القول في الكذابين والمنافقين

ما خلا زمان من أُناس من الديانين والدنياويين، يجوِّزون التفلسفَ فيما لا يلائم هواهم، ويخترعون لأنفسهم من أنفسهم تعاليم، لا يرون حرجًا في مخالفة الشرع، ويتحذلقون في إيجاد المخارج لارتكاب محظوراتٍ لا تبيحها الضرورات، ويتحللون من كل أيمان وعهد، كأنه لا يضيرهم أن يؤمنوا ببعض الكتاب ويكفروا ببعض، وكأن التوبة تمحو الذنوب ولو نُقضت مائة مرة.

من هذه المحظورات: داء الكذب القتال، وقد أجمعت الأديان السماوية والقوانين المدنية على تهجينه، تأصل في أصل هذا الجيل تأصلًا غريبًا، وفشا فشوًّا منكرًا خِيف منه على كل نظام، ونزلت به الأخلاق وانحلَّتْ عرى المروءة. ومن المؤلم للنفس أن نتكلَّف هنا الكلام في أمر هو من البديهيات عند العارفين، وكان الواجب أن يراعيه كل شريف من نفسه، وبدافع من تهذيبه وتربيته.

حدثني صديق من علماء التربية في مصر أن أحد مُدَرِّسي الأخلاق في سويسرا حاول أن يشرح، ذات يوم، لطلبته أضرارَ الكذب وفوائد الصدق، فعجبوا من هذه المحاولة، وعَدُّوا كلامه من النوع المفروغ منه؛ لأن القضية مسلَّم بها وليس في التعرض لها إلا شَغل الوقت بالعبث من القول، وكانوا يسألون معلِّمهم، وهو يمضي في بيانه: ولِمَ يكذب الكذاب، وأي فائدة يرتجيها من كذبه؟ فيجيبهم بما يحضره من التعليل فيقول مثلًا: إن الذي يَسُوقه إلى ارتكاب هذه الرذيلة إما سلبُ مَالِ مَنْ كذب عليه، أو إضاعةُ حق له، أو تضليل عقله في أمر يريده، أو غير ذلك، فيقول تلاميذه: ولم يأتي هذا؟ وهل في الخَلْق مَنْ يهون عليه سلب مال أخيه الإنسان، أو ارتكابُ ما يعبث بالمروءة ويضيع الحق على صاحبه؟ قال: وانتهت حصة الدرس وما استطاع الأستاذ أن يشرح للأولاد ما أراد.

برهان جليٌّ على أن قانون التربية نافذ الحكم في السويسريين؛ وأن أثرها ظاهر مما تشبعت به نفوس أولادهم. ومنافع القانون تقدَّر بقَدر ما ينفذ من أحكامه، والأُمم التي تقل قوانينها وتطبق منها ما يمكن تطبيقه هي أقرب إلى السلامة من أُمم تكثر قوانينها وتكتفي بحفظها في أدراج وصحف، تقرؤها للتبرُّك وتذكرها للتفاخر!

ولو كان لنا أمهات يعرفن معنى التربية ولا يُلقِّنَّ أطفالهنَّ الكذب لصدِّهم، بزعمهن، عن مطالبهم وردعهم عما لا يردن صدوره منهم، لنشأت ناشئتنا على غير ما تنشأ عليه اليوم، ولَمَا بدءوا يكذبون على من يكذب عليهم في ساعات مبكرة من الحياة، ولو أَمن الأَبناء أن يعاملوا بالصدق ما جسروا — وهم على الفطرة — أن يردوا الكذب بكذب مثله، ولما قويت فيهم هذه الملكة الخبيثة حتى لا تعود منكرة عندهم، وهي التي ما كانت منكرة عند أمهم وأبيهم ومَنْ رَبَّاهم، ولطالما سمع الأطفال أُمَّهُم تكذب على من حولها، وتفخر بما فعلت إذا جاز كذبها عليهم، وكذلك حال أبيهم، وعامة مَنْ فتحوا أعينهم عليه من أُسْرتهم. ومن لَقَّنَ ابنه الصدق من يوم أن وعى، ونشأ وهو يراه متأصلًا في رفاقه في المدرسة أيضًا جاء منه رجلُ صدق على مثال أولاد السويسريين الذين لم تدخل معاني الكذب ومراميه في أذهانهم.

الكذَّاب، مهما كان لونه، منخوب الفؤاد، كافر بالشرائع، هازئ بكل وازع، وسواء كان الكذب عن عبث ودعابة، أو عن جد وحقيقة، فهو بالغ الضرر، وأضرُّ أنواعه الكذب الذي يؤذي الفرد والجماعة، ويُتناقل وتبنى عليه أحكام.

ولقد مُلئت الكتب بالحث على الصدق والابتعاد عن نقيضه، وما جعل الباحثون حدًّا بين الصدق والكذب عمدًا كان أو خطأً. وقيل: إن بعضهم جَوَّزوا الكذب في حالات مخصوصة مثل الكذب للنجاة من القتل، أو لإصلاح ذات البين، أو لاتقاء أُمة خطر عدوها. وهذا كما جَوَّزوا أكل الميتة إذا بَرَّح الجوع بإنسان فكاد يهلك. وقالوا: «إن في المعاريض مندوحة عن الكذب.» وتساهلوا مع السياسيين، فرَخَّصوا لهم الكذب في حالات معينة، وعلى هذا بَنَوْا قولهم: «اكذب واكذب واكذب؛ فلا بد أن يترك كذبك أثرًا في النفوس.»

يقول الجاحظ: الكذب جماع كل شر، وقد قالوا: لم يكذب أحد قط إلا لصغر قدر نفسه عنده. ويقول الراغب في الذريعة: إن الصدق أحدُ أركان بقاء العالم حتى لو تُوُهِّمَ ارتفاعه لما صحَّ نظامه وبقاؤه، وهو أصل المحمودات وركن النبوات ونتيجة التقوى، ولولاه لبطلت أحكام الشرائع، ولهذا قال الله — عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ، قال: والاختصاص بالكذب انسلاخ من الإنسانية، وخصوصية الإنسان المنطق، فمن عرف بالكذب لم يُعتمد نطقه، ومن لم يعتمد نطقه لم ينفع، وإذا لم ينفع نطقه صار هو والبهيمة سواء، بل يكون شرًّا من البهيمة فإن البهيمة إذا لم تنفع بلسانها لم تضر؛ والكاذب يضر ولا ينفع. وقد ورد في التنزيل العزيز لَعْن الكاذبين كما ورد لعن الكافرين والظالمين ومَنْ نقضوا الميثاق. ولم يجوِّز رسول الله الكذب في جد ولا هزل، وقال الحكماء: ليس لكذاب مروءة، ومن عُرِفَ بالكذب لم يجز صدقه، وأبدع ابن المقفع في قوله: رأس الذنوب الكذب وهو يؤسسها وهو يتفقدها ويثبِّتها ويتلوَّن ثلاثة ألوان بالأُمنية والجحود والجدل، يبدأ صاحبه بالأُمنية الكاذبة فيما يزين له من السوآت فيشجعه عليها بأن ذلك سيخفى، فإذا ظهر عليه قابله بالجحود والمكابرة، فإن أَعياه ذلك ختم بالجدل، فخاصم عن الباطل ووضع له الحجج والتمس به التثبُّت، وكابر الحق حتى يكون مسارعًا للضلالة ومكابرًا بالفواحش.

رأينا أُناسًا كانوا في ظاهرهم على تعقُّل وأدب ينصحون لمن عصمهم الله من الكذب أن يكذبوا حتى يُرضوا رؤساءهم ومرءوسيهم، ويفوزوا برضا العامة، ويتيسر لهم الوصول إلى الغنى والترقي، قال لي أحدهم، وأنا في وزارة المعارف، وحملة منكرة مدبرة عليَّ في الصحف، أوقد نارها عليَّ رجل طالبتُه أن يقدم حسابًا عن دائرته العظيمة: إن هذا الرجل يَدُسُّ عليك، ويكذب عند أصحاب السلطة العليا، فدُسَّ عليه كما يدس عليك، واكذب عليه كما يكذب عليك، فإنه لا سبيل لك إلى الخلاص منه إلا إذا قاتلتَه بسلاحه، فكان من الجواب: إني لم أهذب نفسي أعوامًا طويلة حتى أنتهي باستعمال الدس والكذب، أما هذا الكاذب فأنا أُقاضيه إلى القانون، وأستعمل علنًا ما لي من سلطان لأخذ الحق منه، فإذا نجحت فبها ونعمت، وإن لم أنجح يقيم لي الأعذار من يطالبونني ضمنًا بحفظ أموالهم، ورعاية حقوقهم.

وقال لي أحد معارفي أيضًا في تلك الحقبة: لقد اتخذت خطة في معاملة من يراجعونك ما أراها تعود عليك بحسن القالة. إنك تصرح في الساعة الأولى بالحق الذي تعرفه، وصاحب الحاجة أرعن لا تنبسط نفسه إلى كلامك، وأحلى على قلبه أن تراوغه وتطاوله، أفما كان الأَولى لمصلحتك أن تكذب عليه، ولا تقطع رجاءه، وتتركه في حالة بين الشك واليقين، يروح ويغدو مراجعًا متوسلًا، وبذلك تراعي أمر السياسة أيضًا، ولا تنفر منك المراجعين؟ كأن شغل أرباب المصالح بالمحال أيامًا بل شهورًا، وإضاعة أوقاتهم ووقت صاحب الشأن، ليس من الأمور ذات البال، وحقيقة إني ما كنت أشهد ممن أصدقهم إلا تجهمًا، وقَلَّ فيهم مَنْ أدركوا قصدي وشكروني أن صدقتهم وما أتعبتهم، بيد أني كثيرًا ما سمعت تحاملًا على مَنْ أَلِفَ تسويف المراجعين بالطرائق المألوفة، وخصوصًا يوم يغادر صاحب المنصب مقعده، وأَقَلُّ ما يطلقونه من القول على من يعاملهم بهذه الصورة: قبحه الله إنه أشبعنا من كذبه مدة، وهو في باطنه يضحك منا، ويعرف أن ما طلبناه متعذر التحقيق، فمن ربح يا ترى؟ الذي صدق أم الذي كذب؟ إصلاح الأخلاق المعوجة من أصعب الأمور، فعلى من يحاول نزع خلق سخيف ألا يهتم لرضا الناس كثيرًا، فرضا الناس غاية لا تدرك.

العالم منذ الأزل لا يخلو من سُذَّج سهل إغراؤهم، ويكثر في كل قبيل من قد تَغُرُّهم الظواهر، وتنطلي عليهم حيل المبطلين، حتى في الطبقة التي تعلو عقول أهلها عن عقول جيلهم. كل شيء عرضة للكذب فيه، والكذب أشكال وضروب، وأفظع أنواعه ما دُوِّن في الكتب وسجل في الدواوين، تعرفون هذا إذا قرأتم كتابًا كُتِبَ في خيالات الخياليين وأكاذيبهم، وشطحات المتصوفين وسخافاتهم، تعجبون كل العجب من عرض هذه الترهات في ورق لتبقى على الأيام، وتعجبون كيف تجد هذه الأفكار من يقرؤها ويؤمن بما فيها من كذب لَفَّقَهُ الضالون ليُتلى في زمن وُضع فيه كل شيء من أمور الدنيا والآخرة على محك النقد، ونظر إليه بقانون العقل والمنطق. وإذا طالعتم مع هذا كتابًا أملاه الصدق للعلم تتبينون عقل مُصَنِّفِه ومقدار عنائه في تجهيز بنات أفكاره حتى يُبرزها في تأليف مقبول، وترون أن الأيام ما أَنصفت هذا المؤلف المخلص، وإنصافه يكون بالقضاء على آراء المؤلف الأول، حتى لا تجد لها من يعيرها التفاته، والمؤلف الحقيقي من يَصْدُق نفسه ويَصْدُق قُرَّاءه.

نعم إن الزمان يمحِّص، وقاعدة الانتخاب الطبيعي وبقاء الأنسب — كما يسميه أهل العصر — يجري حكمها، ولكن حتى يتم ذلك على ما تقضي سنة الكون يُخدع أُلوف، وتفسد عقول، وتُنفق أموال، وتذهب أوقات، وينجح الكاذبون. وإذا كهربت المطامع قومًا، فزين لهم الغرور حب المنفعة فقط، فمن الصعب أن ينفع في النفعيين علم العالم، أو ينجع في تقويم منآد المبطلين نصح الناصح، ولو استجيب لكل عالم، وأُطيع كل ناصح، لَمَا بقي في هذه الأرض جهول.

الكاذب في كذبه قد يكون ممن يدرك سوء مغبته عليه يوم يُعرف به، والكاذب كالسارق لا بد أن يقع يومًا في قبضة القضاء، السارق يسرق المال والمتاع، والكاذب يُضل العقول والجماعة. لا جرم أن من الأسرار ما تتجلى عاقبته ولو بعد حين للعاقل والجاهل، والكذب من هذا الضرب الأثيم، ومن قيل له: كذاب، فقد وُصف بأبشع الأوصاف، وكأن المولى الذي رتب الكائنات ودبرها بأدق الأنظمة يجازي من لا يحفل هذه القوانين، فيأخذ الكاذب بكذبه؛ يعجل له العقوبة في الحياة، وأقلُّ عقوبة له: إسقاطُه من الأنظار.

تدبرت أمر كثيرين، فتراءى لي بادئَ بدء من ظواهرهم أنهم على شيء من الأخلاق، وأنهم أهل لأن يتمتعوا بالصيت الحميد، ويفوزوا بمتاع الدنيا، فلما بلوتهم لم أحمدهم، ولما شاهدت مبلغهم من الصدق لم أعجب أن خانهم التوفيق، على ذكاء فيهم وحسن حيلة، إذًا فلا يستغربنَّ حال إنسان استجمع صفات النجاح، وتوفرت فيه بعض شروط الكمال، وكان كلما طلب العزَّ كمن يزحف إلى الذل برجليه ويديه، وكلما نشد الغنى اقترب من الفاقة والقلة، وما شهدنا الكذاب إلا غبيًّا في ذاته؛ لأنه يعتقد الغباوة فيمن يصرِّف فيهم بضاعته العاطلة، والغبيُّ كل الغبيِّ مَنْ يحتقر جليسه ومعامله، ويتخذ من الكذب عليهما أعظمَ أدواته وأَمضى سلاحه.

رأيت التاجر يتوسع في عمله ما يجاوز طاقته فيفلس، ويكون العامل الأول في إفلاسه كذبه على نفسه بتقدير ثروته إلى ما لا تحتمل التوسع، وكذبه على من يعامله باستجازة التدليس عليه، وشهدتُ الصانع يُدخل الغش في مصنوعاته، ويكذب في المواد التي يستعملها، وفي المواعيد التي يعدها، وفي الثمن الذي يتقاضاه، فينفضُّ عنه زُبُنه فيفلس، ويكون كذبه سبب إفلاسه. ورأيت أُناسًا من المتعالمين والمتعلمين يعمدون إلى الكذب بمقياس واسع كل حين، ويكذبون على بعض من له اتصال بهم، ولا يعتقدون أن في أعمالهم غضاضة عليهم ولا شرًّا على غيرهم.

إذا رأيتم محاميًا عَزَّ عليه استحصال قوته فابحثوا في الخفي من حاله، يثبت لكم أنه كذاب لا يصدق وأن غرامه في إملاء جيبه فقط، لا يهمه إنصاف الخصوم بقدر ما يهمه الحصول على ما يُسمُّونه أتعاب المحاماة، ومن أسهل الأُمور عليه أن يغش في القضاء والحكومة ويضلل أرباب القضايا والقضاة. وإذا شهدتم طبيبًا حاذقًا في الجملة وهو لا يكاد يشبع بالخبز القفار فاعتقدوا أن في فطرته نقصًا أو نقائص، ومنها: الإغراق في الكذب على من يراجعونه في شفاء أسقامهم، وادعاؤه أُمورًا لم يُتْقِنْها، وإيهامه أنه أهل لتشخيص كل مرض، وإدراك كل نازلة. وإذا رأيتم أن فلانًا لمع قليلًا أول ظهوره ثم مُسِخَ نورُه وكمد اسمه فأيقنوا أنه غش الناس بكذبه، فانكشف حاله وأصبح قومه لا يثقون به حتى في الشئون التي يصدق فيها الإنسان، فأفسد عليه عملُه السيئ حاضرَه ومستقبله، فجنى الحنظلَ وحُرم العسلَ.

لا يتعاظمنكم ما ترون من شقاء الشقي، فشقاؤه هو الأصل فيه، واحكموا لا تبالوا على كل عمل بَهَرَتْكُم روعتُه، ثم رأيتموه يميل إلى السقوط والخيبة، بأن أمره قد قام على شيء من الكذب والتدليس، فكان ذلك العاملَ الأعظم في انهياره. ولهذا أمثلةٌ ماثلةٌ أمام أعيننا كل ساعة، وتَقَع عليها في كل ناحية وحيٍّ ومنزلة.

ليس الكذب من خصائص أهل مذهب بعينه، وليس لنا أن نمنح إنسانًا شهادة بصدقه؛ لأن دينه سماوي مثلًا؛ فلا عبرة بالمذهب الذي يتمذهب به المرء بل بحُسْنِ سيرته وجَوْدَةِ معاملته. حدثني أحد أدبائنا، وكان قضى أعوامًا في إحدى الممالك الشرقية الكبرى، أن مما استرعى انتباهه هناك ما نقله إليه الثقاتُ من أن في مجلس تلك الأمة عشراتٌ من النواب من أهل دين واحد هو دين الدولة، لا تراهم يأتمنُ بعضُهم بعضًا على مال ولا وديعة. وأن الرجل الذي يأتمنونه كلُّهم هو من فريق ضئيل يدين بدينٍ غير سماوي، وهو وحده من بينهم عمدةُ زملائه، أوْلَوْه ثقتهم جميعًا؛ لأنه ما كذب حياتَه وما اشتهر إلا بالأمانة والصيانة.

وذكر لي بعض من عُهد إليهم إحصاء النفوس في بعض أحياء إحدى المدن الكبرى؛ ليجري على أهلها توزيع الخبز بالعدل خلال الحرب الأخيرة، أن الأرمن ما كانوا يكذبون في الإخبار عن عدد نفوسهم، وأن الإِخبار الكاذب يَكثر في الأغنياء من السواد الأعظم؛ ليخدعوا من تَوَلَّوْا أمر التوزيع فيأخذوا ضعفَي ما يستحقون على الأقل. وسَمَّوْا لي بيوتًا معروفة كان عند أهلها من حبوب مزرعتهم ما يمكنهم أن يطعموا منه مائة نسمة طول السنة، ثم هم يسعون لمشاركة الفقير في خبزه، فانظروا في هذا الكذب المزري من هذه النفوس الصغيرة.

لا يُنزع ستر الكذاب إلا إذا أتى ما تَعُود مغبة الكذب فيه على الجماعة، وجزاء الكذَّاب أبدًا ألمُهُ من إخفاقه في بعض ما يحاوله ويتطال إليه. رأيت تجارًا أُمناء صدقوا في تجارتهم فكانوا يكسبون كثيرًا وينعمون بما كسبوا، وما كانت رءوس أموالهم عظيمة وعاشوا ما عاشوا موفورة كرامتهم، يؤتمنون على الأموال ويفزع إليهم في الخلافات، وسرُّ كل ذلك أنهم كانوا يبتعدون عن الكذب لا يجوِّزونه في معاملاتهم ومبايعاتهم، ورأيت تجارًا بدءوا بتجارتهم وأموالُهُم كثيرة، وسمتهم يدل على أنهم أهل الثقة والنجاح، فما إن جالوا في معترك التجارة جولات حتى أتتهم الأيام بما لم يحتسبوا، وضربتهم التجارة ضرباتها، فخسروا ما جمعوا وما جُمع لهم، وكانوا هم السبب في إفقار أنفسهم؛ لأنهم ما صدقوا الحق ولا صدقوا أنفسهم ولا صدقوا الناس، وعَدُّوا الخديعة مهارةً، ومراعاة الأخلاق كلامًا لا محصل له، وما خطر لهم ببال أن الأيام قد تُنصف المخدوعين من الخادعين، وأن الزمان يفضح المجرمين بما كسبت أيديهم.

إن من يحاول الامتناع عن الكذب فيما لا يأتيه بفائدة محسوسة يكون إلى التعقُّل والبصيرة، وأعقلُ منه من يمتنع منه بَتَّة. ولقد رأينا الصادق يجلِّه حتى الكاذبون، ورأينا الكذاب يحتقره أقربُ الناس إليه، بل هو في باطنه يحتقر نفسه وعرفت أُسَرًا اشتهر بعض أفرادها بالكذب والتبجُّح بمبالغات تافهة، واشتهرت بذلك بين من عرفها عن كَثَب، ولما نشأت لهم ناشئة صالحة في الجملة وعرفت سوء أثر الكذب في أهلهم حاولوا نزع هذا الخلق منهم فلَقُوا عَنَتًا؛ لأن حكم الناس عليهم كان قد نفُذ، وعرفوا أنهم كآبائهم ممن لا يتورعون من الكذب، وأن الصغير فيهم يأخذ سيئات أهله كما يأخذ حسناتهم. ولو كان المجتمع أرقى مما هو لكانت عقوبته أوجع لمثل هذه الأُسر كأن يقاطعهم الناس ويبتعدوا عنهم.

لو عمدنا إلى الصدق، نجعله شعارَنا الباطن والظاهر في عامة أحوالنا، لوَفَّرنا على أنفسنا وعلى مَنْ يحتفون بنا وعلى القائمين بالأمر فينا أوقاتًا وأموالًا ولغوًا وباطلًا، ولَعِشْنَا وأبناؤنا سعداء لا نقلق ولا نُرَوَّع، ممتعين بما نجني، مباركًا لنا فيما نأخذ ونعطي، ولعشنا في ظل الشرف، وتذوقنا معنى الإنسانية، ونَعِمنا بالقناعة وعَمَّنَا الرضا.

روى الثقة أن أحد كبار الفقهاء بينا كان يحيك في مصنعه الثياب — وكان كثير من علماء الدين يحترفون ويعيشون من كدهم — هجم عليه شاب مستجيرًا به من الشرطيين، فأشار إليه أن ينزل إلى الحفرة التي كان يعمل فيها، وجاء رجال الأمن يطلبون الفتى فضحك الشيخ وقال لهم: ها قد خبأته لكم في الحفرة، فابتسم رجال الشرطة وانصرفوا، وخرج الشاب من مخبئه منزعجًا وقال للشيخ: ولماذا يا سيدي قلت لهم إني مختبئ في الحفرة؟ فقد قطعت نياط قلبي بقولك، فأجابه الشيخ: يا بني أنجيتك بالصدق، فأدرك الفتى سر هذا الكلام، وأصلح نفسه فيما كان يأتيه من الكبائر التي تجعل لصاحب الشخصية سبيلًا إليه، وجَانَبَ الكذبَ وتخلَّق بالصدق.

ولَكَمْ سمعنا بأشقياء سقطوا في أيدي رجال الأمن وصَدَقُوهُمْ حقيقة أمرهم، فأعانوهم على تخفيف جرمهم، ورب قاض أعجبه صِدْق جانٍ فخفف عنه. وعهدنا كذابين كذبوا على من أحبوا الحطَّ منهم، وتقوَّلوا عليهم ما لم يفعلوا، فكانت عاقبة أمرهم أن زُجُّوا في غيابات السجون، وعاشوا حتى في حال استمتاعهم بحريتهم الشخصية عيش الذليل المَهين؛ لأنهم كذبوا عندما أُريدوا على الإقرار بالحق، وأضاعوا دمًا، وأتَوا على ثروة، وثلموا شرفًا.

في المدرسة العظمى في أُوتون من ضواحي لندن — وفيها يتعلم أبناء أرقى الأشراف من الإنكليز — يجلد رئيس المدرسة بيده في الملأ كل تلميذ كذب كذبة، وقد نتج عن هذه العقوبة المذلة أن وقع الرعب في نفوس الفتيان، وابتعدوا عن الكذب إلى حد لم يبق معه من حاجة إلى تطبيق هذه العقوبة على أحد إلا نادرًا. وحبذا لو وضعت كل مدرسة في هذا الشرق هذه القاعدة موضع العمل تجريها على من يكذب من تلاميذها.

جاء أعرابي إلى الرسول — عليه السلام — وقال له: إنه يريد أن يُسْلم إلا أن نفسه لا تصبر عن الخمر والزنا، وسأله عن مخرج له من ذلك، فقال له الرسول: «عاهدني على ألا تكذب.» فعاهده، فما استطاع هذا المسلم الجديد لمكان العهد الذي قطعه على نفسه أن يعود إلى موبقاته السالفة ونجا مما كان يضرُّ به وبغيره. وكان إسلامه نافعًا من كل وجه.

•••

والنفاق شعبةٌ من الكذب أو هُوَ هُوَ، شاع شيوعًا فاحشًا، واستفحل فساده، وعم الطبقات العالية والتالية. ينافقون كل من يتوهمون أنه ينفعهم أو من يقع في نفوسهم أنه ينفعهم، يُصانعون ويغرقون حتى ليوهموا المصانع أنه من أفراد العالم وهو حقير في ذاته وصفاته، ويعدون هذا النفاق من دلائل الظرف ولطيف الذوق، ويقولون: إنا بنفاقنا نأتي ما لا ضرر به علينا، ونحن إذا لم يحصل لنا من المنافق خيره، فإنا بنفاقنا نأمن شره، وأعقل الناس من يجامل، ونسوا أن المجاملة غير النفاق.

من ذلك نفاق المشايخ للعامة يُقرونهم على معتقداتهم الفاسدة يرون أنواع البدع في كل مكان، ولا يفتحون أفواههم بكلمة في إنكار ما يعرفون أنه ينافي الشرع، يجارونهم في كل ما يأتون تَقِيَّةً ومتاقاة؛ ولذلك زادت الخرافات التي أُلصقت بالدين زيادات عظيمة على الأيام. وكان السبب في ذلك نفاق من نافقوا وتفاديهم من أن يسيروا بروح العصر وهدي الدين الصحيح.

ومن النفاق نفاقهم المتطفلين على مقاعد العلم والأدب يصفِّقون لكل ما ترعف به أقلامهم، وتفيض به قرائحهم، مهما كان من الرداءة، ويساعدونهم على نشره فتستقبله الصحف والمجلات بالتقريظ.

ومن أَنْكَدِ النفاق أن تخلو بالرجل فينفض إليك جملة حاله من دون أن تسأله، ويبرأ إليك من كل معتقد ديني ليقنعك أنه حرٌّ بريء من كل تخريف، ثم يظهر أمام الأمة بأنه معتقد بكل ما ورد وما لم يرد، وبما صح وما لم يصح. أما هو فسواء كان من المؤمنين أم من الملحدين فإن إيمانه لا يستفيد منه مستفيد، وإلحاده البارد لا يضر به القريب ولا البعيد، ولكن هو النفاق وحُبُّ الظهور.

والسلطان وأصحاب السلطان من أكثر من ينافق المنافقون، يؤذونهم بنفاقهم ويَشُقُّون عليهم بأماديحهم، والسلطان ومدبروه في حاجة إلى من يذكرهم بالحقائق لا لمن يحول بينهم وبينها، وإلى مَنْ يبصرهم بالعيوب يَتَّقُونها لا لمن يطمس لهم معالم الصدق، إنهم ينافقون السِّفْلة كما ينافقون العِلْيَة، وصيغ النفاق تكاد تكون واحدة عندهم يطلقونها على الكبير والصغير سواء.

ينافقون في أحاديثهم وخُطبهم ومقالاتهم ويُقِرُّون أنهم مراءون مخادعون. ونفاقُهم الغنيَّ من غريب ضروب النفاق، يرفعون منزلته كأنه بعض الحكماء والعظماء ويعدون ما يبدر على لسانه حكمة بالغة هبطت عليهم من السماء. وقد يكون صاحبهم أُميًّا وأكبر لص في بلده وحَيِّه، استحل كل محرم حتى جمع ما جمع. رأيت تاجرًا اقتنى العقارات الكثيرة، اتجر بالورق النقدي سرًّا حتى لا يطعن فيه من يُلحقون هذه التجارة بالقمار في الحرمة، وهو رجل يصلي الصلوات الخمس مع الجماعة في المسجد الجامع، وسقط الورق المتجر به سقوطًا عظيمًا فأفلس التاجر التقيُّ، واشتد قهره على ما ضاع منه فمات كمدًا وما استطاع أن يبوح بمصيبته لأحد، وما عَتَّمَ المادحون له المعجبون بثاقب آرائه، المعولون على نقاء ذمته، أن انقلبوا من الغد يقدحون فيه، وهو ما خرج عن جهول يحسن ضبط نفسه، ومعلوماته لا تتعدَّى كتابة توقيعه، بَيْدَ أنه كان يتقن الاحتيال على ابتياع أَملاك المَضِيقين بأقلَّ من ثمنها، بأحابيل يتممها له السماسرة، وهكذا جمع ثروته.

أما نفاقُهم الأجنبيَّ الذي يكون لدولته صلة بهم، ولو ضئيلة، فدونه كل نفاق، وأنفقُ من ينافقه صنف المستوزرين والمستوظفين، وإن كان المنافق وضيعًا في قومه، وليس في درجة الآمر الناهي، يتوهمون أنهم إذا لم ينالوا عطف الأجنبي عليهم لا تسلم لهم وظائفهم، وأن في إرضائه اتقاءَ الضربة القاصمة للظهور ذات يوم، حتى لقد قال أحدهم: لو سرى إلى خيالي أن الغريب سيغادرنا بعد عشرين سنة لأخذت من الآن أفكر من أين أتقاضى راتبي، فأنا لا يهمني من هذا الوطن غيره. وهذه الحثالة من الخَلْق لا تعرف عزة النفس ولا تتصور عقولُها معاني الوطنية، وإن عُدَّت بحسب الظاهر مثقفة، ومن بيوت تسلسل فيها الحكم. ومن يبلغ به التزلُّف وهو في منصب الوزارة أن يربط بيده رباط حذاء أجنبي كبير أمام الجمهور فهو ساقط مهما كان له من منزلة.

ولبعض الموظفين خطة في النفاق ابتدعوها لا يكاد يجاريهم فيها أحد من طبقات المنافقين، ويزيد نفاقهم كبراءَهم إلى ما وراء حد التصور عندما يكونون على رأس مناصبهم، فإذا ما انتقل أحدُهُم إلى مكان بعيد أو أُخرج من الخدمة ينقلب نفاقهم نفاقًا آخر، ذلك أنهم يتناسونه، ويحتقرونه، وقد يكون من خير الرجال الذين يجب إكرامهم وهم كانوا يقبِّلون يده يوم كان في كامل سلطانه.

ومن أَسْقَطِ المنافقين مَنْ ينافق جليسه في الحضرة، ويختلق له محاسن ليست فيه وإذا تفارقا لا ينشب أن يذكر له من المساوئ أَقْبَحَهَا، وكان قبل بضع ثوان يصوغ له من الأماديح كل ما يستميل به قلبه، ولو كان مثلُ هذا على شيء من الخير لكان مع صاحبه في غيبته وحضرته نمطًا واحدًا، هذا إذا لم يكن ممن يَعرف أن الأنفع أن يذكر له عيوبه في وجهه ليحمله على الإقلاع عما يُزري به.

ومن النفاق ما يغتفره بعضهم ولا يرون فيه ضررًا، نفاقهم النساء حتى ليتراءى لهن أن ما يُسمعونهن حقيقة لا ريب فيها، فيتطلَّعْنَ إلى ما ليس لهن من الحقوق، وإذا كان من ينافقهن ممن يحسن الاستهواء بطلاقة لسانه يَتِهْنَ مغروراتٍ، فتعتقد الطاعنة في السن أنها فتاة غريرة، وتتوهم القبيحة أنها ملكة الجمال، وتتخيل الجاهلة أنها سيدة العلماء.

ومما عَمَّتْ به البلوى نفاقُ جمهرة الشعراء على الدهر يكيلون لممدوحيهم الثناء بدون وزن ولا كيل، وإذا سخطوا عليهم اختلقوا لهم من العيوب ما يكسوهم عار الأبد. ومعظم شعراء العرب — ولا سيما المحترفون — هم رؤساء عصبة النفاق بلا جدال، ويندُرُ المعتدل في ثنائه وهجائه. أفرطوا في المدح وغَلَوْا في القدح. وليس ما نقل إلينا منذ عصور الجاهلية إلا عنوان نفوس وضيعة، دَنَّسَت وجه الشعر العربي الجميل بحظوظ أنفسها. وعدت من أنفق المنافقين، وفي الصف الأول من الكذابين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤