الفصل الثاني

البدايات

المنهج

تندرج ترجمة المصطلحات الأدبية من حيث المنهجُ method في إطار الترجمة العلمية؛ أي الترجمة التي ترمي إلى إيصال المعنى وحسب، بدقة ووضوح، مهما تكن الألفاظ المستعملة. وهي لذلك تختلف عن الترجمة الأدبية التي قد تتطلَّب من المترجم براعةً خاصة في الصياغة، وإلمامًا بالتراث الأدبي الذي ينتمي إليه؛ إذ قد يكون مطالَبًا بتقديم المقابل الفني للنص الذي يترجمه، نثرًا كان أم شعرًا، وسردًا كان أم حوارًا، وفصيحًا كان أم عاميًّا. وقد فرَّق أحد كبار أصحاب النظريات المُحدَثين بين المذهبَين على أساس التفرقة بين الترجمة الدلالية semantic والتوصيلية communicative، وإن كان الجمع بينهما ممكنًا في الأعمال الحديثة، كما أثبتت ذلك جانيت عطية في ترجمتها الرائعة لمسرحية أحمد شوقي «مجنون ليلى»، وكما أوضحت ذلك في مقدمتها لتلك الترجمة.١
وتنتمي ترجمة المصطلحات من حيث المبحث العلمي discipline إلى الأدب المقارن؛ إذ إنها تتطلَّب المضاهاة بين الظواهر الأدبية في اللغة المنقول منها واللغة المنقول إليها، والتفريق بين الثَّوابت constants والمتغيِّرات variables في الأعمال الأدبية، وبين المبادئ العالمية universals التي تتسم بها الظواهر اللغوية في جميع لغات العالم وبين الخصائص اللغوية التي تتفرَّد بها لغة (أو مجموعة من اللغات)، والتي قد ترجع إلى عوامل تاريخية أو ثقافية بصفة عامة.
والمضاهاة بين الآداب من مباحث الأدب المقارن شأنها في ذلك شأن المضاهاة بين اللغات التي تُكتب بها هذه الآداب؛٢ ولذلك فقد اتجه عددٌ من الباحثين منذ أوائل التسعينيات إلى اعتبار الترجمة بنوعَيها، اللذَين سبق تعريفهما، من مباحث الأدب المقارن، وصدرت سلسلة من الكتب في هذا الباب٣ أدَّت إلى توسيع نطاق مفهوم الترجمة القديم، واعتباره نشاطًا إنسانيًّا يتصل بالفلسفة من حيث ارتباطه الشديد بالفكر thought أو الأيديولوجيا ideology، ومن حيث إنه بمثابة نقل للثقافات cultural transfer، وهذا يختلف عن توارث الثقافة transmission of culture بين الأجيال، الذي تحدَّث عنه ت. س. إليوت، في أنه يتضمَّن التحوير والتعديل وفقًا للمعايير norms السائدة في مكان معين وزمان معين، كما يتصل من ثم بعلوم الاجتماع والتاريخ وبالفنون السمعية والبصرية.
وقد تأخَّرت ترجمة المصطلحات الأدبية كثيرًا عن ترجمة المصطلحات العلمية والفنية وألفاظ الحضارة، إمَّا لأن رُواد نقل الحضارة والعلوم الأوربية من العرب لم يكترثوا كثيرًا للآداب الأوربية، اعتزازًا بآدابهم وظنًّا بأنهم ليسوا في حاجة إلى آداب لن تكون مساويةً لآدابهم، وإمَّا لأنهم لم ينفقوا من الوقت والجهد ما يتطلَّبه هذا النَّقل، ولا نقول ما يتطلَّبه الاطلاع على تلك الآداب. وقد استمرَّ هذا الاتجاه منذ أيام رفاعة الطهطاوي الذي دأَب على العودة في «تخليص الإبريز في تلخيص باريز» إلى الأدب العربي كأنما ليؤكِّد هُويته العربية في خِضم الفرنجة الزاخر٤ حتى بُعيد الحرب العالمية الثانية عندما قدَّم لويس عوض شعر ت. س. إليوت ونقده لأول مرة إلى قُراء العربية، وكان ذلك عام ١٩٤٦م؛ أي بعد نشر قصيدة «الأرض الخراب» The Waste Land وكتاب «الغابة المقدسة» The Sacred Wood بسنوات عديدة.٥
وسرعان ما أدرك جمهور الأدباء والمتأدِّبين أن الحركة الرومانسية الإنجليزية التي عاشوا في كَنَفها منذ عصر «الإحياء» أو «البعث» (مرورًا بمدرسة الديوان ومدرسة أبولُّلو) لم تعد معاصرة، وأن ثمة ما يسمَّى بالشعر الحديث، والنقد الجديد، وسَرَت في العالم العربي تيارات الحداثة الأولى التي أثمرت ما يسمَّى «بالنَّظم المرسل» ترجمةً للتعبير الإنجليزي blank verse. وأقدم نموذج عثرت عليه موجود في ترجمة علي أحمد باكثير لمسرحية «روميو وجوليت» لوليم شيكسبير، في المقدمة ص٣ الصادرة عام ١٩٣٥م.٦
وتعبير «النظم المرسل» تعبير غير دقيق؛ فمعنى المصطلح الإنجليزي هو «النظم الخالي» (من القافية)، والذي يتكوَّن البيت فيه من خمس تفعيلات أو عشرة مقاطع من بحر الأيامب iambic، ولكن سرعان ما قبله الشعراء الذين كانوا يُدركون أن الشعر المنظوم المقفَّى العمودي لم يعد يكفي، وأن أشكالًا أخرى من الشعر ممكنة، بل وقادرة على إحداث تأثير من لون آخر، ومن ثم قَبِل البعض هذا التعبير ترجمةً للتعبير الفرنسي الذي دخل اللغة الإنجليزية وهو vers libre (أي الشعر الحر)، وارتضاه البعض وصفًا لِمَا كانوا يكتبونه، وعلى رأسهم بدر شاكر السياب ونازك الملائكة وعبد الوهاب البياتي وصلاح عبد الصبور وأحمد عبد المعطي حجازي، وإن كان النقاد قد مالوا بعد ذلك إلى تعديل تعبير «النظم المرسل» إلى «الشعر المرسل» ثم إلى «شعر التفعيلة»؛ فهو وصف أدق، وكان أن حصروا النظم فيما أسمته نازك الملائكة ﺑ «البحور الصافية»؛ أي التي تعتمد على تكرار تفعيلة واحدة في البيت (وهي الرَّجَز والكامل والهَزَج والرَّمَل والمتقارِب والمتدارَك الذي تحوَّل إلى الخبَب).

الإبداع الأدبي والفكر النقدي

لم تدخل مصطلحات الشعر الأوربي إلى النقد العربي إلا بعد رسوخ الشعر الجديد؛ بحيث يمكن القول هنا بأن الإبداع الأدبي سبق الفكر النقدي، وهو وضع طبيعي؛ إذ بدأ محمود أمين العالِم يتحدَّث عن الوحدة العضوية organic unity في القصيدة نقلًا عن مدرسة النقد الجديد The New Criticism في أمريكا، وكان ما يقوله الجيل الجديد من النقاد عن الأدب عمومًا يشير إلى التأثُّر بالمفهومات الغربية التي أتت معها بالمصطلحات الجديدة.

وكانت فترة منتصف الخمسينيات هي فترة الانفتاح الحقيقية على المصطلحات الأدبية الغربية، فتصدَّى رشاد رشدي وفتحي غانم في مجلة «آخر ساعة» للهجوم على القصة القصيرة التي كان يكتبها الجيل الأول مثل محمود تيمور وخلفائه (محمد عبد الحليم عبد الله، وأمين يوسف غراب، ويوسف السباعي، وبنت الشاطئ، وعبد الحميد جودة السَّحَّار، وغيرهم)، وتركَّز الهجوم على الشكل.

وهنا دخلت بعض المصطلحات الجديدة إلى جانب الوحدة العضوية والبناء العضوي organic structure الذي كان يقابل أو يتناقض مع البناء الآلي أو الملفَّق mechanical structure، وكان بعضها منقولًا من كتاب «أركان الرواية» Aspects of the Novel من تأليف إ. م. فورستر E.M. Forster والذي ترجمه إلى العربية كمال عياد بهذا العنوان مثل الشخصية المتطوِّرة round character والشخصية المسطَّحة (غير المتطوِّرة مع الأحداث أو التي لا تصنع الأحداث) flat character، والحبكة أو العقدة plot إلى جانب مصطلحات القصة القصيرة التي شاعت آنذاك مثل لحظة التنوير moment of illumination أو denouément، والسرد narration، وما إلى ذلك.
وقبل أن نُناقش تأثير هذه المصطلحات الجديدة، يجدر بنا أن نرصد تطوُّرًا إبداعيًّا صاحب هذه الفورة الفريدة في تاريخ الأدب العربي الحديث، ألَا وهو نشأة المسرح المصري المؤلَّف بالعامية، وظهور عبقرية فريدة في الرواية العربية هي عبقرية نجيب محفوظ. فهنا أيضًا وجد النقاد أنفسهم مضطرين إلى استعمال المصطلحات الأوربية التي أتى بها فن الرواية الحديثة، وهو فن أوربي في المقام الأول، مهما تكن جذوره العربية، فأصبح النقاد يتحدَّثون عن الواقعية realism والطبيعية naturalism (وهي صورة مبالغ فيها من الصور الواقعية يركِّز فيها الكاتب على التفاصيل الكئيبة للحياة اليومية)، والانطباعية أو التأثيرية أو التأثُّرية impressionism، وهي من مدارس الحداثة في الفنون التشكيلية التي تهتم، على عكس الواقعية، بطمس التفاصيل والاهتمام باللون ومساحاته (ويمثِّل ذلك في الأدب تصوير الحالات النفسية الممتدة sustained moods دون الغوص في التحليل)؛ والتعبيرية expressionism، وهي من مدارس الحداثة التشكيلية كذلك التي أُسيء فهمها بسبب الاشتقاق العربي؛ فهي تركِّز على الجانب المظلم من الحياة، وعلى صورها القبيحة المنفِّرة، وترتبط باتجاه أفراد بعينهم من ممارسيها إلى صب هذه الرؤى في قوالب روائية أصبحت عَلَمًا عليهم؛ مثل هيرمان هسه Hesse الكاتب الألماني مؤلِّف «ذئب الأحراش» Steppenwolf، وفيكند Widekind الكاتب المسرحي الألماني مؤلف «يقظة الربيع» Spring Awakening، وتوماس مان Man (الألماني أيضًا) مؤلف الموت في البندقية Death in Venice و«يوسف وإخوته» (في عدة مجلدات) Joseph and His Brothers. ولم يفت النقاد أن يتحدَّثوا عن السيريالية Surrealism والتكعيبية cubism والدَّادية Dadaism، وهي جميعًا من مدارس الحداثة التشكيلية التي غزت الأدب وأثَّرت فيه.
وكان من نتيجة ما أسميته بالفورة الإبداعية أن وجد النقاد مادةً يكتبون عنها ويطبِّقون عليها ما يفهمونه من هذه المصطلحات الجديدة. فمثلما أصبح نقاد الشعر يكتبون عن «وحدة» القصيدة أصبحوا يتحدَّثون عن التطوُّر development، وعن الرمزية symbolism دون الإحالة إلى الآداب الغربية. والحق أن التفاعل بين النقاد والمبدعين كان وثيقًا ومتواصلًا في أواخر هذه الفترة — فلنقل حتى أوائل الستينيات — فكان الكُتَّاب يُصغون باهتمام وشغف إلى ما يقوله النقاد، وأزعم أن عبقرية يوسف إدريس وصلاح جاهين مثلًا، استنادًا إلى معرفتي الوثيقة بهما، لم تكن لتصل إلى الذُّرى التي بلغتها لولا هذا المناخ النقدي الذي ساد تطارُح هذه المصطلحات الجديدة، والخلاف الذي أثارته في الكتب بل على صفحات الصحف اليومية. وكان إصدار رشاد رشدي كتابه «فن القصة القصيرة» (القاهرة، مكتبة الأنجلو، ١٩٦١م) بمثابة ترسيخ لمصطلحات القصة القصيرة، بل والرواية، وكان يقدِّم فيه، إلى جانب المادة التي استقاها من كتاب ﻫ. إ. بيتس H. E. Bates الذي يحمل نفس العنوان، بعض المصطلحات النقدية التي استقاها النقاد المحدثين الإنجليز والأمريكيين، وخصوصًا جون كرو رانسوم John Crowe Ransom وكلينث بروكس Cleanth Brooks، وأهمها: البناء أو التركيب structure والنسيج texture والنَّغمة tone والمفارقة paradox والتجاور juxtaposition والتيمة والتنويع عليها theme and variation، وهو مصطلح موسيقي محض معناه اللحن الأساسي وتكراره مع بعض التحويرات، مثلما يحدث في التقاسيم العربية (انظر المعجم).

مصطلحات القصة القصيرة

ولنتأمَّل بعض هذه المصطلحات وما أدَّت إليه من نتائج كانت في بعض الأحيان غريبة، بل غير متوقَّعة. ولنبدأ بما كان يقصده رشاد رشدي بالبناء أو التركيب structure:
لم يكن رشدي يعني، مثلما لم يكن بيتس يعني (وبيتس قصَّاص موهوب أُكن له حبًّا جمًّا) أكثر ممَّا كان يعنيه أرسطو بالبداية والوسط والنهاية beginning, middle, and end في المسرحية ومن ثم في كل قصة، تفريقًا للقصة عن الحكاية tale، وبأن الانتقال من مرحلة إلى مرحلة يتبع قانون العِلة والمعلول cause and effect، ومن ثم فهو حتمي أو محتوم فنيًّا inevitable، وكان ذلك بطبيعة الحال في سياق البناء المسرحي أو الحبكة المسرحية؛ إذ كان بيتس يعني أن كل قصة قصيرة لا بد أن تبدأ بموقف situation يتضمَّن صراعًا ما conflict بين بعض القوى، وعند تشابك القوى يحدث التعقيد complication، الذي لا بد أن ينفرج to be resolved (والانفراج هو resolution)، وفيه تكون النهاية أو الحل (نفس كلمة الانفراج) الذي يهب الحَدَث action معناه؛ أي يلقي بالضَّوء عليه فيكون التَّنوير illumination بمعنى وضوح الرؤية، لا بالمعنى الآخر وهو enlightenment، وهو الحركة الأوربية المعروفة.
هذا التصوُّر البسيط للتركيب مأخوذ من المسرح، وهو على بساطته مفيد لأنه يدعو إلى أن يكون للقصة تماسكها الداخلي internal coherence، بمعنى عدم الزج بقوًى جديدة على الصراع بعد حسمه resolution، أو الإتيان بمفاجآت surprises ليست وليدة الصراع نفسه؛ لأن ذلك من شأنه تشتيت مشاعر القارئ التي انغمست مع أبطال الصراع الأصليين.
والملاحظ أن بيتس كان يصف ما يرى أنه سبب نجاح الكُتاب الأوربيين الذين تركوا بصماتهم على هذا اللون الأدبي الحديث؛ مثل تشيخوف Chekhov، وموباسان Maupassant، وإن كان لم يغفل تعريف إدغار آلان بو Poe الكاتب الأمريكي للقصة القصيرة وللشعر، بل إنه استفاد منه وأكَّده.
والتماسك الداخلي يعني أيضًا ما يسمَّى بالتجانس homogeneity؛ أي أن تكون لغة القصة وأحداثها incidents وشخوصها characters متجانسة؛ «أي من جنس واحد» أو متوافقة متناغِمة harmonious، بمعنى ألَّا تتحدَّث الشخصية إلا لغتها، وألَّا يتدخَّل الكاتب بلغته ليتحدَّث باسم الشخصية أو ليصف منظرًا لم ترَه الشخصية؛ أي لتصوير شيء من غير وجهة نظر point of view الشخصية؛ فالمهم، حسبما يقول إدغار ألان بو، ألَّا يزيد عدد الشخصيات الرئيسية (الأبطال) protagonist, main character, hero, heroine على واحد؛ وأن تركِّز القصة على لحظة واحدة في حياته تصب فيها الأحداث وينبع منها المعنى أو الدلالة أو المغزى significance.

المنشأ الكلاسيكي والنقد الجديد

قلت إن هذا التصوُّر مأخوذ من المسرح، ومن آراء أرسطو بالتحديد، وأزيد في ذلك فأقول إنه مأخوذ من مبدأ أو قاعدة وحدة الحدث unity of action؛ أي أن يقتصر ما يحدث في المسرحية على فعل واحد كبير وله مغزًى، وهذا هو جوهر ما ثار عليه كُتَّاب المسرح في عصر النهضة، كما تدل على ذلك الدراسة التي وضعها جون درايدن John Dryden عن الشعر المسرحي،٧ وتحدَّث فيها نقلًا عن بيير كورني Pierre Corneille، عن الوحدات الثلاث أو القواعد الثلاث التي وضعها أرسطو (وهو لم يضع سوى اثنتَين إحداهما وحدة الحدث، والأخرى وحدة الزمن)، فالواضح أن المصطلحات التي دخلت إلى العربية في تلك الفترة وأثَّرت تأثيرًا كبيرًا في تفكيرنا النقدي كانت كلاسيكية المنشأ وكانت فنيةً محضة، وتتسم بقدر كبير من التبسيط أيضًا والسذاجة، إذا أخذنا في اعتبارنا تطوُّر القصة العالمية في العقود الأخيرة من القرن العشرين.
وهذه المصطلحات لم تكن كلها دقيقة؛ فالمصطلح التالي وهو النسيج texture لا يعني النسيج بمعنى ما ينتجه الناسج على نُوله؛ أي القماش fabric، وهو مصطلح إنجليزي ثابت، ولكنه يعني الملمس الخارجي للعمل الأدبي literary work؛ أي التأثير المباشر للغة باعتبارها الخيوط التي نسج منها. فقد يكون خشن الملمس (بمعنى كثرة المعاظَلَة فيه وسوء استخدام الألفاظ أو الخروج على أبنية اللغة الصحيحة)؛ وقد يكون غاصًّا بالعُقَد والفجوات نتيجة افتقار الكاتب إلى الخبرة بفن الكتابة، وقد يكون ناعم الملمس سويًّا لا شِيَة فيه، بمعنى اتساق الصور الفنية images مع فكر الشخصية أو هدف الكاتب، والتناسق بين الأفكار وطرائق التعبير عنها، وهلم جرًّا.
وقد اقترح شكري عياد آنذاك تعبير النسج بدلًا من النسيج؛ أي عملية توليف الخيوط لتُخرج نسيجًا محكمًا، وهذه هي الترجمة التي أوردها مجدي وهبة في معجمه فيما بعد، مردفًا إياها بتعبير «السَّبك»، المستقى من أبي هلال العسكري؛ ولكن أيًّا من التعبيرَين لم يُكتب له البقاء. وينطبق ذلك أيضًا على تعبير النغمة tone، ومجدي وهبة يقول إنه يعني النغمة أو لون النغمة، ثم يترجمه بالجو العام أو روح الأسلوب، ولكن هذا تفسير أعم وأشمل من المقصود.
وقد أثار المصطلح جدلًا في الآونة الأخيرة بسبب الخلط بينه وبين النبرة؛ إذ كثر استخدام تعبير «علو النبرة» strident tones، بمعنى لجوء الشاعر إلى الكلمات المباشرة أو المشحونة بالمشاعر emotionally charged للتعبير عن فكرة ما، في مقابل «خفوت النبرة» low-toned أو subtlety، بمعنى استعاضة الشاعر بالتصوير عن التقرير، وبالمواقف الموحية عن الكلمات المعبِّرة بصورة مباشرة. ولكن النَّبر في العربية يعني استعمال الهمزة بدلًا من الياء في بعض اللهجات العربية (نبيء بدلًا من نبي)،٨ ويعني في الشعر الحديث الضغط على بعض المقاطع دون غيرها stress أو accent، ممَّا أصبح يؤثِّر في أبنية العروض، كما بيَّن سيد البحراوي في كتابه «العروض»،٩ «وكما حاول ذلك كمال أبو ديب من قبله»؛١٠ ولذلك فلا بد من تحديد معنى النغمة هنا:
إنها تعني موقف الكاتب من مادته؛ هل هو جاد ويُريد من القارئ أن يكون جادًّا في تقبُّل ما يقوله؟ هل هو هازل ولا يريد من القارئ أن يتقبَّل ما يقوله؟ هل هو ساخر ويقصد بكلامه معنًى آخر خبيئًا لا يُستدَل عليه من ظاهر اللفظ؟ هل هو يتعمَّد الهزل وصولًا إلى الجد؟ فالنغمة بإيجاز هي الموقف، وهذا مبحث طويل وواسع؛ إذ أصبح يتضمَّن «مقصد» الكاتب أو الشاعر، وقد وُضع أخيرًا تصنيف لهذه «النغمات» يتجاوز عشرين فئة. وتوضيحًا لذلك يمكن الرجوع إلى تفسيرات ابن جني لمقاصد المتنبي في بعض مدائحه لكافور، وإضافات أبي العلاء لمناطق «التوتُّر» بالمعنى الفلسفي diaphora بين المدح والهجاء لا مجرَّد انقلاب المدح ذمًّا، في قصيدته التي مطلعها «عدوك مذموم بكل لسان» (مُعجِز أحمد، ج٤، ص١٢٦) خصوصًا البيت الثاني «والله سر في عُلاك وإنما، كلام العدى ضرب من الهَذَيان». وقد فتحت دراسات النغمة أبوابًا جديدة، أمام دُعاة التفسيرية (الهرمانيوطيقا) والتفكيكية، ولكن لهذا حديثًا آخر.
أمَّا أغرب مصطلح حقًّا فهو ما يسمَّى بالبناء العضوي organic structure، وما جلبه من أوهام نتيجة هذه الاستعارة الطائشة التي أشاعها كلينث بروكس؛ فالتعبير يقصد في الواقع أن بناء العمل الفني الجيد يشبه الجسم الحي، بحيث إذا قطعت منه جزءًا فكأنما قطعت رِجلًا أو يدًا، وإذا اشتكى منه عضو تداعى له سائر الجسد بالسهر والحمَّى! وهذا التصوير يفترض أولًا أن هناك ما يُمكن أن يسمَّى بالعمل الفني الكامل الذي بلغ من إحكام بنائه وتكامله؛ أي اعتماد بعضه على بعض، أنك لا تستطيع أن تمسه دون أن تسيء إليه.
وهذا، كما هو واضح، تصوُّر مبالغ فيه، فلا يوجد مثل هذا العمل لا في شعر كبار شعرائنا أو شعراء العالم، وقديمًا كان الأخطل يكتب تسعين بيتًا ثم يختار ثلاثين منها ليُطيِّرها (أي ليذيعها على الملأ).١١ ولم تقدَّم حتى هذه اللحظة مسرحية هاملت لشيكسبير في صورتها الكاملة، وما ضرَّها إن حذفت منها ساعة أو بعض ساعة.١٢ وعندما كتب ت. س إليوت قصيدته «الأرض الخراب» The Waste Land أعطاها لعزرا باوند Ezra Pound حتى يراجعها فحذف منها الكثير وعدَّل فيها الكثير،١٣ ولم يشتكِ إليوت بل شكره وأهداه القصيدة داعيًا إياه بالصانع الأعظم! وكثيرًا ما كان حافظ إبراهيم يعترض على من يقترح تغيير ألفاظ في شعره، فإذا ما خلا إلى نفسه أجرى التعديلات قبل نشر القصيدة! وحتى في قصائد الشعر الحديث التي تزعم العضوية ما أكثر ما نكتفي ببيتَين أو ثلاثة أو مقطعَين. ومن منا لم يسعد بقراءة جزء صغير من ملحمة ما، أو من قصة طويلة، أو بجزء من «رباعية الإسكندرية» للورانس داريل Durrel، أو «نشدان الزمن الضائع» لمارسيل بروست Marcel Proust؟ إن المعنى العام للعمل لا بد أن يتغيَّر ولا شك، فالجزء غير الكل، ولكن تصوُّر قطع الأنف أو الأذن تصوُّر مضحك، وقد كان يكفي مصطلح الوحدة والتخلي عن استعارة العضوية!
وهذا التصوُّر يفترض ثانيًا أن العمل الفني مطلق وخارج حدود الزمان والمكان، ويحمِّل العبقرية الفردية عبئًا لا تقدر على حمله؛ فالعمل الفني نتاج قوى العصر، مثلما هو نتاج الذهن الخلَّاق، وهذه هي الفكرة التي أتى بها إلى النقد الحديث الشاعر والناقد الإنجليزي ماثيو أرنولد Matthew Arnold في معرض حديثه عن شلي Shelley وافتقاره إلى عمق الفكر وصلابته، مقارنًا إياه بمعاصر له امتدَّ به العمر فنهل من نبع المعارف واستقى الخبرة والحنكة، وهو غيته Goethe شاعر الألمانية الأكبر. فأرنولد يقول إن العصر يشارك في الإبداع ويمثِّل قوة اللحظة التاريخية power of the moment التي تشترك مع قوة ذهن المبدع power of man في إبداع العمل، على حين يعرِّف إليوت قوة العصر بأنها تمثِّل ما انتهى إلى ذهن الشاعر من تراث الماضي وتقاليده الأدبية tradition، وإن كانت الفكرة تُنسَب اليوم للفرنسي فوكوه Foucault الذي بحثها بحثًا وافيًا؛ فالكاتب على أي حال ليس قوةً مطلقة. وكذلك لا يمكن أن يكون عمله الفني قوةً مطلقة كالكائن الحي السوي ذي البناء العضوي!
وقد شاع ما ذكره أبرامز Abrams في كتابه «المرأة والمصباح» The Mirror and the Lamp من أن صاحب الفضل في هذه الاستعارة هو كولريدج؛ أي إضفاء صفة (العضوية) على العمل الفني، وعمومًا يُطلِق عليه أبرامز مذهب العضوية Organicism، حتى كادت هذه النسبة أن تُصبح من الحقائق الثابتة (كما يشهد على ذلك معجم فاولر المشار إليه حيث تذكر آن كلايسنار Ann Clysenaar، التي كتبت تعريف العضوية، أن كولريدج هو صاحبها، وكذلك يفعل مارتن جراي Martin Gray في معجم المصطلحات الأدبية A Dictionary of Literary Terms (١٩٩٢م) على عكس جيريمي هوثورن (١٩٩٤م) الذي ينسبها إلى النقد الجديد ويقصرها عليه). ولمَّا كنت أذكر أن كولريدج، الذي درست كتاباته شعرًا ونقدًا سنوات طويلةً في إنجلترا، لم يُشِر إلى العضوية بهذا المصطلح وهذا المعنى، بل اقتصر على الإشارة إلى الحياة الداخلية للأدب التي تهبه الوحدة، لم أجد بُدًّا من فحص ما كتبه مستعينًا بالمعجم المفهرس له concordance، فلم أعثر على حالة واحدة استخدم فيها تعبير العضوية المشار إليه.
وعندما عدت إلى معجم أكسفورد الكبير (OED) وجدت أن أقدم استعمال للكلمة (وأقدم شاهد لها) يرجع إلى عام ١٨٥٣م؛ أي بعد وفاة كولريدج (١٨٣٤م) بتسع عشرة سنةً تقريبًا، وكان معناها إذ ذاك — كما يورده المعجم — هو: «المذهب doctrine الذي يقول بأن البناء العضوي ليس سوى نتيجة الخصيصة المتأصِّلة في المادة matter التي تمكِّنها من التكيُّف مع الظروف، ١٨٨٣م.» والمعنى الثاني يختص بعلم الأمراض pathology، والذي ينصرف معناه إلى تحديد مكان localization المرض بإحالته إلى إصابة مادية material في أحد الأعضاء. ولا غرابة في هذا المعنى المادي الكامن في الكلمة؛ فالأصل الذي اشتُقَّ منه فعل organize والصفة organic والمصدر الصناعي organicism هو كلمة organ والكلمة الإنجليزية القديمة المأخوذة من اللاتينية organum عن اليونانية organon بمعنى أداة أو وسيلة أو آلة tool, implement, machine، وكانت تنصرف حتى بعد عصر النهضة إلى آلة الأرغن؛ الآلة الموسيقية المعروفة، وأحيانًا ما كانت تشير إلى الآلات الموسيقية الأخرى. ويبدو أن صفة النَّفخ في هذه الآلة (فهي من آلات النَّفخ wind instruments) قد يسَّرت استعارة الكلمة لجهاز التنفُّس البشري و«أعضاء» التنفُّس، وخصوصًا جهاز إصدار الأصوات مثل الحنجرة larynx، ومن ثم إلى أعضاء الجسم الأخرى؛ إذ استخدمت في الإشارة إلى جزء من المخ ظنَّ الباحثون أنه يختص بملكات معيَّنة لأول مرة عام ١٨٠٦م، ثم أصبحت الكلمة تُطلق على أبنية معيَّنة في الجسم الحي عام ١٨٧٧م.
ومن المعنى اليوناني (أي الأداة أو الوسيلة) دخلت اللغة الإنجليزية عام ١٥٩٠م كلمة organon التي عُرِّبت بلفظها ومعناها للدلالة على المنطق الذي هو أداة المعرفة، والإشارة إلى كتب أرسطو في المنطق (ستة أعمال) منذ عام ١٦٤٣م، ويقول قاموس أكسفورد إن استخدامها ومشتقاتها للإشارة إلى أعضاء الجسم كان يستند إلى اعتبارها أدوات للروح أو العقل. أمَّا إشارتها إلى المنطق فقد تحوَّلت عند كانط إلى الدلالة على نسق من المبادئ اللازمة لاكتساب أو لإثبات صحة المعرفة؛ أي إن معنى الأداة أو الوسيلة لم يفارق الكلمة أبدًا، بل إن تعبير organ لا يزال يشير إلى الصحيفة الحزبية مثلًا باعتبارها لسان حال الحزب؛ أي وسيلة تعبيره عن موقفه، وإلى أي هيئة منبثقة عن هيئة أكبر إذا كانت أداتها التنفيذية، وهلم جرًّا.
أمَّا الصفة organic فقد ظلَّت تُستخدم بمعنى النسبة إلى الآلة instrument منذ ابتداعها لأول مرة في القرن السابع عشر حتى القرن التاسع عشر؛ إذ أصبح لها معنى الآلية في عام ١٨٨٥م. ويقول المعجم تعريفًا لها Done by means of instruments, mechanical، وإن كان معناها البيولوجي قد استمرَّ أيضًا في علوم الطب والكيمياء بصفة خاصة في تلك الفترة، ثم استعيرت في عدة مباحث من العلوم الإنسانية منذ أواسط القرن التاسع عشر، فدخلت فقه اللغة philology لتعني الدلالة الأساسية للكلمة (ما نسمِّيه في العربية المعنى الحقيقي في مقابل المجازي) عام ١٨٤٥م، ثم لتعني أي علاقة بين الأجزاء والمجموع عام ١٨٥٠م، ولا نزال نستخدم الفعل الذي يُفيد هذه الدلالة حتى الآن وهو organize والاسم منه organization. ويُطلَق تعبير organic law (القانون الأساسي) على القانون المنظَّم للقوانين المتخصِّصة، استنادًا إلى هذا المعنى.
أمَّا الكلمة الحديثة التي ينصرف معناها تمامًا إلى الكائن الحي وهو organism فكانت دلالتها عند اشتقاقها أول مرة في القرن السابع عشر تنصرف إلى البناء من أجزاء، أو التنظيم، ومع تطوُّر الكلمة الأم parent word، خصوصًا مع نمو علوم الأحياء في النصف الأخير من القرن التاسع عشر اكتسبت الكلمة ذلك المعنى — وكان أول استعمال لها يورده المعجم في عام ١٨٤٢م، وإن كانت حتى ذلك الحين لا تزال تحتفظ بظلال المعاني المادية القديمة — فالمعجم يُعرِّف استعمالها آنذاك بأنه the material structure of an individual animal or plant؛ أي البناء المادي لحيوان أو نبات مفرد، ثم يُردفه بالمعنى الحديث (اعتبارًا من عام ١٩٠٠م) وهو:
an organized body, consisting of mutually connected and dependent parts constituted to share a common life.

جسد (كيان) مُنظَّم، يتكوَّن من أجزاء يرتبط بعضها بالبعض ويعتمد بعضها على بعض، والقصد من هذا التركيب أن تشترك جميعًا في حياة واحدة.

ومفاد ذلك كله أن المعنى الحديث للكلمة هو الذي استعمله النقَّاد في الإشارة إلى فكرة الوحدة والحيوية في الأعمال الأدبية، ولأبدأ للتدليل على ذلك بما ذكره كولريدج، الذي أثَّر في فكر مدرسة الديوان وخصوصًا في الكتابات النقدية للعَقَّاد، عن وحدة العمل الفني وعن حيويته باعتباره انبثاقًا من حيوية الشاعر أو الكاتب، وتجسيدًا لمخيِّلته الحية؛ إذ إن كولريدج كان يُقيم علاقةً وثيقة بين ذهن الكاتب وعمله وهو ما ثار عليه إليوت؛ إذ وصف تلك النظرة بأنها ذاتية، ودعا إلى تصوُّر جديد يقوم على عدم تمثيل شخصية الكاتب في كتابته — وهو ما يسمَّى بمذهب الحياد impersonality؛ أي تحرُّر الشاعر من شخصيته في شعره. ولكن كولريدج كان يُقيم علاقةً وثيقة أيضًا بين الكاتب وبيئته (مثلما فعل أرنولد من بعده، كما سبق ذكره)، بل إن الفقرة الوحيدة التي يوردها أبرامز شاهدًا على أن كولريدج استخدم تعبير العضوية هي سطور في مخطوط كتاب Coleridge’s Shakespearean Criticism (الجزء الأول، ص٢٤٢-٢٤٣) الذي كان موضوع رسالة الدكتوراه لمحمد مصطفى بدوي (وقد نشرَتها مطبعة جامعة أكسفورد OUP)، ويؤكِّد فيها كولريدج انتماء الشاعر إلى العصر والبيئة لا استقلال العمل الفني عن أي منهما؛ إذ يقول كولريدج إن شعراء عصر النهضة في إنجلترا وإيطاليا كانوا:
«يشبهون الأشجار الباسقة الجميلة، وكان لكل شجرة نبض حياتها الخاصة؛ إذ تستوعب في ذاتها وتُعيد تنظيم المواد الغذائية التي تستقيها من التربة الخاصة التي نبتت فيها تنظيمًا يتفاوت من شاعر إلى شاعر … وألوان hues أعمالهم وصفاتها تشهد على المكان الذي وُلدوا فيه birth-place، وعلى ظروف وأحوال النمو الداخلي والانتشار الخارجي لكل منهم.»
فكأنما يريد أبرامز أن يستند إلى كلمة organizing الواردة في هذا النص لإثبات أن كولريدج كان يتصوَّر العمل الفني في صورة كائن له أعضاء، وهو يصعب قَبوله استنادًا إلى ما كتبه كولريدج نفسه وشُرَّاحه المتخصِّصون (مثل فرومان Norman Fruman في كتابه Coleridge; the Damaged Archangel لندن، ١٩٧٢م، وجورج واطسون في مقدمته لطبعة Everyman من كُتَّاب السيرة الأدبية). والواقع أن هَمَّ كولريدج كان منصرفًا إلى الوحدة؛ أي إلى تضافر العناصر المنوَّعة داخل العمل؛ فهو يستخدم معنى «الكل في واحد» أو many-in-one أحيانًا في تعبيره الخاص وهو multeity in unity أو unity in the many أو unity in multeity، وهي تعبيرات متناثرة passim في ثنايا كتابته النقدية وأحاديثه ورسائله (التي جمعتها كاثلين كوبرن K. Coburn وأعطتها عنوانًا فريدًا، هو التعبير عن روح التساؤل Inquiring Spirit)، وهي تعبيرات تُفصح عن انشغاله بمفهوم الوحدة التي ترجع إلى القوة التشكيلية والتوحيدية للخيال الثانوي، والتي يسمِّيها esemplastic power، وهو التعبير الذي يقول إنه نحته بنفسه.
وربما كان سبب الخلط يرجع إلى إساءة فهم ما كتبه غيته Goethe في العام الذي نُشرت فيه المواويل الغنائية Lyrical Ballads (١٧٩٨م) عن وحدة العمل الفني التي ترجع إلى حياته الخاصة، وهي ما يسمِّيها بالوحدة وإن كان يستخدم العبارة الألمانية Geistig organisches، التي ربما كانت السبب في تفضيل المحدثين إياها، خصوصًا الأمريكيين من ذوي الأصول الألمانية أو الأوربية (مثل أبرامز نفسه)، وهذه هي عبارة غيته:
«إن هوةً هائلة تفصل بين الطبيعة والفن، حتى إن العبقرية نفسها لا تستطيع اجتيازها دون مساعدة خارجية … (ولكن الفنان يستطيع ذلك) بالنفاذ إلى أعماق الأشياء وإلى أعماق روحه، وإذا تمكَّن من أن يبث في أعماله دفقةً لا تقتصر على التأثير السطحي الميسِّر، بل تجعل عمله مقصورًا على منافسة الطبيعة في وحدتها الروحية spiritually-organic، وعلى أن تهب عمله مضمونًا وشكلًا يجعلانه يبدو طبيعيًّا، وكذلك أن يبدو فوق الطبيعة في نفس الوقت.»

والواضح أن غيته لا يُشير إلى الأعضاء الجسدية بل إلى الروح الحية، وهو ما جعلني أُترجم التعبير بالوحدة.

ولكن رَفْض تعبير العضوية — بالعربية أو بالإنجليزية — لا ينفي أن النقد الجديد The New Criticism قد استخدمه وأشاعه، بل إن بروكس أرسى أُسس شهرته على هذا التعبير الذي قدَّمه لأول مرة بالمعنى الذي أرفضه في مقال نشره في دورية متخصِّصة عام ١٩٤٨م هي College English (العدد التاسع) عن التورية الساخرة والشعر الذي يتوسَّل بها، وقال فيه:

«إن أحد المكتشفات النقدية لعصرنا … هو أن أجزاء القصيدة تتصل اتصالًا عضويًّا بعضها بالبعض. والعلاقة فيما بينها تشبه العلاقة بين أجزاء النبات الذي ينمو.»

وسبب رفضي، كما هو واضح، هو أن الإصرار على الاستعانة بهذه الاستعارة له عواقبه الوخيمة، فإذا كانت القصيدة تبدأ بالجذر فهل تنتهي بالثمار أو الأزهار؟ وإذا كانت تنتهي بالثمار فهل نعتبر الأبيات فروعًا والألفاظ أوراقًا؟ وإذا اعترض معترض قائلًا إن بروكس يعني العلاقة فحسب، أجبته إن صورة النبات الذي ينمو تؤدِّي بنا إلى صورة النبات الذي يموت، وإن مثل هذه الصورة للعلاقات يصعب تطبيقها منطقيًّا على القصيدة، أيًّا كان شكلها.

كما يرجع الخلط في نظري كذلك إلى نقل استعارة صورة النبات الحي (التي استعملها الرومانسيون في تفسيرهم للطبيعة من باب الرد أو الرفض الكامل للفلسفة الآلية mechanistic للقرن الثامن عشر) إلى العمل الفني، بل إن أحد الفلاسفة الألمان الذين أثَّروا في الأرجح على كولريدج، وكان يسبق الرومانسيين الإنجليز بأعوام قليلة، وهو هيردر Herder، لم يكن يعني أكثر من ذلك حين استخدم صورة النبات في الإشارة إلى الطبيعة، ومن ثم في الإشارة إلى العالم والفكر الإنساني. أمَّا حين انتقل هيردر إلى مجال الفن والأدب فقد أكَّد ما قاله كولريدج من بعده من أن الشكل الفني ينمو من تربة زمنه ومكانه، وهذا هو ما لم يملك أبرامز إلا الاعتراف به في كتابه المشار إليه في صفحة ٢٠٥.
وأخيرًا وتأكيدًا لِمَا قلته من أن معنى organic form عند كولريدج هو «الشكل الحي» لا الشكل «العضوي»، وأن الخطأ هو خطأ الترجمة بسبب الخلط بين ما قاله بروكس وما قاله كولريدج، أورد «جميع العبارات التي ورد فيها هذا التعبير عند كولريدج»، وكلها مستقًى من الألمانية؛ فالفقرة الأولى تلخيص لِمَا يقول شليغل Schlegel في الصفحتَين ١٥٧-١٥٨ من الجزء السادس من أعماله الكاملة، والعبارات الأخيرة فيها مقتبسة من الجزء السادس من كتاب شلنغ Schelling عن المثالية التَّعاليَّة Transcendental Idealism ومحاضرته عن «علاقة الفنون التشكيلية بالطبيعة» التي يتحدَّث فيها عن عملية الإبداع. ويتلو ذلك عبارات من محاضرة ألقاها كولريدج عن شيكسبير في بريستول، وكلها يؤكِّد ما ذهبت إليه في الفقرات السابقة. ها هو ذا أولًا النص بالإنجليزية:
The true ground of the mistake, as has been well remarked by a continental critic, lies in the confounding mechanical regularity with organic form. The form is mechanic when on any given material we impress a pre-determined form, not necessarily arising out of the properties of the material, as when to a mass of wet clay we give whatever shape we wish it to retain when hardened. The organic form, on the other hand, is innate; it shapes as it develops itself from within, and the fullness of its development is one and the same with the perfection of its outward form. Such is the life; such is the form. Nature, the prime genial artist, inexhaustible in diverse powers, is equally inexhaustible in forms. Each exterior is the physiognomy of the being within, its true image reflected and thrown out from the concave mirror. And even such is the appropriate excellence of her chosen poet, of our own Shakespeare, himself a nature humanized, a genial understanding directing self-consciously a power and an implicit wisdom deeper than consciousness.
Coleridge’s Shakespearian Criticism, Vol. I, p. 198
Poetry in its essence (is) a universal spirit, but which in incorporating itself adapts and takes up the surrounding materials, and adapts itself to the surrounding circumstances. Grounds of judgment refer us to … the difference between mechanical (ab extra) and living forms.
Ibid., p. 204

وهذه هي الترجمة الحرفية للفقرتين:

يكمن الأصل الحقيقي للخطأ، وهو ما أجاد التعبير عنه ناقد أوربي، في الخلط بين انتظام الشكل الآلي والشكل الحيوي؛ فآلية الشكل معناها وضع المادة في قالبٍ سبق إعداده؛ أي حين لا ينبع الشكل بالضرورة من خصائص تلك المادة، مثلما نطبع على الصلصال الرطب الصورة التي نريده أن يتخذها عندما يجف ويتصلَّب. أمَّا الشكل الحيوي فهو فطري؛ إذ تتشكَّل المادة أثناء تطوُّرها من الداخل، وباكتمال تطوُّرها يكتمل شكلها الخارجي؛ فحياتها هي شكلها، والطبيعة هي الفنان الودود الأول، لا ينضب مَعين قواها المنوَّعة، ومن ثم لا ينضب مَعين أشكالها. وما ظاهر العمل إلا الصورة المجسَّدة للكائن الداخلي، وهو صورته الحقيقية المنعكسة التي تُشِعها المرآة المقعَّرة. وهذا هو الامتياز الذي يتمتَّع به شاعرها المختار دون غيره، شاعرنا شيكسبير؛ فهو الطبيعة تكتسي ثوبًا بشريًّا، وهو التفهُّم الودود الذي يوجِّه، بوعي ذاتي، مسير قوة وحكمة دفينة أعمق من الوعي نفسه (ص١٩٨).

الشعر في جوهره روح عالمية، ولكنها في تشكُّلها تقوم بتطويع واستيعاب المواد المحيطة بها، مثلما تطوِّع نفسها للظروف المحيطة بها … وأسَّس الحكم تحيُّلنا إلى الفرق بين الأشكال الآلية (الخارجية) والأشكال «الحية» (ص٢٠٤).

وكولريدج هو الذي وضع خطًّا تحت كلمة الحية ليؤكِّدها.

١  انظر: A. Shawqi: Qais and Leila, tr. by J. W. S. Atiyyah, Cairo, GEBO, 1992.
٢  انظر M. Enani: The Comparative Tone. Cairo, GEBO, 1995.
٣  انظر سلسلة الكتب التي تناقش نظرية الترجمة وأهمها:
  • Barnstone, W., The Poetics of Translation. New Haven and London, Yale University Press, 1993.
  • Gentzler, E., Contemporary Translation Theory. London, 1993.
  • Heylen, R., Translation, Poetics and the Stage: Six French Hamlets. London, 1993.
  • Lefevre, A. (ed.) Translation, Rewriting and the Manipulation of Literary Fame. London, 1993.
  • Lefevre, A. (ed.) Translation, History and Culture. London, 1993.
  • Zlateva, P., Translation as Social Action: Russian and Bulgarian Perspectives. London, 1993.
٤  رفاعة الطهطاوي: تخليص الإبريز في تلخيص باريز، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٣م. في الفصل الثاني من الكتاب الأول من المقالة السادسة يفاجئنا رفاعة بالحديث عن الشعر العربي: «ولنذكر هنا خلاصة صغيرة من الأشعار …» ص٣٥١. وانظر أيضًا الصفحات: ٦٨ و٧٠ و٧٢ و٨٦ و٨٧ و٨٨، واستشهاده بشعر أبي نُوَاس في ص١٠٥، والخوارزمي والصاحب بن عباد في ١٤٦-١٤٥، وغير ذلك.
٥  A Critical Introduction to Modern Arabic Poetry, by M. M. Badawi. OUP, 1978.
٦  علي أحمد باكثير: روميو وجولييت، تأليف شيكسبير، مطبعة مصر (الطبعة الأولى ١٩٣٥م)، الطبعة الحالية بدون تاريخ، ويقول باكثير: «والنظم الذي تراه في هذا الكتاب هو مزيج من النظم المرسل المنطلق والنظم الحر؛ فهو مرسل من القافية، وهو منطلق لانسيابه بين السطور … وهو — أعني النظم — حر كذلك لعدم التزام عدد معيَّن من التفعيلات في البيت الواحد الجديد من النظم …» ص٣ وهو يقول: «مضى على ترجمتي هذه عشرة أعوام» ص٤؛ فهل يعني ذلك أن هذه الطبعة تاريخها ١٩٤٥م؟ هذا يصعب التأكُّد منه.
٧  انظر: مجدي وهبة ومحمد عناني: دريدن والشعر المسرحي، ط٣، القاهرة، الهيئة المصرية العامة للكتاب، ١٩٩٤م.
٨  انظر: إبراهيم أنيس: اللهجات العربية، القاهرة، مكتبة الأنجلو المصرية، د. ت.
٩  سيد البحراوي: العروض وإيقاع الشعر العربي، القاهرة، ١٩٩٣م.
١٠  كمال أبو ديب: في البنية الإيقاعية للشعر العربي؛ نحو بديل جذري لعروض الخليل ومقدمة في علم الإيقاع المقارن، بيروت، ١٩٧٤م.
١١  الأغاني، ج٨، ص٢٨٢.
١٢  انظر مقدمة طبعة Arden عام ١٩٩٤م.
١٣  انظر ديوان إليوت.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤