ونهضتها وأوضاعها وأحزابها ونقاباتها وشركاتها.

والصحيفة المفيدة هي التي تنشر كل ما يهم الاطلاع عليه، وتذكر إلى جانب أخبارها السياسية مقالاتٍ صغيرة في فنون مختلفة تعلِّم القراء وتسليهم، يلتزم فيها البساطة في الأداء؛ ليتيسر لمن لم يسعدهم الحظ بالدراسة الواسعة أن يتعلموا فيها ما يحتاجون إليه في تنمية ثرواتهم وتحسين مَلَكاتهم، وما يتزينون ببحثه في مجالسهم وفي بيوتهم إذا خَلَوْا إلى بنيهم وبناتهم وزوجاتهم، أي: تنشر ما تلذ تلاوته، وتستسيغه الأذواق وتهضمه النفوس.

وقد حاولت الصحف الكبرى في مصر الوفاء بهذا الغرض ولَمَّا تبرحْ مقصرة عن صحف الغرب الراقية؛ لأن عدد مشتركيها قليل بالقياس إلى القراء الغربيين، والجرائد الكبرى في أعظم عواصمنا لا يبلغ مجموع ما تطبع كل يوم مجموع ما تطبعه جريدة واحدة من جرائد الولايات عندهم. وجرائدنا متخلفة من حيث مظهرها الخارجي فالواجب التفنُّن فيه والعناية بإتقان الطبع والوضع والتحضير والتصوير، وتنويع أساليب العرض المغري. وأنه يراعى فيها أمر المقالات فلا يكون منها المطول الممل، ولا العسير الفهم، ويتوخى فيها السهولة والوضوح أبدًا. أما المقالات العلمية والأدبية المطولة فهي من غرض المجلات الدورية وكل ما يُنشر من أبحاث في الصحف السيارة يختار فيه الإيجاز.

بقيت الإشارة إلى مسألة المسائل في تصنيف الجرائد ونعني بها: نَزْعتها السياسية، فالأمة تُضلها جرائدها كما يضعفها تناحرُ أحزابها وتلاعب ساستها وقادتها، وانتشار شهوة المال فيمن بأيديهم موتها وحياتها. هذا في الأُمم التي تتمتع باستقلالها أما في الشعوب الصغيرة المقطورة وراء غيرها فجرائدها سببٌ كبير من أسباب بلائها إذا استحلت صحفها أن تتناول معونات من عدة دول، وأن تدعو لأكثر من مذهب سياسي. وهناك صحف تضلل العقول كأن تنقل الخرافات على أنها من الدين، وتنشر الخزعبلات المُضرة في قوالب فصول طريفة، تزيد ظلمة الأفكار، وقد يتعمد صاحب الصحيفة نشر السفاهات والمهاترات والهزؤ بالشخصيات ليُضحك قُرَّاءَه.

لساسة الغرب طرق في الاحتيال لاستخدام الصحف، وصاحب الجريدة الذي يعتقد أن كل ربح تأتيه به صحيفته حلال عليه، وأن له أن يخدم كل غرض حَمَلَ إليه نفعًا كأن يعلن عن المشروبات الروحية وعن بيوت الفجور والخلاعة، ثم هو يزعم أنه حر أن يساوم على نشر ما ينشر إذا لم يؤاخذْه القانون بما يعمل، وقد رأينا موضوعات أباحها القانون فكان فيها بعض المضار. وعلى الصحافي أن يدرك أنه إذا ملك العين من صحيفته فلا يملك روحها وسياستها، وكيف بصاحب جريدة يبيع شرفه أن يتولى تهذيب أُمة ويرشدها إلى طريق سعادتها؟

من أجل هذا كان من الظلم أن تُوكَل سياسة صحيفة إلى شخص واحد، وأن تسير الجريدة على غير منهاج مقرَّر، والأَوْلَى توسيد أمرها لجماعة، وهذا أشرف لمكانتها وأَبْعَدُ عن مزالق التضليل، تصدر برأي ناشريها ومراقبة أمنائها. وعمل الجماعة المنبعث عن مناقشة واستشارة أصحُّ في الغالب من عمل الفرد وأدعى إلى الثقة والاستمرار.

وكما أن الجريدة الواحدة لا يقوم بعد اليوم بتكريرها وإدارتها الفرد، وتحتاج حتمًا إلى أيد كثيرة وكفاءات منوَّعة، كذلك لا يصح أن تعتمد في سياستها على واحد، والفرد مهما بلغ من ثقةِ قومِهِ به مظنةُ الميل مع مصالحه الخاصة. ولا يخرج عن هذا الحكم إلا الشاذ، والشاذ لا تُبنى عليه قاعدة.

بلغ من فقر الصحف، في بعض الأقطار، أن تصدر نسقًا واحدًا بسياستها وأخبارها، ومغزاها وحجمها، وورقها وطبعها، وربما اتفقت بأوقات صدورها، كأنهم ينشرون نسخة واحدة مختلفة الطبعات والأسماء، تدار بإدارة واحدة وتحررها يدٌ واحدة. وجرائدُ كهذه متشاكلة فيما ترويه من أخبار وأفكار تَقِلُّ فائدتها ويضيع الغرض من نشرها، والقراء لا يستفيدون من جرائد رتيبةٍ في مظهرها، تنشر ما وقع لها عرضًا، أو ما اقتبسته من جريدة تَصدر في بلد آخر، أو ما بُلِّغَتْه من ديوان رسمي ومكتب دعاية، ولا تسعى هي في جلب ما قد يكون أَعْوَدَ على مُطالعيها، وأحلى نغمة من صحف تضرب على سندان واحد وتُردِّد نغمة واحدة وتنشر أخبار القاصية وتغفل عن أنباء ديارها.

كان يذكرنا هذا الضرب من الصحف بجرائد الولايات على العهد العثماني، وكان قُصاراها أن تنشر مقررات الحكومة المحلية وأنباءها وإعلاناتها الرسمية، وغايتها التسبيح بحمد العاهل الأكبر وطغمته، والابتهال إلى رب السماوات أن يحفظه ورجال دولته، وليس فيها شيء من الفكر ولا ما يُرجى منه نفعٌ في رَفْع مستوى التهذيب، تقرؤها فتقرأ حروفًا وجُمَلًا وسطورًا، فإذا عَصَرْتَها كانت عصارتُها بلا زبدة. ولكن العهود تختلف، وأُمة يقال لها: مستقلة، تحتاج إلى لون من الصحف ما كانت تحتاج مثله أيام كانت تابعة لغيرها.

لو كنا نعرف كيف يجتمع أرباب البصيرة فيؤلفون شركاتهم، ويربحون باجتماعهم ما يتعذر على الفرد أن يقوم ببعضه لصحَّت نيتنا على توحيد هذه الصحف أو أكثرها وإصدار جريدة أو جريدتين متقنة في كل صورها والربح من مثل هذه الصحيفة أضعاف ربح الصحف الفقيرة، وعلى تلك النسبة تعظم تأثيراتها السياسية والاجتماعية والأدبية والاقتصادية.

مضى على الصحافة العربية نحو جيلين، كانا لها دور حضانة ودرس، وها قد وصلت الآن إلى دور الفتوة، تعلمتْ في مدرسة قاستْ فيها الأَمرَّين من المحن التي أتت عليها في فترات صعبة على الأقلام، وكانت الحروب والثورات، وتحكمات جهلاء المراقبين أَقَلَّ ما عاشت في مصائبه ومصاعبه. أما وقد أصبحت تتمتع بحرياتها بعض الشيء فواجب رجالها أن ينعموا بنعمة هذه الحرية، ولا ينسوا ما مرَّ بأهل صناعتهم من خطوب، وعليهم أن يعملوا لأُمتهم بما توحيه إِليهم ضمائرهم لا بما تمليه عليهم أهواء غيرهم يعملون بسائق من أنفسهم لا بما يريدهم على اتِّباعه أبالسةُ العمال، ولصوص المال.

الصحافي قاضٍ يتجدد على الأيام ما يُعرض عليه من القضايا، وتقتضيه أحكامه ذوقًا سليمًا، ونقدًا عادلًا، وأدبًا غضًّا، وقضاياه أبدًا معجلة لا مؤجلة، تنظر في أحكامه محكمة الرأي العام. الصحافي حامي أُمته ومحاميها، وسيدها وخادمها، ومعلمها وتلميذها، وهو صاحب دعوة تَفْسدُ بأقلَّ هوًى يَتبعه، ومربي عقول ونفوس، ومنشئُ أُمة وعمران، وليس هو بالتاجر العادي إذا ربحت عروض تجارته فقد بلغ سؤله.

الصحافي معلِّم لا انتهاء لمهمته إلا بانتهاء عمره، ومهمتُهُ تتلوَّن كل ساعة بلون، ويطلب من صاحبها أبدًا أن يطلع على قرائه كل يوم بجديد. هو يجمع إلى عمل القاضي عملَ الباحث، وإلى صنعة الفَنَّان صنعةَ النقاد، وإلى صفة الأديب صفةَ الاقتصادي، وإلى مرح الأدباء حكمةَ الحكماء، ويحتاج إلى بديهة وإلى رَوِيَّة وإلى سرعة وإلى أناة. يراقب كل صاحب سلطة، ويدافع عن كل مظلوم، وينفذ إلى أحشاء كل أمر. هو صديق الحكومات وعدوهم، وخطيب القوم ولسانهم، ومؤرخهم ومؤدبهم، يلقِّن ذوقًا، ويلقح عقلًا، ويدعو إلى واجب، يردد ما يرضي وما يغضب، لا يكتم حقًّا ولا ينشر إلا عرفًا، يزيد مريدوه مع الزمن، ويستجيب له أهل كل نحلة، وأرباب كل أدب، وأصحاب كل طريقة، ويتوقف إرضاؤهم كلهم على أن يصدقهم لا يكذبهم، ويعلمهم ولا يضلهم.

قال بعض المدركين من الإفرنج: ليس الصحافي كاتبًا من الكتاب بل هو كاتب محمول، بحكم صناعته، على أن يكتب على طريقة خاصة، وأن ينظر إلى الأمور بضرب معين من النظر، وأن يعبر عن ذلك بلسان مخصوص؛ فهو لا يدرس المسائل في ذاتها ولذاتها، ويهمه منها ما يحببها إلى القلوب يتوخى بها فائدة القارئ لا ما تحمل من فائدة وندارة، وليس الصحافي مؤرخًا ولا فيلسوفًا. وإذا كان هكذا في مكتبه فيكاد لا يذكر ذلك وهو في حجرة تحرير جريدته. وقد يكون الصحافي عالمًا ولا يكتب مقالاته كتابة العالم. فالعالم مأخوذ، قبل كل شيء، بحقيقة ما ينظر فيه، فهو يبحث ويتردد، ويتلمس ويتحسس، ويتقدم بخطًى قصيرة ويرجع أحيانًا قبل أن يصل إلى النتائج، وكثيرًا ما يشك ولا يستخرج. وواجب الصحافي أن يستنتج أبدًا ولا يحق له أن يشتبه ويتردد، وعليه في حالة عدم معرفته أن يُظهر أنه عارف، وهو يحب أن يكون على ثقة فيما يقول؛ حتى ينال ثقة الناس ولا يعنيه ما يخوض فيه من الأمور بل هَمُّهُ الجمهورُ وما يعرضه عليه ويزينه في نظره.

وسواءٌ كان الصحافي ناقلًا أو معلمًا فهو خطيب على الأيام يُعنى بإرضاء سامعيه ويكلمهم باللسان الذي يريدون، لسان أوهامهم وشهواتهم، وهو إلى ذلك يحاول إصلاحهم وتنبيههم ويعرض عليهم الحقيقة والإصلاح في صورة مقبولة. وليس الصحافي أُستاذًا، فقصارى ما يطلب التلاميذ من الأستاذ بسط الحقائق وتطبيق ما يقول على ما يستسيغونه لا على ما يوافق أوهامهم. وشأن الصحافي على العكس من ذلك؛ لأن سلطانه على قُرَّائه متوقف على حسن التفاتهم إليه، فهم لا يعتقدون ما يقول، ولا يُولُونه ثقتهم، ولا ينتهون بالتسليم له في كل ما يلقي عليهم إلا إذا وُفِّق إلى جلب رضاهم، فهم كالذين يستمعون إلى خطيب بمحض اختيارهم وينصرفون عنه إذا لم يعجبهم ما يلقِي عليهم.

فعلى الصحافي أن يمسك سامعيه ويقيدهم بسلاسل مذهبة ببيانه وبلاغته، وهذا من البلاء في هذه الخدمة، فالبلاء في أن الواجب الاكتفاء بمراعاة الأميال والأهواء وعدم الاصطدام بالأوهام وأن يحس صاحب الصحيفة على الدوام أنه تحت سلطان الجمهور وتأثيرات أهوائه، والعظمة فيه أن يقتدر مع هذا على الاسترسال مع شهوات القراء وعلى كبح جماحهم، متظاهرًا بأنه يراعي الأوهام ويمشي مع الرغائب وهو يتصدى لحلها، وفي وسعه أن يحمل إلى النفوس شعاعًا من الحق وشعلة من العقل وأن يقلِّب القلوب في منازع كريمة، ويزرع في الأفكار بذورًا من العقل والمنطق. فصفات الصحافي الفطرية هي صفات الخطيب وشأنهما واحد، فهو خطيب يصل بقلمه إلى مسامع الجمهور يطبع ما يقول بأَسْوَدَ على أبيض لا بنغمة الكلمات ورجرجة الصوت وتنوُّع الأوضاع والحركات.

الصحافي خطيب مضطر أبدًا إلى الارتجال، وأن يكون على استعداد للخوض في كل شيء، وذِكْر كل شخص في أي ظرف وأي موضوع، وليس له من وقته ما يساعده على الاعتماد على الوثائق، وهو يكاد لا يستطيع معاودة قراءة ما كتب ومع هذا يكتب ويبقي ما تخطه يداه، وللقارئ أن يعاود قراءة ما خَطَّه قلمُ الصحافي وأن يتفحصه ويتدبره. ويمكن، كل حين، الرجوع إلى ما كتب والبحث عنه في المجاميع، وعلى الصحافي أن يكتب ويسلم من نقد قرائه ومن تحامُل خصومه ومنافسيه، وأن يتجنب المتناقضات الظاهرة بين ما كتبه أمس وما سيكتبه غدًا ويكتبه اليوم، ولا يتنبأ بما يكون لمقالاته من تأثير.

وعليه أن يكون واسع النظر، صحيح الذاكرة، جَمَّ المعلومات، خصبًا في آرائه، حَذِرًا في تنبؤاته، سريعًا في عمله. هذه هي الصفات التي يجب أن يتحلى الصحافي بها أو بأكثرها، فإذا أضاف إليها صفات التفكير والتفنن في التعبير والتصوير جاء منه الصحافي المطلوب الموهوب، والمفروض فيه ألا يستخدم هذه الصناعة التي يتصف بها في طريق الظلم والتضليل بل في سبيل العدل والحق. ا.ﻫ.

وفي كتاب الصحافة اليوم Le Journalisme d’aujourd’hui أن نقابة الصحافة الوطنية وضعت قاعدة للصحافي، إذا أحب أن يستحق هذا الاسم، وهو: أن يأخذ على نفسه تَبِعَةَ كل ما يكتب حتى ولو كان بدون توقيع، وأن يوقن أن النميمة والتشهير والاتهامات الكاذبة من أعظم غلطات المهنة، وعليه أن يعمل بما يلتئم مع شرف صناعته، ولا يرضى أن يستخدم لقبًا من الألقاب، ولا صفة من الصفات الموهومة، بغية الوصول إلى التقاط خبر ولا يقبض مالًا من خدمة عامة أو مشروع خاص، يستغل بذلك صناعته الصحافية وينتفع بنفوذه وعلاقاته، ولا يوقع باسمه مقالات هي محض إعلان تجاري أو مالي، ولا ينتحل كلام غيره وينسبه إليه ولا يتطلب عملًا كان يتولاه بعض رصفائه، فيطلب تسريحه ليخلفه في عمله بشروطٍ أَقَلَّ من شروط صاحبه، ويحافظ على سر المهنة ولا يسيء استعمال حرية الصحافة مقابل منفعة خاصة.

الصحافة من أعظم أدوات التمدن الحديث، إذا صلحت، كانت لنا من أعظم المعونات على الأخذ بمقدارٍ أَوْفَى من هذه الحضارة، تَطِيب بها الحياة، ويحلو بها العيش.

والصحافي الحق من كان على مثل أخلاق صديقي الأستاذ أمين الرافعي صاحب جريدة الأخبار المصرية، عليه الرحمة. خَدَمَ الصحافة وخدم مصر والإسلام بقلمه وعبقريته وروحه، وما تناول معونة من أحد ولا من حكومة. أرسل إليه يحيى إبراهيم باشا رئيس الحكومة المصرية — وقد رأى تأخر حالته المالية — حوالة بعشرة آلاف جنيه، مع كتاب يقول له ما خلاصته: أرسلت إليك مبلغًا تستعين به على ما أنت بسبيله وهو من أصل ما لك في ذمة الحكومة من دين بما أسلفت لها من خدمة صادقة فنقدت إدارتها وسياستها نقدًا خالصًا، وهذا المبلغ يرسله يحيى إبراهيم القاضي، لا يحيى إبراهيم رئيس الوزراء، وأنه يرجوه قبولَه، على أن يظل على ما كان عليه من نقد الحكومة لتستفيد من آرائه … إلخ. فما كان من صاحب الأخبار إلا أن رد المبلغ معتذرًا بأنه ما أخذ حياتَه شيئًا من أحد، ولا يحب أن يعوِّد نفسه، الآن، أخذ شيء من أحد.

وجاءه مرة أحدُ كبار رجال السياسة الوطنية، وعرض عليه أن يتكفل له، مع جماعته، بوفاء ديون الجريدة، ويأتونه بمحررين يدفعون لهم مشاهراتهم، وتُطبع له الجريدة على نفقة الحزب، وتُدفع إليه كل شهر مائة جنيه، ويكون له صافي ربح الجريدة، ويكتب كما يشاء لا يتقيد بشيء. فأبى إجابة هذا المقترح أيضًا، وبعد بضعة أيام اضطرت صحيفته إلى التوقُّف لأسباب مالية قاهرة مفضلًا صاحبها تعطيلها بيده على صدورها بمال غيره، قالت إحدى كبريات الصحف الإنجليزية يوم نَعَتْهُ لقرائها: قضى رجل قلائلُ في رجال العالم مَنْ رُزِقوا أخلاقًا كأخلاقه، أما في مصر فلا. وسيرة هذا الصحافي العظيم يجب أن تكون نُصب عين كل صحافي.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤