القول في الوحدة العربية

فَقَدَ العرب استقلالهم منذ القرن الخامس من الهجرة، فدخلوا في حكم بعض العناصر الإسلامية، كالتُّرك والتتر والديلم والكرد والشركس والبربر، وأمسَوا في أرضهم تابعين، بعد أن كانوا متبوعين، تُملى عليهم إرادات غيرهم فيطيعيون، وفي أمسهم كانوا يملون إرادتهم على العالم فيُطاعون. وضعف فيهم، على الأيام، الشعورُ بالقومية، وسُلبت منهم بعض صفات الحكم وعزة الرياسة، ولولا أن كان من مصلحة مَنْ أتوهم من الفاتحين المحافظة على تراث الإسلام الذي لا يضرهم الاحتفاظ به، ولولا أن ماضي العرب كان وثيقًا جدًّا بالقرآن لانقرضوا وانقرض لسانهم من كل أرض قاموا فيها ورحلوا إليها.

بقيت للعرب إماراتٌ صغرى من ذاك الملك الضخم، مُمَتَّعَةً بشيء من الحكم في أرضها، كانت أشبه برقعة من ذاك الثوب الجميل، ربما كان منها بعض ضرر على المجموع المنحل، ولكن كان العرف جاريًا بأن هذه البقاع الباقية مستقلة، وإن كان من نوع الاستقلال الناقص يحمل في مطاويه خللًا وعللًا، تُحاك إدارته بالجهل، وتقوم سياسة أهله بالظلم والعَسف، وما كان لتلك الإمارات أن تتمثل في غيرها؛ لبعدها عن مراكز الدول القائمة في الأصقاع العامرة، ولا أن تمثل غيرها وشروط تفوقها ناقصة؛ ذلك لأنها ظلت قرونًا وراء حدودها، فجمدت عقول بنيها، كما حصل في مراكش والجزائر، وهما على مقربة من أوربا، والنور يسطع من أرجائها، فلا تحدث أهل الرأي أنفسُهم أن يقتبسوا قبسًا منه. وكذلك قل في الحجاز واليمن، أُصيبا بالانحلال، وكانا قبل قرون مهد الإسلام والعروبة، كأنهما تعبا لكثرة ما عانيا في قيام الدولة الإسلامية، فهادَنا وتراجعا.

ولسنا نتوخى هنا رسم صورة تامة لذاك الانحلال السياسي، وغاية ما نتوخاه الإشارة الخفيفة لما وقع، ويهمنا أن نشير إلى التفكُّك الذي حدث بحكم الطبيعة، وكيف أخفقت كل محاولة في توسيع تلك الإمارات. فقد انكمش أئمةُ الزيدية في اليمن وراء جبالهم، وما استطاع أشراف مكة أن يؤلفوا إمارة قوية يُرهب بأسها، على كثرة إجلال المسلمين لبيتهم، وبقيت نجد بادية، وحضرموت ومسقط وعُمَان وما إليها يستولي عليها القويُّ وهي أشبه بالبوادي، والشام ومصر والعراق فارسية وتترية وتركية وشركسية وكردية، وطرابلس وبرقة وتونس والجزائر تتخبط في إمارات بربرية وتركية، ومراكش أشبه بالمعتلة واسمها مستقلة. وهكذا يقال في إمارات السودان وغيرها مما دخله الروح العربي في إفريقية وآسية.

وقد جرتْ ثلاث محاولات سياسية، قصد القائمون بها جمع شمل الأمة، وتأسيس دولة يحترمها العدو والولي، فقام في الشام الأمير فخر الدين المعني الثاني في القرن الحادي عشر، وكانت أدواته تامة في السياسة، فقتلته الدولة العثمانية، ثم قام ابن سعود الأول في نجد، فقبضت الدولة عليه وأهلكتْه، وقام بعد حين محمد علي في مصر، فحارب صاحبها وغلبه عليها، فحالت دول أُوربا دون تقدمه، وردَّتْه إلى وراء حدود مصر، والعامل الأول في ذلك بريطانيا العظمى.

وأدرك العرب بعد انتباههم الأخير أن الوقت ضاع، والحيلة نفدت؛ لأن الجزائر وتونس ومصر بُليت بالاحتلال الأجنبي، ثم تبعتها مراكش وطرابلس وبرقة وسائر الأصقاع الإفريقية والإمارات الآسياوية العربية، وظلت الشام والعراق والحجاز واليمن ونجد تحت حكم العثمانيين أربعة قرون، كان فيها الاستعمار التركي منهكًا للقوى مضعفًا لأهلها.

وكنت تسمع منذ نحو نصف قرن بين حين وآخر همسًا في الوحدة العربية صادرًا عن أهل البصيرة من العرب، ثم لا يلبث ذاك الصوت أن ينقطع، وذاك الرجاء أن يخيب، إما بمؤامرات بعض دول الاستعمار، أو بمساعي الدولة العثمانية. وكانت تفضل الخضوع للغريب، والنزول له عن بعض أملاكها، على أن تمنح العرب بعض حريتهم. وإذا كانت الدولة العثمانية والإسلام دينها — وتقوم بدعوى الخلافة، وضم شمل المسلمين في المشارق والمغارب — هذا حالها في معاداة العرب، فمن باب أولى أن تكون الدول المستعمرة بعيدة عن العطف على العرب، وأن ترى من مصلحتها أن تضع أمامهم العقبات التي تحول دون إرجاع سلطانهم، ودينها غير دين القوم، ولسانها غير لسانهم، ومدنيتها غير مدنيتهم.

كانت الوحدة العربية قريبة التحقيق في ثلاثة أدوار، فحلت إنكلترا عروتها. المرَّة الأولى على عهد ابن سعود في القرن الماضي، والثانية على عهد محمد علي الكبير لما حارب الدولة ووصل إلى كوتاهية، والثالثة في الحرب العامة لما وعدت إنكلترا الشريف حُسينًا بتوليته زمام العرب إن هو سار معها لقتال العثمانيين، فلما وصلت إنكلترا إلى بغيتها، قسمت هي وفرنسا الديار الشامية سبع دول. مهزلة لم يحدث في القرن الأخير أغرب منها. ومن يستطيع أن يرفع عقيرته بالشكوى، ويدعو الدولتين إلى المنطق، وإلى تحقيق العهود المقطوعة للعرب، وقد رأى الناس ما حلَّ بالحسين بن علي ملك الحجاز لمطالبته بإنفاذ الوعد، ومع هذا اضطر أبناؤه إلى أن يصانعوا من اضطهد أباهم.

ولنا أن نقول بعد هذا: إن أعداء الوحدة العربية كانوا في القرون الثلاثة الأخيرة دولًا ذات مطامع ومنافع، حتى لقد كان أعظم أمير من أولئك الأمراء، وسمِّه إذا شئت ملكًا أو سلطانًا، يتمنى رضاهن، ويتقرب إليهن بكل حيلة؛ ليبقى له الحكم على أهل إِمارته الصغيرة، وفي الإمارات العربية على شاطئ المحيط الهندي والخليج الفارسي مثال من هذا الاستخذاء.

إذا تحققت الوحدة العربية، تصبح قوة لا يُستهان بها في هذا الشرق القريب، ويكون لها من موقعها الممتاز بين الشرق والغرب، ومن غِنَي تربتها، وكثرة مناجمها، واعتدال أقاليمها، ما يجعل منها دولة شرقية. تنفع العالم ولا تؤذيه، وتعيد مجد أُمة كانت على حياة تامة قرونًا طويلة.

سيقولون: إن بعض ملوك العرب لا يرضون عن هذه الوحدة، لما تؤدي إليه من نزع سلطانهم، وعندي أن هؤلاء قد علمتهم التجارب أن في توحيد القوى العربية بقاء بلادهم حرَّة، وربما كانوا يحسون أنه أصبح من المتعذر في الأُمم أن تخضع للملوك، كما كانت في القرن الماضي مثلًا. ويعلمون أن ممالكهم إذا كانت مشتتة الأهواء، يتعادى أبناؤها ويتنازعون مع جيرانهم، يزدردها كل من آنس من نفسه قوة من الدول، والمصلحة تقضي على الملوك والأمراء أن يسيروا بعد اليوم بعقولهم لا بعواطفهم، وأن يعتبروا بعِبَر الحاضر والغابر، فإذا فعلوا — وما إخالهم إلا فاعلين — يحمدون عاقبة أمرهم، وينعمون بارتقاء شعوبهم، ويطمئنون على مقدساتهم، وإذا لم يوافقوا على ما يراد منهم، يضطرون إلى التنازل عن عظمتهم كرهًا، فرق بين ما يعمل بالرضا وما يعمل بالإكراه.

وسيقولون: إنه من الصعب أن يحكم ابن نجد كما يحكم ابن صعيد مصر، وإن ابن حضرموت ومسقط دون ابن الشام بمدنيته، فيتعذر التئامهما وتفاهمهما. وما عهدت حكومة كان فيها مثل هذا الاختلاف العظيم في درجات الحضارة. هذا صحيح لو أردنا أن نُجري على كل هذه الأقطار قانونًا واحدًا، أما ونحن عامدون إلى طريقة الحكم الذاتي؛ أي: أن نطبق عليهم قوانينهم المحلية الخاصة بادئ بدء، ولا يشتركون إلا في المسائل العامة التي لا مناص من توحيدها، فنحن إلى النجاح، بحول الله، وسيحققه لنا ما فطر عليه العربي من الذكاء، وبُعد النظر، وشدة التمثل.

ولا جدال في أن أُمم الغرب ستستفيد من هذه الوحدة فوائدَ رابحة لها ولمن تقوم باسمهم. تستفيد من استثمار المناجم والأرضين، وتخلق لصناعاتها مصارفَ جديدة، وتزيد المواد الأولية في الأرض العربية أضعاف ما هي عليه اليوم، وتُنزع من العقول دعوى أن بلاد العرب قاحلة لا تستحق العناء. وهي نغمة طالما رددها من لم يدرس طبيعتها وأثبتت الجزيرة بما اكتُشف فيها من النفط والمعادن أنها في الذروة بغنى تربتها.

في أرض العرب ما يشغل رجال الأعمال والأموال من أهل الغرب القرن والقرنين، يتوفرون على استثمار ما سيكشفه المستقبل فيها من كنوز لا يخطر الآن ببال غير العارفين العثور عليها. وستكون الدولة العربية نقطة اتصال حقيقي بين القارات تتبادل فيها المنافع، وتتمازج شعوب الشرق والغرب، أكثر مما تمازجت بقوة السلاح، والاحتيال على صوغ الضعيف بصياغة القوى صياغة تضره ولا تنفعه.

تقوم هذه الدولة الجديدة بالحب والإيثار، وتبني قواعدها بسلطان العقل، وتحقق لبنيها أمانيهم وسعادتهم. وسيرى أهل الغرب أنا لا نغرهم بهذا الكلام، ولا نحاول خديعة أحد، وستبدي لهم الأيام أن معاملة الشعوب بالحسنى من خير ما يُبقي على الغالب قوته، والقوي لا يضره الأخذ بيد الضعيف، بل قد يتضرر من اضطهاده، ومصالح هذا العالم متشابكة، لا يستغني غربي عن شرقي كما لا يستغني غني عن فقير.

وعلينا معاشر العرب أن ندعو إلى هذه الأمنية بالطرق العلنية، نورد لمن لا يعرفنا صفحات من ماضينا وحاضرنا، نصرح بذلك على رءوس الأشهاد، حتى لا ندع سبيلًا للمموهين، لتشويه وجه حقائقنا بخزعبلاتهم، وليكون لنا من شعوب أوربا وأمريكا نفسها أنصار يوافقوننا على إتمام رغائبنا التي هي رغائب البشرية، نقتدي في ذلك بما قامت به كل من ألمانيا وإيطاليا لَمَّا نَهَضَتا لتوحيد كلمتهما، وقيام دولتيهما. وما كانت العرب منذ خرجت من جزيرتها، إلا أدوات نافعة في العالم، لم تحمل إليه إلا ما فيه الخير والسعادة، وإذا ضعفنا بفعل الأيام والمحن، فما فقدنا صفات تأصلت في جهازنا الحيوي. نحن لم نفقد الوفاء ولا الكرم، ولا الذكاء والمضاء، بلى تنقصنا أشياء متممة إذا أحرزناها تجلت خصائصنا، وانبعثت قوانا، وانتفعت بنا الإنسانية جمعاء، والعالم لا تضره دولة جديدة ممدنة تقوم مع هذه العشرات من الدول التي تحكم الأرض.

لا جرم أن المنصفين من الغربيين يوافقوننا على أن العرب في مجموعهم لا يقلون رقيًّا عن أرقى الدول الصغرى في جنوبي أوربا، وقال المنصفون من الإنجليز: إننا تمثلنا المدنية الغربية وإننا كالغربيين بإدارتنا وحكمنا، ومنهم من يعترف أن مصر العربية الإسلامية أرقى من إسبانيا اللاتينية النصرانية، وأن الشاميين ليسوا دون اليونانيين ثقافة وحضارة حتى بعد أن أتى على اليونان أكثر من قرن وهم ممتعون بفضل عطف أوربا عليهم باستقلال تام ناجز. ولا يسعهم أن ينكروا أن شعوب البلقان وأصحاب دولة الإسبان وإن عُدُّوا في الأوربيين ودانوا دينهم، لا تزيد مكانتهم عند التحقيق عن الشعوب النازلة في شمالي إفريقية وغربي آسية وأهلها ممن يمثل ملة الإسلام. فقد أخذ من المدنية الحديثة كل مُسْتَعْدٍ لها ما لاءمه، ومن فاتته أشياء لن يتعذر عليه تلقُّفُها في أعوام معدودات، وإن كان من العنصر السامي ولونه ضارب إلى السمرة أو الدكنة أو الصفرة!

إنا نود أن يعرفنا الغرب بتاريخنا الحقيقي وديننا الصحيح، وحضارتنا العربية، نحب أن نؤكد لهم أننا شعوب متماثلةٌ يمكن ضمها في سلك واحد تريد أن تعيش وتطلب حقها في الحياة، وترغب في ضم ما انتشر من قوتها، نقول للعالم: إنا أبناء أبٍ واحد يحاولون أن يجتمعوا بعد فراق طويل، وأن يعودوا إلى الاستمتاع بالدار التي كانت قسمت بينهم على غير رضًا من أكثر الشركاء. وغاية أمانيهم الآن أن ينزلوها، ويستخدموا كل أطرافها؛ لاعتقادهم بأن في سكناها عزتهم والإبقاء على شرف أسرتهم ولا تستوي دار معطلة وقصر مشيد.

•••

هذا بعض ما أذعته في مذياع القدس قبل اجتماع مؤتمر الوحدة العربية في مدينة الإسكندرية في اليوم الثامن من شوال سنة ١٣٦٣ (٢٥ أيلول ١٩٤٤) للتوحيد بين مصر وسورية ولبنان وشرق الأردن والعراق والمملكة اليمانية والمملكة السعودية (الحجاز ونجد)، وقد دعا المؤتمر هذه الوحدة بجامعة الدول العربية ثم اجتمع في الشتاء في القاهرة وقرر تأسيس مجلس حربي، وأن تتعاون الممالك الداخلة في الجامعة الجديدة في الشئون الاقتصادية والمالية والتجارية والاجتماعية والثقافية والصحية والجنسية، وأن تشترك في المواصلات والطرق والملاحة والسكك الحديدية والبريد والبرق.

دخل في جامعة الدول العربية أَزْيَدُ من أربعين مليونًا من العرب وبقي خارجًا عنها نحو ثلاثين مليونًا وهي مراكش والجزائر وتونس وطرابلس وبرقة وإمارات سواحل البحر المحيط الهندي والخليج الفارسي. والرجاء أن تدخل هذه الممالك والإمارات في الجامعة العربية، فتقوم وحدة العرب كافة على ألفة شاملة ورأيٍ جميعٍ، وتتم نهضتهم موحدة الأجزاء في كل ما ينهض بالممالك، لا تمضي بضعة عقود من السنين حتى تزول الفوارق من بين أجيال العرب ويشعر كل فرد منهم أن في هذه الجامعة الحياة.

إن التفاوت في الحضارة الذي نلمسه بين سكان مصر وسكان بعض الأقطار الشقيقة مثلًا هو وليد قرون استقل فيه كل قطر وراء حدوده. وكان نصيب كل قطر عربي من المدنية على نسبة أخذ أهله من مدنية الغربيين وعلى مقدار قربه وبعده عن حركة حضارة الغرب الحديثة، فتعطلت، بطول الزمن، في بعض الأرجاء القوى التي تقوم بها الممالك، ورجع بعضها إلى الجاهلية الأولى. والمدنية جِسْمٌ حي إذا لم تُغَذِّهِ الغذاء الذي يتطلبه يضعف ويضمحل، وإذا لم تبعثه البعث المعقول يتراجع ويتقهقر.

ومن دواعي الغبطة أن أهل البصيرة، ممن كتب في طبائع العرب عن نية خالصة لا غرض فيها، ما برحوا يؤيدون فكر القائلين باستعداد العرب لقبول المدنية الحديثة. وآخر من كَتَبَ فيهم أحد رجال الإنكليز، ممن قضوا بينهم سنين، وعرفهم معرفة حقيقية، فأثبت أن البدو من العرب مستعدون للإدارة وعلى جانب من معرفة الصناعات الدقيقة، وأنه كان منهم من سَاوَوُا الغربيين في ممارسة الراديو واللاسلكي وغيرها من الصناعات. وقال: إن العرب ليسوا بإدارتهم دون الغربيين على ما أثبتوا ذلك بالفعل. وهو يريد أن يقول، ضمنًا، إذا ثبتت هذه الخصائص للبادية من العرب فأحر بأهل الحواضر، وقد عانَوُا الصناعات على وجه الدهر، أن يقتبسوا كل ما امتاز به الغربيون من أسباب الحضارة.

اتخذت جامعة الدول العربية من مصر مقرًّا لها، وأتت — وهي في طورها الأول من تأسيسها بثمرات طيبة — ولا يطول الزمن حتى تندمج فيها بعض الأقطار العربية التي لم يُكتب لها أن تندمج بها إلى الآن، وستفتح أمام الجامعة العربية طرق تؤدي، حتمًا، إلى سعادة الشعوب المتآلفة فتتألف منهم أُمة بالمعنى الذي يعرفه المعاصرون، ويقوى فيها الضعيف ويزيد القويُّ قوة، ويُثبت العرب للعالم أن أبناء هذا الجيل منهم ليسوا أقلَّ من أجدادهم ذكاء ومضاء.

قلت لصاحب لي من أرباب الأقلام البريطانيين قبل نشوب الحرب الأخيرة ببضعة أشهر: كأني بحكومتك هذه الأيام تميل إلى إنشاء الوحدة العربية، مخالفة بذلك سياستها القديمة. قال: صحيح ذلك، وأنا أرى ما ترى. فقلت له: إن كان الأمر كذلك فما الذي يعوقكم عن إتمام ما لا يضر بمصلحتكم، وربما انتفعتم بهذه الوحدة في الحرب التي نحن مُقبلون عليها، وبذلك تصلحون خطأكم مع العرب لما عطفتم على الصهيونية بما يضر بمصلحة فلسطين والفلسطينيين.

وها قد تمت هذه الأُمنية بعد خمس سنين مضت على حوارنا في هذا الشأن، وربما لا يصدر هذا الكتاب حتى يكون ملوك العرب اجتمعوا في القاهرة للنظر في المشاكل العربية، كمشكلة فلسطين والصهيونيين، واستقلال ليبية، وغير ذلك مما يبحث فيه المتآمرون لخير العرب والدول العربية.

حقًّا إن الأمور مرهونة بأوقاتها، فقد مضى على أُمنية الوحدة عشراتٌ من السنين كان بعضهم يعدها حلمًا من الأحلام ووهمًا لن تحققه الليالي والأيام، وليس في السياسة المستحيل، الجامدُ فيها لا يحيا إذا ما منع الحياة عن غيره، وإنك لا تفيد مني إذا لم تُفسح لي طريق الاستفادة منك، وقوة جارين قوةٌ لهما جميعًا، واختلال حال أحدهما ملحِقٌ ضررًا بصاحبه من بعيد أو من قريب. ومحال أن يظل الضعيف على ضعفه إذا كان جسمه نقيًّا من الجراثيم المهلكة ما دام كل شيء في عالم الكون والفساد عرضة للتبدُّل. فقد رأينا كيف تتبدل المنازع القومية وتتحول المجاري الاقتصادية والسياسية، وتضمحل المذاهب الدينية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤