القول في سياستنا

عرَّف بلونشلي السياسةَ بأنها: علم حياة الدولة، ومعرفة الشأن العام، وفن الحكومة العملي. وقال: إن رجال السياسة، بحكم مناصبهم أو مواهبهم، يؤثِّرون تأثيرًا عظيمًا في قيام الجماعات. وعَدَّ في السياسيين الوزراءَ وبعضَ كبار العمال ونُوَّاب الأمة وأرباب الصحف. قال: ويطلق اسم «رجال الدولة» على أفراد عظماء ممتازين. ويقال زيادة في التعريف: إن السياسة علم الحكم، يَتَوَلَّاه أهلُ البصيرة والعارفون بأُصول هذا العلم وقواعده في الدولة، والسياسة العملية تؤثر في السياسة النظرية، فتستأثر الأُولى بالعَمل وحدها في طفولية الدول ثم تشاركها الثانية.

لا جرم أن علم السياسة من أدق علوم البشر، وأشد الناس بلاء من يُعانيها. ورب سياسي انصرف إلى عمله أعوامًا طويلة وما أَفلح على ما يجب، وقد يوفق في مسألة واحدة طوال حياته، فيخدم بها أُمته بما لا تنهض بمثله كل قواها مجتمعة. والنابغون في السياسة قلائل جدًّا في كل العصور. وحاجة الأُمم إلى السياسة كحاجتها إلى الماء والهواء، وهي على صعوبة بادية فيها يدَّعيها الأغمار ويعز في مضمارها المجلُّون. وإذا فرضنا أن معدل من يوفقون في الأعمال خمسين في الألف، فما أَحراهم في السياسة ألا يعدوا أكثر من واحد في الألف. وقديمًا ادعى الجاهلون طب الأبدان وطب البلدان، فنجا العالم بظهور المتطببين من غوائل أَدعياء الطب الجسماني، ولم ينجُ من الدجل السياسي في طب الدول والأُمم.

ينبغي للسياسي ثقوبُ ذهن، وفرط حيلة، ووفرة دهاء، وثقافة عالية، ومرانة طويلة، والسياسي على كثرة ما يعالج من آراء، ويصطدم به من مشاكل، أشبه بمجموعة عيون باصرة، وآذان مرهفة، وقلوب واعية؛ وهو مع هذا يحتاج إلى حافظة وذاكرة، وبديهة وروية، وعزم وحزم، خصائص متى جُمعت أو أكثرها في فرد عُدَّ ظهوره نعمة كبرى على أُمته.

السياسي تنشئه الحوادث، وتُنَجِّذُه الخطوب والكوارث، ولعله يفيد منها أكثر مما تفيده الكتب والأقارير، وتَصَفُّح السجلات والدساتير. ويظهر السياسي في الحكومات الشورية كما يظهر في الحكومات الاستبدادية، ولسانه في الحكومات الديمقراطية الحرة أكثر طلاقه وعمله أحسن ظهورًا. وينشأ السياسي من الطبقات الفقيرة كما يستوي في الطبقات الغنية. وأرباب السعة أَوْلَى بممارسة السياسة من المُقِلِّين؛ لقدرتهم على الظهور بمظهر بعيد عن الصعلكة، مجمَّل بالاستغناء والكرامة. والغني مَظَنَّة البعد عن مواقع الإسفاف، وللظواهر الخارجية أثر في الشئون العامة.

يرجح في السياسة الشيوخ على الكهول، لما يُفرض فيهم من وفرة التجارب، والتجرد عن الشهوات. وإذا كان السياسي من بيت رياسة وزعامة، يضطلع بتحمُّل أعباء السياسة أكثر من غيره؛ لانطوائه غالبًا على ذوق خاص يُقدر به ما يصلح وما لا يصلح. وينشأ له من حسن ظن قومه به، وإمتاعه بثقتهم شيء من الروعة في القلوب، والمهابة في النفوس. وما نجح بنو أُمية بالسياسة في الإسلام إلا لأنهم كانوا ساسة وقادة في الجاهلية، نشأ الأبناء على غرار الآباء، وتعلم الصغار في مدرسة الكبار، وبأمثال الأُمويين أتى العرب في زمن قصير من أفانين السياسة ما هو قرة عين الزمان. ولما قلَّ عظماء السياسيين في الدول الخالفة تراجع أمر الأمة جمعاء. أصاب العربَ ما أصاب البولنديين من الأُمم الحديثة، فتمزقت دولتهم أولًا وآخرًا لضعف رجالهم في السياسة. ومتى أشرف أمر جماعة على الانحلال لا يعدمون سائسًا غريبًا يجيئهم، فيتولى منهم ما كان الواجب أن يتولاه خواصُّ الخواص من رجالهم.

ولقد تَكْرُثُ السياسيَّ المعضلاتُ، فإذا لم يتبصر فيما يعرض له، ولم يتسع صدره للتَّوقِّي من النوازل، ولم يوطِّن نفسه على تحمُّل الأذى، ولم يجامل أولياءه وأعداءه تنصرف الوجوه عنه، ويصير إلى حالة يضيع فيها رشده، ومتى ضاع رشده أضاع أُمته، وهو أعظم ضياع. ومِنْ هذا كان ما يصيب السياسيَّ من ظهور وحرمة دون ما يكافئ اضطراب ساعة، تمر عليه وهو لا يهتدي إلى وجه الصواب في خطب دَهَمَهُ، ومأزق صار إليه.

السياسي الشريف كالتاجر الشريف لا يغامر بحق ائتمن عليه، ويعز على صاحب الذمة أن يسيء استعمال الأمانة، وإذا مُزجت السياسة بالدين تخرجه عن قصده، وإذا تسربت إلى العلم تعبث ببهائه، وإذا سرت إلى الإدارة يقع فيها الخلل، على أنه قلَّ أن يستغني شيء عن قسط من السياسة.

ومنهاج السياسي متشعب منتشر، كأنه إضبارة قضية خطيرة لا يتيسر للقاضي إصدار حكمه قبل أن يقرأ مئاتٍ من الأوراق، وينعم النظر في دعوى المتخاصمين ودفاع المدافعين، وربما فُتح له منفذٌ إلى الحق بجملة صغيرة يسقط عليها، أو بنكتة توحيها تجاربه إلى قلبه. ويندر من أحرزوا صفات السياسي، ولعهدنا بالدول الكبرى المعاصرة تنشئ في العصر بعد العصر نفرًا معدودًا من العيار الصحيح منهم.

ولقد كان الساسة عند الإفرنج منذ القرون الوسطى أكثر من العرب إبان تدليهم، وما غلب ملوك قشتالة وأراجون حكومات العرب في الأندلس إلا لتفوقهم في السياسة، ولو كان في ملوك الأندلس يومئذ ساسة محنكون ما انتهى مصيرهم المفجع إلى ما انتهى إليه. ولو نزل صلاح الدين على رأي بعض فقهائه وما راعى السياسة — فعامل الصليبيين يوم فتح القدس، كما عاملوا المسلمين يوم دغروا عليه — لوسَّع الخلاف بين الغالبين والمغلوبين. فعمل بعقله لا بعواطفه، وجرى على نهج السياسي الحكيم لا على نهج فاتح مغرور.

وكان — رحمه الله — حريصًا على رجاله، الذين يرى فيهم مواهب سياسية ككاتبه ووزيره القاضي الفاضل، فقد كان يحترمه ويبره، وينزل على رأيه، ويعده من أكبر الدعائم في حفظ مملكته. وأن ملكه قام بفضل قلمه. ولما أَسَرَ الإفرنج أحد قضاته — القاضي الهكاري — قلق عليه ودفع في فدائه مالًا عظيمًا، وأطلق بعض من كان في أسره من رجالهم ليعود إليه قاضيه الأمين، وكان منه كما كان الإمام أبو يوسف من الرشيد العباسي، تَزِين السياسةُ علمه، ويستفيد الملك من صائب رأيه.

قيل للشهيد أتابك زنكي والد نور الدين محمود إن هذا كمال الدين بن الشهرزوري يحصل له في كل سنة منك ما يزيد على عشرة آلاف دينار أميرية، وغيره يقنع منك بخمسمائة دينار، فقال لهم: بهذا العقل والرأي تدبرون دولتي؟ إن كمال الدين يقل له هذا القدر وغيره يكثر له خمسمائة دينار، فإن شغلًا واحدًا يقوم به كمال الدين خير من مائة ألف دينار.

•••

نامت السياسة في بلاد العرب أجيالًا طويلة، واستفاضت بأَخَرَة شهرة أفراد أحسنوا الإعلان عن أنفسهم، ويندر في الممالك التي مُنيت بتدخل الغريب من يطلق عليهم اسم السياسي إلا بشيء من التجوُّز؛ ذلك لأن السياسة في أرضهم تكون في قبضة أصحاب القوة من الدول العظمى، وهؤلاء لا يرتضون لها إلا من يمالئهم على ما يريدون بدون أخذ ورد. وجُلُّ من يختارونهم من طبقة النفعيين، ممن تهمهم مصالحهم قبل كل شيء، ولا يعرفون السياسة إلا في أنها الغلو في مصانَعة صاحب القوة، وهم، إلى هذا، قَلَّ فيهم من تَفَقَّه بفقهها، وأتقن الوسائل إلى التبريز فيها. الساسة عندنا مبتدئون، ولا يُطلب من المبتدئ اللحاقُ بالمنتهي. والإفرنج ما تحققوا بالسياسة إلا لتوفُّر عامة أسبابها لديهم، وأهم ما يعوزها عندنا السيادة القومية، وربما كان بعض الموسومين بالسياسة يحسنون صناعتها في الشرق لو وجدوا المجال حرًّا، ولا تعرف حقائق الرجال إلا إذا مُتِّعوا بحرية العمل.

جرى العرفُ على أن السياسة كذب كلها، وهو حكم جائز جرَّ إليه ما بدا من بعض من ينتحلونها من منابذة الصدق في خلوتهم وجلوتهم، حتى لتخالهم مجاميع أكاذيب وأحابيل، وقد أسقطوا بضعف ثقافتهم، وانحلال أخلاقهم، من قيمة أَشرف عمل يقدمه إنسان لأمته. ومن الغريب أنه كلما غلا السياسي في التلاعب، واستراح إلى نصب الأحابيل، أكبروه وخلعوا عليه من الألقاب أضخمها، وأُعجبوا به ولا إعجاب أرباب الغَباء فيمن أسرفوا في قتل البشر من الفاتحين أمثال الإسكندر، وجنكيز، وأَتيلا، ونابليون.

لا يُلزم السياسيُّ، في العادة، أن يطلع الناس على سر حركته وسكونه، ومن الخير له ولهم ألا يقفوا على شيء إن أمكن. ومن أول شروط السياسة الكتمان الشديد، وكم من سرٍّ أدى إفشاؤه إلى مفسدة. والسياسي، مهما اختلفت الظنون في تعليل أعماله، لا يسعه إلا أن يطاول ويحاول، وقد يُحْرِجه أرباب الفضولِ باستدراجه إلى الكلام في غوامض يرى الفائدة في سترها، وقد يتجاهل حبَّ الخلوص بغرضه إلى ساحل السلامة، وربما كان نصيبه من قومه وغير قومه توجيهُ المطاعن إليه، وهو أَحَقُّ الرجال بالاحترام والإعظام.

يقول بارتو: إن العمل هو المحك الذي يُعرف به السياسي، والواجب عليه أن يجعل من كلامه قوة فعالة يصرفها في خدمة المصلحة العامة. ويختلف السياسي الحق Le politique عن السياسي المحترف le politicien اختلاف السياسة عن المكيدة. السياسي المحترف يعيش من السياسة وغايته منها منافعه، وإذا عهدت إليه مهمة عدَّها وسيلة يستثمرها لإملاء جيبه، واستفاضة صِيته، وبسط جاهه، يرتكب هذا وهو على علم بما ارتكب واحتقب، إذ ليس هو ممن تعنيه المصلحة العامة، ولا النظر إلى المستقبل، ولا يهتم لغير نفسه، ولا يتوقع إلا إرضاء شهواته من كل ما يدخل فيه من المؤامرات. يعبث ما طاب له العبث، حتى إذا فاز بربح اغتبط وعَدَّ ذلك غاية الغايات؛ وهذا لأنه لا أرب له في إحراز مجد، ولا هو ممن تُحدثهم أنفسهم بأن يَشْقَوا لإحراز اسم رفيع، وذكرى طيبة يخلفها لذراريه. ولا يشبه المحترف السياسيُّ السياسيَّ الحقيقي إلا كما يشبه الممثل السخيف الرجل الفنان. قد ينخدع السياسي الحق، والسياسي المحترف أبدًا خدَّاع، للسياسي خطط وأمانٍ ونظر بعيد، وللسياسي المحترف ذرائع يتذرع بها، وأحابيل يحيكها وينسجها. الأول يستخدم السياسة، والثاني يحيا بالمكائد، والناس لا يميزون بينهما، وهما متخالفان وبينهما قرابة خاطئة، ومن الظلم عدم التفريق بينهما. ومن عاش زمنًا بالدسِّ لا يقدر أن يرجع عنه، ولا تطيب له الحياة بدونه. ولا يُحْظَر على السياسي أن يكون على شيء من الدهاء، فإن هذه الصفة تُتطلَّب منه، والمهارة شيء، والاحتيال شيء آخر، والدهاء غير الخديعة.

قال: قد يكون من الضروري للسياسي — حتى يقف على ما يجهل — أن يوهم بأنه عارف حقيقة ما يعالج من أمر. ومن سوء البخت أن يحتاج السياسي الصحيح إلى الاستعانة بالسياسي المحترف. السياسي الحق يقوم بواجبه. ويستخدم من يغامرون معه توقعًا لما يجلبون من المنافع. وقد يحتاج إلى الخونة الماكرين، أما الشرف والفضيلة والضمير فهي وإن كانت صفات محترمة، فَيُستغنى عنها في بعض الأحوال، ورجل الخير لا يصلح في المواطن كلها. ومن الأعمال ما لا تطبق فيه قواعد الفضيلة كل التطبيق، بل يعمد فيها إلى اللين يستميل به صاحبُه القلوبَ، ولا مندوحة لبعض أطباق الطعام من معالجتها بشيء من الأبازير تُطَيِّبها. ثم إنه لا يُشترط في السياسي أن يكون على رأي ثابت أبدًا، وأن يقضي عمرًا في دائرة معينة لا يتحول عنها ولا يَحيد.

بلى، هو مُضطر إلى الاستعاضة عن رأي برأي لحل ما يطرأ عليه من المشاكل. وكم من قانون أساسيٍّ وقع التبديل فيه بعد إقراره بزمن يسير. ولكل حق وقتٌ وموسم. وليس الثبات من طبيعة الآراء. ذلك لأن النظر إلى الأشياء يتبدل بالتجربة وبحسب الزمان والأحوال الطارئة، ومن كان من الحزب المعارض في دولة لا يلبث إذا وُسِّد إليه الحكم أن يُمضي ما يرى فيه المصلحة. فقد قال ميرابو: ما ارتقاء الرجل إلى منصب عظيم إلا بحران يُصيبه فيَشفى من آلام كان يُحسها، ويُعْدَى بما كان منه بريئًا من قبل. وقال هوغو: قد تذم الرجل إذا وصفته بأنه ثابت على رأيه السياسي لم يتزحزح عنه منذ أربعين سنة، فإذا قلت فيه ذلك فكأنك وصمته بأنه رجل لم يستفد من تجاربه اليومية، ولا من تفكيره، ولا اعتبر بما مر به من الحوادث. وكأنك — وأنت تحكم عليه هذا الحكم — تمدح الماء لركوده، والشجرة لأنها صوَّحت، وتوهم أنك تفضل المحار على النسر. فالرأي قابل للتحول، وما من شيء هو على إطلاقه أبدًا في المسائل السياسية، ويبدل المرء رأيه ولا يخرج عن قانون الشرف، والعار كل العار في اطراح الرأي لهوًى في النفس وجلب مغنم، والذهاب بمظهر، فينتقل صاحب هذا عندئذ من لون واحد ليصبح ذا ألوان ثلاثة. انتهى.

وإذا كان بارتو يجيز للسياسي أن يجتهد في تعديل رأيه حسب الأحوال، فنحن في هذا الشرق نشكو من أنه يندر فينا من له حظٌّ من الرأي أو ما يشبه الرأي، كدأب بعض زعنفة السياسة يخرجون من حزب ليدخلوا في غيره، أو ينضمون إلى عدة أحزاب في آنٍ واحد، يحلفون لكل واحد الأيمانَ المؤثَّمة، ينزعون مذهبهم السياسي كما ينزعون ثيابهم المتسخة، وأشخاصهم أبدًا كالسلعة المعروضة في السوق يقتنيها من يزيد في ثمنها شيئًا، فهم وصوليون يتجرون بالوطنية ووطنيتهم سرقة أُمتهم، وتضليل عقول أبنائها. ولو قد كتب لك أن تستمع لما يبدو على لسان بعضهم ساعة يخلو إلى صاحب السلطان إذًا لسمعت خنزيرًا من خنازير البشر يهم ليلتهم طعامه القذر، ولو كشف الغطاء عن وجوه بعض من يَدْعونهم بالسياسيين لتجلت صورهم واغلةً في التمويه كثيرًا، وهم لو تركوا أيضًا وشأنهم يسيرون بقرائحهم بدون ردء لهم لظهروا للملأ بِقيَمهم الحقة.

وإذا جَوَّز مكيافيلي في كتابه «الأمير» للرجل السياسي أن يصطنع القسوة، ويدوس كل فضيلة؛ لإنشاء مملكة، وقيام دولة، ونادى منذ القرن السادس عشر بأن الغاية تبرر الواسطة، وتابعه على مذهبه هذا بعض ساسة الغربيين، فإن معظم رجال سياستنا استباحوا كثيرًا من الكبائر في سبيل مطامعهم الخاصة فقط، أما الإخلاص في الشئون العامة فهو مما لا موضع له في جريدة أعمالهم.

لا يخجل بعض المتطفلين على السياسة من إثبات اليوم ما نفوه أمس، ومن تسويد الأبيض وتبييض الأسود على هواهم، هُمْ في الأسواق غيرهم في المجالس، وفي حضرة الكبراء صورة مناقضة لما هم فيه عند الجمهور، يكذبون على قومهم، ولا يظهرون العطف عليهم إلا يوم يحتاجونهم؛ ليجعلوا منهم سُلَّمًا إلى أغراضهم. ومن المتعذر على تلك الفئة أن تحرز حُظْوة حقيقية من أُمتها؛ ذلك لأنها من الفريق الذي ما غلط حياته وعالج من أمرها ما يحمد عليه ويخلص فيه، وهم ما أقنعوا أحدًا قط بحسن حالهم، ونبل مقاصدهم، وغاية الذكي منهم أن يبذل أنواع البذل لإغواء العامة تقيم له الحفلات، وتهتف له وتصفق في التظاهرات، وتنوه به في الصحف والمجلات، وإذا كان بعض الساسة بعقولهم في حكم العوام، فما الشأن في هؤلاء ممن لا يفرقون بين سياسة وسياسة، ولا تميز عقولهم بين حزب وحزب، وهم كالعجائز دينهن دين إمامهن، وكثيرًا ما رأينا العوام يَدْعُون لمن استلحقوهم، وهم لا يعرفون ولو شيئًا قليلًا من منازع دعوتهم، ومرامي حزبيتهم وعصبيتهم، كيف بهذا يصح الاعتماد عليهم؟

أما بعد فإنه يقل في ساسة العرب من وصل إلى ما وصل إليه بالطرق المشروعة، ومن العبث توقُّع الخير ممن يبيع نفسه، ويصنع أبدًا ما يؤمر به. أما ساسة الغرب فلا نكاد نسمع بواحد منهم، بلغ ما بلغ، إلا إذا كان من رجال الكد والعمل، وعلى جانب من الثقافة النافعة، ممتَّع بثقة أُمته.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤