الفصل الأول

المشكلات

تعرَّضتُ في آخر كتاب لي عن «قضايا الأدب الحديث»١ لترجمة المصطلحات الأدبية المعاصرة باعتبارها قضيةً حديثة العهد، لم يكن على أسلافنا أن يواجهوها؛ لأنها نَبْت طبيعي لهذا العصر الذي تشابكت فيه التخصُّصات وتداخلت، خصوصًا في العلوم الإنسانية، بعد أن كان الاتجاه العام منذ القرن السابع عشر في أوربا هو الفصلَ بين التخصُّصات والنزوع إلى التعمُّق في كل علم بمعزل عن سواه. وكان ما دفعني إلى تناولها هو ما لاحظته في بعض الكتب الحديثة في الأدب واللغة من مبالغة في استخدام تعابير وألفاظ جديدة، بعضها صحيح الاشتقاق في العربية٢ وبعضها معرب؛ أي منقول عن اللفظة الأجنبية بعد إضفاء الصورة العربية عليه،٣ وبعضها مترجم إمَّا بدقة وعناية وإمَّا بسرعة ودون تروٍّ٤ وبعضها منحوت،٥ ومنها ما هو غريب الوَقع على الأذن العربية يوحي بأفكار معقَّدة بالغة العُمق،٦ ويُخيف القارئَ غير المتخصِّص في المجالات الجديدة التي اكتسبها النقدُ الأدبي إمَّا من الفلسفة، وإمَّا من دراسات علم الألسنة الحديث (اللغويات) وما تفرَّع عنه من نظريات طريفة، ومن ثم ألحَّ البعض على هذه المصطلحات وطفق الكتَّاب يستخدمونها عن علم وعن غير علم، وبالغوا في الزجِّ بها في كل مجال واشتقاق الجديد منها، حتى غدت عسيرة التناول صعبة الفهم، ودفعت بالكثير من شباب الدارسين إلى اليأس، بعد أن حيَّرت الكبار وأرهقتهم.
وكان منهجي «خارجيًّا»، بمعنى أنني تساءلت عن كون هذه التعابير والألفاظ «مصطلحات» بالمعنى الدقيق لهذه الكلمة. فما هو إذن المصطلح terminology؟ إنه كما نفهمه وكما تُقِرنا عليه معاجم اللغة٧ ما اصطلح عليه الناس؛ أي ما اتفقوا على معناه من ألفاظ أو تعابير في عصر معيَّن، وفي مكان معيَّن؛ فلكل مبحث مصطلحاته التي يفهمها أصحابه ويتداولونها بينهم، بل قد يتعذَّر ولوج مبحث من المباحث الحديثة دون مصطلحاته، سواء كان ذلك في مجال العلوم الطبيعية؛ أي «العلم» بمعناه الحديث science الذي يتناول دراسة الظواهر المادية physical phenomena في الكون استنادًا إلى معطيات الحواس sensa data، متوسِّلًا بالتجربة experiment والتحليل analysis والفروض hypotheses والنظريات theories، وما إلى ذلك، أو في مجال العلوم الإنسانية the humanities التي تدور حول الإنسان وتستعير من مناهج العلوم الطبيعية ما يلائمها نشدانًا لليقين certainty وإثبات الحقائق.
وقد حاول الجيل الأول من علمائنا الذين اتصلوا بالغرب ونهلوا من مناهل العلوم الحديثة وضع ألفاظ وتعابير مقابلة لِمَا وجدوه لدى الغربيين اشتقاقًا وتعريبًا ونحتًا وترجمة،٨ فأتَوا بكثير من المولَّد coinages الذي ألِفته الأذن العربية على مدى ما يقرب من قرنَين من الزمان،٩ فجرى مجرى المصطلح، ولم يقتصروا في جهودهم على نقل مصطلحات العلوم الحديثة، بل قدَّموا ألفاظًا عربية كثيرة مقابلة لألفاظ الحضارة الحديثة، بعضها عريق في اللغة العربية «اصطلحوا» أو «اصطلح» المجتمع على منحه معاني جديدة، وبعضها حديث الاشتقاق لكنه صحيح لا تمجه الأذن العربية، وبعضها مترجم أو معرَّب، ثم تلت هذه الجهود غربلة silting اجتماعية، أدَّت إلى قَبول بعض الألفاظ المولَّدة التي أصبحت عربيةً تخضع لقواعد النحو والصرف، ورفض ألفاظ أخرى لم يُكتب لها البقاء على صحتها وفائدتها؛ أي إن الغربلة الاجتماعية هي الوسيلة التي لا بديل عنها «للاصطلاح»، ولا يجد اللفظ مكانًا له بين «المصطلحات» إلا بعد أن «يصطلح» عليه المجتمع، ومن ثم يجد مكانه في المعجم، فما المعجم، كما قال توماس جيفرسون، إلا مستودع depository لِمَا اتفق عليه الناس من ألفاظ ومعانٍ،١٠ وما الحكم في ذلك كله إلا للمجتمع، ونقصد به في هذا السياق من يستخدم هذه الألفاظ بهذه المعاني المحدَّدة، ثم يُشيعها و«يفشيها»، على حد تعبير سلامة موسى،١١ فتصبح جزءًا من جهاز التفكير العربي، وقد يختلف معناها بعد ذلك عن المعنى الأصلي الذي كانت وُضعت له، بل قد يحار المترجم في ردها إلى أصلها مهما كانت براعته.
قلت إن الذي دفعني إلى تناول هذه القضية كان ما لاحظته من الإغراق في التغريب باستخدام ألفاظ وتعابير لم تعد بعدُ من المصطلحات؛ لأننا لم نتفق عليها بعد؛ فهي حديثة العهد في اللغات الأوربية ولا تزال، كما يقول فاولر R. Fowler في معجم مصطلحاته الأدبية،١٢ غير ثابتة المعنى، ولا تزال مثار جدل controversial ونقاش بين النقاد، إلى جانب قلق على القارئ العادي؛ أي غير المتخصِّص في النقد والأدب؛ إذ أنَّى له أن يفهم ما تعنيه تلك الألفاظ والتعابير، حتى وإن عرف المقابل لها باللغات الأوربية؟ فلقد راودني الإحساس أثناء قراءة بعض «الدراسات» النقدية الحديثة بأن الكاتب لا يكترث إطلاقًا بمدى فهم القارئ له؛ فهو إمَّا يخاطب نفسه أو يخاطب زميلًا له أو زملاء يعرفون ما يعني (وربما لم يُفيدوا من قراءة ما يكتب). وقد كان يمكن أن أتجاهل القضية برمتها تاركًا للمجتمع أن يلفظ ما لا يفيد، وأن يُشيح عنه نشدانًا لِمَا ينفع الناس فيمكث في الأرض، لكنني وجدت أن آفة انعدام التواصل قد تسرَّبت إلى الرسائل العلمية (thesis, dissertation) في الجامعات، فأصبح بعض الطلبة يكتبون عبارات وتعبيرات منقولةً من مصادر مترجمة لا يفهمونها، ثم يظنون لها معنًى من المعاني، فإذا استخدمها أحدهم فيما يظنه من معنًى أصبح يتناقض مع نفسه، أو لا يدري ما يقول.١٣
وقد استفحل الأمر حتى أصبح «موضة»، فلم يعد أحد يستخدم كلمة «مشكل» أو «مشكلة» على الإطلاق تفضيلًا لكلمة «الإشكالية»، وهي مصدر صناعي من نفس المادة، ولها معناها المحدَّد باعتبارها ترجمةً لكلمة أجنبية معروفة هي problematic (المأخوذة عن الفرنسية لفظًا ومعنى) والتي قد تعني القضية التي تجمع بين المتناقضات؛ فهو يفضِّلها لغرابتها وطرافتها، ظانًّا أنه بذلك ينمِّق أسلوبه أو ينبئ عن العلم والحِجا، ولم يعد البعض يستخدم كلمة «التناول» أو «المعالجة» أو «المنهج»، لا بل ولا الدراسة، مفضلًا كلمة «المقاربة»، وهي ترجمة غريبة لكلمة approach الإنجليزية التي لا تعني أكثر من أيٍّ من هذه الكلمات، وإن كانت قد توحي للقارئ بفَيض عميم من المعرفة والتبحُّر في المذاهب الحديثة. وقِس على ذلك كلمة «الخطاب» ترجمة كلمة discourse، التي أصبحت تتكرَّر في جميع الكتب والمقالات مئات المرات، وقد سبق لي التعرُّض لها في كتابي الذي أشرت إليه من قبل، وبيَّنت المعاني المختلفة التي تُستخدم فيها بالعربية، وبالإنجليزية.١٤

المصطلح والتخصُّص

وصحة الترجمة أو خطؤها مبحث مستقل له مجاله الخاص، وقد تطرَّقت في كتابي «فن الترجمة»١٥ إلى بعض المشكلات التي تعترض ترجمة الكلمات الحديثة في اللغات الأوربية والتي لم تثبت معانيها بعد، ولكنني سأقتصر هنا على الإشارة إلى الفارق بين استخدام الكلمة في السياقات العامة؛ أي في غير مجالات العلوم المتخصِّصة، واستخدامها هي نفسها في العلوم المتخصِّصة باعتبارها مصطلحات. فكلمة statement تعني في المجالات السياسية ما يوازي «البيان» أو «التقرير» (بيان الحكومة في مجلس الشعب) أو ما يوازي تعبير «كلمة» فلان بمعنى «الخطبة» التي يلقيها في محْفلٍ (كلمة رئيس الوزراء)، أو بمعنى «الأقوال»، أو ما يسمَّى أحيانًا ﺑ «الإفادة»، (أقوال المتهم في محضر الشرطة أو في المحكمة)، أو بمعنى «التعبير» عن موقف أو عن مذهب (هذا الكتاب هو خير تعبير عن مذهب السيريالية مثلًا)، ثم تُستخدم في الأدب بمعنى «التقرير» المقابل «للتصوير»؛ أي التعبير المباشر.
ويلاحظ القارئ أن كلًّا من الكلمات العربية المستخدمة ترجمة للكلمة الإنجليزية لها مقابل آخر، في سياقات أخرى؛ فالبيان والبيانات بمعنى المعلومات ترد في سياق الكمبيوتر (قاعدة البيانات data-base مثلًا)، والعلوم الاجتماعية والإحصائية والتجارية بمعنى data (جمع datum اللاتينية التي نادرًا ما ترد في صورة المفرد)، وهي تُترجم أحيانًا بالمعطيات، وهو معناها الاشتقاقي الذي أدَّى إلى الفرنسية (التي دخلت الإنجليزية) données، وهي تعني المعلومات، جمع معلوم، وهي الكلمة التي شاعت لدى علماء العرب الأوائل في مقابل مجهول، وجمعها بالمؤنث السالم مألوف، وإن كُنا قد أضفنا إليها في السبعينيات تاء التأنيث إمَّا تأثُّرًا بالفرنسية une information، وإمَّا لحاجتنا لمفرد مؤنث يوازي كلمة fact (في التعبير الاصطلاحي الشهير facts and figures حقائق وأرقام – معلومات)، ونفرنا من كلمة الحقيقة (والحقائق) ربما بسبب ظلال معانيها الفلسفية أو «الدينية»، وقس على ذلك الكلمات الأخرى مثل تقرير report وكلمة فلان address أو الخطبة speech (ولاحظ أن كلمة خطاب بمعنى خطبة موجودة منذ عهد بعيد في الفرنسية في كلمة discours)، و«خطبة الكتاب» هي preface أو «ما نسمِّيه التصدير حاليًّا»، أو foreword وما إلى ذلك.

أي إن الكلمة نفسها قد تعني شيئًا للمتخصِّص وتعني شيئًا آخر لغير المتخصِّص أو للمتخصِّص في علم آخر؛ فالمهندس إذا قال:

I am waiting for some cables to arrive.
فقد يعني أنه ينتظر وصول الأسلاك الكهربائية (الكابلات)، وإذا قال نفس العبارة صحفي فقد يعني وصول الأنباء التي تحملها البرقيات؛ والبرقيات، كما هو معروف، ترجمة حديثة أتى بها أحمد فارس الشدياق للتلغراف،١٦ (مصدر صناعي من أبرق، وهو الفعل المشتق من البرق). وما أكثر ما يحار المبتدئ عندما يواجه كلمةً عربية عريقة لها عدة مقابلات في الإنجليزية، كل منها ذات سياق خاص؛ مثل كلمة الحَكَم، فما أكثر أسماءه بالإنجليزية في الألعاب الرياضية؛ في كرة القدم اسمه referee (وقد تحوَّرت إلى العامية المصرية الرف)، وفي التنس lawn tennis ثلاثة أنواع من الحكم؛ حكم الكرسي the chair umpire، وحكام الخطوط line judges، والحكم العام للمباراة referee؛ وفي القضايا التي تحتاج إلى المثمِّن (valuer/assessor) يسمَّى arbiter، وفي القضايا السياسية التي تُحال إلى التحكيم؛ أي arbitration، يسمَّى adjudicator أو arbitrator؛ فالسياق معناه تحديد التخصُّص الذي يقع المصطلح في إطاره.
والمصطلحات الأدبية الجديدة، شأنها في ذلك شأن سائر المصطلحات المترجمة، تحتاج إلى ما يسمَّى بعملية تعديل دلالية متواصلة continual refining of terms. والتعديل هنا أقرب إلى الصقل منه إلى التشذيب والتهذيب؛ فالغاية هي زيادة درجة المطابقة بين المصطلح والمعنى المستخدم فيه، أو ضمان عدم الخلط بينه وبين غيره ممَّا يمكن أن يؤدِّي إلى الالتباس أو الغموض. وعملية التعديل المشار إليها لا تتوقَّف في اللغات الأوربية، ولا في لغات العالم الحية كلها ومنها العربية؛ ولذلك فلسنا وحدنا في تحري المزيد من الدقة والوضوح، والإصرار على الوصول بالكتابة النقدية إلى المستوى العلمي الرفيع الذي ننشده.

التجريد والتعميم

قد يكون من المفيد في هذا التمهيد أن أقرِّر بدايةً أن المستوى العلمي المنشود يواجه صعوبةً من لون آخر، وهي التجريد abstraction؛ فنحن في العلوم الإنسانية نتجه باطراد صوب التعميم generalization الذي يقتضي استخلاص الصفة أو الصفات من الظواهر المادية وتجريدها، ثم استخدام هذه المجرَّدات في تحليلاتنا ومناقشاتنا وصولًا إلى نتائج هي أيضًا مجرَّدة، وفي هذا ما فيه من صعوبة لغير المتخصِّص. فإذا أضفنا إلى صعوبة هذا المنهج محاكاة بعض العلماء الأجانب المولعين بالمغالاة في التجريد، إمَّا بسبب تراث فلسفة بلادهم، مثل الألمان، أو بسبب طبيعة المادة التي يتناولونها والتي وصلت إلى مستويات تجريدية بالغة التعقيد، أو بسبب التزام من يترجم عنهم بحرفية النص، أو لعدم تمكُّنه من فن الترجمة (فكثير من نصوصهم تصلنا بالإنجليزية أو الفرنسية المنقولة عن بعض لغات أوربا الشرقية مثلًا)، وجدنا أن القارئ العربي يواجه تراكيب لغوية يتعذَّر فهمها، وخصوصًا عندما يكون المجال جديدًا ويحتاج إلى التخصيص وضرب الأمثلة التي توضِّح معاني المجرَّدات.

وكنت عكفت في الآونة الأخيرة على دراسة بعض الكتب المترجمة عن عددٍ من لغات أوربا الشرقية واللغات التي لا أعرفها في أوربا الغربية، فوجدت أن المترجمين الإنجليز بصفة عامة صادقون مع تراثهم في الوضوح؛ فهم إذا ترجموا مصطلحًا أو عبارة شفعوا ترجمتهم بإيضاح لها، إمَّا في ثنايا النص نفسه وإمَّا في الهوامش، على حين ينزع غيرهم، وخصوصًا من أبناء العالم الجديد، وتحديدًا من استوطنوه واتخذوا الإنجليزية لغة بحث وكتابة، إلى الإبقاء على الغموض النابع من التجريد والتعميم، ومن طرائق التعبير التي يألفها أهل تلك المباحث في أوطانهم ولا يألفها كُتاب الإنجليزية المطبوعون. فإذا أضفنا إلى هذه الصعوبة أن كثيرًا من المصطلحات الأجنبية ترجمها غير الملمِّين باللغة العربية وتراثها النقدي إلمامًا كافيًا، كما تكشف عن ذلك أساليب كتابتهم العربية، أو أنهم التقطوها مفردةً — خارج سياقها وخارج معناها — من كتابات المتخصِّصين، فوضعوها في سياقات جديدة ابتغاء التعالُم والتظاهُر بالتعمُّق؛ أدركنا مدى الصعوبة التي نواجهها.

ولأضرب مثلًا واحدًا يلخِّص ما قلته عن «التجريد» و«التعميم» وحرفية الترجمة، خصوصًا عند الترجمة عن ترجمة.

يقول جاكوبسون (وسوف نعود إليه فيما بعد)، في معرض حديثه عن تحليل الأسلوب، إن الدارس يستطيع أن يلحظ العناصر اللغوية (مثل الألفاظ والتراكيب) المتعادلة في مبناها أو جرسها أو معناها، وهي تشتبك مع بعضها البعض فتشكِّل أنماطًا داخلية في القصيدة. وهو يعبِّر عن ذلك قائلًا:

The poetic function … is the projection of the principle of equivalence from the axis of selection into the axis of combination. Roman Jakobson, Selected Writings, 1962–1988, vol. 3, p. 32.

وترجمتها الحرفية هي:

«إن الوظيفة الشعرية … هي إسقاط مبدأ التعادل من محور الاختيار في محور التضام (والتضام هي الترجمة التي يرتضيها شكري عيَّاد للكلمة الأخيرة).»

ومهما حاول المترجم أن «يبسِّط» الأفكار المضغوطة هنا فلن يستطيع أن يخرج صورةً للنص تخلو من التجريد؛ ولذلك فإن «كالر» Culler يورد في كتاب له شهير (انظر المراجع، وسوف يأتي شرح ذلك كله تفصيلًا فيما بعد) هذه العبارة بنصها مردفًا إياها بما يلي:
(This) led to a study of the ways in which items that are paradigmatically equivalent (related by membership to a grammatical, lexical or phonological class) are distributed in linguistic sequences (on the axis of combination) (Structuralist Poetics, p. 120).

وجوناثان كالر أستاذ في جامعة كورنيل، وكتابه من أهم الكتب التي تعالج البنيوية، ومع ذلك فهو لا يستطيع الإفلات من قبضة «النص» الذي أصبح يكتسب هالةً من التقديس بسبب التأثير الكبير الذي أحدثه جاكوبسون في التفكير النقدي في العصر الحديث. وهذه هي الترجمة الحرفية لِمَا يقوله كالر:

«وأدَّى (ذلك) إلى دراسة طرق توزيع العناصر المتعادلة من حيث انتماؤها إلى نموذج واحد (أي التي ترتبط بعلاقات الانتماء إلى طبقة واحدة، نحويةً كانت أو معجمية أو صوتية) في تتابعات لغوية (على محور التضام).»

والشرح الذي يورده «كالر» أيسر في الفهم، لكنه أيضًا يفتقر إلى الوضوح الذي ينشده من يقدِّم — مثلنا — مصطلحات جديدةً لم يعد أمامه مفر من استخدامها؛ إذ إن كالر يريد أن يتحرَّى الدقة العلمية عندما يستخدم كلمةً عامة مثل item (بند أو عنصر) للإشارة إلى الأصوات اللغوية وإلى الكلمات وأبنية الجمل معًا؛ أي إنه بدلًا من أن يقول الوحدات الصوتية، و«معاني» الألفاظ، والتراكيب النحوية، يقول «البنود أو العناصر الصوتية والمعجمية والنحوية»، تحقيقًا لمبدأ الاقتصاد في التعبير، وهو من المُثُل العليا للبلاغة الإنجليزية، ولكن ذلك يكسب تعبيره غموضًا لا داعي له، خصوصًا عندما يشير إلى أن كلًّا من هذه العناصر أو البنود ينتمي إلى طبقة من الطبقات أو فئة من الفئات، ممَّا يبتعد به عن الدقة، فلم يقم أحد الدارسين فيما أعلم بتحديد طبقات أو فئات لجميع هذه العناصر، بل هي ذات ألوان لا حد لتنوُّعها واختلافها بسبب اختلاف سياقاتها، والإشارة إلى الكلمة بأنها «بند معجمي» صياغة تنتمي إلى ما نسمِّيه ﺑ «التعبير الملتوي» periphrasis أو circumlocution، ولكنه يوحي باللغة «العلمية» وبالأناقة المحدثة في التعبير.
وهو يبتعد كذلك عن الدقة حين يستخدم كلمة «التتابع» sequence المستقاة أولًا من الموسيقى، ثم من فن صناعة أفلام السينما والتليفزيون بمعنى اللقطات shots المتتابعة في منظر واحد يشبه المشهد الواحد في المسرحية scene؛ ولذلك فهي غير دقيقة لأن «توزيع» هذه العناصر أو البنود أو الوحدات الذي يشير إليه قد يقتضي كسر التتابع، بل تعديل أنماط البناء الداخلية حتى تسمح بالتضام أو الترابط (combination)؛ أي الجمع بينها دون تتابع محتوم.
وأخيرًا نجده يأتي بألفاظ جاكوبسون نفسها، وهي «على محور التضام» بعد تعديل حرف الجر، ليُضيف بذلك عنصر «الجمع» بين هذه العناصر كلها أو بعضها. والمقتطف الأخير له دلالة ثانوية في علم العلامات أو السيميولوجيا semiology؛ إذ يوحي بأن الاستشهاد بالنَّص سوف يحسم القضية.
والواقع أن كالر يتجاهل دلالة تعبيري «محور الاختيار»، الذي يعرِّفه جاكوبسون على أنه ملكة الاستعارة و«محور التضام»، الذي ينسب إليه القدرة على الكناية، مستفيدًا بذلك من سوسير، قائلًا إن المحور الأول هو محور إدراك أوجه الشبه والتعبير عنها بالاستعارة، وإن الثاني هو إدراك التلامس contiguity والتعبير بالكناية، وهذا التجاهل يُضيف غموضًا إلى الغموض، وتجريدًا إلى التجريد (انظر في المعجم مصطلح syntagmatic and paradigmatic).
ولم أتعرَّض عامدًا لاستخدام كالر لكلمة النموذج paradigm، التي تعني شيئًا في علوم اللغة وتعني شيئًا آخر خارجها؛ لأنني سأُناقش ترجمتها فيما بعد؛ فهدفي من هذا التقديم هو الإشارة إلى الصعوبات التي تكتنف ترجمة المصطلحات الأدبية الحديثة، وهي كما رأينا متعدِّدة الأسباب، ولا يجوز ردها إلى تقصير من جانبنا؛ إذ بذل أساتذة الأدب المحدثون جهودًا جبارة في هذا السبيل، وبعضهم من كبار المتخصِّصين في اللغة العربية الذين يملكون ناصيتها ويعرفون خباياها. وكانوا في كثير من الأحيان يعمدون إلى ما يسمَّى بالمحاولات الاستكشافية heuristic؛ أي إنهم كانوا يطرحون التعبير تلو التعبير عسى أن يلقى القَبول فيصطلح عليه الناس ويتداولوه، ورءَوا في الشجرة التي أورقت أغصانها ومدَّت ظلها الوارف أملًا في أن تزهر وتأتي بالثمر، وخير مثال على ذلك محاولة ترجمة دراسة استخدام الألفاظ في السياقات المختلفة pragmatics بالتداولية؛ فالمصدر الصناعي قد يمثِّل حلًّا من الحلول، ولكن التعبير العربي لا يزال استكشافيًّا أو رائدًا pilot term؛ فالمصطلح الإنجليزي يعني أكثر من التداول (أو معنى التداول أو صفته التي يوحي بها المصدر). وقد «نختار» أن نقبله واعين بأن التداول هو usage والمتداول هو current أو in common use وأن المداولات هي deliberations وأن دال تعني زال (الدولة)، والتداول هو تناقل الأيدي للشيء وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ (آل عمران: ١٤٠) كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ (الحشر: ٧)؛ أقول قد نختار أن نقبله ونشيعه ونفشيه، بشرط أن نشرحه الشرح الوافي ونُصِر على تحديد معناه في كل مرة حتى يثبت في أذهان النشء. وقس على ذلك المصطلحات المتداولة في مباحث «البنيوية» و«ما بعد البنيوية» ونظرية روابط الكلمات syntagmatic theory وشتى مباحث علم اللغة (اللغويات linguistics) التي تسرَّبت إلى النقد الأدبي مثل التراكيب والتراكيبية syntactics، ومثل التفسير أو (التأويل أو التخريج) hermeneutics أو «التفسيرية» وعلم دلالة الألفاظ semantics، والذي ازداد تفرُّعه في الأعوام الأخيرة فاتخذ طابعًا فلسفيًّا خصوصًا في كتابات جون إليس John Ellis وغيره، ومثل مصطلحات علم العلامات؛ أي السيميولوجيا، أو في المذهب الذي شاعت تسميته بالتفكيكية deconstruction.
ولقد تولَّى غيري من المتخصِّصين وأعضاء مجمع اللغة العربية بالقاهرة، دراسة أصول وضع المصطلحات الجديدة وأفاضوا في ذلك، وأخص بالذكر ضاحي عبد الباقي، الذي رصد تاريخ هذا الجهد في كتاب له حديث؛١٧ لذلك سأقتصر في ملاحظاتي على ما يمس المصطلحات الأدبية الحديثة مباشرة، خصوصًا بعد أن اعتدنا الكثير منها مترجمةً أو معربة.
والملاحظ في التعريب تفخيم بعض الحروف الساكنة إمَّا إضفاءً للأصوات العربية الأصيلة عليها، بغض النظر عن نطق تلك الحروف في لغتها الأصلية، مثل التاء التي تصبح طاءً، والسين «صادًا»، والكاف «قافًا»، وما إلى ذلك، وإمَّا محاكاةً لسنة العرب القدماء في ذلك؛ فنحن نألف كلمةً مثل الأسطرلاب، وهي مأخوذة من المادة اليونانية aster واللاتينية astrum بمعنى نجم، وليس في التاء تفخيم، على عكس كلمة «صنداي» (جزء من اسم الصحيفة التي تصدر يوم الأحد) Sunday؛ فالسين يقع نطقها بين السين والصاد في العربية، أو كلمة طومسون (اسم علم) Thomson حيث التاء مفخمة، وواشنطن وما إليها، وقد قبلنا تعريب الجغرافيا، والطبوغرافيا وتحويل الجيم الجافة إلى غين.
والاتجاه إلى التعريب عند تعذُّر إيجاد المقابل الدقيق كان له أنصاره،١٨ ولا يزال مثار جدل كثير، لكنني أفضِّل البحث أولًا عن الكلمات التي قد نستطيع الاشتقاق منها (مثلما فعل المتخصِّصون حين ابتدعوا «التناص» intertextualiy و«التداولية»)، أو إضفاء معنًى جديد عليها، وهذا ما فعله علماء الفيزياء عندما أدخلوا تعريف الماء «المزاح (displaced)، والتعريف الجديد «للذرة» وما إليها إلى اللغة العربية، فشببنا على تقبُّلها وحفظنا لها موقعها المخصَّص في الدراسات العلمية.
ومن الصيغ الاشتقاقية التي شاعت: النسبة، والمصدر الصناعي، وهما من الصيغ القديمة إلى حد ما، كما يشهد بذلك كتاب التعريفات للجُرجاني (علي بن محمد بن علي، ٧٤٠–٨١٦ﻫ) المعاصر لابن خلدون، وإخراج الفعل من الاسم ولو كان مصدرًا ميميًّا مثل يتمحور؛ أي يتخذ له محورًا، ويتمركز أي يتخذ له مركزًا، وقد أجاز الأخيرة شوقي ضيف،١٩ وقرأت أن المجمع أجازه، والتركيب عن طريق الإضافة.

النسبة

أمَّا النسبة فهي مريحة عند ترجمة المصطلحات العلمية اختصارًا للكلمات وتجنُّبًا لخلط المعاني إذا اعتمدنا على الإضافة وحدها، بل وتيسيرًا للإشارة إلى المفاهيم الحديثة التي تقتضي استخدام كثير من الصفات. وقد أصبحت النسبة ضرورةً في العلوم التي ندرسها بالعربية، حتى ولو كانت التعابير ذات رطانة؛ أي ذات وقع غير عربي؛ أي غير مألوف في اللغة التراثية؛ فعالِم الزراعة يتحدَّث عن التركيب المحصولي للأرض the crop composition of the land، وهو يستطيع أن يقول «أنواع المحاصيل التي تُنتجها الأرض»، ولكن حاجته إلى التعميم والتجريد تقتضي استخدام النسبة؛ إذ تمكِّنه من أن يشير إلى نسب المحاصيل بعضها إلى البعض، أو النسبة المئوية لأحدها، أو إضافة صفات أخرى مثل تغيير التركيب المحصولي الأساسي (basic)، وهو لا يستطيع أن يستعمل هذه الصفة إذا أضاف كلمة «تركيب» إلى المحاصيل، فإذا استطاع ذلك بمشقة فسوف يلاقي العنت في تجنُّب النسبة المذكورة في البناء التالي:
«التركيب المحصولي الشتائي الأساسي». وهذه صفات تُضاف بيسر في صِيَغ الاسم بالإنجليزية the basic winter crop composition.

ويمكن أن تزداد الجملة تعقيدًا حين يرد بعد ذلك اسم في موقع الخبر، أو حين تتكاثر الصفات عليه بعد ذلك كما يحدث في الإنجليزية العلمية الحديثة.

والمترجم المحترف يواجه هذه الصعوبة في كل نص تقريبًا؛ ولذلك يستعيض عن الإضافة حين يريد تبسيط النص بما يسمَّى بلام المترجم، كأن يقول في الجملة السابقة (التركيب الأساسي لمحاصيل الشتاء)، وهي لام إضافة توازي الحرف الإنجليزي of والفرنسي de؛ ولذلك فإذا أُضيفت الأرض إلى الجملة السابقة أضاف «للأرض» وهو مطمئن. ولكنه لا يستطيع ذلك في كل حالة؛ فبعض «النسب» أصبحت «مصطلحاتٍ مقبولةً» ولا سبيل إلى تجنُّبها، بل أصبحت صفات مفيدة، كالحديث عن النظرية الذرية atomic theory أو عن النقد الأدبي literary criticism (والنقد الأدبي الحديث غير نقد الأدب الحديث، بل وغير النقد الحديث للأدب!) والواقع أن النسبة أصبحت لها دلالة جديدة قد لا تتأتَّى بالإضافة البسيطة؛ فنقد البنيوية غير النقد البنيوي؛ لأن النسبة هنا أصبحت صفةً مشتقة من مذهب نقدي، ويماثل ذلك ضروب لا حصر لها من النسب والإضافات؛ الحب الأفلاطوني (حب أفلاطون؟)، والكتابة الفلسفية (كتابة الفلسفة؟) … وهلم جرًّا. بل أصبحت صيغة «صفة» تقابل صيغ الصفة في اللغات الأوربية الحديثة التي تنتهي ﺑ «al» أو «ic» أو «ive» أو كما في العربية بالياء «y» الرملي: sandy، الترابي: dusty … إلخ. وهو مبحث جدير باهتمام علماء اللغة.

غير أن النسبة وإن كانت ضرورةً في الترجمة وشائعةً في مصطلحات العلوم كلها، الطبيعية والإنسانية؛ لا تخلو من مخاطر، خصوصًا بعد أن استوطنت اللغة العربية وأصبحت جزءًا من جهاز التفكير العربي الأصيل؛ فقد تغري هذه الصيغة الكثيرين باشتقاق نسب من كل اسم بمناسبة وغير مناسبة، ونحن نقبل هذا في الشعر، وفي الكتابة الإبداعية، بل إنني ضحكت كثيرًا عندما ذكر محمد عفيفي في كتابه «ضحكات عابسة» (القاهرة، ١٩٦٢م) أنه اشترى بعض الفزدق (الفستق، من الفارسية بسته)، وحينما عاد به إلى المنزل ورآه أهله والأولاد، أخفاه في غرفة مكتبه، ولكن أفراد الأسرة كانوا يشعرون بوجود الفزدق، ومن ثم «ساد المنزل شعور فزدقي عام!» أي إن النسبة هنا (رغم التورية الواضحة) لها دلالة فنية.

ولكن الذي يثير الدهشة هو نزوع كثير من النقاد إلى استخدام النسبة في الكتابة العلمية عن الأدب استخدامًا يوحي بأن الهدف هو إعاقة القارئ عن الفهم؛ فالذي يقول «الانكماش الدلالي والتداولي»٢٠ (دون أن يضطره إلى ذلك نص أجنبي) يُرهق القارئ، وقد كان يستطيع أن يقول «انكماش دلالات الألفاظ وتداولها» إذا كان هذا ما يعنيه، وربما كان يُقصد ﺑ «التداولي» أن تكون نسبةً إلى «التداولية»؛ أي تضاؤل السياقات التي تستخدم فيها بمعانٍ مختلفة أو بحيث تكون لها دلالات سياقية مختلفة، وسوف نناقش ذلك عند الحديث عن المصدر الصناعي.
والملاحظ إذن أن النسبة لا تخضع دائمًا لمعنى الاسم الذي اشتقت منه، فنحن نقول «عملي» ترجمة لكلمة practical، وهي صفة من practise بمعنى «يعمل» أو «يتدرَّب» أو «يمارس» (تلك الكلمة التي أصبحت من الكلمات الحديثة التي يتلوَّن معناها بتلوُّن سياقاتها؛ فالممارس العام general practitioner هو الطبيب غير المتخصِّص، و«ممارسة الحق في كذا» هي الحصول عليه والتمتُّع به لا عمله، وهكذا (انظر الأغاني، ج٨ «نحن أعلم به وبما يمارس»، ص٢٩، طبعة بيروت، ١٩٥٦م). ولكن «العملي» هو الذي يسهِّل عمله، وهو معنًى يختلف عمَّا يمكن عمله practicable، وهي صفة مشتقة من نفس الاسم، أو الخاص بالعمل في حالة «المستقبل العملي» (career). وكذلك كلمة فعلي التي كثيرًا ما نستخدمها بمعنى actual؛ أي ما هو واقع أو ما هو موجود الآن، لا نسبةً إلى ما نفعله، بحيث تقترب من معنى كلمة «الحالي»، وهي دلالتها بالفرنسية actuel التي تعني الحاضر present أو الجاري current. وقِس على ذلك كلمة «واقعي» realistic التي تعني التسليم بما هو موجود، و«التعامل» معه دون التوسُّل أو الاعتماد على أي عناصر خارجة عنه؛ فهي لا تعني النسبة الحرفية إلى الواقع بمعنى ما يقع — أي ما يحدث — («وقعت الواقعة» – «الوقائع»)، بل إن معناها تطوَّر حين أصبحت عَلَمًا على مذهب فلسفي ومذهب أدبي، والأول مذهب الفلاسفة غير المثاليين (والمثالي هو idealist٢١ والثاني مذهب الكتاب الذين يستمدون مادتهم من ظواهر الحياة الحاضرة الملموسة، لا من «واقع» متخيَّل أو أُضفيت عليه صفات «ما ينبغي أن يكون» what should be، لا ما هو كائن what is، وهو الفكر النقدي الكلاسيكي منذ أرسطو وحتى عصر النهضة. أمَّا كلمة real وتفاصيل معانيها فسوف ترد في القسم التالي.

ولا أريد الخروج عن المصطلحات الأدبية إلا في حدود ما أصبح جزءًا من تفكيرنا النقدي الحالي؛ فشيوع استخدام النسبة في الكتابة المعاصرة يتطلَّب البحث والتمحيص؛ لأن اللغة في جوهرها اصطلاح، وقد اصطلحنا على النسب التي ذكرتها، ولكننا ما زلنا نبحث المصطلحات الجديدة أو التي بسبيلها إلى التداول والشيوع؛ فكلمة مثل «المعرفي» قد تحيلنا إلى أيٍّ من أصول ثلاثة:

إمَّا إلى المعرفة بمعنى الإحاطة والعلم knowledge، أو إلى عملية اكتساب المعرفة أو منهج اكتسابها من المدركات الحسية أو العقلية جميعًا cognition، أو إلى نظرية المعرفة وهي التي تبحث في طبيعة المعرفة الإنسانية ومصادرها وحدودها epistemology. فترى أي مفهوم من هذه المفاهيم تشير إليها النسبة المذكورة؟ إنها تعبير محيِّر، ولا بد لنا أن نلجأ إلى السياق لإدراك ما تشير إليه النسبة، ولكن السياق كثيرًا ما يكون «مضغوطًا» أو غير واضح، وعندما قرأت قول القائل «إن المسرح نشاط معرفي»، سألت من أثق بخبرته فقال لي إنه يعني paradigmatic؛ أي خاص بنموذج فكري معيَّن يحدِّد لون المعرفة المستقاة منه، فأين ذلك ممَّا توحي به الكلمة العربية؟٢٢
ويمكننا أن نضرب أمثلةً أخرى ممَّا شاع دون أن يصطلح عليه الناس؛ مثل نسبة «السلطوي» إلى السلطان أو السلطة power or authority، والواضح أن الدافع على هذا الاشتقاق صعوبة استخدام نسبة «السلطاني» أو «السلطانية أو السلطي أو السلطاتي!» وقد جرى استعمالها بمعنى authoritarian؛ أي «التسلطي» بمعنى فرض السيطرة (وهذا هو المعنى المطلق)، ونحن نصادفها كل يوم في النقد النسائي إشارةً إلى سيطرة الرجل على المجتمع وفرض مفاهيمه بالقوة، وهذا هو المعنى المخصَّص، وأحيانًا ما تُستعمل للإشارة إلى السلطة وحسب (أي إلى السلطات الحاكمة)؛ فأي هذه المعاني نختار؟
وقس على ذلك استعمال كلمة «مجتمعي» التي يُفترض أنها تشير إلى المجتمع ككل societal، وإن كان الكثيرون يستخدمونها اليوم (من باب التأنُّق. في الأسلوب) بديلًا عن الاجتماعي social التي تشير إلى ما يحدث داخل المجتمع، باعتبار المجتمع نسيجًا من العلاقات. وقد أوردها أحدهم مرادفةً لكلمة أخرى هي communal بمعنى المشترك بين الجماعة أو بمعنى الجماعي collective أو الجمعي على حد تعبير عبد الحميد يونس، مثل الإشارة إلى اللاوعي الجمعي collective unconscious عند يونغ Jung، بل قد أوحى أحدهم — استنادًا إلى السياق — أنه يقصد بها الإشارة إلى المجتمع الصغير أو المجتمع المحلي community، أو إلى أي جماعة أو مجموعة من الناس group تقوم بينها علاقات فتصبح مجتمعًا، مثل مجتمعات المغتربين التي نسمِّيها community أو colony، ونشير إليها بالعربية باسم الجالية — وهي فصيحة — أو إلى أي هيئات علمية تشكِّل فيما بينها بناءً يوحِّد بينها؛ إذ نشير إليها باسم the scientific community.
بل قد تكون النسبة خادعةً حين تُترجَم عن نسبة أجنبية هي نفسها خادعة؛ فقد أطلقنا تعبير التعليم الثانوي على المرحلة الثانية من التعليم ترجمةً للإنجليزية secondary، ثم استخدمناها بعد ذلك للدلالة على المرتبة الثانية من حيث القيمة (الرأي قبل شجاعة الشجعان، هو أول وهي المحل الثاني)؛ ولهذا يؤكِّد ك. س. لويس في كتابه عن الملحمة، عند تقسيمها إلى أولية primary وثانوية، أن الصفة الأخيرة تشير فحسب إلى التأخُّر في الزمن؛ أي إلى أنها كانت لاحقةً subsequent على الأولى.٢٣ وكذلك يفعل كولريدج Coleridge عند تفريقه بين الخيال الأولي primary imagination والخيال الثانوي في كتابه سيرة أدبية Biographia Literaria؛ فالخيال الثانوي هو القوة المُشكِّلة الخلاقة esemplastic power، على حين يقتصر الخيال الأولي على الوعي بالذات القريب من مفهوم هيجل Selbstbewusstsein٢٤ الذي يجعل المرء يشعر بأن روحه امتداد لروح الكون، بل تحديدًا روح الخالق؛ أي كما يقول أن «يتمثَّل فعل الخلق الخالد (من جانب) اللامحدود وهو الله في الذهن المحدود»؛ أي في ذهن الإنسان مستخدمًا في الإشارة إلى الله الصيغةَ العبرانية «أنا» I am.٢٥
هل لنا إذن أن ننسب إلى أي شيء دون النظر إلى العلاقة بين الاسم المنسوب إليه والنسبة؟ وهل وضع علماء الصرف العرب معايير norms (أي مقاييس متعارف عليها) أو standards (أي مقاييس موحَّدة) للنسبة؟ النسبة في العربية إلى المكان (المدني: المدينة)، وإلى القبيلة (التغلبي: تغلب)، وإلى المذهب (الرجعيون والدهريون … إلخ)، شائعة ومعيارية normative، ويقبل فيها جمع التكثير أيضًا (الأشاعرة والأزارقة، وما إلى ذلك)، وقد سبقنا ابن خلدون في استعمال النسبة الحديثة في المقدمة — «كلمات حكمية سياسية» (ص٤٠) — «بطريق إلهامي» (ص٤١)، والجُرجاني في كتابه المشار إليه في النسبة إلى «أن» «أني» و«لَمَّا» «لمي» (الاستدلال الأني والاستدلال اللمي، ص٣٤). ولكننا نحتاج إلى النسبة اليوم لأغراض عملية، فكيف ننتفع مثلًا بما أورده ابن خلدون عن «الخيال والواهِمة والحافِظة» في مقدمته (ص٩٧)٢٦ في عصر العلم الذي يتطلَّب الانتفاع بهذه الألفاظ المفيدة؟ هل ننسب إلى الذاكرة من مصدر «التذكُّر» (تذكُّري recollective أو mnemonic، وكذلك إلى «التحفُّظ» و«التوهُّم» و«التخيُّل» مثلما يفعل الجُرجاني؟ («الوهمي المتخيل» … «الوهميات» في كتابه المشار إليه ص٣٢٩ وص٣٣٠).
العربية لغة بالغة المرونة، وقد أخرجنا «تذكاري» من «تذكار» (memorial)، وأعتقد أن أرباب كل تخصُّص يستطيعون الإفادة من هذه المصطلحات، خصوصًا عندما يواجهون مصطلحات ثابتةً تقتضي الإشارة بالنسبة، مثل التصوُّر visualization؛ أي استدعاء الصورة إلى الذهن، وكلمة fancy و fantasy ومشتقاتهما fanciful وfantastic وfantasia (وكانت تستخدم حتى عهد قريب بالهجاء اليوناني أي بالفاء المركبة ph)، ومثل بعض الكلمات التي دخلت الأدب بل أصبحت راسخةً فيه مثل fiction التي إذا ترجمناها بالقص الخيالي صعب علينا إيجاد نسبة إليها، وهي أحيانًا ما تعني الخيال فحسب، عند المقابلة بينها وبين الحقيقة (أو الواقع) في المصطلح الذائع fact and fiction، وماذا عسانا نفعل بالصفة المشتقة منها وهي fictional، التي قد تُشير إلى أيٍّ من المعنيَين (الأدبي أو العام)، بل وبالكلمة التي لا تعني إلا الخرافة fictitious وما يندرج في إطارها من phantasm وphantasmagoric؟
وكثيرًا ما يخرج علينا بعض الكتَّاب بآراء تُجيز أو تحظر النسبة إلى صيغ عربية معيَّنة كالجمع أو غير ذلك، فسمعنا من يخطِّئ استخدام «العقائدي» نسبةً إلى العقيدة رغم إجازة المجمع لها، ويُصر على «العقدي»٢٧ ترجمةً للإنجليزية ideological، ثم اهتدى بعضهم إلى كتابتها بلفظها؛ أي إلى تعريبها، فكتبها «أدلجة»، وهي كلمة توحي بكلمة عربية أصيلة هي «أدلج» بمعنى سار من أول الليل؛ ولذلك لم تحظَ الكلمة المعرَّبة بالقَبول على نطاق واسع. وقد ترجم البعض المصطلح الإنجليزي ﺑ «الفكري».
وقد نجح العلماء في بعض التخصُّصات في اشتقاق نسب إلى صيغ جديدة على قياس صرفي صحيح ولها معانٍ محدَّدة؛ فالعصابي neurotic هو المصاب بالعصاب neurosis، وقس على ذلك شتى مصطلحات علم النفس والطب النفسي.

المصدر الصناعي

والنسبة التي ذكرنا احتمال اشتقاقها من المصدر الصناعي «التداولية» تفتح لنا باب المصدر الصناعي على مصراعَيه، وهو باب من أهم أبواب ترجمة المصطلحات الأدبية؛ لأنه يقدِّم فيما يبدو حلولًا يسيرة لأعقد المشكلات وأعوصها. ولقد شاع منذ أجازه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، شيوعًا لا حدود له، وأصبح الكثيرون يفضِّلونه على الصفة البسيطة، بل يكاد أن يكون من سمات كلامنا الجاري وهي قديمة أيضًا كالنسبة، نجدها في الجُرجاني في كتابه المشار إليه كثيرًا («الوقتية» ص٣٢٧)، وفي ابن خلدون («ومعقوبية تلك النسبة موجودة للكاهن بأشد ما للنائم.» مقدمة ابن خلدون، ص١٠٢)؛ فالكثيرون يقولون «نريد الاستمرارية، وهم يعنون الاستمرار، دون إحالة إلى الكلمة الإنجليزية continuity، التي تعني الاستمرار فحسب لا مذهب الاستمرار أو صفته وجوهره.
أمَّا التقلُّبية variability فلا تعني إلا التقلُّب، كما اشتق المصريون من النَّوع «النوعية»، وهي في الحقيقة صفة مؤنثة من النسبة القديمة المستخدَمة في العلوم الطبيعية وهي نوعي specific، مثل الوزن النوعي أو الكثافة النوعية specific density التي يستخدمها الجُرجاني بهذا المعنى ص٣١٧ من كتابه المذكور، ثم استخدموها بمعنى نوع في قولهم «هذه النوعية من الناس …» قياسًا على اشتقاق «كَمية» من كم واستخدامها بمعنى الاسم البسيط quantity و«كيفية» الموجودة في الجُرجاني (ص١٧٧ و٣١٦ مثلًا).
وأظن ظنًّا أن شيوع النسبة المؤنثة ساعد على قَبول الأذن العربية للمصدر الصناعي؛ فنحن معتادون على «الألمظية» و«الشركسية» و«المهلبية» (وفي تونس يقولون المحلبية ويزعمون أنها مشتقة من الحليب)؛ ولذلك فعندما سمح المجمع باستخدام المصدر الصناعي لم يجد الناطقون بالعربية حرجًا في ابتداع شتى ألوان الكلمات. وربما كانت البداية هي تسمية المذاهب الفنية والأدبية بمصادر صناعية؛ كالتكعيبية cubism، والحداثية، وكل منها يقبل استخراج نسبة منه؛ أي إن الأصل هو «التكعيبية» مثلًا، ومنها يُشتق «فنان تكعيبي» نسبةً إلى المذهب؛ فالاشتقاق هنا معكوس back formation، فأنت لا تقول إنه يكعِّب اللوحة، بل إنه رسام تكعيبي وحسب. وكذلك فالحداثة هي الترجمة التي شاعت لِمَا يسمَّى modernism في الفنون التشكيلية (ثم انتقل المذهب إلى الأدب)، والحداثية مصدر صناعي منها، وتُشتق منه الصفة فنقول «حداثي» modermist.
أمَّا في العلوم الطبيعية فقد بدأ استخدام المصدر الصناعي واستمرَّ في المعنى الأصلي الذي أقرَّه مجمع اللغة العربية بالقاهرة، وهي الدلالة على الصفة المميِّزة للشيء، ومن ثم انتقل إلى العلوم الأخرى باعتباره صفةً مجرَّدة تُساعد الباحث الذي ينشد التجريد والتعميم. ولقد أطلقت على أحد أقسام هذا المقال عنوان «التفسيرية» ترجمةً للهرمانيوطيقا hermeneutics بسبب شيوع الكلمة، والأقرب إلى الدقة أن أقول علم التفسير؛ لأن القاعدة هي أن الكلمات المنتهية ﺑ ics- في الإنجليزية تشير إلى العِلم، مثل politics وeconomics؛ أي علم السياسة وعلم الاقتصاد، ولو أن الكلمتَين الإنجليزيتَين كثيرًا ما تُستخدمان للإشارة إلى المبادئ السياسية والمبادئ الاقتصادية على الترتيب، أو للمذهب السياسي أو للمذهب الاقتصادي، كسؤالك Do you know his politics?؛ أي هل تعرف مذهبه السياسي؟ ومن ثم أصبح العلماء في كل مجال يستخدمون المصدر الصناعي للإشارة إلى الصفة المجرَّدة، تسهيلًا لكتابتهم العلمية، أو تأثُّرًا بالنصوص الأجنبية التي يعتمدون عليها، أو من باب الأناقة (الألاقة من ألق؟ الألاجة؟ elegance?).
وعندما أشرت في متن المقالة إلى نظرية ترابط الألفاظ syntagmatic theory، كان يمكنني أن أقول نظرية «الترابطية اللفظية»؛ فالترابطية ذات وقع أفعل في النفس، خصوصًا بسبب المصدر الصناعي السابق، والنسبة اللاحقة، والتعبير ذو إغراء شديد يكاد لا يقاوم! ومعظم الأساتذة في العلوم المختلفة يستخدمون المصدر الصناعي، دون أن يرجعوا إلى أصل أجنبي؛ أي إنه أصبح جزءًا من جهاز التفكير العربي الأصيل، كما سبق أن قلت. فعالم الاقتصاد (بل الصحفي) الذي يشير إلى «التذبذية السعرية» price fluctuation إنما يعني ببساطة تذبذب الأسعار، ولكنه يستخدم المصدر هنا (مع النسبة) لأنه يريد مفهومًا مترابطًا موحَّدًا يمكن أن يضيف إليه بعض الصفات مثل «الأخيرة» و«المفاجئة» و«المقلقة»، ثم يتبعها بالفعل أو بالخبر:
The recent, sudden and disturbing price fluctuations …
بل يمكنه بعد ذلك أن يُضيف إليها أشباه جمل أخرى «في سوق النفط» (في السوق النفطية طبعًا!) أو يتبعها بلام المترجم (أي لام الإضافة) «لأسواق النفط»؛ أي إنه يتجه في تفكيره إلى البناء الاسمي للجملة (متأثِّرًا بالنصوص الأجنبية أو غير متأثر)، وهو البناء الذي يقول السعيد بدوي إنه أصبح يميِّز اللغة العلمية والصحفية الحديثة.٢٨ ولنفترض أن هذا هو النموذج الإنجليزي:
The recent, sudden and disturbing price fluctuations of the oil markets have had a destabilizing effect on the economies of the oil-exporting countries.

إن التذبذبية السعرية الأخيرة المفاجئة، والمقلِقة، لأسواق النفط أدَّت إلى زعزعة اقتصاد البلدان المصدِّرة للنفط.

المصدر الصناعي هنا إذن يوحي بأنه مهم ومفيد، ولكنك تستطيع أن تستبدل به الصفة البسيطة «تذبذب» أو «ذبذبة» أسعار النفط، وتعيد تشكيل العبارة مهما طالت:
  • (١)

    إن تذبذب الأسعار في أسواق النفط في الآونة الأخيرة، الذي كان مفاجئًا ومقلقًا …

  • (٢)

    أدَّى تذبذب أسعار النفط المفاجئ والمقلِق، في الآونة الأخيرة، إلى …

ولكن العلماء ليسوا جميعًا كُتابًا، وليست لهم جميعًا نفس الدراية بأساليب الصياغة اللغوية، ومن يعتاد منهم قراءة اللغات الأجنبية يجد أن اتجاه تفكيره أصبح مولعًا بالأسماء وبالتراكيب الاسمية. ولعل القارئ قد لاحظ أن العبارة الإنجليزية تخلو من أي فعل حقيقي؛ ففيها فعل مساعد واحد هو have (ونسمِّيه حاليًّا modal auxiliary٢٩ وبعض أسماء الفاعل المستخدمة صفات، والباقي أسماء وحروف.

ولا شك أن هذا الأسلوب الذي يُسرف في استعمال النِّسب والمصادر الصناعية يحد من قدرة القارئ على متابعة الفكر النقدي الجديد، وكثيرًا ما يواجه القارئ عشرات المصادر الصناعية في النص الواحد، ومئات النِّسب التي لا مبرِّر لها، فيشعر أنه يركب بحرًا طامي العُباب، وأن سفينته تجري به في موج كالجبال، فيطوي الشراع ويقفل راجعًا ينشد السلامة.

وفي ختام هذا التمهيد عن مشكلات ترجمة المصطلح الأدبي أضرب للقارئ مثلًا من كتاب أعتذر عن ذكر اسمه (أو ذكر مؤلفه) حتى يرى أنني لا أتجنَّى حين أفرد لهاتَين الظاهرتَين هذه الصفحات:

«إن الانهيار التركيبي، في إطار التجني التداولي على السطوعية، للواقعية لم يعد يبشِّر بإمكانيات الفعالية المتنامية، مهما تكون (هكذا) تأصُّلاتها الحقيقية أو الزائفة، فحسب، بل بالتَّجني على الأدبية الحداثية أيضًا.»

ولا شك أن لهذا الكلام معنًى، وإن يكن في بطن الشاعر، ولكن الغموض لا يرجع إلى الترجمة، ولا ذنب لنص أجنبي في هذا؛ فالعيب عيب الكاتب الذي يعجز عن توصيل أفكاره بوضوح إلى قارئه. أمَّا عن المصطلحات الأدبية وغير الأدبية هنا فحدِّث ولا حرج.

١  من قضايا الأدب الحديث. القاهرة، ١٩٩٥م.
٢  قضية الصحة المعيارية normative correctness من القضايا الشائكة التي تكاد العربية أن تتميَّز فيها، بسبب تاريخها الطويل، عن اللغات الأوربية الحديثة. فالصحة، كما نعرف، لها أكثر من معنًى؛ وأول هذه المعاني وأكثرها شيوعًا هو استعمال القدماء (حتى عصر الاحتجاج) للكلمة، فإذا لم تستطع أن تجد شاهدًا يبعد عنا بألف سنة على الأقل تشكَّك البعض في صحة الكلمة، ولو قبلوها في باب المولَّد أو المُحدَث. ومن أنصع الأمثلة عليه كتاب «شموس العرفان بلغة القرآن» للأستاذ عباس أبو السعود (القاهرة، دار المعارف، ١٩٨٠م) الذي يرفض كل مولَّد ودخيل، وكل معنًى جديد لكلمات الفصحى، وكل اشتقاق لم يأتِ به القدماء مهما تكن صحته. ويسمِّي ذلك (على غلاف الكتاب) ما لحق بالعربية من فساد.
والمعنى الثاني هو ورودها على قياس منصوص عليه في كتب الصرف، وقد أتاح تعدُّد الموازين الصرفية لمن لم ينشئوا في كَنَف اللغة (أي لمن لم تكن العربية لغتهم الأم) المزج بين الأوزان واشتقاق أفعال المصدر الميمي (مثل يتمعضل ويتمفصل، وغير ذلك ممَّا أصبحنا نسمعه).
والمعنى الثالث هو الاتفاق مع العُرف، فقد يصبح العُرف معيارًا ويُحتج به في إثبات الصحة، وهو هنا متفاوت فيما بين البلدان العربية. ولنأخذ على ذلك كلمتَي التوقيف والإيقاف؛ فالتوقيف (والأحكام التوقيفية) من الصيغ المقبولة في الشريعة، ولكن الفعل (والأسماء المشتقة منه) يُستَخدم في بعض البلدان العربية ترجمةً للفرنسية arrêter بمعنى يعتقل أو يقبض على شخص ما. والكلمتان الأخيرتان موجودتان في اللغة العربية منذ عهد ابن المقفَّع (كليلة ودمنة: «… إذ مرَّت أم الأسد بفهد معتقل …»)، ومنذ عهد محمد البلوي (مؤلف «سيرة أحمد بن طولون»)، وحتى الأبشيهي (المستطرف في كل فن مستظرف)، وحتى عصرنا الحالي بطبيعة الحال. فالعرف هنا هو معيار المعنى الجديد للرباعي «أوقف» واسم المفعول «موقوف»، والمصدر «التوقيف» دون الرباعي منه «وقَّف» بتضعيف عين الكلمة، رغم ورود اسم المفعول بغير هذا المعنى في القرآن إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ رَبِّهِمْ (سبأ: ٣١). وعلماء اللغة، كما هو معروف، لم يستعملوا الرباعي إلا في قولهم: أوقف فلان إذا سكت. وأوقف عن الأمر إذا أمسك وأقلع، وعن أبي عمرو والكسائي أنه يُقال للواقف: ما أوقفك هنا؟ أيُّ أيِّ شيء حملك على الوقوف هنا؟
ومن ثم فنحن لا حيلة لنا، إن أردنا قَبول هذه الكلمة وحدها ودون مشتقاتها الأخرى كالرباعي من التوقيف إلا الاحتجاج بالعُرف، والقضية كما ترى تُثير ما يسمِّيه محمد كرد علي بالإقليمية، وهذا داء أرجو ألَّا يستفحل فيكون لكل بلد عربي مصطلحاته الخاصة به.
٣  التعريب باب ينبغي أن ندخله حَذِرين، وإلا صادفنا ما لا لزوم له مثل «الغراماطيق» grammatique (أي النحو). انظر محمد ديداوي: علم الترجمة. سوسة، تونس، ١٩٩٢م، ص٣٣.
٤  التسرُّع في الترجمة وليد الصحافة، ومعظم الترجمات المتسرِّعة وليدة الحاجة إلى نشر الأخبار و«الموضوعات الصحفية»، وقد عرضت في كتابي «فن الترجمة» القاهرة، الشركة المصرية العالمية للنشر، لونجمان، ط١، ١٩٩٢م، وط٢، ١٩٩٤م) لمشكلة معرفة معنًى واحد للكلمة والاكتفاء به عند الترجمة؛ إذ يتصوَّر المترجم أنه يألف «تلك الكلمة» ومن ثم لا يرى ما يدعو إلى الاطلاع على سياقاتها الأخرى في المعاجم الأجنبية. وأضيف إلى ذلك هنا عدم تمكُّن الصحفيين من التعابير الاصطلاحية اللغوية الشائعة في اللغات الحديثة، ولا مجال هنا لضرب الأمثلة، وإن كانت لغة الصحافة مُهمةً لأنها تؤثِّر في طرائق تفكير القُراء؛ فتعبير «احتواء» بمعنى to contain في المجال السياسي معناه «يمنع من التوسُّع»، ولكن التعبير العربي أصبح مستقلًّا عمَّا تُرجِم عنه وأصبح له معناه الجديد — وقِس على ذلك to produce results أو to produce an effect — فالإنتاج هنا مضمر في معنى الاسم.
٥  النحت هو اشتقاق كلمة واحدة من كلمتَين، وهو قديم في العربية، واستعمالاته محدودة، بل إن بعض الكلمات المنحوتة قد فقدت العلاقة بما نُحتت منه، مثل جعفر، أو ماهية، أو إمعة، وأخيرًا أجاز شوقي ضيف النحت من لا + اسم (لا إنسانية، لا أخلاقي … إلخ) قياسًا على اللاأدرية agnosticism — وقد استعمله الجُرجاني في كتاب «التعريفات» «اللادوام» ص١٩٣ — ولكن التوسُّع في النحت غير محمود العاقبة لا لسبب إلا لتعذُّر فهمه — فالأستاذ منير البعلبكي يورد في معجمه «المورد؛ قاموس إنكليزي-عربي» كلمات نحتها بنفسه، وهو فيما يبدو يدعو أبناء العربية إلى الاستعاضة بها عن مقابلاتها المعرَّبة أو المترجمة — فيقول إن «فيتامين» يجب أن تكون «حيمين» — استنادًا إلى أن «فيتا» معناها حياة، ولكن ذلك على عسره فيه نظر؛ فإذا ترجم فيتا بحياة فبماذا يترجم الصدر (أو البادئة) بيو bio؟ وهو يقترح كذلك ترجمة الفضاء الخارجي ﺑ «بينجمي» interstellar؛ أي ما بين النجوم، وترجمة sublingual ﺑ «تحلساني» (من تحت + اللسان)، والجمع بين الضباب والدخان في كلمة واحدة هي «ضبخن» قياسًا على الإنجليزية smog التي تجمع نحتًا بين smoke وfog. وأخيرًا قرأنا ترجمةً شاعت لكلمة spatiotemporal، وهي نحت طريف من الزمان والمكان «الزمكانية» — أي ما يوجد في الزمان والمكان معًا، وإن كانت لا تزال مصطلحًا مقصورًا على المتخصِّصين.
٦  انظر المثل الذي أتيت به في آخر هذا القسم من المقدمة، وانظر أيضًا التعابير التالية الواردة في كتاب حديث، وقد أوردت ما استطعت أن أفهمه منها بين أقواس:
الغطاء البحثي (نطاق البحث) – كفاءة احتوائه (قدرته على الإلمام بجوانب الموضوع) – أحكام الواقع (أحوال الواقع؟ ما يُمليه الواقع؟) – السياق المنتج للآليات (السياق الذي يتحكَّم في دلالة اللفظ ووظيفته في النص؟) – فعالياته وجمالياته (وظائف الألفاظ وجوانبها الجمالية؟) – مقاربتها بمفاهيم أكثر نضجًا (تناول القضية استنادًا إلى مفاهيم أكثر نضجًا) – العقلانية العاملة (مذهب عقلاني إيجابي أو نشيط؟) – الأبنية الكبرى للنصوص (الأبنية الشاملة أو العامة للنصوص؟) – استراتيجيات للفهم ذات طبيعة احتمالية (طرائق لفهم النص باعتباره حَمَّال أوجه؛ أي يحتمل أكثر من معنًى أو تفسير).
والواقع أنني كنت في كل مرة أتوقَّف فيها عند تعبيرٍ من هذه التعابير المخيفة، أُحاول أن أرده إلى ما يمكن أن يقابله (أو ما تُرجِم عنه) باللغات الأجنبية، مقتصرًا على الإنجليزية والفرنسية، فالواضح أن «الغطاء» تعبير مترجم عن الإنجليزية cover، والنسبة إلى البحث أو البحوث جديدة، فأمَّا أن البحث أو البحوث تغطِّي الموضوع، أو أن نطاق البحث يشمل جوانب الموضوع ولا علاقة لذلك بالترجمة، وما الترجمة هنا إلا العامل الذي أدَّى إلى إفراز هذه الصيغ المستحدثة. وقس على ذلك كلمة كفاءة فهي ترجمة للكلمة المألوفة efficiency أو adequacy (والكفاءة والكفاية بمعنًى)، وتعريفها في المعجم وعلى ضوء الاستعمال هو القدرة على إحداث التأثير المطلوب أو النتيجة المنشودة؛ ولذلك فنحن نفرِّق بينها وبين proficiency التي تُشير إلى القدرة دون ربط ذلك بنتائج؛ فهي تفيد المهارة والبراعة فحسب، وكذلك نفرِّق بينها وبين sufficiency التي ألفنا ترجمتها بالكفاية. فما المقصود بكفاءة الاحتواء؟ ولا أُريد أن أقف عند كل تعبير، بل سأختتم هذه النماذج بالعبارة التالية من نفس الكتاب (وكلها من الصفحات الثماني الأولى):
«منظومة من الإجراءات المنهجية القابلة للتطبيق على المستوى التداولي.» وقد ترجمتها إلى الأصل المفترض التالي:
a system of methodological procedures applicable at the pragmatic level.
وربما كان معناها ما يلي:

«عدد من الخطوات المنهجية المتسقة، التي يمكن اتخاذها عند تحليل السياقات اللغوية.»

وقد نشأت ترجمة كلمة system بمنظومة للتفرقة بين منظمة الأمم المتحدة United Nations Orgnization ومنظومة الأمم المتحدة UN System؛ فالأولى هي الهيئة الأم parent body ومقرها نيويورك وتضم الجمعية العامة ومجلس الأمن، ولها مكتب في جنيف (أي مقر)؛ والثانية هي مجموعة الوكالات المتخصِّصة specialized agencies التابعة لها. ولمَّا كان التفريق واجبًا ابتدع المترجمون تعبير المنظومة ترجمة system. أمَّا الإجراءات بمعنى التدابير measures أو الأفعال actions، فتعبير يندر أن نستخدمه في السياقات النقدية والأدبية — فالذي يدرس إيقاع شعر شاعر أو البحور التي يستخدمها لا يتخذ «إجراءات».
٧  المعجم الوسيط، مادة صلح؛ وتاج العروس (مستدرك مادة صلح).
٨  انظر تاريخ حركة تعريب المصطلحات العلمية والفنية في «المصطلحات العلمية والفنية، وكيف واجهها العرب المحدثون» للدكتور ضاحي عبد الباقي، القاهرة، ١٩٩٢م؛ و«حركة الترجمة بمصر خلال القرن التاسع عشر»، تأليف جاك تاجر، القاهرة، ١٩٤٥م؛ وتاريخ الترجمة والحركة الثقافية في عصر محمد علي، للدكتور جمال الدين الشيال، القاهرة، ١٩٥١م؛ وتاريخ الترجمة في مصر في عهد الحملة الفرنسية، للدكتور جمال الدين الشيال، القاهرة، ١٩٥٠م؛ وكذلك رسالة الدكتوراه التي أعدَّتها الدكتورة لطيفة الزيات في هذا الموضوع.
٩  انظر «المولَّد؛ دراسة في نمو وتطوُّر اللغة العربية في العصر الحديث»، تأليف الدكتور حلمي خليل، الإسكندرية، ١٩٧٩م.
١٠  Dewey, John: The Living Thoughts of Thomas Jefferson. تُرجم إلى العربية مرتَين؛ الأولى بقلم محمود يوسف زايد، وصدرت في بيروت عام ١٩٥٧م بعنوان «آراء توماس جيفرسون الحية»؛ والثانية للدكتور عبد الحميد يونس، وصدرت في القاهرة عام ١٩٦١م بعنوان «جيفرسون».
١١  المقتطف، أبريل، ١٩٢٦م.
١٢  Roger Fowler, A Dictionary of Literary Terms, 1990.
١٣  انظر الرسالة التي قدَّمَتها الباحثة سامية حبيب إلى المعهد العالي للنقد الفني عن مسرح عبد الرحمن الشرقاوي — وحصلت بها على درجة الماجستير — يوليو ١٩٩٥م (غير منشورة).
١٤  «من قضايا الأدب الحديث» لمحمد عناني، القاهرة، ١٩٩٥م، الفصل الأول. وسوف أكتفي بما ذكرته فيه عن المعاني المختلفة التي اقترنت بالخطاب الذي كان قد تُرجم أول الأمر عن discourse (انظر المعجم). وسوف أضرب هنا مزيدًا من الأمثلة من نفس الكتاب الذي أشرت إليه في الحاشية رقم ٦، للتدليل على فوضى المصطلح النقدي الراهن. قد وردت كلمة الخطاب عشرات المرات في ثماني صفحات فقط من ذلك الكتاب، مرفقةً بالأوصاف أو في السياقات التالية، ومدرجًا تساؤلاتي بين أقواس: خطاب على خطاب، الخطاب الإبداعي (هل معناه الكتابة الإبداعية؟ أو الكلام الإبداعي؟ أي الأدب؟)، الأدب خطاب نصي (الأدب هو النص؟)، الخطاب العلمي (الكتابة العلمية؟)، بؤرة الخطاب البلاغي الجديدة (بؤرة البلاغة الجديدة)، بلاغة الخطاب (البلاغة)، الخطاب الأدبي (الأدب؟)، تحليل الخطاب (تحليل الكلام)، إنتاج الخطاب (الكتابة أو الكلام)، ربط الخطاب (ترابط الكلام)، المقاربات المعرفية للخطاب (مناهج دراسة الكلام من وجهة نظر المعرفة؟ انظر الحديث عن النسبة في القسم التالي من المقدمة)، البنية اللغوية الأساسية للخطاب (هل الخطاب هنا يعني الكلام أو النص أو الفكر السائد، أم أنواعًا معينة من النصوص أو الأفكار؟)، أنماط الخطاب (أنواع النصوص؟ أنواع الكتابة؟ فنون القول؟)، نظرية الخطاب اللغوية (النظرية اللغوية؟)، الدلالة الكبرى للخطاب (الدلالة الشاملة للنص؟)، نظرية اللغة الخاصة بالخطاب (هل تختلف عن نظرية الخطاب اللغوية؟)، الخطاب النصي (النَّص؟)، وأخيرًا (ودون أن أخرج عن الصفحات الثماني الأولى في الكتاب):

«… جعل عمليات الانكماش الدلالي التي تلاحظ على الخطاب بارزة، وترك في الظل ارتباطها الوثيق باختلاف السياقات الاجتماعية.»

هل يعني ذلك أنه «أدَّى إلى إبراز مدى انكماش معاني الألفاظ، وتضاؤل السياقات التي تُستخدم فيها، وإغفال ارتباطها الوثيق بالسياقات الاجتماعية المختلفة؟»
١٥  فن الترجمة، القاهرة، الشركة المصرية العالمية للنشر؛ لونجمان، ط١، ١٩٩٢م، وط٢، ١٩٩٤م.
١٦  فيليب دي طرازي، تاريخ الصحافة العربية، بيروت، ١٩١٣م، الجزء الأول، ص٨٠. وكانت الكلمة في البداية هي «السلك البرقي» ترجمةً للتلغراف (الفرنسية télégraphe)، ثم شاع فصل «البرق» عن «السلك»، وأصبح الفعل «يبرق» مقبولًا. ويزعم الدكتور كارم السيد غنيم في كتابه «اللغة العربية والصحوة العلمية الحديثة»، القاهرة، ١٩٩٠م، ص١٢٥؛ أن الكلمة الأجنبية مأخوذة من العربية «الحبل» — ولم أجد تأكيدًا لهذا التخمين في أي معجم إنجليزي أو أمريكي قديم أو حديث — فأصل الكلمة لاتيني محض وهو مشتق من فعل لاتيني معروف (معناه الأصلي «يمسك»).
١٧  انظر الحاشية رقم ٨ أعلاه.
١٨  وأهمهم يعقوب صروف، صاحب المقتطف، الذي دافع عن هذا الاتجاه قائلًا:

«ونحن باقتباسنا هذه الكلمات الأجنبية نكون قد جرينا على مقتضى الطبع، وجارينا كتَّاب اللغات الأجنبية الذين يتبعون هذه الكلمات على أوضاعها مع اختلاف لغاتهم، وجارينا كذلك جميع المؤلفين بالعربية الذين كتبوا في العلوم الطبيعية كالرازي وابن سينا وغيرهما.» المقتطف، المجلد ١٥، الجزء الأول، أكتوبر ١٨٩٠م، ص٥٣.

١٩  تيسيرات لغوية، القاهرة، دار المعارف، ١٩٩٠م.
٢٠  انظر الحاشية «١٤» عاليه.
٢١  في الصفحة الثالثة من تقديم الكتاب المشار إليه عاليه ترد العبارات التالية:

«إنه (أي الخطاب البلاغي) لا يقوم في فراغ مثالي، بل هو خطاب على خطاب؛ أي إنه كاشف عن الخطاب الإبداعي الموازي له والممتد معه.»

والله وحده أعلم بمعنى هذا الكلام الذي يستعصي على أذهان أمثالي؛ فالكاتب يفسِّره بعد ذلك قائلًا:

«وبقدر ما يتولَّد في هذا الخطاب الإبداعي من أنساق جمالية وإنسانية جديدة، وما تُسفر عنه علوم الإنسان من معرفة بعالمه الداخلي والخارجي، فإن الخطاب البلاغي لا مناص له من أن يسبح فوقها ويقتنص أشكالها» (ص٩).

أي إن لدينا خطابَين (أو لونَين من الكتابة أو الكلام، لا رسالتَين)؛ أحدهما إبداعي والآخر بلاغي، والبلاغي يسبح على سطح الإبداعي؛ ليقتنص ما يتوالد تحت السطح والمتمثِّل في الأنساق الجمالية والإنسانية الجديدة؛ أي يجسِّدها في طرائق بلاغية ملموسة، فهي إذن مجرَّدة أو مثالية. وربما يكون معنى هذا أن الخطاب الإبداعي (الفكر والمشاعر) مجرَّد (أي غير مجسَّد)، والخطاب البلاغي (أي اللغة البلاغية) مجسَّدة. وإضفاء المعنى المجرَّد على الكلمة غير معروف في اللغات الأوربية.
ومن هنا تنبع صعوبة تفسير نسبة «مثالي» في العبارة السابقة وهي «فراغ مثالي»، ولا بد أن كلمة مثالي هنا تشير إلى مذهب المثالية idealism التي أُشير إليها في المتن، وليست صفةً من المثال؛ لأننا نقول: إنه رجل مثالي بمعنى أنه مثال يُحتذى وهذا هو مصدر الغموض في النسبة. فليس الفراغ مثاليًّا، وإنما هو فراغ المثالية على افتراض أن الفلسفة المثالية تعيش في فراغٍ بسبب عُزلتها عن الواقع.
٢٢  في الصفحات الثماني الأولى من الكتاب المشار إليه في الحاشية السابقة ترد كلمة المعرفة ومشتقاتها والنسب إليها في السياقات التالية:
إطار معرفي (عدة مرات)، أهمية معرفية خاصة لإدراك تطوُّر العلوم، المعرفة العلمية بظواهر الأدب واللغة، الأنساق المعرفية (عدة مرات)، منظومة معرفية، جهاز معرفي وبلاغي مبسَّط، المعارف العلمية التخصُّصية، المعرفة الفلسفية والإدراكية، المعرفة العلمية (عدة مرات)، المعرفة، مبحث المعرفة (عدة مرات)، المعارف العلمية، نظرية المعرفة (عدة مرات)، العمليات المعرفية (عدة مرات)، تكوين المعارف والعلوم، العمليات المؤثِّرة في المعرفة والمعتقدات، النسق المعرفي (عدة مرات)، الأُطر الاجتماعية للمعرفة، أشكال المعرفة، الأنواع المعرفية (عدة مرات)، النظام المعرفي، المعرفة التقنية (عدة مرات)، مبحث المعرفة، المعارف العلمية، التأثيرات المعرفية. وإزاء هذا التنوُّع في السياقات يحار القارئ في إدراك المقصود بالنسبة في كلمة المعرفي، فهل تحيلنا هنا إلى:
  • (١)
    الإطار المعرفي، بمعنى: framework of knowledge or cognitive frame of reference?.
  • (٢)
    الأهمية المعرفية: cognitive or epistemological importance or importance as to the imparting of (special) knowledge?.
  • (٣)
    المعرفة العلمية: scientific knowledge.
  • (٤)
    الأنساق المعرفية: cognitive systems or patterns?
    cognitive types? paradigms?
  • (٥)
    منظومة معرفية: a system of disciplines? or still a cognitive system or? indeed, epistemological system?.
  • (٦)
    جهاز معرفي: cognitive apparatus? epistemological mechanism?.
  • (٧)
    مبحث المعرفة: the study of knowledge? epistemology?cognition? epistemological discipline?
  • (٨)
    نظرية المعرفة: epistemology.
  • (٩)
    العمليات المعرفية: cognitive processes or processes of learning?.
  • (١٠)
    المعرفة/المعارف: knowledge?.
  • (١١)
    الأنواع/الأشكال/الأُطر الخاصة بالمعرفة: kinds, forms or frameworks of knowledge.
وقس على هذا استخدام العلم والعلوم عشرات المرات في الصفحات نفسها:
العلماء – العلوم الإنسانية (عدة مرات) – التراكم العلمي – علوم الروح – المفهوم العلمي – علم الأدب (عدة مرات) – العلوم البحتة – علم النص (عدة مرات) – الفكر العلمي – العلم (عدة مرات) – علوم الطب والطبيعة – العلوم (عدة مرات) – علوم اللغة (عدة مرات) – المعرفة العلمية (عدة مرات) – الإطار العلمي – التحليل العلمي – التطوُّر العلمي – الخطاب العلمي – الخطابات العلمية – المعارف العلمية (عدة مرات) – العلوم الطبيعية – نظريات العلوم – العقلية العلمية – الفكر العلمي – فلسفة العلوم – علوم الاتصال (عدة مرات) – منطق استدلالي علمي – فلسفة العلوم الحديثة – العلوم (عدة مرات) – المنظومة العلمية – العلوم المختلفة – المفهوم العلمي. ولا شك أن نسبة العلمي هنا لا يمكن أن تشير إلى جميع أنواع العلوم المذكورة؛ فلا يمكن أن تشير مثلًا إلى ما يسمِّيه الكاتب بعلوم الروح أو العلوم البحتة (ويُقصَد بها العلوم النظرية التجريدية كالرياضيات mathematics/pure sciences)، ولكنه يقصد بها الإشارة إلى العلوم التطبيقية؛ ومن ثم الغموض في استخدام النسبة.
والملاحَظ — كحاشية عابرة — أن الإسراف في استخدام هذه الكلمات في المباحث النقدية الجديدة له دلالته البنائية (أو البنيوية)؛ إذ إنه يتضمَّن الإيحاء بالنفيض، ومعنى هذا (إذا طبَّقنا النموذج الثنائي المألوف binary model) أن القارئ الذي لا يتفق مع ما يقوله النص «جاهل» أو هو مناقض للمعرفة والعلم، وإذا اختلف مع دعوى الكاتب فهو «غير علمي» ومآله الضياع والعياذ بالله، خصوصًا عندما يشير النص إلى مغبة الخضوع «لتاريخ متجمِّد متكلِّس»، ويشجِّع القارئ على قَبول ما يقال باعتباره دليلًا على «التطوُّر والحيوية والتجدُّد المبدع» ص٨، فالإيحاء بذلك موجود في النص الدفين subtext في مثل هذا اللون من الكتابة (الخطاب)! إلى جانب الإيحاء الأهم وهو أن الكاتب يطرق الآن موضوعًا جديدًا كل الجِدَة، ويستلزم استنفار جميع طاقات القارئ، والموضوع الجديد يتطلَّب لغةً جديدة.
٢٣  انظر C. S. Lewis: Preface to Paradise Lost. London, 1960. p. 12.
وترجمة الملحمة الجزء الأول، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٨٢م، ص٤٨.
٢٤  انظر Ivan Soll: Hegel; An Introduction. London, 1986.
٢٥  Biographia Literaria. 13 . يعرِّف كولريدج قوة التشكيل بأنها قوة التجميع — في أول الفصل العاشر — ويقول إنه نحتها بنفسه.
٢٦  المقدمة، طبعة بيروت، ١٩٨٥م.
٢٧  كارم السيد غنيم، المرجع السابق، في سياق الاستشهاد بقول الدكتور أحمد فرحات، ص٤١.
٢٨  السعيد بدوي: مستويات اللغة العربية في مصر، القاهرة، دار المعارف، ١٩٧٣م.
٢٩  وهو Peter Newmark في كتابه: Approaches to Translation. Oxford Pergamon Press, 1981.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤