القول في مشايخنا

قال لي صديق له دالة عليَّ: إنك تنظر في حساب المشايخ الفقهاء بتدقيق يزيد على تدقيقك في حساب سائر الطبقات، وأنت إنما حصلت على ثقافتك الأولى من المشايخ؛ فهلا رعيت طبقتهم على نسبة ما ثقفت عنهم؟ وما نخالك تنكر أيادي الأجلَّة الذين أخذت عنهم وتأدبت بأدبهم. فأجبته بأن غيرتي على مقدساتنا تدعوني إلى أن أحاول بكل ممكن إدخال الإصلاح على سلك المشيخة؛ لعلمي بأن أصحابها هم رجال المدرسة الأولى للأمة، وأن معظم الناس يستجيبون لنصحهم وإرشادهم.

أنا لا أُبغض المشايخ لأنهم مشايخ، وأمقت بعضهم لأنهم عبثوا بواجباتهم، وكان المأمول أن يكونوا أحسن مما هم لأنفسهم ولقومهم، فقد تمت شرور على أيدي الحكام الظالمين كان المشايخ العلة الأولى فيها. وأنا أُحب، على البعد والقرب، من كانت نفسه بعيدة عن المطامع الخسيسة، والظاهر والباطن من سيرته سواء، وليس بيني وبين المشايخ ثارات، وكنت ولا أزال أنكر ما بدا من جشعهم ولا يناسب دعواهم ودعوتهم.

أحببتُ كثيرين ممن عاصرتهم من مشايخ الشاميين والمصريين والعراقيين، وأُعجبت بسيرتهم ونوهت بفضلهم؛ لأنهم عملوا الخير وعلَّموا أُمتهم ما علموا، وترفعت عن سفساف الدنيا إلا ما لا بدَّ منه لمعايشهم. أنا أعرف أن للمشايخ كغيرهم واجبات لا بدَّ من قضائها يعوزهم المال وتحدثهم أنفسهم بالظهور، ولكن طريقتهم تخالف ما يقرءون في كتب الدين، ومنهم من كانوا أبدًا أجرأ ناس على انتهاك حرماته، وهذا ما يزيد كراهتي لهم، واحتقاري لثرثرتهم، وتزييفي لخططهم.

أنا أكره كل منافق فكيف بمن ينافق في دينه، والنفاق في الدين ألا يعمل به، وهو يدعي أنه المحافظ الأمين عليه. وأكره من يدلس في الدين، فكيف يكون كرهي له إذا كان من رجال الدين، وأكره من يظهر للعالم غير ما يبطن؛ ليخدعهم وينفِّق عليهم بالباطل. والعلم بالدين أن يدخل هديه شغاف القلب وتتهذب النفس بأدبه حقًّا وصدقًا لا رياءً ونفاقًا.

رأيت شيخًا اشتهر عند العوام بالتقوى والعلم، كان إذا قبض راتبه آخر الشهر يذهب إلى الصيرفي حالًا يبدل الجنيهات بجنيهات مثلها؛ لأن الدنانير التي تعطيها خزانة الدولة فيها، بزعمه، الطاهرَ وغيرَه، أما جنيهات الصيرفي فلا شبهة فيها! هذا هو الورع الكاذب، ولو كان صاحب ورع حقيقة لكان كالشيخ عبد الحكيم الأفغاني فقيه عصره، فإنه عفَّ عن كل مال عُرض عليه، وكان إذا ضاق به العيش يذهب إلى الكُور المجاورة، ويشتغل عاملًا بالطين، فإذا تجمع له بضعة ريالات عاد بها إلى غرفته في مدرسته ليعيش بها أشهرًا. ورأيت مبدل الجنيهات يقيد باسمه في دار التمليك دارًا لا يملك إلا نصفها، وكان النصف الآخر لامرأة فقاضته وثبت للقاضي تزويره، فسأله كيف استحل ما ليس له وقيده على اسمه فقال: نسيت. ورأيت هذا الشيخ أيضًا ما توقف عن أن يشهد الزور ليرضي أحد الكبراء ممن له به شبه اتصال أو قرابة، فبربك قل لي: كيف يُحْتَرَم هذا الشيخ ولو ملأ الدنيا علمًا، وطار في السحاب لكثرة صلاته وصيامه!

عُرضت موازنة إحدى الدول في مجلس نوابها، فاستنكف من إقرارها نائب من المشايخ، فسأله أحد رصفائه عن سبب استنكافه فقال: إنها أموال جمعت من المظالم والمغارم، ودينه لا يسمح له بالموافقة عليها، فأمسك صاحبه بيده ورفعها له فأُقرت الموازنة. وماذا نقول لهذا المتمشيخ الذي يدين بمقاومة المدنية الحديثة رياءً وتصنعًا، ويمد يده فيقبض راتب النيابة من هذه المظالم والمغارم.

لقيت والي سورية في الحرب العامة متأثرًا من أحد المشايخ العراقيين وقال إنه قال لقائد الجيش:

أرى خلل الرماد وميض نار
ويوشك أن يكون له ضرام

وأن حكومة سورية ساهيةٌ لاهية، وشبان العرب يتآمرون على سلامة الدولة؛ أي: أنه كان يتجسس على قومه. فقال الوالي: أرجوك أن تقول له إني أنا الحاكم هنا فما هذا الفضول؟ أنا لا أستطيع أن أُجيبه إلى رغائبه، فقد طلب مني أن أسعى له بأن يكون نائبًا عن بلده أو مفتيًا فيها، وبلدته ليست من عملي، فإما أن يترك الدخول فيما لا يعنيه، أو أنفيه من هنا ولا تأخذني به رحمة. ثم قل له: كيف جرأ وضرب حاجبي على صدره، ودخل عليَّ بدون استئذان، فما هذه القحة؟ فقلت له: إن الرجل مريض في عقله. وشخصت إليه وبدأته بالكلام على أن القوم تضيق صدورهم بمن يدخل عليهم بدون استئذان فقال: وأنت هل ترضى أن يحجبوك كما يحتجبون عن الصعاليك، فقلت له: اللهم نعم، والشرع الإسلامي والمصطلح المدني يأمران بذلك، وعلى من لا يعجبه هذا النظام ألا يكلف نفسه الاختلاف إليهم. وأشرت إشارة خفيفة إلى أن الوالي لا يستطيع أن يعمل له ما يريد، فلم يفهم في الغالب ما قصدت، وما أحببت أن أُبلغه كل ما حُمِّلته، لعلمي بسوء وقعه في نفسه. وكنت أتقي هذا الرجل مخافة أن أزيد في مرضه إذا ناقشته. والوقت أثمن من أن يضاع في مراعاة الأمزجة الغريبة.

وعلمت أن الوالي لم يتبرم وحده من تعجيز هذا الشيخ، بل تبرم به قائد الجيش من قبل. فقد رُوِيَ لي: أنه كان يدخل إليه، ويقضي ساعة بين يديه يحدثه بأخبار صحته، ويقول له في جملة ما يقول: إنه تناول أمس مسهلًا، وأنه خرج ثلاثة مجالس، وأنه أحس بمغص، وأنه سيتناول الكينا، ولكنه يخاف منها لما تُحدث من صداع في رأسه … إلى آخر حديث الغث السمج، خصوصًا في تلك الأيام العصيبة، وكان على عظماء الدولة من التبعات ما تُعد معه عليهم الدقائق والثواني.

اجتاز بدمشق بعض السنين شيخ من أهل مصر، ونشر رسائل في إحدى الصحف المصرية الكبرى، ادعى بها أنه اجتمع إليَّ وأنا لم أَلْقَهُ قط، وزعم أني قلت له: إن متحف دمشق أغنى من متحف القاهرة! وقال: إن كتابي «خطط الشام» ليس إلا كتاب رجل قرأ كثيرًا، وكتب كثيرًا إلى غير ذلك من الآراء، فضحكت وقلت: ليس هو أول رجل كذب عليَّ. وجئت القاهرة فقيل لي إن فلانًا يبحث عنك ليدعوك إلى داره؛ فسألت عنه وقلت للسائل هل هذا الذي ذكرني في مقالاته، قال نعم، قلت: هذا الرجل ادعى أنه لقيني وأني قلت له كذا وكذا، وكل ذلك غير صحيح فما لي وله، ولمَ يحاول الآن أن يدعوني إلى داره، فإن كنت شيئًا في نظره، فلم طعن بي قبل أن يعرفني، وإن كنت لا شيء فلماذا يحرص اليوم على التعارف إليَّ، ألا يكفي في مكارم الأخلاق أني تغاضيت عنه، فألح الوسيط بقبول الاجتماع بصاحبه فما قبلت. ومما قال: إن صاحبه يؤكد أنه مدحني في رسائله فقلت له: وهذا أعظم، كأني لا أفهم الكلام العربي!

وكنت في بعض الليالي في المقهى، فجاء هذا الشيخ وأنا بين رفاقي جالس، فقام له القوم ولم أقم، وجاء يمد يده إلي فما مددت إليه يدًا، وقلت له باحتقار: من أنت؟ أنا لا أعرفك، فانصدع ورجع إلى الوراء، وتناقل القاهريون ما جرى بيني وبينه وهم بين مستحسِن ومستهجن. حقًّا إني لم أعرف سببًا لحرص هذا الشيخ على إكرامي بعد أن كتب ما كتب فيَّ زورًا وبهتانًا، إلا أن يكون خاف على منصبه، وقد رأى ما لي من المنزلة في بلده، وما لي من اتصال بمقامات عالية هو لها بمثابة العبد الرقيق، فوهم أني ربما ذكرته بسوء عندهم، كما جرت عادة أمثاله. وقد علمت من سيرة هذا الرجل بعدُ أشياءَ، واتصل بي أن حكومته طردته من عمله، فتألم ألمًا شديدًا على تنحيته من الخدمة ومات بعد أيام.

وعرفت شيخًا لم يبقَ له منصبه الديني إلا بفضل علاقته بأصحاب الأخبار من الإفرنج، وقد رأيت ثلة من هؤلاء المشايخ لا يرون في دينهم مانعًا يمنعهم من أن يكونوا عيونًا على قومهم، ويعتقدون أنهم يأخذون من مال مَنْ يتجسسون لهم غنيمة واستلابًا. وكان ولاةُ الأمر يرضون عن هذا الشيخ بدون هذا، ولكن هي النفوس الوضيعة وحب الدنيا. وسار أخوه على نهجه وهو كشقيقه يستدر رواتب كثيرة من الأوقاف، وبمعاونة من يتجسس لهم كان يتناول رواتبها بضع سنين وهو متغيب. ومع كل هذا الإحسان كان يظهر بُغْضَ من يحسنون إليه جهرة، ويقول فيهم ما لا يقوله عدوٌّ في عدوه. وهذا نمط آخر من أنماط الأخلاق، والأخوان من أُسرة كبيرة يعيش بعضها بالخلط والاتجار بالطريقة ودعوى التصوف.

وهناك كثيرون تَوَلَّوْا الأعمال العلمية العظيمة كالقضاء والإفتاء، وكانوا على جانب من الجهل المخيف. أدركت منهم مفتيًا سخيفًا كان يدعي له مريدوه أنه عفيف لا يرتشي، وأنا أعرف أن أحد أقربائي قد رشاه بمقدار من الأرز والسكر والسمن فحكم له بما أراد، وكان إلى هذا جاهلًا لا يعرف إلا ما تعلَّمه من فِقْه المحاكم سأله الوالي ذات يوم عن معنى قوله تعالى: قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ فقال: يُكشف عن معناها في التفسير. فما قول القارئ برجل مسلم يتولى أَرقى منصب ديني، ولا يعرف كلمة من سورة ربما كان ممن يقرؤها في صلواته كل يوم؟ والشيوخ إذا زادوا إلى ضعة نفوسهم جهلًا يستحيل على أحد أن يوقِّرهم أو تؤثر فيهم كلماتهم. وهذا الشيخ كان ممن يتقرب إلى العوام بلعن رجال الإصلاح وتكفيرهم وتبديعهم؛ لأنهم هم الذين يُظهرون حقائق أمثاله للملأ، ويعرِّفونهم أنهم طبولٌ فارغة لا يطرب الضرب عليها، طبول عُملت من مواد غير صالحة، جلودها كريهة الرائحة، وخشبها مسوَّس، والضارب عليها من كل أخرق أحمق.

وعرفت شيخًا كان معلمًا في كتَّاب يأتي ما يأتيه المُجَّان ويغتاب وينمُّ ويلقي الشغب بين أصحابه، فقلت لشيخه: رأيت من اختلفوا إلى مجلسك قد حسنت أخلاقهم بعض الشيء، حتى الباعة والصناع، إلا صاحبنا فإنه يسمع كلامك ليل نهار ولم يأخذ من سيرتك شيئًا. وهذا الرجل عرض عليَّ بدخول المحتلين أن أُعرفه إليهم، وقال: إنه مستعد ليأتيهم بما ينفعهم من الأخبار، فقلت له: أنا لا أعرفهم، وليذهب بنفسه يعرض عليهم هذه الخدمة. وقد ارتكب في الوظائف التي وليها ارتكابًا لا يصدر إلا عمن عَرِيَ من كل خلق ودين، ورأيته يقبِّل ركبة رئيس أحسن إليه، ويطلب رضاه ويذكر جميله معه، فلما سقط قام يقدح فيه على المنبر في المسجد. ونسأل الله السلامة.

لم يخجل شيخ آخر وهو شيخ معمَّر يدعي الشرف، وصاحب منصب علمي كبير من تقبيل الباطن والظاهر من كف المفوض السامي، وهذا الشيخ تولى القضاء، فكان يدوس الشريعةَ في سبيل دراهم يجتعلها. عُهِدَ إليه في محنة من المحن توزيعُ مقادير من الحنطة على العلماء؛ فأعطى من أحب إعطاءه، وممن خصهم بمؤنته من الحنطة بقَّاله وقصَّابه وخادمه وبائع الدخان، عدَّهم من العلماء وحرم كبار العلماء، وجمع من هذا الاحتيال مبلغًا ابتاع به عقارًا جديدًا، وادَّخر الباقي للأيام السود.

وأدركت شيخًا كان على علم ومعرفة بزمانه تحدث الناس فيه واختلفوا في أمره، وربما حسده بعض أبناء صناعته لانهيال المال عليه في صور مختلفة من مرتبات وهبات وتجارات. كان سمته سمت الزهاد والعباد، وعمله عمل أرباب الدنيا. وما كان كبعض شيوخ الأزهر لعهدنا يلبسون الحرير ويتختمون بالفضة والذهب، ويركبون السيارات الفخمة، ويبنون العقارات والدور. صرف في التعليم والإرشاد حياة طويلة يغبط عليها، ولم يضع كتابًا ولا رسالة ولا عُرف له رأي ولا مذهب، اللهم إلا ما كان من دروسه التي أشبهت دروس القصاص لو دُوِّنت لرأى فيها أهل العلم صورة عقله وحقيقة أمره، وشأنه في ذلك شأن المشايخ عامة في عصرنا يحفظون ولا ينتجون، أما هو ففاقهم بسعة محفوظه وحسن إلقائه، وإلباس علمه لباسًا يلوِّنه حسب الأحوال. وكان هذا الشيخ من أغرب من عاصرت، روى أحد ذوي قرباه أنه صحح في بعض دروسه أحاديث المهدي وهي موضوعة ضعيفة. وقال: إن المهدي المنتظر جاء البلد منذ أيام وضاف عند بعضهم. ولما انتهى الدرس لحق به أَنجبُ تلاميذه وسأله عما إذا كان عليه نزل المهدي فابتسم، وأوَّل بعضهم ابتسامته بأنها إشارةٌ إلى أن الأمر كان كذلك. وادعى هذا الشيخ الخلافة لما رأى حبلها يضطرب ثم عدل عنها لما هُدِّد. وكان حريصًا على بقاء السلطان لأهل الإسلام، ويذهب إلى أن الآية الكريمة إِنَّمَا جَزَاءُ الَّذِينَ يُحَارِبُونَ الله وَرَسُولَهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَسَادًا أَن يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُم مِّنْ خِلَافٍ أَوْ يُنفَوْا مِنَ الْأَرْضِ تَصْدُق على من يُتهمون بالكيد لدولتهم والدعوة لقوميتهم. وكانت له منذ نشأته علائقُ مع بعض ساسة الغربيين ويعطف كثيرًا على أبناء الذمة. وأنكر على أحد تلاميذه تساهله مع إحدى الطرق، وأبان له أنها تنافي الإسلام، وما تعدى إنكاره حدَّ المذاكرة بين شيخ وتلميذه وما أحب أن تشيع أفكاره؛ لئلا تصل إلى مسامع من يحب رضاهم. وأنكر مرة الإسرافَ في بيت المال فلما أُعْطى منه راتبًا ضخمًا سكت، وأثار الأفكار على أعداء الدين حتى نشبت الثورة عليهم، فلما رضي عنهم حمد الله في مجلسه على وجودهم وقال: إنه بوجودهم حفظ الدين.

وهاكم الآن صورة رجل من غير هذا الطراز تلقى صاحبها دروس اللسان والدين في الأزهر، وقصد إلى الأستانة يطلب منصبًا دينيًّا، وربما كانت نفسه تحدثه أن تنصبه الدولة شيخ إسلام، يوم موافاته دار الملك، ولما لم ينل ما طمحت إليه نفسه هجا الأتراك ودولتهم. وما أدري بأي واسطة من وسائط الشفاعات صار قاضيًا، وكان في سياسته يتقلب كالحرباء، يشدو بمدح كبير يتوهم أنه يحميه، ثم يعرض عنه ويتصل بغيره ويهجو المحسن الأول. وكانت له أماديحُ تحت الطلب، كان فيها أشبه بمن كان في مصر يعد القصائد في المدح والتهنئة أو التعزية، ويصفُّ حروفها في المطبعة، فإذا كان هناك من يرى فائدة له من مدحه أو تهنئته أو تعزيته وضع على القصيدة اسمه ونشرها، ونال عليها الجائزة، وإذا لم يمنحها الممدوح أو المعزَّى أو المهنأ اختيارًا منحها اضطرارًا؛ أي: بالتهديد والوعيد.

أراد هذا الشيخ أن يظهر بمظهر جديد أمام العوام فأخذ يؤلف، وماذا يؤلف وهو لا يحسن إلا نظم الشعر، أخذ يؤلف كتب صلوات، كأن المسلمين لم يعرفوا كيف يصلون على نبيهم — عليه الصلاة والسلام — حتى جاء هذا الشيخ في آخر الزمان يدلهم على صيغة الصلاة. ويرشدهم إلى ما لم يصل إليه كل من قام في ديار الإسلام من العلماء، وكان يكتب على بعض ما يطبع منها أنها توزع مجانًا، ويطبع منها ألوفًا من النسخ. فإذا صار أحد المتقاضين إلى المحكمة أشار إليه بعض خواص الشيخ أن يبتاع مقدارًا من الكتاب، فيشتري المسكين ما لا ينفعه، وقد يكون المشتري من غير ملة الإسلام.

وحشا هذا المؤلف كتبه بالموضوعات، يزيد العامة بها جهلًا، وأذكر أن من مناماته ما قرأته مدونًا في بعض كتبه أنه رأى نورًا خرج من امرأته، ففسره بأنها ستلد ولدًا يملأ الأرض علمًا وعقلًا، فما كذب في حسابه، ولدت البارة ولدًا ولكن لا من الطراز الذي تنبأ به أبوه. وقالوا: إنه ألَّف نحو خمسين كتابًا ورسالة، فهو من المكثرين من التأليف بالتأكيد، إلا أنه على التحقيق ليس من المجودين فيه. وتآليفه صلواتٌ وأحاديثُ موضوعة، ومناقبُ وكراماتٌ منقولة من الكتب الضعيفة وغيرها، وكتب ورسائل مختصرة بحسب ذوقه. ولو أن امرءًا جوَّز لنفسه أن يؤلف مثله لكتب خمسمائة تأليف لا خمسين فقط. وكل تأليف من مثل تآليفه لا يتطلب منه أكثر من أسبوع، يأخذ نسخة مطبوعة ينقل عنها عبارات مَنْ تقدمه في الموضوع الذي اختاره، ويحذف منه أماكنَ ويكتب للكتاب بضعة أسطر مقدمة ويقول: هذا تأليف.

ونحمده تعالى على أن أمثال هؤلاء المؤلفين ما غشوا عاقلًا قط، وكان مرماهم استتباع العامة، والعامة لا يعرفون من هذه المسائل شيئًا. حقيقة أن هذا الرجل شاعر ولكن شعره من نمط غريب، ظن الدين شعرًا ينظمه كيف يشاء، وفَاتَهُ أن الشعر هوًى وخيال، والدين حق اليقين أكمله صاحبه الأعظم، وما صحَّ أنه جاء عنه يعمل به فقط ويرذل ما سواه.

سمعت أستاذي في بعض مجالسه يقول: يكثر اثنان الكتابة في هذا العصر، فيفتحان فيما يكتبان على الإسلام وعلى السياسة أبوابًا يعيي العقلاء سدها. أحدهما الشيخ الذي تصدى للرد على الماديين، وهو لا يعرف العلوم المادية، والآخر فلان الذي يكتب المقالات الطويلة في السياسة العثمانية تبدو بها مقاتلها، وينال أعداؤها منها، فقلت له يا سيدي: وأرجو ألا يغرب عن بالكم، ثالثهما ذاك الشيخ المؤلف فإن مناماته وموضوعاته تعود بأكبر الضرر على عقول المسلمين، وتلقنهم الشريعة مقلوبة. وكانت حملاته شديدة على كل من ينفع المسلمين، عادة له اتخذها؛ لأنه لا يرى هذه الصفة تثبت لغيره. وقد حمل حملات منكرة على الإمام محمد عبده، والفرق بين الرجلين كالفرق بين النور والظلمة.

•••

هذا رسم خفيف لحال أهل الطبقة الأولى من المشايخ. فاسمع الآن أمثلة نؤثرها عمن سلمت نفوسهم من المطالع كانوا على أخلاق العلماء لتجري المقارنة بين الفريقين. كان للعلامة الشيخ طاهر الجزائري صديق قديم ارتقى إلى أعلى المناصب في الدولة العثمانية، وكانت صلات الود مستحكمة جدًّا بينهما، ولما بلغه عنه أشياء أتاها، قطع كل علاقة معه فجأة. فألح ذاك الكبير ليفهم الداعي إلى إعراض الشيخ عنه فأجاب: قولوا له: إني كنت أعتقد أنه ممن يغارون على أُمتهم ويريدون خيرها، أما وقد وصل إلى مقام يستطيع أن ينفعها، وهو لا يفكر في غير مصلحته الخاصة فأنا لا أعرفه. وظل على مقاطعته حتى الممات وصاحبه يتوسل أنواع التوسل ليعود الشيخ إلى ما كان عليه، وهو يعده ويُمَنِّيه ولكن من عزفت نفسه، كشيخنا، عن حطام هذا العالَم، لا يخدعه كلام سياسي ولا بريق وعد خلاب.

وقعت في القرن الماضي حادثة لعالم كانت مما يرفع الرأس، وخلاصتها أن إبراهيم باشا بن محمد علي باشا لما فتح الشام، وتقدمت الجيوش المصرية حتى بلغت كوتاهية، حَسُنَ لدى والده أن يأخذ فتاوى من علماء دمشق لاستبدال سلطانه بسلطان العثمانيين، فجمع الوالي فريقًا من المشايخ ليأخذ فتواهم في هذه المسألة، فكانوا على أن يضعوا تواقيعهم بما يرضي الوالي، لولا أن أبان الشيخ سعيد الحلبي ضعف الفتوى التي كتبها المفتي، فغضب الوالي على الشيخ الحلبي، وبعد أيام صلى إبراهيم باشا في الجامع الأموي وسأل عن الشيخ الحلبي فقيل له: إنه في غرفته، فجاءه وهو يلقي درسه على طلبته، مادًّا رجله، فما قام له ولا هش، ولما انتهى حول وجهه إليه، وسلم عليه سلامًا بسيطًا، ولم يتحرك ولا ثنى رجله عن مدها، وبقي قاعدًا كما كان، وهو في حلقة طلبته، فانصرف الباشا مغيظًا جدًّا، وأرسل إلى الشيخ من الغد صرة كبيرة فيها دنانير، منحة منه، فردها وقال للرسول: اقرأ على الباشا السلام واشكره على عطيته، وقل له: إني غني ومن يمد رجله لا يمد يده. قالوا: وكان الباشا أقسم بأن الشيخ لو قبل الصرة لأورده حتفه، وأُعجب هو وجماعته في باطنهم بهذا الخلق الشريف.

ولما دخل الإنكليز العراق بعد الحرب العامة زار حاكمها البريطاني السيد محمود شكري الآلوسي العالم المشهور في منزله ببغداد، ودفع إليه صرة من الورق النقدي ورجاه أن يتقلد أرقى منصب ديني في بلاد الرافدين، فأبى الآلوسي قبول ذلك، وادعى أنه في سعة من العيش، ولا حاجة به إلى المال، ولا أرب له في تولي عمل. وكانت سيرة صديقنا الآلوسي سيرة السلف الصالح، لم يسف حياته إلى مال، ولا ركض وراء جاه، وخدم أُمته بعلمه حتى الممات.

•••

بقي أن نقول شيئًا في علم المشايخ، وقد رأينا أكثرهم يجمدون على ما تعلموا، ويكتفون بما تيسر لهم أوان الطلب، خصوصًا إذا كانت بلادهم تتقاضاهم شهادات رسمية كمصر، والشهادة جماع المعرفة عندهم لا يحتاج صاحبها إلى غير ذلك. ورأينا أكثرهم إذا بلغوا درجة توهموها رفيعة يضربون عن كل ما ينير عقولهم، ويزيد في ثروتهم العلمية والأدبية، وقد لا يهتمون للنتائج اهتمامهم بالظواهر.

وكنا نرجِّي من الأزهر أن يخطو خطوة إلى الأمام في عهده الأخير بعد أن قال شيخه في تقريره لأول أمره: إن كل الجهود التي بذلت لإصلاح المعاهد منذ عشرين سنة لم تعد بفائدة تذكر في إصلاح التعليم، وإن نتائج الأزهر والمعاهد تؤلم كل غيور على أُمته وعلى دينه، وصار من المحتم لحماية الدين لا لحماية الأزهر أن يغيَّر التعليم في المعاهد، وأن تكون الخطوة الأولى إلى ذلك جريئة، لا يبالي فاعلها بما تحدثه من ضجة وصراخ. ا.ﻫ. ولما جاءت ساعة الوفاء بالوعد توقف الشيخ الأكبر عن المضي في إصلاحه، مع أن الظاهر أنه يجد معاونةً من أكبر سلطة في مصر، ويصفق له كل عاقل، ولا أزال أعتقد أن من نبغوا من جماعة المشايخ وعملوا أعمالًا عظيمة أمثال الشيخ محمد عبده في مصر والشيخ طاهر الجزائري في الشام كانوا فلتة من الفلتات.

وبالله عليك أيها القارئ لا تحرجني لتخرجني إلى التصريح بما أنتج هؤلاء المشايخ لخير الإسلام، فقد صدرت في العهد الأخير نحو عشرة تآليف في سيرة رسول الله كتبها كتاب مصريون من أرباب الطرابيش، ولم نر تأليفًا واحدًا لشيخ أزهري ولا لغيره من أرباب العمائم، وشهدنا المستعربين من علماء المشرقيات في الغرب يحيون تراث العرب والإسلام بنشرهم بعض المخطوطات العربية، ويعلِّقون عليها ويعارضونها على النسخ المختلفة، وقلَّ أن شهدنا لعالم أزهري عناية تشبه عناية هؤلاء الغرباء. أليس هذا عنوان ضعف الأزهريين وإهمالهم ما يفترض عليهم؟ ألا يعد في باب العجز المطلق أن الأزهر إلى اليوم لم يوفق إلى وضع فهرس علمي منظم لخزانة كتبه العظيمة؟ كأنه في انتظار أحد علماء المشرقيات من الإفرنج ليضع له فهرست كتبه أيضًا. الأزهريون ومن تابعهم وشايعهم من المشايخ يعملون بعقلية قديمة، لا يرغبون كثيرًا في المعنويات، وكان الرجاء ألا تكون رغبتهم في غيرها.

حدثني صديقي الأستاذ محمد حلمي عيسى باشا شيخ وزراء مصر أنه كان على عهد الملك المصلح فؤاد الأول في قصر عابدين، فسمع صوت الملك عاليًا، فاقترب من البهو الذي كان جالسًا فيه، فرأى في حضرته ثلة من مشايخ الأزهر وهو يقول لهم — وكانت الصحف يومئذ تخوض في تحريم لبس القبعة أو تحليلها — وماذا أعمل لكم أكثر مما عملت؟ كانت موازنة الأزهر سبعين ألف جنيه فجعلتها لكم ثلثمائة وأربعين ألف جنيه وعاضدتكم في كل ما سألتم معاضدة فعلية. ومن الغد أصدر المشايخ — حفظهم الله — فتوى بتحريم لبس القبعة وقَّعَها كبارُهم إرضاء للملك.

كتب الأستاذ محمد علي علوبة باشا في كتابه «مبادئ في السياسة المصرية» صفحة جميلة في هؤلاء الأزهريين تصدق على المشايخ عامة، نعى عليهم توانيهم في خدمة دينهم ولغتهم، وتساءل عما أنتجوه في مائة عام في أصول الدين والفقه، والتفسير والحديث، والتوحيد والأخلاق، والتاريخ والفلسفة، قال: «وكنا نرجو من رجال الأزهر أن يخرجوا معاجم اللغة العربية للناس سائغة متفقة مع حاجة العصور الحاضرة، فضاع رجاؤنا، واضطررنا إلى الالتجاء في لغتنا لغة قرآننا إلى معاجم المستشرقين والآباء اليسوعيين، وكنا نرجو أن يخرج لنا الأزهر — وقد مضى على تأسيسه ألف سنة — من المؤلفات والبحوث الدقيقة في علومه المختلفة ما يحقق أطماع العالم الإسلامي، بل إنا نرجو ونطمع أن يخرج لنا أمثال الفارابي وابن سينا وابن رشد في الفلسفة، والطبري وابن خلدون والمقريزي في التاريخ، وعبد الله بن المقفع وعبد الحميد الكاتب في الأدب، وغير هؤلاء في التوحيد والفقه والتفسير والحديث والمنطق، وما إلى ذلك مما يمارسه الأزهر ويقوم به.»

ونحن لا نقول أكثر مما قال صديقنا الأستاذ المراغي شيخ الأزهر نفسه — عليه الرحمة — من أن العلماء في القرون الأخيرة استكانوا إلى الراحة، وظنوا ألا مطمع لهم في الاجتهاد، فأقفلوا أبوابه ورضوا بالتقليد، وعكفوا على كتب لا يوجد فيها روح العلم، وابتعدوا عن الناس فجهلوا الحياة وجهلهم الناس، وجهلوا طرق التفكير الحديثة وطرق البحث الجديد، وجهلوا ما جدَّ في الحياة من علم وما جد فيها من مذاهب وآراء، فأعرض الناس عنهم، ونقموا هم على الناس، فلم يؤدوا الواجب الديني الذي خصصوا أنفسهم له، وأصبح الإسلام بلا حَمَلة ولا دعاة بالمعنى الذي يتطلبه الدين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤