الفصل الخامس

مدرسة براغ

ولننظر الآن إلى أهم ملامح مدرسة براغ التي تدين بنشأتها — كما ذكرنا — إلى الشكليين الروس، خصوصًا «حلقة موسكو اللغوية»؛ إذ أُنشئت على غرارها «حلقة براغ اللغوية» في الفترة من ١٩٢٦م إلى ١٩٤٨م، بل إنها شاركتها بعض أعضائها مثل بيتر بوغاتيريف ورومان جاكوبسون وشاركتها كذلك مفهومها الأساسي للأدب باعتباره فن اللغة، وإن كانت قد استمدَّت كذلك من التراث التشيكي في القرن التاسع عشر النزوع إلى الشكلية.١ وكان أهم ما أتت به هو مفهوم العمل الفني باعتباره مجموعةً من العلاقات الشكلية formal relations، وتأثَّرت في ذلك بمبادئ علم اللغة التي وضعها سوسير، وعلم الظاهريات phenomenology — أو الظاهراتية — الذي وضعه هوسيرل Husserl ومذهب الجشطالت Gestalt في علم النفس. وقد فتح أعضاء «الحلقة» صدورهم لهذه المذاهب ورءَوا فيها بلورةً لنموذج فكري شامل paradigm قادر على تفسير الظواهر والأفكار والوقائع في مجالَي العلوم الإنسانية والعلوم الاجتماعية، ومن ثم أطلقوا عليه اسم structuralism أي «البنيوية»، وهو الاسم الذي اختاره جاكوبسون لها عام ١٩٢٩م.
وفي المرحلة الأولى لنشاط «المدرسة» انصبَّ عملها على إيقاع الشعر verse rhythm، والتقييم الدولي للشعراء حسب «الأنغام» الشعرية poetic sounds برغم اختلاف اللغات، فلم تقتصر دراساتها على تاريخ الشعر التشيكي، كما يذهب البعض (استنادًا إلى ما كتبه جاكوبسون وموكاروفسكي عن تاريخ العَروض prosody)، وإن كانت قد توسَّعت في هذا الاتجاه في المرحلة الثانية ١٩٣٤–١٩٣٨م، بل تخطَّته إلى الحديث عن علاقة الفنون اللغوية بالظواهر الاجتماعية الأخرى؛ أي إن الاهتمام الأول بأصوات الشعر بدأ يتوارى ليحل محله أو ليُكمله اهتمام المدرسة بدلالة الأعمال الأدبية على الواقع خارج اللغة extra-linguistic reality، أمَّا المرحلة الثالثة فقد اتسمت بتأثُّر المدرسة بالعوامل الخارجية، وعلى رأسها التطوُّرات السياسية في الفترة ١٩٣٨–١٩٤٨م؛ إذ أدَّى الغزو الألماني إلى رحيل بعض أعضاء هذه المدرسة (مثل بوغاتيريف، وجاكوبسون، ورينيه ويليك) عن تشيكوسلوفاكيا وفي الخمسينيات (فلنقل بعد ذلك بعشر سنوات) فرضت الحكومة حظرًا على الدراسات البنيوية للفن؛ ممَّا أدَّى آخر الأمر إلى انفراط عقد «الحلقة».

البعد الإنساني

ما يهمنا هنا هو الاتجاه أو التحوُّل في هذه المرحلة النهائية إلى دراسة البُعد الإنساني the human dimension للعملية الفنية the artistic process من وجهة نظر المؤلِّف والمتلقِّي على حد سواء؛ إذ صدرت في هذه الفترة دراسة رائدة للتلقي reception؛ أي مدى تأثير الأعمال الفنية في القُراء أو المستمعين أو المشاهدين، قام بها عالم يجهله الكثيرون، في أعقاب محاولات دائبة لدراسة تاريخ التلقي، ومن ثم إلقاء الضوء على التأثير الإنساني للأعمال الفنية، وهو فيليكس فوديشكا Felix Vodicka.
وبانتقال عدد من أعضاء هذه المدرسة إلى الولايات المتحدة، انتقل تأثيرها إلى العالم الخارجي؛ إذ أسَّس رومان جاكوبسون (أو ساعد في تأسيس) «حلقة نيويورك اللغوية» في الأربعينيات، وكان القوة الدافعة وراء ما يسمَّى بالثورة البنيوية في فرنسا وفي الولايات المتحدة (بطبيعة الحال) في الستينيات. وأهم ما نلاحظه في هذه الحلقة «اللغوية» هو انضمام عالم فرنسي في علم الأنثروبولوجيا، هو كلود ليفي-شتراوس Claude Lévi-Strauss إليها؛ ممَّا دعم تحوُّلها إلى العلوم الإنسانية، بينما عاد بوغاتيريف إلى بلاده بعد نشوب الحرب، وساعد على نشر نفس المبادئ في الاتحاد السوفييتي. ولم تنجح محاولة بعض شباب الباحثين في إحياء «مدرسة براغ» في تشيكوسلوفاكيا بسبب الغزو السوفييتي لها عام ١٩٦٨م.
كانت البنيوية تعني المدرسة براغ تركيبًا جدليًّا dialectical synthesis (أي الجمع بين ضدَّين في سبيل إنشاء قوة موحَّدة) يضم نموذجَين فكريَّين شاملَين، ومعنى النموذج الفكري paradigm هو المذهب الفكري أو الفلسفي القادر على تفسير الظواهر في إطاره وحده. أمَّا النموذج الأول فكان المذهب الرومانسي، وهو مذهب تجلَّى بصفة أساسية في الآداب والفنون وإن لم يقتصر عليها. وكان النموذج الثاني هو الوضعية المنطقية (أو المنطقية الوضعية logical positivism) وهو المذهب الفلسفي الذي يقوم على الحقائق العلمية المستقاة من معطيات الحواس والخبرة الحسية بالواقع، والعلاقات القائمة بينها، ويرفض البحث في أصولها الأولى أو شطحات التأمُّل في بذورها وجذورها. والتضاد بين المذهبَين أو النموذجَين واضح؛ فالرومانسية ترحِّب بشطحات التأمُّل الفلسفية، وتُعلي من شأن الخيال والمشاعر والقدرة على الغوص في أعماق «الحقيقة» truth، أو «الواقع» reality، أو النفس البشرية the human psyche استنادًا إلى الحدس intuition وحده؛ بل إنها يمكن أن تُخضع معطيات الحواس والوقائع المادية لسيطرة المشاعر والخيال، وتُخرج منها بالحدس ما يخالف ما تُبصره العين وتسمعه الأذن، فكيف يمكن الجمع، ولا أقول التوفيق، بينهما؟
اهتدت مدرسة براغ إلى أن البنيوية يمكنها أن تتجنَّب «الانحياز» الذي يتسم به كل من النموذجَين إلى اتجاه واحد من اتجاهات المعرفة الإنسانية، وأن تجمع بين الجانبَين في موقف موحَّد إزاء المعرفة epistemological stance بحيث تنتظم التطارُح الدائب بين «العام» the general و«الخاص» the particular، وبين التجريد والتجسيد، ومن ثم أقامت إطارًا فكريًّا مرجعيًّا conceptual frame of reference تتداخل فيه ثلاث أفكار متكاملة complementary (أي يكمل بعضها بعضًا) وتتفاعل (والتفاعل هو interplay, interaction) ألَا وهي البناء structure والوظيفة function والعلامة sign.

المصطلحات الجديدة

سوف أقف هنا قليلًا لإيضاح ترجمة هذه المصطلحات التي لا تُعتبر جديدةً بالمعنى المفهوم، وإن كانت جديدة الاستعمال؛ ولأبدأ بما يسمَّى ﺑ «الإطار المرجعي». والتعبير في الحقيقة مصوغ في قالب شائع يقوم على الاستعاضة بالنسبة عن الإضافة؛ أي إحلال النسبة — وهي «المرجعي» هنا — محل الاسم الذي كان يمكن أن يكون مضافًا إليه هو «المرجع» أو ما يُرجع إليه، على غرار قولك «الأثاث المكتبي» office furniture بدلًا من أثاث المكتب أو المكاتب، والطريق الصحراوي desert route/motorway بدلًا من طريق الصحراء … وهلم جرًّا.
ونلاحظ أن الاسم في كل من الحالتَين السابقتَين يُستخدَم في الإنجليزية باعتباره صفة (انظر القسم الأول من هذا المقال)، وعلى هذا يكون المعنى «الأفكار أو المفاهيم التي يُرجع إليها وتشكِّل فيما بينها إطارًا»، وقد يكون «الإطار المرجعي» غير نظري؛ أي قد لا يتكوَّن من أفكار أو من مفاهيم. وسوف يلاحظ القارئ أنني ترجمت الصفة من «مفهوم» concept بالفكري تيسيرًا وتقريبًا للمعنى؛ فالمفهوم والفكرة يشتركان في الكثير ويختلفان في القليل، وقد يتطلَّب غير هذا السياق الإصرار على استعمال كلمة المفهوم بحيث تكون الترجمة هي «إطار مرجعي من المفاهيم» أو «إطار المفاهيم المرجعي».
والواقع أن الذين يكتبون عن مدرسة براغ لا يفرِّقون في وصفهم لهذا الإطار المرجعي بين ما يتضمَّنه من أفكار notions، ومفاهيم concepts، ويُشيرون إليها جميعًا بهذَين اللفظَين على التبادل alternatively؛ ولهذا آثرت الكلمة الأكثر شيوعًا (ولا أظن أنني بحاجة إلى إيضاح سبب رفضي ترجمتها بلفظة «المفاهيمي» المقبولة في وثائق الأمم المتحدة).
أمَّا المصطلحات الثلاثة نفسها فهي structure، التي أُترجمها بالبناء بسبب شيوع اسم المذهب المشتق منها وهو البنيوية (أو البنائية أحيانًا)، وإن كانت الكلمة تُستعمل في سياقات أخرى بمعنى «هيكل» أو «مبنى»؛ وذلك يتوقَّف بطبيعة الحال على السياق كما قلنا، بل إن رشاد رشدي كان قد ترجمها ﺑ «التركيب» عندما تعرَّض لبناء القصة القصيرة كما رأينا. ولكن المعنى الذي كانت مدرسة براغ ترمي إليه يختلف اختلافًا كبيرًا عن مجرَّد البناء أو التركيب أو الهيكلة (وقد صادفنا لدى الاقتصاديين في الآونة الأخيرة تعبير «إعادة الهيكلة» restructuring)؛ فمعنى البناء الذي منح المذهب اسمه هنا يمكن أن ينصرف إلى كِيانَين متميِّزَين distinct entites؛ فهو يعني أولا التنظيم الكلي holistic للعمل الأدبي باعتباره بناءً هرميًّا تعلو فيه العناصر السائدة dominant على العناصر الثانوية subordinate؛ وثانيًا فإنه مثلما كان فرديناند دي سوسير يدرك أن كل كلام منطوق parole لا يكتمل مغزاه ولا تتحقَّق دلالته الصحيحة إلا إذا أرجعناه إلى الشفرة code اللغوية الجماعية المشتركة langue؛ أي الأُسس الذهنية والنفسية (التي أكَّد تشومسكي فيما بعدُ أنها فطرية، والتي تقوم عليها إمكانية استخدام اللغة، أو القدرة اللغوية competence)، ذهب أصحاب «مدرسة براغ» إلى أن كل عمل فني هو في الواقع تطبيق لشفرة جمالية محدَّدة، ومعناها مجموعة من المعايير الفنية المطلقة أو المجرَّدة، وإن كانت مرتبطةً في نهاية الأمر بالقيم السائدة في مجتمع من المجتمعات في مرحلة محدَّدة من مراحل تطوُّره التاريخي.
ومعنى ذلك أن «مدرسة براغ» كانت لا تتفق مع سوسير كل الاتفاق؛ لأنه لم يكن يضع قيودًا على «الشفرة اللغوية الجماعية المشتركة»؛ إذ كان يراها، كما رآها تشومسكي من بعده، خصيصةً بشرية لا ترتبط بالثقافة أو بالمجتمع، بل إن مدرسة براغ ذهبت إلى الجمع بين هذه المجموعات من المعايير الفنية، قائلةً إنه إذا كان كلٌّ منها يمثِّل بناءً في ذاته، فإنها معًا تمثِّل بناء الأبنية a structure of structures؛ أي بناءً يتكوَّن من أبنية صغيرة، تُساهم في مجموعها في تكوين النظام الثقافي الذي يرتضيه المجتمع لنفسه في فترة ما من تطوُّره.٢
الفكرة الأساسية الثانية، أو المفهوم الأساسي الثاني وهو الوظيفة function، لا يمثِّل صعوبةً كبيرة باعتباره مصطلحًا أدبيًّا، وإن كان قد أصبح عَلَمًا على مدرسة براغ، ولن نخصِّص لها مكانًا كبيرًا، ويكفي أن نذكر تعريفَهم الذائع وهو أن الشفرات الثقافية لا يمكن التمييز بينها إلا على أساس الوظيفة التي تؤدِّيها كلٌّ منها. فإذا حاول أحدٌ التفريق بين الشفرات الرمزية symbolic codes (كاللغة) والشفرات النظرية theoretical codes (كالأفكار) والشفرات الجمالية aesthetic codes (كالتناسق أو التناغم)، كان عليه أن يفحص الوظيفة التي تؤدِّيها كلٌّ منها، وسوف يجد أن كل شفرةً تتضمَّن هرمًا من المعايير (بالمعنى السابق) تعكس الثقافة السائدة. فالوظيفة إذن — لا طبيعة المادة — هي ما يفرِّق بين شفرة وشفرة، ولا يمكن فهم الأعمال الأدبية والفنية فهمًا كاملًا، في رأي مدرسة براغ، إلا إذا فحصنا أداءها لوظائف شفراتها، بل وإفصاحها عن هذه الشفرات. وهذا يقودنا إلى الحديث عمَّا يسمَّى بالعلامة.
العلامة sign عنصر من عناصر الشفرة، وأمَّا معنى الشفرة فهو أي نظام رمزي يتفق عليه المرسل والمستقبل للدلالة على الأشياء والمعاني؛ فالشفرة اللغوية تتكوَّن من النظام الصوتي للكلام المنطوق أو النظام المرئي للكلام المكتوب. وشفرات التفاهم الاجتماعية بالحركات والإشارات معروفة، فإذا وسَّعنا ذلك المفهوم أصبحت الشفرة الاجتماعية مثلًا تدل على أي مجموعة من القواعد المتعارَف عليها للسلوك أو التفكير أو العمل أو اللهو، ولِمَا يسمَّى بالثقافة الخاصة بمجتمعٍ من المجتمعات، وكل عنصر من عناصرها يسمَّى «علامة» مثلما نقول «السكوت علامة الرضا، ومن ثم يمكن اعتبار كل جزء من أجزاء العمل الفني علامةً من العلامات، وهو علامة لها وجود في ذاتها ودلالة ذاتية، ولها كذلك وجود خارج ذاتها بمعنى الإشارة إلى معنًى أو مغزًى، ومن ثم فكل علامة فنية لها لونان من الوجود لدى مدرسة براغ؛ الأول والأهم في نظر المدرسة هو وجودها الذهني المشترك على مستوى الجماعة، والثاني هو وجودها المادي المتجسِّد في العمل الفني. ومن هنا تولَّد ما يسمَّى بعلم العلامات أو السيميولوجيا، وعلى ضوئه تصبح الثقافة عملية تفاعل معقَّدة بين العلامات التي تتبادلها (ويشترك في فهمها وتقدير قيمها) أفراد مجموعة معينة من البشر تربطهم علاقات؛ أي المجتمع.
وتطبيقًا لهذه المصطلحات الثلاثة يمكننا أن نضرب نماذج ممَّا أحرزه أصحاب مدرسة براغ من نتائج في الدعوة لهذه البنيوية الوليدة nascent، وخصوصًا ما أجملناه في صدر الحديث عنها بخصوص دراساتهم للإيقاع الشعري والعروض. فموسيقى الشعر هي مجموعة من العلامات، وتشكيلاتها تمثِّل شفرات فنيةً ذات وظيفة فنية يعرفها السامع؛ ولذلك فإن تعديلاتها وتحويراتها لها معانٍ لا تنفصل عن دلالات الألفاظ وتشترك في صَوغ المعنى العام للعمل الفني. فإذا لجأ الشاعر إلى ترتيب أصوات كلامه ترتيبًا غريبًا غير مألوف، استطاع أن يقطع disrupt الصلة التقليدية بين الدال signifier والمدلول signified؛ أي بين الكلمة ومعناها، ومن ثم أصبح معنى العمل الفني ثمرةً من ثمار التنظيم الداخلي؛ أي «البناء» الداخلي للعمل لا للواقع الكائن خارج القصيدة مثلًا. ولذلك كان أصحاب هذه المدرسة يُولون الأولوية للنص نفسه باعتباره مجموعات من العلامات، وهي إذا كانت تفتقر إلى كِيان مستقل عن الواقع، فالواقع أيضًا ليس له كِيان بدونها، وهي تؤدِّي وظيفةً مشابهة لوظيفة الواقع باعتباره هو الآخر مجموعة من العلامات، وكلما ازداد وعينا بهذا كنا، في رأيهم، أقدرَ على اكتساب الوعي بالواقع وباللغة باعتبارها أشد أدوات المعرفة الإنسانية hurman cognition تنوُّعًا، وأقدر أدوات التواصل أيضًا.
١  كان أهم أعلام تلك الفترة في تاريخ الأدب التشيكي، حسبما يقول بيتر شتاينر أستاذ الأدب السلافوني في جامعة بنسلفانيا، هما يوسف دورديك Josef Durdik وأوتاكار هوستنسكي Otakar Hostinsky، وإن كانت آراؤهما كثيرًا ما يُشار إليها دون توافر النصوص التي تمكِّننا من رصد جذور الشكلية التشيكية رصدًا موثَّقًا.
٢  انظر تطبيق هذا المفهوم في تحليل سيرة أحمد بن طولون — المنشورة في مجلة كلية الآداب، جامعة القاهرة — بالإنجليزية بعنوان:
Ibn Touloun: A Spycutcher: An Approach to the Neglected Art of Literary Biography, by M. Enani. Bulletin of the Faculty of Arts, Cairo University, July, 1995.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤