القول في الخياليين وأصحاب الشذوذ

بين اللمازين والخياليين وجه شبه كبير، إلا أنَّ ضرر الخياليين على أنفسهم أكثر من ضررهم على الجماعة، وخطبهم على كل حال أسهل من خطب اللمازين الهمازين. الخياليون غارقون أبدًا في آمالٍ وأحلام يصوِّرون المستحيل ميسورًا، ويذهبون إلى أن كل شيء ممكن، ولو عدمت جميع مقدماته ومقوماته، وأن النجاح على طرف الثمام لكل من تطالَّ إليه، والمشاكل مهما صعبت تنحلُّ متى اتجهت إليها الهمم، وأصحاب هذا الخُلُق يفرضون الفروض التي لا تصحُّ، ويأخذون بما يتخيلون، يقربون البعيد ويجسمون الصغير وهم مغامرون إلى أقصى حدود المغامرة لا ييأسون ولا يقنطون، ولا يَخْلُون من شيء من البلاهة.

كتب إليَّ أستاذي من القاهرة أنْ قد جرت مذاكرةٌ سرية في طريقة ترجمة إحدى دوائر المعارف الفرنسية، فتبين أن أمر المال سهل فإن أحد الحاضرين تعهد بذلك، وقال: إنَّ له إخوانًا لا يتوقفون في الإمداد، والمهم وجود مترجمين يتعهدون بالقيام بذلك إلى النهاية، فقلت: إن هذه المسألة تحتاج إلى تفكير وبحث شديد. وقد تشبث بهذا الأمر منذ سنين أناسٌ ظنوا أن المال يأتي بكل شيء، فتبين لهم غلطهم، وأعرضوا عن الأمر، وهو في درجة الإمكان القريب إذا كانت هناك همة ومعرفة بالطريق، وقد كان بعض الحاضرين يريد أن يجعل زمام الأمر في يد الحكومة، فطلبنا أن يكتم ذلك عنها، فإنه لا يؤمل أن تقدر عليه، فالأمر يحتاج إلى الحكمة أكثر من احتياجه إلى الحكومة. وصدق أستاذي في قوله: إن هذا الأمر يحتاج إلى الحكمة أكثر من احتياجه إلى الحكومة، فإن للحكومات مشاغل أعظم من هذا، وتأليف المَعْلَمَات أو دوائر المعارف من شأن الأفراد، والحكومات تُعاونها بالمال فقط، وإلى الآن لم ينشر مثل هذا الكتاب النافع؛ لأن مَنْ فَكَّروا فيه يومئذ كانوا من الخياليين، ومتى حان وقت الجد فهناك الصعوبة.

كان لي صاحب يحمل شهادة الطب، فقام في ذهنه ذات يوم أن ينقل إلى العربية من الفرنسية كتاب علم الحياة للفيلسوف سبنسر. تَخَيَّلَ أنه مقتدر على هذا، وهو، حياتَه، لم يترجم سطرين، ولا يحسن قراءة جملة صحيحة بالعربية فضلًا عن أن يكتبها، وجئته بعد سنين فرأيت على مكتبه أطباقًا من الورق الأبيض، وقد كتب على الطبق الأول اسم الكتاب واسم مؤلفه واسم مترجمه فقط، وإلى جانب هذه الأوراق المجلدان الضخمان من كتاب علم الحياة. وصاحبي هذا هو أيضًا من أرباب الخيال الذين يتوهمون بأنهم يحسنون كل شيء.

قصدني غير مرة بعضُ الشبان يسألونني رأيي في إنشاء جريدة يومية سياسية وأخرى علمية شهرية، وتأسيس مطبعة تَطبع الكتب والصحف والنشرات التجارية، فكانت أجوبتي إليهم تختلف باختلاف حالة المخاطَب. ومِنْ أغرب ما يُدَوَّن أن أكثر من كانوا يتخيلون نشر الصحف الكبرى لا علم عندهم ولا مال ولا خبرة، ويتوهمون أن الناس يُقبلون على جريدتهم أو مطبعتهم في أول يوم من إنشائها، ويضمنون لأنفسهم أُلوف القراء وألوف الزُّبن، وهم لا يعرفون شيئًا من هذه الصناعة الصعبة التي يحاولون أن يزجوا أنفسهم فيها، وغاية ما عرفوا أنهم قمشوا معلومات ضئيلة، ثم انصرفوا عن النظر في الكتب ساعة غادروا المدرسة وقد يكونون ممن تعذر عليهم استحصال الشهادات. والذي أَقْدَمَ من هؤلاء الخياليين ولم يستمع للنصيحة أخفق بالطبع، وفقد القليل من رأس المال الذي وضعه، وكان ربحه أن كتب اسمه في ثبت الجرائد المنقطعة. ولذلك ترى في تاريخ الصحافة العربية أن الصحف التي لم يصدر منها إلا أعداد محدودة في أيام محدودة أكثر من الصحف التي عاشت. ومن جميع الصحف التي صدرت في مصر والشام لم يبق إلا صحف قليلة، وما ذاك إلا لأن الخياليين كانوا أكثر سوادًا من العمليين، والذي ثبت يدين بثباته لعلم من تولى العمل، ثم لمعاونة الحكومات أو الأحزاب أو الجمعيات.

وهكذا الحال في معظم الشركات الصناعية والتجارية، التي قامت في أصقاعنا على غير أساس متين، سقطت بعد أن أضاعت على مؤسسيها أموالَهم وأوقاتَهم، وكان السبب الأعظم في خسائرها كثرة الخياليين من المساهمين فيها، وتسلط النظريين على العمليين، فنتج عن ذلك سرقة الأموال والإسراف في النفقات غير المثمرة.

ورأيت من هؤلاء الخياليين مَنْ لم يحجموا عن البداءة بعدة أعمال في آن واحد قائلين: إذا خسر هذا فالنجاح في ذاك محتَّم، وأَدَّتْهم قلة حسابهم إلى أن خسروا ما وظَّفُوه من مال، انقطعوا في أول الطريق، بجرأتهم على ما لا يحسنون، وعادوا بعد الخسارة يسبون البيئة وأهل البيئة التي خلقوا فيها، ويندبون حظهم، ويقولون: إنهم لو قاموا بهذا المشروع المفيد في بلد غير بلدهم، أو في أمة غير هذه الأمة لصُبَّتْ عليهم الأموال صبًّا ولو عقلوا لأَنْحَوا باللائمة على أنفسهم أولًا؛ لأنها لم تعرِّفهم أقدارهم فأقدموا وكان الواجب عليهم أن يُحجموا.

ولقد كنت أنصح لمن يحاول القيام بمثل هذه المشاريع أن يبدأ بشيء صغير، كأن يدخل أولًا في إحدى المطابع ويتعلم تنضيد الحروف وتحريك الآلة الطابعة وصورة إدارة المطابع، وأقول لمن يريد إنشاء جريدة: أن يدخل في إحدى الجرائد المشهورة عاملًا أولًا، يدرس التحرير بأنواعه وبعد سنتين أو ثلاث تنشأ له فكرة في الصحف، فيعرف من أين يبدأ أو كيف يبدأ، وكنت أقول لمن يحاول أن يؤسس شركة صناعية أو زراعية أو تجارية أن يلقي نفسه في غمار إحدى الشركات مدة ليعرف من أين تؤكل الكتف. وكان أكثرهم يرى أقوالي مما يمس عِزَّةَ نفوسهم، وأن هذا تكليف محال ولا يليق بهم أن يتذرعوا بمثله، وأن الأمر سهل يأتون بصانع يعمل لهم مقابل قليل من المال يبذلونه له، أو أن المسألة ظاهرة من ذاتها لا تحتاج إلى كل هذا العناء.

طلب إليَّ خياليٌّ، من هؤلاء الخياليين، أن أتوسط له لدى أحد أعيان المزارعين ليعطيه مزرعة له كبيرة يزرعها له على أصول الفن الحديث، وكان صاحبي يحمل شهادة ابتدائية بالزراعة، فقلت له: إنك لم تُثبت كفاءة حتى يهون على صاحب المزرعة أن يَكِلَ أمرها إليك، فلو كنت بدأت أولًا بزراعة خمسة أفدنة فأَحْسَنْتَ تعهُّدها وزرعها وغرسها لكان من السهل الاقتراح على صديقي أن يسلم إليك شيئًا من أملاكه، أما الآن فمن المحال أن يعطيك خمسمائة فدان دفعة واحدة، وهو أَعْرَفُ بما ينبغي لها من معرفة ومال، وإدارتها كإدارة حكومة صغيرة تحتاج إلى أمور كثيرة. فزُعِجَ الخياليُّ لحديثي، وربما قال في سره: إني قليل الخير، لا أريد أن أتكلف نفع أحد. وبعد سنين قصدني هذا الزراعي أيضًا وقال لي: إن لدى وزارة المعارف وظيفة شاغرة، هي: مدير مدرسة الصنائع ويطلب إلي أن أُعيِّنه فيها، فقلت له: إنك زراعي فكيف لك أن تقوم بأمر صناعي يحتاج إلى مران طويل، وشهادات تثبت كفاءتك لتولي مثل هذا المهم، وأنت يا هذا لم تأتِ ببرهان على نجاحك في اختصاصك، فكيف لك بتَوَلِّي أمر لا تعرف مبادئه؟ فعَبَسَ وبسر.

ولقد كنت آسف لمن يستهينون النصح ويسترسلون في الخيال؛ لاعتقادي أن العاقبة لن تكون مما يَسُرُّهم، وآسف لما يصرفونه من جهد ومال ووقت، وآسف لأن إخفاق شاب من أول أمره مدرجة إلى انقطاع أمله من الفلاح طول عمره، وسبيلٌ إلى تثبيط همم العاملين من أهل جيله. ورأيت أكثر من عُنُوا بالتجارة والصناعة والزراعة كان لثباتهم وحسن حيلتهم أعظم يد في تقدُّمهم، وعددُهم أَوْفَرُ من المتعلمين، والخيال يكثر في طبقة هؤلاء، ومن عادة الناس أن يروا من أفلحوا يشيعون أخبارًا مبالغين فيها، ولا يتكلفون البحث عن عشرات وراءهم أخفقوا، ولا عن سبب إخفاقهم.

ويُعدُّ من الخياليين من جَرُؤَ على تأليف جمعيات سياسية قالوا: إنها سرية، وأقدموا قبل أن يحين الزمن على أعمال خطيرة، وليس لديهم مال كاف يستعينون به، ولا أنصار يُركن إليهم، فجاء ما تذرعوا به مبتسرًا، وانكشف أمرهم فوقعوا في شباك أعدائهم فهلكوا وأهلكوا من معهم. ورأينا من هؤلاء الخياليين شبانًا وكهولًا كنا في باطننا نعتقد جنونهم، وكان أقل ما يَنال مَنْ يجسر على نصحهم، ويصرح لهم أن عملهم غير مضمون النتيجة أن يُرمى بضعف الوطنية وربما أُوذي وشُتم. ومن كان على شيء من التقية يمتنع من الإدلاء بشيء في هذه الأحوال. وأذكر أني قلت لأحد معارفي، أيام الثورة السورية: إن غوطة دمشق لا تصلح لحرب العصابات؛ لأنها معروفة الحدود والمعالم، فما بالُ الثوارِ يتجمعون فيها ويقتربون من أسوار القصبة، وأصحاب هذه الحرب في العادة يضربون في عدوهم ضربة ثم يفرون من وجهه إلى مكان ممتنع عليه، فقال صاحبي: وأنت ما يدريك ما هنالك؟ إن الأمر يديره أناس من أركان الحرب، فقلت: وهذا لا يمنع من أن يلتقطهم عدوهم لَقْط اليد كالعصافير، وبعد أيام قليلة طوق الجيش الثوار، وقضى على قسم عظيم منهم وكان ما كان من المصائب.

•••

أدركتُ طائفة من الرجال كان يتراءى لي أن عقولهم تامة من جانب ناقصة بعض النقص من الآخر. ومنهم من كان به جِنَّة، وهو في ظاهره سليم العقل، صحيح الأحكام. كأن الفطرة لا تحب أن تكون سمحة بكل شيء؛ فلا تجمع الصفات الحسنة كلها في فرد، كما لو جمع الجمال في امرأة فإنها تَفْتِن العالم وتستعبده. وشهدتُ الشذوذ يكثر في المصورين والخطاطين والشعراء والمتفلسفين، وبعضهم يتكلفونه ويتزيَّدون فيه، كأن الأعمال الخرقاء من موجبات الفن ودواعي النبوغ. ومن يتطلبون الشهرة من غير طريقها، ويبالغون في خيالاتهم، هم أيضًا من أرباب الشذوذ، وما من كمال إلا كان إلى جانبه نقص.

أطلتُ النظر في منازع بعض من أُصيبوا بهذه العاهة، ومنهم صاحبان لي، كنت أُعجب بذكائهما النادر، عُرف أحدهما بالشعر والفلسفة، والآخر بالتصوير والهندسة، واشتهر الأول في العراق، وما تعدت شهرة الثاني الشامات، كان الأول يبتده الشعر، ونشأ بفطرته يتفلسف في كل شيء، وينتقد كل شيء، وعتب على أبيه لأنه دفعه إلى مدرسة دينية، ولم يَعهد بتربيته إلى إحدى جامعات الغرب، ولو فعل لجاء منه الفيلسوف العظيم الذي كان العالم يترقب ظهوره لينقذ البشر بتعاليمه من آلامهم، وينظم لهم بعقله شئونهم. وقد ادعى، فيما أذكر، أن للإنسان رجعة إلى الدنيا بعد مائة ألف عام أو أكثر أو أقل، وربما تكون عودته بالصورة التي يختارها، وما أدري إن كان يرجع كلبًا أو خنزيرًا، أو قردًا، أو ثورًا، أو دبًّا، أو إنسانًا كاملًا، أو إنسانًا ناقصًا!

وهكذا طغت الفلسفة على قلبه، ووجد الشذوذ مرتعًا خصيبًا في لسانه وقلمه، وما كنت أهتدي إلى حقيقة دعوته، ولا إلى أين يرمي بانحرافه. ادعى أنه كان في صباه يسمى: المجنون؛ لحركاته الغريبة، وفي شبابه: الطائش؛ لخِفَّته ورعونته، وفي كهولته: الجريء؛ لمقاومته الاستبداد. وفي شيخوخته: الزنديق؛ لمجاهرته بآرائه الفلسفية. أي: أنه كان شاذًّا من أول أمره، إلى خاتمة عمره.

ولعهدي به في اليمن في الدور العثماني، يقرأُ لإرشاد الزيدية، مناقب أحد مشايخ الدجالين في جامع صنعاء. نزعة لا تلتئم مع دعوى التجدد، ولا مع دعوى الفلسفة. وقد ألَّف في الرد على بعض المذاهب الإسلامية ردًّا بعيدًا عن روح الحق، ما إخاله هو يعتقد صحته، واعتذر بأن الداعي إلى تأليفه كان سياسيًّا.

صاح صيحة عظيمة لإغفال الأُمة إصلاحَ خطئها القبيح الشكل! واخترع لها خطًّا جديدًا مقطعًا من أبشع ما رسم راسم. ودعاها إلى قبوله. وجاهر مرة بوجوب الإقلاع عن القوافي في الشعر العربي — ونسيتُ إن كان قال الأوزان أيضًا — وجَعْله مطلقًا؛ لأن القافية تقيده، وأتى من ذلك بنموذجات ركيكة سخيفة، لو كان في باطنه مقتنعًا باستحسان طريقته لجرى عليها في شعره، ولكنه ما كان يؤمِن، فيما أحسب، بما يقول، ويقصد أن يقال عنه فقط: إنه أتى بجديد.

أرسل إليَّ بضع قصائدَ لشعراء بغداديين مشهورين — ومنهم من يُعد في أرقى طبقات العلماء — ادعى أنهم نظموها بمناسبة ورود شاعر هَجَّاء على مدينة السلام، هجا شعراءها وهجوه هجوًا ليس أَسْفَه منه. وما ظننتُ أولئك الفحول، ينظمون مثل هذا الإقذاع. وطلب مني أن أنشر له هذه الأهاجي في كراسة، أو في إحدى المجلات المصرية، فتألمتُ من توسيطي بنشر هذه السخافات، وكتبت له ما معناه: أصبح المسلمون عبئًا ثقيلًا على الأرض، ويشتغل الموصوفون الآن بالعلم والآداب من رجالهم، في بلد كان ينزل فيه أمثال بِشْرٍ المَرِيسي وأبي عثمان الجاحظ بهذه الترهات، ثم ينشرونها ليُثبتوا للعالم أنهم سخفاء.

وبعث إلى مجلة المقتبس، أيام كانت تصدر في القاهرة، عِدَّةَ قصائد في الدعوة إلى الإلحاد، والحط من الأديان، وأَوْعَزَ إليَّ أن أنشرها باسم المجلة أو باسم مستعار، فرددتها إليه ذاكرًا له: إذا كان من خطة المقتبس عدم التعرض لمسائل الدين، فليس معنى ذلك أنه يدعو إلى محاربة الدين، وأن صاحب المقتبس لا ينظم الشعر فكيف يجوز له أن يدعي ما ليس له.

عدَّ بعضُ المشتغلين بالمشرقيات من الغربيين ما صرح به صاحبُنا هذا من الآراء فلسفةً جديدة، وغلا في تقدير شاعريته. ومن عادة المتعصبين من الغربيين أن يهللوا لكل مسلم حارب إسلامه، ولكل عربي خرج على قوميته، ولكل شرقي مرق من وطنيته. يتفننون في تأويل كلام من أرادوا الإشادة به، ويُعظِّمون أقواله وأفعاله، ويُلبسونه من ثياب المديح أضفاها، وعلى هذا قضت الأمانة على مستشرق متعصب بالاقتصار على ترجمة هذا الشاعر المتفلسف في أمتع كتاب كتب على الإسلام في الغرب، ليقول لأبناء الأجيال القادمة: هذا كل ما أنبغ الشرق الأدنى في القرون الأخيرة، والعرب أو المسلمون لم ينشأ منهم في هذا العصر رجال يذكرون.

•••

أما المهندس المصور فكان من أترابي، وعرفتُه وهو يافع، يصور كل شيء بالريشة والقلم والظفر والأصباغ والحبر والفحم والطباشير، وتبدو عليه علائمُ الذكاء البراق، وكان أبدًا يحاول التفلُّت من كل قيد، ويأتي ما ينافي العرفَ، ولعله ما كان يَخفى عليه أن العرف ينكِر عليه ما يرتكب وهو مُحتاج إلى مراعاة هذا العرف، ومن ذلك أنه بدأ شذوذه بلبس القبعة، وهو تلميذ في المدرسة، وصور نفسه بها، وكان لبس القبعة يومئذ يُعَدُّ من الكبائر، فصدرتْ إرادة السلطان بطرده من مدرسته.

أخذ طول حياته يبتدع أشياء لا يوافق العقل عليها، وثباته قليل وحركته كثيرة. وكان إذا وضع لأحدهم خريطة في أرضٍ اختلف معه، وسمع البعيدُ والقريب اختلافاتِهم، وإذا صوَّر لآخر صورة يقع الخلاف ولا تفضه إلا المحاكم أو المحكِّمون، وإذا عاشر إنسانًا لا يلبث إذا اختلف وإياه على أمر تافه أن يخترع له المثالب، وكان أيام التواصل يبتدع له المناقب. مستهترٌ في أخلاقه موغلٌ في إباحيته.

عينتُه في وظيفة ينتفع منها وينفع، وحميتُه ممن يتهمونه، بنزعة كانت النفوس يومئذ حانقة على أهلها، فاشترك مع أحد العاملين في سرقة، مع أن راتبه يزيد على كفايته، ولما نصحت له أن يُحَسِّن سيره انقطع عن عمله مع تضرره من ترك الخدمة. وأشرت إليه أن يكف عن مشاكسة معلمة كانت من تلميذاته، وكان يقول إنها خليفته الوحيدة، ويلتمس أن يرقيها في الدرجة؛ لأن راتبها ضئيل، فلما غضب عليها استدعاها إلى المحكمة، فذكَّرتُه بما قاله فيها قبل سنة، ورجوته أن يرحم فتاة ضعيفة تنتسب إليه، ولا يليق به، وهو أستاذ كبير، أن يجعل منها خصيمة له، فغاظه كلامي وحلف بالطلاق ألا يكلمني طول حياته، ونسي طلاقَه بعد أَشْهُر، فكان عندي يلقي النوادر الطريفة، ويمثل في مجلسي الروايات البديعة، وكان يحفظ من النكات، ويستظهر من المعلومات ما لو دُوِّنَ لكان عجبًا من العجب.

وأبدعُ ما صدر عنه لوحاتُه؛ فإنها مثال الإبداع إذا صور أشخاصًا أو مناظر أو غير ذلك. وكان سريعًا في وضعها وصنعها، مُجيدًا في كل ما له اتصالٌ بذلك إجادةً شهد له بها أحذقُ الرسامين، وقد يرسم من ذاكرته رجلًا تعرف إليه من سنين ورآه مرة واحدة، فيأتي بصورته طبق الأصل كأنها نقل عن عيان الآن. وصوَّر بعض المشهورين فجاءت صورهم كأنها تنطق. وكان يصور الصور الهزلية والجدية، ويرتجل ويبتدع، ويحتذي وينتحل.

وُلد هذا النابغة في الديار الشامية من أب تركي وأُم عربية، ولطالما أكد أنه عربي النحيزة والأصل. وكان هواه تركيًّا طول حياته. وكثيرًا ما قُلت له مداعبًا — وأنا في باطني أَجِدُّ: لو سرت سيرًا متزنًا، وآمنت أنك تعمل لفنك فقط، لأغنيتك وشهرتك شهرة عالمية. وكنت حقًّا أستطيع أن أُدخله إلى بيئات عالية، تبدأُ بقصور الملوك والعظماء، وتنتهي بقاعات الفنون الجميلة ومعارض التصوير، بيد أني كنت أُحاذر أن ينقلب الخير الذي أبغيه له شرًّا عليَّ؛ ذلك لأن صديقي إن حَبَتْهُ الفطرة بأشياء فقد حرمته أشياء، كما كان شأنها مع ذاك الشاعر المتزندق. والذكاء يفقد بعض قيمته، إذا لم تكن اللوازم الأخرى معه متآزية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤