القول في عاداتنا

من عاداتنا في اللقاء أن يباغت الرجل صاحبه في بيته، أو في محل شغله في الوقت الذي يناسب الزائر وقد لا يناسب المزور. ومن النادر أن يتلطف الطارق ويقرع الباب ويقف ريثما يسمح له بالدخول. وقد نُسِيَتْ عادة الاستئذان، وكانت مستحكمة عند أجدادنا، فعُدْنا نقتبسها اليوم من الإفرنج، ومن المؤسف ألا تكون لنا أوقات معينة للزيارات، ولقاء الإخوان والمعارف، وأن نركن إلى الفوضى في مثل هذه الأمور، وقد جعل بعض السيدات في المدن يومًا خاصًّا لاستقبال صويحباتهن وذوي قرباهن، فتَقَدَّمْنَ في هذه المأثرة رجالَهن. وفي الغالب أن يحضر هذه المجتمعات من الرجال والنساء مَنْ لم يسبق له أن عرف بعض من في المجلس، ولا يهتم صاحب الدار بالتعريف بزواره ومدعويه فيكون اجتماعهم اجتماع النَّوْكى، أي: الحمقى، كما يقول العرب.

كان الرجل إذا دخل مجلسًا يوسعون له فقط، فيسلم ويسلمون، على عادة العرب في الجزيرة إلى اليوم، وفي الحديث: «لا يقيم الرجل الرجل من مقعده ثم يجلس فيه ولكن تفسحوا وتوسعوا.» وكان يَنْدُرُ القيام للزائر إلا إذا كان لعظيمٍ، يقومون له مرة واحدة، وألفوا لعهدنا أن ينتصبوا قائمين، لمن كان ذا حرمة في ذاته، كلما دخل المجلس وخرج منه، يزعمون أنهم يكرمون صاحبهم بذلك، وقد يكون الرجل في بيته، وهم يحاولون إكرامه وإجلاسه في المكان الذي يتخيلون أنه رفيع، وما أرى وجهًا لإكرام الرجل في داره.

وإذا دخل المجلس صاحب شأن في الدولة، فالحفاوة به تزيد على الحفاوة بغيره، وكلما كان الداخل ربَّ جاهٍ وغنًى أو ممن يخشى شره، وإن كان لا يرجى خيره، يزيد الاحتفال به والإقبال عليه، فيهبُّ كل من في المجلس هبة رجل واحد، ويأخذون بيده، ليُجلسوه في المكان الممتاز، أو الذي يتوهمون هم أنه ممتاز، وقد تكون المقاعد كلها متشاكلة لا فرق بين ما كان منها عند الباب وما جُعل في صدر المجلس، فيقف الحضور على الأقدام دقائق حتى تتم هذه العملية، وتسمع خلال ذلك الحلف بالمولى وبغيره، ويفعلون مثل ذلك كلما انتوَوُا الدخول إلى مجلس أو الخروج منه. فإذا اجتمعوا يتعب المجتمعون حتى يرضى الداخل أن يتخذ مقعده الذي يجري الاتفاق على أن يخصوا به زائرهم وجليسهم، ويقتنعون بأنهم قاموا بإجلال صاحبهم، وفي الغالب أنه لا يتم ذلك كله حتى يَشُدُّوا الداخل من يده، أو يدفعوه في صدره إذا أبى مطاوعتهم على ما يخصونه به من الإكرام.

ولطالما ابتعدتُ عن الوقوع في حكم هذه العادات القبيحة التي تؤذي القادم على المجلس، وتعطل وقته وأوقات من اجتمع فيه. وقد لا أنجو من هذا التكريم الذي لا معنى له إلا بعد إسماع من يحاول جذبي كلامًا قاسيًا أدفعه به عني، فأجلس حيث ينتهي بي المجلس، على ما أهوى لا على ما يهوون، لا أستجيز أخذ مقعد أحد يعده المسكين مكانًا مشرفًا له، ولا أختار موضعًا يأتي بعد لحظة شخص أكبر مني فأضطر إلى أن أتنازل له عنه.

وكانت لطبقة الأعيان في مجالسهم عادةٌ من أقبح ما يسجل من أنواع العادات، سَرَتْ إليهم من العثمانيين، وهي عملية أخرى تأتي بعد العملية المتقدمة التي كان فيها الدفع والجرُّ والحلف، لا تقلُّ عن صيغة إجلاس القادم غرابة، وهي أنهم إذا جلسوا يسودهم السكوتُ بضع ثوان، وناظورة المجلس، ومن كان في طبقته ومقامه يتغامزون، يرجو الواحد من صاحبه أن يبدأهم بالتحية. فيصرف المتشاكلون في السن أو المقام وقتًا حتى يتم السلام، وينال الكبير في نظرهم هذا التشريف، ويفض هذا الإشكال، وبعد ذلك يحق لأهل المجلس أن يسلموا على القادم الجديد، وقد بطلت هذه العادة، وهي من أسخف ما أُلِفَ.١

وتجيء بعد ذلك مشكلة أخرى، وهي: تقديم القهوة للحاضرين. فيأتي من يقدِّر الخادم أو الخادمة أنه كبيرهم ويخصه بالفنجان الأول فلا يرضى أخذه، فينشأ المناول ينتقل، بما يحمل، من ضيف إلى ضيف، ويأبى كل من يقدم إليه تناول فنجانه، ويشير هذا بأنه يخص بهذا الشرف من هو أكبر منه، وتبدأ الأيمان والرجاءات، وقد يقوم بعضهم من مكانه ويحمل فنجانًا إلى آخَرَ يراه لائقًا بالإكرام، وعندئذ يستقر الرأي على أن يتناول المقدَّمون أقداحهم ويتمتع الباقون بأخذها. وذلك بعد أن ينفد الصبر وتبرد القهوة أو الشاي وغيرها.

وفي الغرب يتناول المرء ما يُعرض عليه وقد يؤثرون السيدات بالتقديم، ثم يأخذ الرجال بدون تفريق بين كبير وصغير، ويرجع ذلك إلى تقدير الساقي. وقد اقتبسنا عن شيوخنا عادة البدأة بالميامن، فيقدم الساقي آخذًا من اليمين، أي: يمينه، ولو كان المتناول الأول وليدًا أو وضيعًا بالقياس إلى من في صدر المكان، وهي عادة مستحسَنة توفر على الناس أوقاتهم وأيماناتهم.

ومن منكَر عاداتهم إذا اجتمعوا: أن يخلطوا في الأحاديث، وقد يهمس الجار مع جاره، ويخرجان عن أدب الاجتماع، هذا إذا لم يتكلموا كلهم معًا بحيث يضيع النظام، وفي الحديث: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناجى اثنان دون صاحبهما فإن ذلك يَحْزُنُه.» ومن أسخف العادات التي سَرَتْ إلينا حديثًا أن بعض الظاهرين، أو الذين يحاولون أن يظهروا بمظهر المُمَدَّنين من أهل الساحل خصوصًا يكلمونك بعربية فيها بعض ألفاظ لفَّقُوها من الفرنسية، على حين ليس المتكلم بأَعْرَفَ بها من الملاحين ونُدُل الفنادق، فإذا اجتمعتَ إلى أمثاله أَزعجك برطانة ممزوجة بلغات شتى تشبه لغة مالطة، وربما اعتذر إليك هذا المحدث أنه لا يحسن إلا الفرنسية فلا يدور لسانه بلغة العرب على ما يحب.

وقد رأيت المصريين، على اختلاف طبقاتهم، ممن يحسنون إحدى لغات العلم أو أكثر من لغة، تعاشرهم أيامًا ولا تشعر أنهم يعرفون لغة غربية، يخاطبونك بألفاظ عربية فقط لا يخلطونها بمفردات أعجمية ولا يتفصحون أمامك بغير لغتهم. وهذا هو الفرق بين من تمدن حقيقة ومن يحاول أن يعد من الممدنين. إن هذه الظاهرة في المصريين والشاميين تُشعر بما بين الثقافتين من فروق، وتوشك لهجة بعض أهل الساحل الشامي أن تكون كلهجة أهل الجزائر لا يفهمها العربي القُحُّ؛ لِمَا دخل فيها من لفظ أعجمي.

ومن أبشع ما أَلِفُوا من عاداتٍ عادةٌ لهم يطبقونها في الشارع، وذلك أن أحدهم إذا صادف أحد معارفه، وقد يكون هذا مع صاحب له أو مع سيدة ووقته يحفزه للإسراع، لا يتحرج من أن يستوقفه ويسأله أسئلة عرضت لخاطره في تلك الساعة، ورفاقه ينتظرون الفرج لحلِّ عقاله ليحلَّ عقالهم معه، وقد يكونون مثله ضيقًا وقتهم، ويحاولون الوصول إلى مكتبهم مسرعين، وربما كان إيقافه هذا لسؤاله عن الحوادث التي تنشرها الجرائد كل يوم، أو لأخذ رأيه في مسألة سياسية تشغل البال، ويحتاج الجواب عليها إلى بضع دقائق أو أكثر، أو للتوسط لمبطل، أو للسؤال عن عاطل إلى غير ذلك من التافهات.٢

ووقاك الله من سخافات القوم في دعواتهم، وفيها تتجلى درجتهم في المدنية، وتقرأ نفسياتهم الغريبة، فقد يدعو الرجل أحبابًا أو معارفَ له، لا رابطة تربطهم، ولا سبق لهم أن تعارفوا، ويتفق أن يكون في المدعوين بعض المتعادِين المتخاصمين، أو المتنافسين المتباغضين، فتحصل سكتة في الجلسة، ويَقْطِبُ بعضهم، وتهيج أعصاب آخرين، ولا يهنئهم الطعام والشراب، ولا يطيب سمرهم وحديثهم، وقد يقذف بعضهم بعضًا بتعريض مؤلم، ويُسمعه ألفاظًا جارحة فيتألم المقذوف فيه أو المعرَّض به، وتنقبض صدور من لا غرض لهم في سماع أشياء هُمْ في غنًى عن سماعها في مثل تلك الساعة، وهي ساعة السرور والراحة، وصاحب البيت يحار في إرضاء ضيوفه، ويحاول التوفيق بين المتعادِين. ولهذا جريت على القاعدة الأمريكية بتعريف المدعوين شفاهًا أو خطًّا بمن دُعِيَ معهم وكثيرًا كان بعضهم يعتذر عن إجابة دعوتي بوجودِ مَنْ لا تروقه حشرته بينهم، وجرى على هذا أحد أصحابي فارتفع بعض الحرج في الدعوات.

وفي العادة أن يأتي المدعوُّون بعد الميعاد الذي ضربه لهم صاحب الدعوة، وكثيرًا ما يتخلف بعضهم ساعة عن الوقت المقرر، وصاحب المائدة لا تسمح نفسه أن يقدم طعامه لمن اجتمع، فيشتد بهم الجوع، ولا يدرك الداعي أنه بإكراه مَنْ حضر على انتظار مَنْ تخلف يحتقر مَنْ لَبَّى الطلب في الوقت المعين، ويضيع عليهم أوقاتهم، وقد تكون لهم مواعيدُ أخرى، ولا يأذن بإطعام مدعويه إلا إذا تم الحشد كله. وربما حدثتْه نفسه أن يرسل ولده أو خادمه يسأل عن المتخلف ويستحثه أو يهتف له بالهاتف، وفي الغالب أن المتخلف لا يعتذر شفاهًا ولا كتابة، وعلى هذا يستلزم تناوُلُ وجبةٍ من الطعام أن يَصرف المدعوون ساعات.

ومن المستحيل ضبط المواعيد في هذا الشرق القريب، فالقوم ما عرفوا التوقيت، وربما كان ضبط المواعيد مما يسغربونه ويَصعب على نفوسهم. ومسألة المواعيد مما شغل جانبًا من وقتي، وكنت آلَمُ من الإخلال بها وقد تغلبتُ عليها إجمالًا، وغرستُها في صدور بعض الناشئة، بصعوبات كثيرة، ولقَّنت من أحاطوا بي ورَأَسْتُهُمْ — وإن شق عليهم تحكمي بادئ بدء — أن يراعوا المواعيد أبدًا؛ لِمَا في فوضى الأوقات من الضرر لهم ولغيرهم، وبالإخلال بالمواعيد يُثبتون أنهم شعب منحطٌّ.

وتراهم إلى اليوم متى اجتمع المدعوون على الخِوَان يشد بعضهم بعضًا، فيُجلسون من يحاولون إجلاسه في مقام التكرمة، ثم يجلسون الأمثل فالأمثل بحسب نظرهم أو عرفِهم. وعاداتُهم في تناول الطعام قد دخلها تحسين كثير، فتراهم لعهدنا كالغربيين يجعلون أمامهم أطباقًا لكل شخص، ومعها كأسه ومنديله وسكينه وملعقته وأدوات أكله، يتناول كل إنسان المقدارَ الذي يبغيه، يضعه في طبقه من الصحن الكبير الذي يقدمه الخادم أو غيره، أو يكون على متن المائدة مع سائر الصحون والأطباق، وكان المدعوون كلهم قبل خمسين سنة يتناولون المرق والحساء وجميع السوائل من إناء واحد، على نحو ما كانوا يتناولون المائعات ويشربون من إناء واحد، وكان والدي وأنا طفل يخص كل إنسان من أسرته أو ممن يدعوهم بإناء يجعل لنا فيه حصتنا من المرق والحساء، وبعض المدعوين يستغربون ذلك منه. وكانت سكاكينهم أصابعهم، وملاعقهم حفناتهم، والملاعق إذا وجدت تكون من الخشب غالبًا، ولا يزال لها أثر في بيوت الفلاحين المُعْدِمين، وإذا طعموا أو شربوا سمعت لهم قرقرة على صورة مستنكرة، تدل على جشع ونهم، ومن عاداتهم إذا تناول أحدهم كأس ماء أن يبادره الحضور كلهم بقولهم: «هنيئًا» فإذا شرب على المائدة ثلاث مرات وكان مواكلوه عشرة أشخاص فقد يضطر إلى أن يجيب كل واحد بمفرده: «الله يهنيك.»

ومن عادات الغرب الجديدة التي سَرَتْ إلينا: التَّأَنِّي في الطعام وإجادة المضغ والبلع، وقَلَّما يُسمع من أحدهم صوت ماضغَيه عند التهام اللقم، أو كرع الماء أو الشراب، أو تناوُل الحساء أو المرق. ومعيب أن ينفخ أحد على الشاي أو اللبن الساخن أو القهوة أو غيرها حتى تبرد، وعليه ألا ينتش أشياء من الطبق العام إلا بملعقة خاصة بالطبق نفسه، ويدَّخر ملعقته وشوكته لطبقه الخاص، فيأخذ ما يأخذ جرعةً جرعةً بدون أن يسمع صوت لما يكرع أو يَشْرُق، ولا يمد يده زيادة عن اللزوم، ولا يقف على قدميه لأخذ ما بَعُدَ عنه من الأطباق والأبازير والمشهيات والخبز والماء وغير ذلك مما يُجعل على الخِوَان عادة، وله أن يطلب ذلك بأدب وصوت خافت إلى مجاوره ومواكله القريب، وهذا يرى من واجبه أن يخدمه في ذلك، ولو كان كبير المنزلة، وإذا تعديت حدود مقعدك فمددت يدك إلى شيء بعيد عنك تعد حركتك احتقارًا لمن كان إلى جانبك.

ومن أبشع ما يأتيه بعضهم: التجشُّؤ بصوت عال، والتنخع بما يسمع صداه، وأن يعيد المتنخع طيَّ المنديل الذي ألقى فيه نخامته. أما البصاق على الأرض والتمخط باليد كيف اتفق، وإدخال الأنامل في الأنف لإخراج النخامات وإدخال اليد في الأذن لاستخراج أوساخها (أُفِّها) واستخراج وسخ الأظافر (نتنها) فمن أفظع العادات، ومن أبشعها أيضًا خروج بعضهم إلى السوق بمنامته (بيجامته)، فثوب النوم لا يجوز أن يظهر به في الشارع إنسانٌ يحترم نفسه.

ومما يُستنكر: أن يضع الجالس يده على المائدة ويضغط عليها بكُلِّيَّته، وأن يؤذي جاره برجليه ويديه. ويستنكرون تشديد الداعي على أحد مدعوِّيه ليطعموا من لون لا تميل إليه نفسه، والزيادة من لون تخطاه وما استطابه، أو إكراهه على أخذ قطعة من الحلوى يعتقد أن معدته لا تحتملها، وتضطره من الغد إلى مراجعة الطبيب. وكم تُحلف أيماناتٌ في مثل هذه الأحوال حتى ينزل المدعوُّ على إرادة الراغب ويتناول بالإكراه ما يحب له صاحبُ المائدة.

ومن عادتهم في المآتم: أن يجرى العزاء ثلاث ليال على الميت في بعض البلدان، فيأتي إلى دار الفقيد أصحابُه ومعارفه، يستقبلهم أولاده وإخوته وأبناء عمه وأهله، ولا يجري حديثٌ سوى السلام ثم تناوُل القهوة واللفائف، على حين أن آل الفقيد أو الفقيدة هم في حاجة ماسة إلى من يسليهم، ويحوِّل مجاري أفكارهم، ويهون عليهم مصابهم، والرجال في هذا الباب كالنساء إلا أن النساء لا يتناوَلْنَ القهوة ولا الدخان في وسط الجمع. وهذا من أسخف ما يدون أيضًا، كأن المعزين يقولون بلسان الحال: ها قد جئناكم وعزيناكم، ولو جلسوا دقيقة واحدة، والغالب أنه لا يتجاوز مقدار الجلوس دقائق قليلة. وإذا كان المعزَّى به جليلَ القدر بين قومه، فالمعزُّون به يَكثرون، والمكان مهما اتسع لا يستوعب القادمين في ساعة واحدة، ولذلك يعمدون في مصر إلى الخيام ينصبونها في الحارات يقبلون فيها المهنئين في الأفراح والمعزين في الأتراح.

وعند بعض الطوائف الإسلامية في الشام تكون التعزية بالميت — ويسمونها الأجر — مصيبةً على آل الفقيد؛ لأن معارفهم يأتونهم من أماكن بعيدة فيضطرون إلى إطعامهم وإيوائهم.

هذا وصف قليل من عاداتنا، وهو موضوع جدير بأن تُكتب فيه الكتب والرسائل، وتوضع في بيانه الخطب والمحاضرات، ومن حسن الحظ أن عادات الإفرنج التي تعبوا أحقابًا في إصلاحها، حتى وصلت إلى ما وصلت إليه من الكمال في الجملة، أخذت تسري إلينا من حيث لا نشعر، وتدخل علينا من طرق مختلفة، من طرق الاختلاط بالغربيين، أو بالرحلة والسياحة والهجرة، أو من طريق التعلم في المدارس، ومن الاختلاف إلى الفنادق والمطاعم التي ينزلها الأجانب. وقد تَسَوَّغْنَا بعضها وتمثلنا بعضها؛ لما حَوَتْ من اليسر والنفع.

ومن العادات التي نشأت مع المدنية الحديثة: جلوس الرجال إلى المائدة الرسمية وملاحظة قربهم وبعدهم من الكبير صاحب الدعوة فإن المصطلح الذي جرى العمل به في مآدب الملوك والأمراء والوزراء والكبراء مما يصعب تطبيقه، وربما أدى بعض الخلل فيه إلى مشاكلَ وأَخْذ ورَدٍّ تُعد في نظر العقل من العبث، والغالب أن أمثال هذه الضيافات تنفضُّ عن حدوث شيء في بعض الصدور وقل أن يرضى أحد بحقه، ومعظم الناس لا يرون أن يتقدم أحدٌ عليهم لاعتدادهم بأنفسهم أو لأنهم هم شيء بالنسبة إلى المجتمعين الذين لم تسوِّدهم غير رتبهم ومناصبهم، وهم يوم يتخلون عنها أناسٌ عاديون أو أقلَّ من ذلك، يُسمُّون هذه العملية: «البروتوكول» وإذا اشترك النساء في هذه الولائم الرسمية تتصدر المرأة، بحسب رتبة زوجها ومقامه الرسمي، وهناك مصطلحات في اللباس والأوسمة وغيرها مما يحتاج مُعانيه إلى درس خاص أو إلى مراجعته في كتبه كلما دُعي إلى دعوة.

في أمثال الإفرنج: «قل لي من تعاشر أقل لك من أنت.» ثم قاسوا عليه معنًى آخر، فقالوا: «قل لي ما تأكل أقل لك من أنت أو قل لي ما تطالب به أقل لك من أنت.» ونحن نقول: «أرني كيف تعاشر قومك أقل لك من أنت.» لا جرم أن لكل أمة نوعًا من الآداب الاجتماعية قد تختلف عن آداب أمة أخرى، وإن كانت المصطلحات المعقولة عامة للخَلْق، ولو تباعدت أقطارهم واختلفت أصولهم وعناصرهم. كانت للعرب عادات حسنة اقتبست بعضها الأُممُ الغربية، ولما جاءنا الغربيون بهذه الحضارة الحديثة وأصبح من اللازم اللازب أن نأخذ عنهم بعض ما ينفعنا من عاداتهم المستحبة، سنة طبيعية في الخليقة يأخذ المتأخر عن المتقدم والجاهل عن العالم.

يقول الإفرنج: إن للظهور في كل مكان بمظهر لائق لا مطعن عليه تجب معرفة العادات المتبعة في الأحوال العادية وغير العادية، إن السير والجلوس والقيام والسلام ودخول المجلس والاشتراك في حديث، كل ذلك، في ظاهره، من الحركات السهلة يقوم بها المرء في يسر ومعرفة، وعلى الإنسان ألا يخرج عن حد الحركات الطبيعية، وحالة المرء بين الجماعة لا تشبه حالته في بيته، فإن للجماعة أدبًا وللمجتمع مصطلحات، مَنْ لم يُراعِها عده العارفون أَخْرَقَ.

اصطلح الغربيون إذا التقى شخصان في الطريق وكان يعرف أحدهما الآخر ولا يريدان أن يقفا ليتكلما أن يسلم الأصغر سنًّا على المتقدم في السن، وأن يبدأ المرءوس رئيسه بالسلام، وأن يتقدم الرجل فيسلم على المرأة، وإذا وقع اجتماعهما فأحبا أن يتكلما فالكبير، أي: الأكبر سنًّا، أو المرأة يجب عليهما أن يصافحا جليسهما أولًا.

لا تقبَّل يد فتاة ولا يد سيدة في مقتبل عمرها، وتقبَّل يد النَّصَف من النساء احترامًا لها، وإذا التقى رجلان على سلم لا يحيِّي أحدهما الآخر إذا وقع الوجه على الوجه إلا إذا كان أحدهما شيخًا، وفي تلك الحال يجب على الشاب أن يبدأ بالسلام والاحترام. وإذا التقى رجل بامرأة في هذه الحالة وجب عليه أن يفسح لها الطريق ويسلم عليها، وعلى الصبية أن تفسح المجال للطاعن في السن حتى يجتاز السلم، وواجب الرجل إذا صاحب امرأة أن يتقدمها في الصعود والنزول من السلم. ومن واجبه في دار ذات آلة مصعدة إذا لقي امرأة، وإن لم يكن يعرفها، أن يخرج آخر الراكبين في المصعدة؛ ليعيد أدوات الصعود والنزول إلى حالها السابق.

ويُفرض على أهل الصناعة الواحدة، ومن تكون لهم، بحسب حرفتهم، علائقُ مؤقتةٌ كالقضاة والأطباء والموظفين ورجال الدين وغيرهم، أن يرعى بعضهم بعضًا، وأن يعامل كل واحد صاحبه بأعظم ما يكون من الأدب، وعلى النازلين في دار عظيمة ذات مساكن كثيرة أن يتحاشَوْا كل ما يضايق الجيران ويضجرهم بدون ضرورة، فلا يُحدثون جلبة وضوضاء في ساعة متأخرة من الليل، ولا يأتون بحركة تُسمع على غير ميعاد، ولا يمتاحون الماء من بئر ويستقون من منهل في وقت يضر الجار.

وعلى الرجل المهذب أن يحترم عادات المؤمنين في بيوت العبادة ويجاريهم على القيام بها. وأن يلزم الصمت وإن كان ممن لا يشارك أهلَها في عقيدتهم، ويحافظ على الشعائر الظاهرة مِنْ مِثْلِ رفع القبعات عن الرءوس عند النصارى، والاحتفاظ بها عند الإسرائيليين، ونزع الأحذية من الأرجل عند المسلمين.

التزاور أنواع: فمنه زيارة المرء للشكر على هدية، أو لمعروف أسداه إنسان لآخر، أو لتهنئة بمنصب بَلَغَهُ الصاحب، أو لحدث سعيد وقع في الأُسرة من مثل ولادة ولد وزواج أحد. وعلى الجملة فإن الصاحب يزار للاعتراف بالواجبات التي تربط الزائر بالمزور بروابط الحب، وعندهم نوع من الزيارة يدعونها زيارة الهضم، وهي زيارة تجري بعد حضور مأدبة ببضعة أيام. والدعوة إذا لم يَستجب لها المدعوُّ كان عليه أن يزور الداعين معتذرًا. وتجري عندهم زيارات التعزية بين أقرباء المتوفَّى خلال ستة أسابيع تمضي على دفن الميت. وإذا كانت الصلات وشيجة مع أُسرة المتوفَّى، فمن العادة أن يزور المرء بيته عندما يبلغه نَعِيُّه، ومن كانت علاقاتهم كثيرة يضعون عند البواب سجلًّا يسجلون فيه أسماء من يود أن يظهر بمظهر لطف وأدب.

وفي زيارة العروسين يقدم كل منهما زوجه إلى جميع أهله وأصحابه، وكانت هذه الزيارات إجبارية فأصبحت اليوم اختيارية، وتقتصر على الأدنَيْن من ذوي القربى، أو مَنْ يراد عقد صلات معهم من المعارف. والزيارات الرسمية يقوم بها الموظفون، فيزورون أرباب الدولة من رجال الإدارة والقضاء والجيش زيارة مرءوسين لرؤسائهم، يزورونهم جماعات أو فرادى، خصوصًا عند نصب الموظف الجديد أو مغادرته منصبه، وكذلك يزار في أول يوم من السنة. وقد بطلت زيارات العام الجديد فلا يزار إلا الشيخ من الأقرباء في رأس السنة. ويمكن أن تتم هذه الزيارات خلال شهر كانون الثاني بأجمعه، وقد يُستعاض عن هذه الزيارة بإرسال بطاقة.

وإذا كان المرء متغيبًا عن داره، أو لا يحب أن يستقبل زواره يدفع الزائرُ بطاقته إلى الخادم الذي يفتح له الباب، بعد أن يثني منها الجهة اليمنى أو يثني إحدى زواياها الأربع، وله أن يكتب عليها كلمة تأسُّف على عدم الاجتماع. وإذا لم يكن الزائر ممن يعرف صاحبة الدار وكانت زيارته لها أول مرة، يخبر عن نفسه بواسطة الخادم، أو يعرِّف بنفسه عند تسليمه عليها، وعلى الزائر أن يطرح في مدخل الدار معطفه وقبعته ويأخذ بيده قُفَّازيه، وعلى صاحبة الدار في تلك الحال أن تعرِّف ضيوفها بعضهم إلى بعض، تبدأ من الصغير فتقدمه للكبير، ومن الفتى فتعرِّفه إلى الشيخ، وتقدم الرجل للمرأة، وعلى الداخل أن يجلس على المقعد جلسة أدب لا كبرياء فيها، وأن يشارك في الحديث، ولا يحاول لفت الأنظار إليه فقط، وعليه ألا يتوخى إطالة الزيارات بدون ضرورة، فالزيارات الرسمية قصيرة بطبيعة الحال، وإذا كان الحشد كثيرًا يَستأذن من يحب الانصرافَ صاحبةَ الدار مكتفيًا بالسلام على الحاضرين.

وعلى المتكلم أن يبين في كلامه، ويتخير العبارات التي يلقيها على المسامع، ويبتعد عن التعابير العامية الساقطة، وألا يعمد إلى الثرثرة والتفخيم، فإن في حسن الاستماع وحسن السكوت في الوقت المناسب جِماعَ فن التحدث إلى الجلاس، والأدب يحظر على المخاطب كلامه بدون ضرورة، وإذا ارتكب المرء ذلك فالواجب أن يعتذر.

إذا جرى على لسان المتكلم ذكر امرأته أطلق عليها «امرأتي» أو «السيدة فلانة» وهذا في حالة كلامه رجلًا أقل منه منزلة، وتطلق المرأة على زوجها كلمة «زوجي» أو «السيد فلان» وإذا جرى بين رجل وآخر حديث امرأته أو ذكرت المرأة رجلها فيقال: «سيدتي فلانة» أو «سيدي فلان» ولا يقال: «سيدتك» و«سيدك» ولا ينادى الأشخاص بأسماء أسرهم خلال الحديث بل يقال: «سيدي» «عقيلتي» «آنستي» فقط.

تُرسل الدعوات إلى المدعوِّين قبل المأدبة بشهر على الأكثر، وبثمانية أيام على الأقل من الأجل المضروب لها. وتقضي العادة أن يسارع المدعوُّ إلى الإجابة بالقبول أو الرفض ليعرف الداعي عدد المدعوين بالضبط فإذا عرض ما يمنع المدعو من إجابة الدعوة بعد قبولها فمن الواجب إرسال كتاب بالاعتذار. ويُعد التخلف عن القول المقطوع بدون أسباب جوهرية خروجًا على قواعد الأدب والتهذيب.

وإذا اضطر الداعي أن يعدل عن إقامة مأدبته أو يغير تاريخها لمرض عرض أو حزن وقع، أو لغير ذلك من الأمور التي ما كانت في الحسبان، فعليه أن ينذر جميع المدعوين بما أمكن من السرعة ببرقية أو رسالة هاتفية مبينًا لهم أسفه العظيم لما جرى. وأول واجب على صاحب الدار وعلى من دعوا إلى دعوة رسمية أو دعوة أصحاب خاصة أن يدققوا في المواعيد، فإذا طال تخلف أحدهم أو جُلُّهم فمن اللائق بمن حضروا ألا ينتظروا من تخلفوا عن الحضور أكثر من ربع ساعة، وإذا تقدم المدعوون للجلوس إلى المائدة وجب على صاحب الدار أن يأخذ بيمين أكبر الحضور سنًّا أو أعظمهم مقامًا، وتتقدم صاحبة الدار آخر الداخلين، وقد تأبطت ذراع أكبر الحاضرين سنًّا ومنزلة. ولا يجلس أحد إلى الخوان قبل جلوس صاحبة البيت، وتكون مقاعد التكرمة المشرفة على يمين أصحاب الدار ثم على يسارهم ما أمكن، وتُجعل امرأة إلى جانب رجل، ورجل إلى جانب امرأة، وفي المآدب المكلفة والدعوات الرسمية، وفي البيوت التي يجرى فيها استقبال الموظفين وأرباب الألقاب والمراتب، يكون حق التصدر والتقدم من المسائل المعقدة. ويخص أرباب البيوت الذين يدعون لحضور مائدتهم بعض رجال الدين بمقعد تكريم إن لم يكن المدعو من أبناء الأُسرة أو صديقًا حميمًا لها. فيتصدر الشيوخ والأهل في المقاعد الأولى بعد النابهين، وذلك في الدعوات الكبرى، أما في الدعوات الخاصة الأهلية فلهم مقاعد التكرمة حتمًا، ويجلس ذوو القربى حسب أعمارهم لا بحسب درجات القرابة ويشغل أولاد الدار بالطبع الكراسي الأخيرة.

وتزين سفرة الطعام بأشياء لا تُرْبِكُ من يجلس إليها بحيث يترك المجال للجالسين أن يرى بعضهم بعضًا وأن يتحدثوا بدون عائق. وقد بطلت الزينات المعقدة من المائدة، ويُكتفى اليوم بزنبيل أو زنابيل من الفاكهة، وبجامات تضم زهورًا ووردًا طبيعيًّا، وقد يُستعاض عن الأزهار بسلات أو جامات من الفاكهة.

وفي الموائد العادية يُبسط غطاء على الخوان وتُتخير الأواني من الملونة الألوان الجذابة لتورث تلك الدعوات الأهلية سرورًا وبهجة. ويرجع تنويع ذلك إلى ذوق ربة الدار. ولا يجب أن يُشغل وسط المائدة ولا تُلقى على متنها أشياء تزينها زينة خفيفة، ولا يكون عليها من الأدوات إلا ما لا بد منه، ويجب أن تكون الأواني والفضيات والجامات ناصعة برَّاقة تلمع وتضيء، وأن يجعل المدى بين مقاعد المتآكلين من ٦٠ إلى ٧٠ سنتيمترًا، ويجعل تحت السماط أو غطاء المائدة ما يمسك به، وتجعل الشوكة إلى يسار الصحن والملعقة على اليمين، ويدار حد السكين إلى جهة الصحن، وتُصفُّ الكاسات بحسب حجمها، وتوضع صراحيات الماء على المائدة وحقة الملح والفلفل. ومن المتعذر تعداد جميع الأدوات الصغيرة التي اخترعت لإكمال فن الأكل.

أما الجلوس إلى المائدة فإن الشخص المهذب لا يجلس ملتصقًا كثيرًا بها ولا بعيدًا عنها، ويكون منها على بعد مناسب ليتأتى له أن يتحرك في سهولة، وتكون حركاته موزونة رصينة، فيتوقى الآكلُ، بمراعاة ذلك، ما قد يحدث له من أمور يَضحك منها الحضور، كأن يقلب الشراب على غطاء المائدة، ويلقي الطعام أو الأواني ويلوث الثياب. وحُسْن جلسة المرء إلى المائدة صفة حسنة يمتاز بها أرباب الذوق السليم.

وليس للجالس إلى المائدة أن يستند إلى مؤخرة الكرسي ولا أن يتكئ على المائدة، وإذا تكلم كان عليه أن يخفض صوته، ولا يسأل ضيفًا جالسًا في الناحية الأخرى من المائدة شيئًا، ويمسك الفوطة مطوية نصف طية على ركبتيه ولا يبسطها على صدره، وعلى الآكل ألا يسرع ولا يبطئ في القضم، وألا يخرج صوت لسانه أو ماضغيه ولا يحدث حركة في الأواني التي أمامه ولا يتكلم ولا يشرب إذا كان فمه ملآنًا، ولا يمسك العظام بأنامله ولا يغمس خبزته في الطبق، ولا يقطع الخبز بأصابعه، ويتناول الملعقة بيده اليمنى ويجعلها بين الإبهام والسبابة تدعمهما الأصابع الوسطى، ولا تملأ الملعقة بحذافيرها لتحمل إلى الفم، وإذا انتهى المدعوون من تناول الحساء توضع الملعقة بلطف في الصحن، وتدار إلى تحت الوجه المسنَّم منها، ويقبض على الشوكة باليد اليمنى ليتناول الطعام الذي لا يحتاج إلى قطع كاللحم الرخص والسمك والخضراوات والبيض. أما اللحم الصلب والفاكهة اللحيمة والجبن القاسي والحلويات السميكة فإنها تستلزم استعمال السكين وهذه تقبض عليها في تلك الحال باليد اليمنى، وباليسرى يعين الآكل بالشوكة القطعة التي يراد قطعها. ويتناول الآكل كل لقمة عندما يقطعها حاملًا لها إلى فمه باليسرى، ويجب ألا تقطع كل القطعة دفعة واحدة ثم يشرع بأكلها.

يُبدأ في الموائد الرسمية بالسيدات الجالسات على يمين صاحب الدار، وتُقدم الأطباق من يسار الشخص الجالس ويُجعل الصحن، أو يقدم، من اليسار، وفي المآدب العارية عن الرسميات التي جرت العادة أن يقطع فيها صاحب الدار اللحوم ويقدمها لمواكليه، يرسل الصحون والأطباق المملوءة مبتدئًا بالشخص الجالس على يمينه.

هذا بعض ما على الرجل والمرأة أن يتحليا به من أدب المعاشرة، اقتبستُه عن أشهر من يعانون هذه المسائل في الغرب، ورجائي أن يتعلمه بنو قومي فإنه لا غنية عنه لامرئ يعيش في هذا الجيل مع أُمم الشرق والغرب.

هوامش

(١) يكاد يُجمع أرباب الرحلات من العرب على أن عادات الدمشقيين في السلام والقيام والاحترام غريبة في بابها، تخرج عن حد المجاملات وتدخل في باب المصانعات. ومن حسن الحظ أن ضعفت هذه المصطلحات بانتشار المدنية الحديثة، ولا يزال الأثر ضئيلًا فيها بين الشيوخ من الطبقات التي كان يُنظر إليها في الجيل الماضي. وقد تأصلتْ هذه العادات في سكان الحواضر على الأكثر، ورأيت منها في عاصمة القطر المصري ما لا يقل عما يُرَى في عاصمة الشام، ومصرُ حكمت الشامَ والشامُ حكمت مصرَ والروح واحد في القطرين، والعادات متشاكلة إلا قليلًا.
(٢) كثيرًا ما كان يستوقفني بعضهم فأمتنع عن الوقوف، وهم يقسمون على أن أجيبهم إلى سؤالهم دقيقة واحدة فلا أجيب ولا أقف، وجوابي وأنا مسرع الخطى: إن الكلام في الموضوع لا يتأتى في الشارع، وإن مثل هذه المسائل يبحث فيها على خلوة وفي وقت فراغ. كنت في وزراتي الأولى خارجًا من داري صباحًا قاصدًا مكتبي على قدمي، وكان الشارع مكتظًّا بالخَلْق والطريق يجرى تعبيده، والمعبدة ذاهبة جائية، وقضبان الحديد الطويلة محمولة على العجلات، وعربات النقل تحمل الأحجار والأسمنت والجص، والفلاحون آتون بحاصلاتهم إلى الأسواق على بهائمهم، ومركبات الترام واقفة لا تستطيع أن تتقدم ولا أن تتأخر. وفي هذه الحال من الازدحام الخَطِر اقترب مني أحد معارفي من متقاعدي ضباط الجيش، وسألني حَلَّ قضية لأحد أقاربه، فقلت له: تعال إلى مكتبي نبحث في المسألة. فقال: أود أن تعطيني رأيك الأخير، وتعاهدني على أن تسير بما يلتئم مع مصلحة نسيبي، فأجبته أن المسألة تحتاج إلى أن أرجع إلى إضبارة القضية، وأظنني قلت: ومراجعة القانون، فقال: أنا أطلب منك ذلك لأَمَلي فيك، فقلت: الآن يتعذر ذلك، فأنت ترى أننا في خطر من هذا الزحام، والفكر مصروفٌ إلى التَّوَقِّي من الصدمات. فتأفف من كلامي، وعندها قلت له، متألمًا من قلة ذوقه: أنت تخرجت من مدرسة نظامية، وتوليت أمورًا إدارية في الجيش، فيما أحسب، وتعرف أكثر من غيرك معنى الرجوع إلى المعاملة الجارية، فما هذا التحكم؟
وكأن مثل هذا المعجز يلتمسون مني في الطريق أن أقضي لهم أشغالهم، كما قد يطلبون إلى الطبيب أن يعطيهم تذكرة يصفها لمداواتهم وهو سائر في الشارع، ويقرظونني ويقولون: إن مسألتهم مهما كانت صعبة فبيدي حلها، أو ما أشبه ذلك من عبارات الإغراء، كأن الوزير جاء ليعمل لأرباب المصالح بدون التقيد بالقوانين، وليُرضي كل إنسان بما يحب، بالحق والباطل، ولذلك اضطررت في الوزارة الثانية إلى استصحاب شرطي وبخاصة إذا كنت وحدي سائرًا على قدمي؛ والعوامُّ قد يرهبون الشرطي أكثر مما يخشون الوزير؛ لأن الشرطي يدفع عن مخدومه من يقع في نفسه دَفْعُهُ، ينحيه عنه باللطف أو بالعنف، وإذا اقتضى الحال يكتب فيه محضرًا أو ضبطًا. أما الوزير المسكين فلا يستطيع عمل شيء من هذا، وغاية ما يتطلب من حلم المراجعين أن يشخصوا إليه في مكتبه، ومكتبه مُفْتَحُ الباب لهم ساعاتٍ من النهار، وهو وديوانه مستعدان لحل المشاكل، وقد تُقدم لهم القهوة والشاي والمرطبات ولفائف التبغ ويلاطَفون ويؤانَسون.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤