القول في الإعلان والشهرة

الإعلان علم جديد قديم فيه نفع وضرٌّ، وفيه خير وشر، مداره على الارتزاق والارتفاق، وسبيله الحظوة وتحسين السمعة واستفاضة الصيت. وقد انقسم الباحثون فريقين في فائدة الإعلان: فريق يقول: إنه كثيرًا ما يجلب ضررًا لما يَحمل من مبالغة وخديعة، فما ابتاع مبتاع شيئًا إلا غُبن، وما صدَّق قارئ ما يراه في الإعلانات إلا بُخِس، ففيها مضارُّ ولها مساوئ. وقال آخر: إن لكل سبب من أسباب العمل سلاحًا ذا حدين، وإن ذكاءنا أيضًا قد نصرفه في الشر كما نصرفه في الخير، فلا داعي إذًا لتعنيف المعلنين بحجة أن في إعلاناتهم خطأ وتضليلًا. وليس من العقل أن ينبذ الدين والأدب بحجة أن هناك أناسًا من المنافقين والمخادعين، كما لا يجوز أن يزهد في سهام المصارف؛ لأن في بعضها تدليسًا وغشًّا.

ولا مُشاحَّة في أن الغرب أفرط كثيرًا في الإعلان، وأساء استعمال الحرية، ففتحت الصحف في بعض الممالك صدرها لنشر الإعلان عن المواخير والحانات والبغايا والراقصات، وأمسى الناس هناك يسكرون بالإعلان، ويفسقون بالإعلان، ويتبايعون بالإعلان، ويقدَّرون بأكثر من قيمهم بالإعلان، ويخدعون بحسن حالهم على لسان الإعلان. والشرق في ذلك يتقيل طريق الغرب ويقلده وينقل عنه، بمقياس مصغر الآن، وما ندري إلى ما يصير فيما يستقبل من الأزمان.

عَمِد الغربيون أولًا إلى الصحف والمجلات ينشرون فيها الإعلانات، وكان هذا النوع من الإعلان من أكمل الأساليب وأوفاها بالغرض، ثم هبُّوا يُعْنَون بترقية الإعلان، ولا سيما في إنكلترا وأميركا، فألَّفوا لذلك شركات نصبوا لها رؤساء وسماسرة ووكلاء يستعملون كل حيلة من وسائط النشر، وكان من أول من عُني بالإعلان أرباب التجارة والصناعة، ثم الأدباء والفنانون، فغدا الإعلان يرد لهفة كل ملهوف، يُلجأ إليه في نشدان كل ضالة، والبحث عن كل شريد، ويركن إليه كل من يطلب عملًا يعيش منه، وأصبح أيضًا مفزع كل آنسة أو ثَيِّب تبحث عن زوج تقترن به، ومرجع كل امرئ يطلب حليلة توافقه أو خليلة ترافقه. وبدا لهم أن يعتمدوا في الإعلان بعد الصحف على الجدران، وعجلات النقل والمركبات والحوافل والميضآت، ويعلنون في الأزقة الضيقة والشوارع الفسيحة في المدن والقرى وعلى طول السكك الحديدية وفي المصايف والفنادق والمطاعم وأكواخ الباعة، واتخذوا من الأدوات الكثيرة الاستعمال إعلانات دائمة كالقرطاس الذي يجعل تحت يد الكاتب وقَطَّاعة الورق والموسى وعلبة الثقاب والدُويِّ وموازين الحرارة والمفكرات وورق النشاف وبطائق البريد، وجعلوا الإعلانات على ستائر دور التمثيل والصور المتحركة، وعلى إعلانات يُسيِّرونها في الطرق تجرها مركبات صغيرة بالأيدي أو بالحيوانات، وعلى نشرات ملونة مجسمة، وعلى الأنوار الكهربائية يكتبون فيها ما تهمهم إذاعته، أو يتخذون أشخاصًا عرفوا بطلاقة اللسان يلبسونهم بزةً طريفة ليلفتوا الأنظار إليهم، فيتوهمهم العامة، لأول وهلة، من السادة والقادة، فيرفع المعلن عقيرته في الجادات والساحات يتكلم فيما يحاول الإعلان عنه، ومن الإعلان تلك النشرات المطبوعة على ورق ملون يوزعونها في المقاهي والمطاعم، وفي كل محل يغص بالمرتادين.

وإن ما تنفقه معامل الغرب وبيوت التجارة والمال والملاهي والشركات والنقابات على اختلاف ضروبها والحكومات على تلون أوضاعها، من الأموال على الإعلان لأكثر مما يتصور العقل حسابه. تنفق عن رضًى جزءًا مهمًّا من موازناتها، وتعتقد أنها إذا امتنعت عن نشر ما تنشر وإنفاق ما تنفق تضؤل أرباحها وربما وقف دولاب أعمالها، وتصاب بالإفلاس والكساد. وكذلك الحكومات فإنها موقنة أنها إذا لم تعمد إلى التأثير في أمتها وغير أمتها بالإعلان يتراجع أمرها، ويتخلى عنها حزبها، وتتغلب عليها الأحزاب الأخرى.

ومما كان الاستناد على الإعلان في نجاحه الإعلان عن المصايف، فإن معظم الدول تعلن عن مصايفها بالطرق الكثيرة. وتتفنن؛ أي تفنن في تحبيبها إلى المصطافين من أبنائها ومن الغرباء، وكان للبنان في بلادنا يدٌ طولى في باب الإعلان عن مصايفه فاق بها أهلُه عامةَ الشعوب العربية، وغالَوا في هذه السبيل حتى صار الإعلان عن جبلهم في كل لسان من أبناء هذا الجبل ولم يُشابههم في ذلك قطرٌ من الأقطار. وفي هذه أيضًا مصايفُ جديرة بأن يفزع إليها المصطافون، ولكن أهلها لم يتشبعوا بروح الإعلان، ولم تصرف حكوماتها عنايتها إلى ما يخدم بعض ثروتها من طريق الإعلان.

وبعد، فقد رأيتم أن الإعلان على الأسلوب التجاري في الغرب، واقتبسه عنه الشرق في العصر الأخير، هو من مواضعات المدنية الحديثة، وما عُرِفَ نظير له عند العرب، فالإعلان وليد الطباعة والصحافة، وفي العهد الأخير زاد المعلنون من كل فريق وزاد التفنن في الإعلان، ومرن دعاته على قول الصدق والكذب، وعلى التلفيق والتزويق.

كانت حكومات الشرق تنشر أوامرها بإرسال المُنادين إلى الأسواق، ينادون فيها وفي المآذن بما يريد الحاكم إبلاغه للرعية، وكان شيخ القرية يرسل ناطورها في هذه المهمة، فيقف في البيدر أو الساحة العامة أو على مزبلة عالية من مزابلها يعلن السكان بما يريد إلقاءه على مسامعهم. ولا يزال أثر لهذا الإعلان في بعض القرى إلى اليوم. وكانوا في الغرب تعلن حكوماته أوامرها بالأبواق، يبوِّق المبوقون في الجادات والأسواق، فيدرك الأهلون المراد من هذا التبويق. فكان الإعلان إذًا ضيقَ المضطرب ضعيفَ الانتشار في الشرق والغرب.

وليس من المعقول أن تخلو المدنية العربية من مواضعات تشبه الإعلان ولو من بعض الوجوه، وتقوم ببعض الغرض منه. كان للشعراء الأثر الكبير في الإعلان، وكان بعضهم إذا أراد أن يبث فكرًا، ويحاول أن يوصله إلى مسامع الخليفة أو الأمير، يحتال أن يلقن إحدى الجواري أبياتًا تلقيها على المسامع في ساعة الأنس، فينتبه المقصود من هذا الإعلان الخاص إلى ما يُراد، ويصل من انتدب القَينة إلى التغني بما لُقِّنَتْه إلى غرضه.

أما الإعلان العام فليس له عندهم أفعل من لسان الشعراء أيضًا ينظمون لهم أبياتًا، متى كثر تناقُلُها بلغوا المرتجى. فقد ذكروا أن تاجرًا من أهل الكوفة قدم المدينة بخُمُر فباعها كلها، وبقيت السُّودُ منها فلم تُنَفَّق، وكان صديقًا للدارمي الشاعر فشكا ذاك إليه، فقال له: لا تهتم بذلك فإني سأُنَفِّقُها لك حتى تبيعها أجمع، ثم قال:

قل للمَلِيحة في الخمار الأسود
ماذا صنعت براهب مُتَعَبِّدِ
قد كان شَمَّرَ للصلاة ثيابه
حتى وقفتِ له بباب المسجد

وشاع في الناس قولُ الشاعر، فلم تبق في المدينة ظريفةٌ إلا ابتاعت خمارًا أسودَ، حتى نفد ما كان مع العراقي منها. وهذا نوع من الإعلان على البضائع. وكانت الحكومات العربية توحي إلى الشعراء أن ينشروا في الملأ قصائد يقرظون بها أو يثلمون على ما تشاء أغراضهم، وكان الحُطَيْئَة شاعر الأُمويين ينظم لهم ما يحبون أن يؤثروا به في الأفكار، وكان الدارمي أيضًا من شعرائهم يرسلونه في هذه المهمات. قالوا: إن يزيد بن معاوية كان يؤثره ويصله ويقوم بحوائجه عند أبيه فلما أراد معاوية البيعة ليزيد تهيَّب ذلك وخاف ألا يمالئه عليه قومه لكثرة من يرشح للخلافة، وبلغه في ذلك ذرو كلام كرهه منهم، فأمر يزيد مسكينًا الدارمي أن يقول أبياتًا وينشدها معاوية في مجلس إذا كان حافلًا، وحضره وجوه بني أُمية، فلما اتفق ذلك دخل مسكين إليه وهو جالس، وابنه يزيد عن يمينه وبنو أُمية حواليه، والأشراف في مجلسه، فمثل بين يديه، ومما قال:

إذا المنبر الغربيُّ خلَّاه ربه
فإن أمير المؤمنين يزيدُ

فقال معاوية: ننظر فيما قلت يا مسكين، نستخير الله. قالوا: ولم يتكلم أحد من بني أُمية في ذلك إلا بالإقرار والموافقة.

وفي كتب الأدب والتاريخ أمثلة من هذا القبيل يتجلى فيها بُعْدُ نظر العرب فيما يصلحهم، وحسن استخدامهم شعر الشعراء في سبيل السياسة والإعلان الحاذق. قالوا: إن مروان بن أبي حفصة نظم في مدح الرشيدة قصيدة، ومما قال فيها:

أنى يكون وليس ذاك بكائن
لبني البنات وراثة الأعمام

فأعطاه من أجل هذا البيت مائة ألف درهم؛ لأنه صادف هوًى في فؤاده وخدم بذلك سياسته.

•••

ما قامت دعوة إلا بالدعاية لها، أي: بالإعلان، وقَلَّما أكبر الخلق رجلًا إلا كان من جملة الأسباب في إكباره ترداد اسمه على الأفواه بالخير أو بالشر. والعالم قد يظنون أن كل من تكرر اسمه على مسامعهم هو عظيم في ذاته، ويتضاعف صيته إن كان على شيء من الأدب، ورزق أنصارًا يحبونه ويمجدونه، ويتطوعون لتعداد مزاياه وصفاته. فإذا كان من رجال الحكم فاتفقت له نكتة أو مسألة تبين عن دراية أشاعها في قومه، وأشاعها له المأخوذون بالظواهر من المخدوعين به، فلا تلبث حكايته أن تنتقل من فم إلى فم، وتزيد بهذا الانتقال شروحًا وحواشي، وتلبس ثوب الصدر الذي خرجت منه، والألسن التي نغمتها.

ويختلف من اشتهروا بالاستمتاع بالشهرة، فمنهم من يشتهر في بيئة معينة، ومنهم من يشتهر في أمة، ولا يعرف عند جارتها، ومنهم من يتمتع بالشهرة في الشرق وآخر بمثلها في الغرب، ولا تتأفق شهرة القلائل إلا إذا كان لهم مدخل عظيم في سياسة العالم، وكانوا ممن بأيديهم القبض والبسط والحرب والسلم. وربما شاع ذكر الواحد من هذا الفريق أكثر من ذيوع اسم باستور وكوخ وأديسون وكوري. وقد اشتهر جنكيز وهولاكو وتيمورلنك أكثر من ابن سينا والفارابي والبيروني.

يَقِلُّّ في الناس من يعطي الحق لصاحبه وينصف فيما له وعليه؛ ذلك لأن العوام ممتحنون بالإفراط والتفريط «والجاهل إما مفرط أو مفرِّط»، ولا يُعرف الاعتدال في غير أرباب العقل والعلم، وقليلٌ ما هم. والعلم كالثروة عارض والأصل في العالم الجهل، ولكَم شُوهد الرجل الذي يُتوقع الخير على يديه قابعًا في كسر بيته، خامل الاسم منكَر الشخصية لا يعرفه غير أهله وأصحابه؛ وهذا لأنه ما أحسن الإعلان عن نفسه، ولم يهيئ له جماعة يعلنون عنه، فلم تتعد شهرته أهل حيِّه أو من سمعوا به بالعرض.

وطالب الشهرة يحتاج، في الغالب، من فنون الجربزة إلى أكثر مما يحتاج الرجل المتزن من أدوات الفضل. ومن الأشخاص من اتصفوا بصفات تفيدهم في وجه وتدفعهم عن آخر. ومنهم من يستسهلون شيئًا لا يهون على غيرهم القيامُ به. والأُمم كالأفراد تنفرد بشيء وتقصر في آخر، وتعيش بشهرتها كما يُميتها خمولُ أبنائها.

قالوا: إن الشهرة قد تكذب، وهو قولٌ لا يخلو من بعض الحق، ورب تاجر عُرف بحسن معاملته وسلامة ذمته، فما أولاه قومه الثقة التي يستحقها؛ ولذلك لم يشتهر الشهرة المطلوبة، وانصرفت الوجوه إلى من هو أحط منه، يعاملونه ويأتمنونه، وقد يَجبرون — لموقعه من نفوسهم — ما قد يصدر منه من حيف في معاملاته، ويغالطون أنفسهم في الثقة به، وما كان له ذلك إلا بفضل الإعلان الذي برع به التاجر الثاني وقصَّر فيه التاجر الأول، والغُنم بالغُرم، ولكل شيء سبب.

انظروا إلى المؤلفين في الدهر الغابر وفي هذا العصر، تشهدوا أن من وقعت لهم وقائعُ تأثرت بها أعصاب العامة هم أكثر أبناء صناعتهم شهرة، وقد تدوم لهم شهرتهم زمنًا طويلًا، والخلق يقلِّد بعضهم بعضًا في الإشادة بذكر صاحب الشهرة والإقرار بفضله. واشتهر قديمًا من كُتب لهم أن كانوا في صحبة الملوك والعظماء أكثر ممن عزفت نفوسهم عنهم. ومن حظوا عند العامة أوسع شهرة ممن اعتمدوا في شهرتهم على الطبقات العالية من الخاصة، وعلى من ركنوا في شهرتهم إلى اقتدارهم الشخصي فقط، ومن النادر أن يشتهر من ليس على صفات تؤهله للشهرة، وهذه تتضاعف إذا هيأ لها صاحبها أو هيأت له الأحوال الأخذ بأسباب الاشتهار.

والمؤلفات كالمؤلفين منها ما يدين بشهرته لأسباب خاصة، فإن كتاب ألف ليلة وليلة أشهر من جميع كتب الأدب العربي، ومن قرءوه في الغرب والشرق أوفر عددًا ممن قرءوا الآداب الرفيعة. وقد تجد في الفن الواحد بضعة كتب اشتهر أحدها شهرة فائقة، وإن لم يتفوق على أمثاله بشيء ظاهر، وقد يتم له هذا بعوامل لم يكتب مثلها للكتب الأخرى. ومن الكتب ما أحدث ثورة ككتب روسو وفولتير؛ فإنها اشتهرت، وقرأها الناس في عصر صدورها فلقحت العقول بالثورة الفرنسية. وفي الأدب الغربي أُلوفٌ من الكتب لم تكتب لها الشهرة، كما كتبت لرواية دون كيشوت وقصص روبنصن كروزي وجول فرن. ولعهدنا بالأدب الحديث عند الإنكليز وليس في رجالهم من أحرز شهرة الكاتبين العظيمين ولز، وبرناردشو فهل كان الرجلان منفردين حقيقة بما لم يكتب لغيرهما إنتاجُ مثله أم أن عشرات من الكُتَّاب أنتجوا مثلهما ما ينفع الناس ويسليهم لكنهم لم تكتب لهم الشهرة العالمية؟ لم يشتهر شكسبير شاعر الإنكليز وأكبر شاعر في الأرض هذه الشهرة المستفيضة إلا بعد أعوام طويلة مضت على موته، فهل زادت الأيام في قدر شهرته والعالم الغربي ما اهتدى إلى ما في شعره من بدائع إلا بمرور الزمن؟

اشتهر من أرباب المذاهب الدينية من عاضد الملوك دعوتهم، ومن هام العوام بها وهضمتها نفوسهم. وهناك مذاهب جماعية لا تقل عن غيرها شأنًا كمذهب الظاهري والأوزاعي والطبري، ضعُفت شهرتها إذ لم تجد لها من يعضدها من الملوك، ولا من يستهيم بها ويساهم فيها من الخاصة والعامة، كما وقع لمذاهب الحنفية والشافعية والمالكية والحنابلة أوسع مذاهب أهل السنة انتشارًا. واستفاض صيت مالك وأبي حنيفة وابن حنبل؛ لأنهم أُوذوا في سبيل آرائهم، فكسبوا عطف الأمة عليهم. ونجا ابن جرير الطبري بدهائه من ظلم السلطان في حياته، ولم ينج من ظلم العوام بعد وفاته.

ومن البدع في الإسلام ما ذاع بما لقي من المقاومة. وما سكت العارفون عن محاربته ذاع ذيوعًا طبيعيًّا لم يتعد المدى الذي قُدر له في عالم الشهرة. ربما كان من مصلحة صاحب الدعوة أن يُلْغَط فيما يدعو إليه بالموافقة أو المخالفة. وعلى قدر ما يتكلم المتكلمون في أمر يلقى قبولًا. ورب دعوة خُنقت في مهدها لإعراض الخلق عنها، فما انتشر لها في الملأ صيت ولا علقت في الأذهان، ولا نفذت إلى القلوب. ورأينا من يحرص على الشهرة قد لا يوفق إلى الحصول عليها على ما يريد، ومن يتباعد عنها تكون له غالبًا أتبع من ظله. كأن الشهرة غانية حسناء عرفت بالصدود فلا تواصِل كل عاشق.

•••

قلنا: إن الغربيين تفننوا في إحراز الشهرة تفننًا عظيمًا، وبلغوا من ذلك المبالغ، وهم يتعلمون هذه الصناعة كما يتعلم المتعلمون الحساب والكتاب، ساعدهم على هذا التفنن، وضمن لهم النجاح فيه كثرةُ انتشار الصحف المنوعة، ووفرة العلوم والآداب، وكان من كثرة اتصال الأُمم بعضها ببعض ما نفع الصانعين وما صنعوا والتجار وما هيئوا وعرضوا، والسياسيين وما قالوا، والمغنين وما غنوا.

تقدم أن من سيئات الإعلان أن سُرَّاع التصديق بما يقرءون من أساليبه العجيبة يقعون في شرك المعلنين أكثر من غيرهم، فينخدعون ولا يدركون أن حقيقة ما نُمي إليهم فاقتنعوا بصحته هو أقل من الواقع. ذلك لأن لهذه الإعلانات ثمنًا يستوفيه المعلن من المعلن إليه بافتراض الفرص للانتفاع بغفلته. ولو رجع كل من يصدق ما يقرأ في إعلان بنصف ما وطد نفسه أن يحصل عليه لكان الرابح كل الرابح. والأغلب أنه يُدَلَّس عليه كثيرًا وخسارته أكثر من ربحه. ولا يزال الطماعون يسقطون في أحابيل المعلنين، ولو تكررت هذه الخدع مرارًا. فإن من يُستهوى مرة يقع في نفسه أنه لا يخدع في المرة الثانية. وصاحب الإعلان يردد في سِرِّه: إذا خُدع زيد اليوم فإن عمرًا يخدع غدًا، ولا يخليه الإعلان من أناس يغشهم ويستثمر سذاجتهم. إن شهرة يحرزها صاحبها باستحقاق قد تدوم له ويورثها عقبه، وصاحب الشهرة الحقيقية ينتفع بالإعلان ولا يتضرر كثيرًا، إذا أحجم عنه ما دام له من خصائصه وماضيه وحاضره إعلان كافٍ. وهل أكثر بقاء من إعلان يصدق على الدهر لا يكذب، وقوامه حق وحقيقة.

حاول كثير من أدعياء العلم في العصور الغابرة أن يشتهروا بالنيل من علماء اشتهروا في أيامهم كالجاحظ وابن حزم والغزالي وابن تيمية، فأكثروا من الحط عليهم وتزييف آرائهم، فماذا كان من الزمن الذي لا يُبقي على غير الصحيح؟ كان منه أن انقرض أولئك الذين طلبوا الشهرة على حساب غيرهم، وسلكوا إليها غير طريقها، وبقيت آراءُ هؤلاء الأئمة تُقرأ وتُتناقل، وتَتمتع، على الأيام، بثقة العلماء والمتعلمين والموافقين والمخالفين.

مثَّلنا بهؤلاء الأعلام الأربعة والأمثلة من هذا القبيل كثيرة، ونريد أن نقول فقط: إن من ظنوا أنْ تكتب لهم الشهرة بالإنحاء على أرباب الشهرة يضرون أنفسهم وينفعون المطعون عليهم، ورب مطاعن لم تورث الطاعنين إلا الخزي، وبقي بعدها المطعون عليهم لم تزعزع مكانتهم أهواء المبطلين وإفك الأفاكين.

لا يأخذ المرء فراغًا في هذا الوجود أكثر من حجمه، ولا ينال حظًّا من الشهرة بحسد من اشتهروا، والاعتداء على شهرتهم، والمرء وحده ناسج برود شهرته، وقد تقع له من الأحوال ما تعظُم به هذه الشهرة وتضؤل، ولا تكون له يد كبرى فيها. وقانون الشهرة غريب في ذاته، فقد رأى التاريخ بلادًا عُرفت بخمولها، فاشتهرت بأفراد خرجوا منها ونشروا بعبقريتهم شهرتها في الآفاق، اشتهرت البلدة بالفرد وكان المعقول أن يشتهر الفرد بالبلد. وقد يأتي من أبناء القرى الخاملة أرباب حزم وعزم أكثر من أهل المدن الكبرى. ورب مشهور يُحَسِّن سمعةَ أُمته، وكم من أُمة لا تُنيل بنيها ما يستحقون من شهرة؛ لأنها من مجموعها لا تعد شيئًا. وتفعل في رفع صاحب الشهرة وخفضه عواملُ كثيرة، ومنها ماضي أُمته التي نبغ فيها، وكذلك حاضرها إذا كان مما يُحمد ويعجب به.

لا تفيد الدعوة إلى الاشتهار إذا كان من يدعى له صفرًا من المعرفة التي تنبعث عنها الشهرة بقدر ما يفيد الأخذ بالأسباب المشروعة المعقولة لإدراكها. وكل من يلاحق الشهرة غالبًا بدون سلوك طريقها المعروف لا تواتيه على ما يريد ويبقى العمر في حسرة على ما يتوقع من فوائدها لو جاءتْه بالقدر الذي يتطاول إليه. والشهرة قد تكون آفة على صاحبها لما تحمل من تبعات وأتعاب، ولكنها على كل حال مدرجة إلى الغنى وذريعة إلى تخليد الذكر.

يقول ابن خلدون إن الشهرة والصيت «قلَّ أن تُصادفا موضعهما مع أحد من طبقات الناس من الملوك والعلماء والصالحين والمنتحلين للفضائل على العموم، وكثير ممن اشتهر بالشر وهو بخلافه، وكثير ممن تجاوزت عنه الشهرة وهو أحق بها وأهلها، وقد تصادف موضعها وتكون طبقًا على صاحبها، والسبب في ذلك أن الشهرة والصيت إنما هما بالأخبار، والأخبار يدخلها الذهول عن المقاصد عند التناقل، ويدخلها التعصب والتشيع، وتدخلها الأوهام، ويدخلها الجهل بمطابقة الحكايات للأحوال لخفائها بالتلبيس والتصنع أو لجهل الناقل، ويدخل التقرب لأصحاب التجلة والمراتب الدنيوية الثناء والمدح وتحسين الأحوال وإشاعة الذكر بذلك، والنفوس مولعة بحب الثناء والناسُ متطاولون إلى الدنيا وأسبابها من جاه وثروة وليسوا، في الأكثر، براغبين في الفضائل ولا منافسين في أهلها.»

الإعلان، كما قلنا، خيرٌ وشر، والعاقل من انتفع بالشق المفيد منه، وتجرد من الطمع فيما يتعذر عليه نيله. وكم قِنْيَة لا تفيد، وكم من أُمور لا ينفع العلم بها ولا يضر الجهل. الإعلان صورة من هذه الدنيا تمثلها أصدق تمثيل، وما برح العالم في كل عصر سوقًا يعرض فيه الكذب والتزوير كما يعرض الحق والحقيقة، فلينظر الإنسان أَيَّ صراط يختار، صراط الصلاح أم نقيضه، صراط الكذب أم صراط الصدق؟ أما هو فعليه أبدًا تَبِعة ما يُسِرُّ وما يعلن.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤