الفصل السابع

البنيوية في الغرب

وصلت البنيوية إلى ذروتها، باعتبارها منهجًا للتحليل ونظريةً للأدب، في فرنسا إبَّان الستينيات، كما هو معروف، في كتابات رولان بارت Roland Barthes وجيرار جينيت Gerard Genette، وأ. ج. جريماس A. J. Greimas ورومان جاكوبسون، وتزفيتان تودوروف، ثم انتقلت إلى النقد الأمريكي. ومن العسير وضع حدود للصورة التي اتخذتها البنيوية في الغرب، باعتبارها امتدادًا للتفكير النقدي الأوربي الذي لم يتوقَّف منذ بداية القرن العشرين؛ لأنها سرعان ما تحوَّلت إلى ما يسمَّى بحركة «ما بعد البنيوية» post-structuralism، والتي كثيرًا ما يصوِّرها أربابها باعتبارها معارضةً للبنيوية الأولى، وإن كانت في الحقيقة تطويرًا طبيعيًّا لأفكارها وتنقيحًا لكثير من مفاهيمها التي لم تكن قد تبلورت بعد، خصوصًا في كتابات بارت، وجوليا كريستيفا Julia Kristeva وجاك دريدا Jacques Derrida. أمَّا خارج مجال النقد الأدبي فأهم أعلام البنيوية هم كلود ليفي-شتراوس Claude Lévi-Strauss وميشيل فوكوه Michel Foucault وجاك لاكان Jacques Lacan.
وعلى أي حال يمكننا تحديد الاتجاه العام للبنيوية باعتباره مناقضًا ومناهضًا للتفكير القائم على التجزئة والتفتيت، أو ما يسمَّى بالتفكير الذرِّي، نسبةً إلى الفلسفة الذرِّية atomism؛ أي التي كانت تقول بأن العالم يتكوَّن من ذرات منفصلة، والصفة منها atomistic (وليس atomic التي تشير إلى تفتيت الذرَّة والانشِطار النووي nuclear fission في عصرنا الحديث، أو إلى نظريات «علوم» الذرة منذ دالتون حتى أينشتاين). أي إن الاتجاه العام للبنيوية هو النظرة الكلية التي تبحث عن النظم الكامنة في الظواهر مجتمعةً لا منفصلة، وتفسِّر لنا علاقاتها بعضها بالبعض. وقد استفاد ليفي-شتراوس من أفكار سوسير في اللغة؛ فأنشأ لنفسه منهجًا يرصد النُّظم الكلية (التي كان يسمِّيها الأبنية) أو التراكيب القائمة في حياة الإنسان، وخصوصًا في الظواهر الاجتماعية والثقافية. وكان ممَّا أتى به مصطلح «منطق المجسَّدات» logic of the concrete، وكان يعني به «نُظم المفاهيم» التي تمكِّن الناس من التفكير وفي تنظيم صور العالم في أذهانهم. وكان المدخل الذي اتبعه في تحليل الأساطير، أو في تقديم تفسير لتأثير الأساطير على قارئها أو المستمع إليها، هو القول بأن كل أسطورة تقوم على مجموعة من المفاهيم المتعارضة والمتقابلة (بل والمتناقِضة أحيانًا)، وهي مجموعات ثنائية binary sets مستقاة من شتَّى مجالات الخبرة العملية البشرية، وانتهى إلى أن ذلك يمكن تطبيقه على الأدب، وخصوصًا على لغة الشعر.

أمَّا سبب تسمية ذلك ﺑ «منطق المجسَّدات» فهو أن ليفي-شتراوس يرمي إلى استقاء منطق خاص مبسَّط من الظواهر المادية «المجسَّدة» في الأساطير؛ أي منطق قادر على الربط بين الظواهر التي يبدو أنها منفصلة؛ فالتعارض رابِطة مثل التَّماثل، والتناقض رابِطة لأنه يعني نفي النقيض؛ فالجهل والعلم مرتبطان بالنَّفي (تناقض)، والأبيض والأسود مترابطان بالتقابل (التضاد) وهكذا. ومن ثم كان «منطق المجسَّدات» وثيق الصلة بعلم العلامات أو السيميوطيقا.

وتلخيصًا لِمَا سبق، وقبل أن نناقش المصطلحات التي أتت بها البنيوية الفرنسية فاختلفت بها وفيها عن تيار «النقد الجديد» الأنجلوأمريكي، نقول إن البنيوية تستند إلى نظرتَين أساسيتَين ترتبطان كما سبق أن ذكرنا بعلم العلامات؛ أولاهما هي أن الظواهر الاجتماعية والثقافية ليس لها «جَوْهر» essence بالمعنى الفلسفي؛ أي ليس لها كِيان صلب يمكن تعريفه في ذاته، بل يمكن تعريفها من زاويتَين؛ الأولى هي أبنيتها الداخلية، والثانية هي المكان الذي تشغله في كل ما تنتمي إليه من نظم اجتماعية وثقافية. وهنا نجد التركيز على التركيب؛ أي على البناء، سواء فيما يتعلَّق بالظاهرة أو فيما يتعلَّق بالنُّظم الشاملة التي تندرج فيها الظاهرة.
وأمَّا النظرة الثانية فهي أن الظواهر الاجتماعية والثقافية علامات، وهي ليست علامات ماديةً فحسب، ولكنها أحداث لها معناها. وقد ننجح في محاولة فصل الجانب التركيبي عن الجانب السيميوطيقي؛ أي فصل بنائها عن دلالتها باعتبارها علامات، ومن ثم نكون قد فصلنا بين دراسة الأنماط patterns وبين دراسة العلامات، ولكن أقصى نجاح نحقِّقه في التحليل البنيوي؛ أي تحليل أبنية هذه الظواهر، هو نجاحنا في التعرُّف على الأبنية (أو فصلها)؛ فهي التي تمكِّننا من إدراك الظواهر باعتبارها علامات.١

المذهب الفرنسي

وفي فرنسا كان مولد البنيوية مرتبطًا بالتمرُّد على الدراسات الأدبية التقليدية الشبيهة بالعلوم العربية التقليدية، والقائمة على الحفظ والرصد التاريخي والنقد المستند إلى حياة الشاعر وأحداث عصره. وكانت الجامعات الفرنسية التي أدخلت هذه المناهج في البلدان التي أخذت بدراسة الأدب باعتباره من وسائل نشر اللغة الفرنسية، توجِّه جُل اهتمامها إلى التاريخ الأدبي وحفظ معالمه وأهم ملامحه. ومن ثم كان دعاة البنيوية الأوائل يُريدون العودة إلى النَّص، وهو المنهج الذي كان موجودًا باعتباره من «الأنشطة الخاصة» التي لا يُجيدها الجميع، وكانوا يُطلقون عليه منهج «شرح النصوص» explication des textes، وهو الذي كان محمد مندور يعنيه ﺑ «الميزان الجديد» (في كتابه «في الميزان الجديد»). ولا شكَّ عندي في أن تراث الشكليين الروس والبنيوية التشيكية كانا من القوى التي وجَّهت البنيوية الفرنسية إلى هذه الوجهة، وإن كانت المراجع التي تتناول نشأة البنيوية في فرنسا تلتزم الصمت إزاء ذلك التأثير. وأقصى ما يقوله مؤرِّخو هذه الفترة هو أن الفرنسيين لم يطَّلعوا على أعمال أوربا الشرقية إلا عند ترجمتها في أواخر الستينيات فوجدوا فيها نظائر analogues لِمَا كانوا يقولونه.
ومهما يكن من أمر فقد كان الفرنسيون يختلفون عن زملائهم في إنجلترا وأمريكا الذين سبقوهم إلى التركيز على النص في أنهم قرَّروا بدايةً أن الإنسان لا يستطيع دراسة النص دون افتراضات سابقة presuppositions، وأن دراسة النَّص دراسةً تجريبية؛ أي تطبيقية empirical، دون إطار مرجعي سابق، مآلها الفشل، بل لن يُكتب لها أن تقدِّم نقدًا أدبيًّا له معنًى، وأن المطلوب إذن وضع نماذج منهجية للدراسة والتحليل.
وهكذا ابتعد البنيويون عن تراث أسلافهم، ووضعوا مشكلة المنهج نصب أعينهم. لم يكن التفسير هدفهم، بل قراءة النصوص أولًا، ثم التوصُّل إلى تفهُّم طرائق modes الكتابة الأدبية أو أنواعها (لا الأنواع الأدبية genres) ووسائل قيام كل منها بعمله operation أو إحداث تأثيره. وسوف أُحاول أن أُعيد صياغة هذه العبارة، إيضاحًا لمعنى أول مصطلحَين بنيويَّين يصادفاننا هنا وهما mode وoperation.
أمَّا الأول فقد سبقت ترجمته بالطريقة (أو الطريق)، وأعتقد أن الترجمة معقولة. فالطريقة تتضمَّن البناء والنسج ومستويات اللغة وكل ما يتعلَّق بالأسلوب، وقد أصبحت كلمةً شائعة (وهي عنوان كتاب هو «طرائق الكتابة الحديثة» The Modes of Modern Writing لدافيد لودج David Lodge الأستاذ البريطاني صاحب دراسات ما بعد البنيوية، والذي تحوَّل إلى كتابة الرواية)، وأمَّا كلمة الكتابة فكان الأجدر بها أن تكون الكلام.
وأمَّا المصطلح الثاني الذي ترجمته ﺑ «العمل»، فأعتقد أن ترجمته لا بأس بها؛ لأنك لو استبدلت كلمة work بها لَمَا تغيَّر المعنى. ومن ثم أُعيد صياغة العبارة هكذا: «التوصُّل إلى فهم الطرائق الأدبية، ووسائل تحقيقها لغاياتها».
وسوف نستعين هنا بما قاله رولان بارت تمييزًا لجهود أصحابه عمَّن سبقهم؛ إذ قال إنهم يطمحون إلى إرساء قواعد لعلم الأدب؛ فالنقد الأدبي يضع النص في سياق معيَّن، أيًّا كان هذا السياق، ويهبه معنًى من المعاني، وقد يتضمَّن الحكم عليه، وربما يتضمَّن أحكام قيمة value judgments، وأمَّا «علم الأدب» science of literature أو علم الشعر مجازًا poetics، فهو يدرس أحوال وشروط ذلك المعنى، والأبنية الشكلية التي تنظِّم النص من الداخل وتُتيح له أن يكتسب معاني كثيرة.
وليس معنى ذلك أن علم الأدب يمكن أن يحل محل النقد بصورة مطلقة، ولكنه الأساس لأي نقد له معنًى. ومن ثم انطلقت الدراسات البنيوية الفرنسية محاوِلةً إرساء أُسس الدراسات النصية الجديدة، التي يبدو في سياقها النص باعتباره كِيانًا مستقلًّا يتضمَّن طرائقه الخاصة التي تمكِّنه من تجاوز نفسه؛ أي من الخروج إلى مجالات العلوم الأخرى والحياة غير الأدبية. وكان المثل الأعلى في تناول هذه الطرائق علم جديد دخل مرحلة التكوين قبل الوصول إلى النضج، وهو علم الألسنة الحديث أو اللغويات. وقد استفاد البنيويون من اللغويات من زاويتَين؛ الأولى هي تطبيقاتها المباشرة على الأدب؛ ممَّا أدَّى في نهاية الأمر إلى ظهور علم الأسلوبية stylistics، والثانية هي التطلُّع إليها باعتبارها المثل الأعلى للعلم ذي الضوابط الذي يصف أبنية اللغة وتراكيبها دون الحكم عليها (أي دون إصدار أحكام القيمة عليها). وسوف نعرض بإيجاز لكلٍّ من هاتَين الزاويتَين.
أمَّا الأولى فهي دراسة الأنماط التي يمكن أن يستشفَّها من يقرأ أي عمل أدبي أو يستمع إليه، ونقصد بها أنماط الأصوات التي تتكرَّر في أماكن مختلفة من القصيدة مثلًا، وأنماط المعاني التي تتكرَّر كذلك في شتى كلماتها (الريح تباريح جريح ما ينتهي له أنين، صلاح جاهين؛ أو تكرار معاني القسوة والوحشية المستقاة من صور الحيوانات المفترسة في مسرحيتَي «عطيل» و«الملك لير» لشيكسبير، مثلًا). ويركِّز جاكوبسون في تحليلاته (في المجلد الثامن من «مختاراته») على إبراز الأنماط المتناسقة أو المتسقة التركيب symmetrical وغير المتناسقة asymmetrical،٢ وهي التي من شأنها توحيد النص وإبراز عناصر معيَّنة فيه. وقد أشار بعض النقاد إلى أن كثيرًا من الأنماط التي يكتشفها جاكوبسون لا يشعر بها القارئ أو لا تشكِّل جزءًا من «تجربة» القراءة experience أو خبرة القراءة بمعنًى أدق، وردَّ آخرون بأن هذه مسألة يصعب البت فيها وخصوصًا كالر Culler، الذي قال بأن هذه الأنماط يمكن أن تُحدث تأثيرًا باطنيًّا أو باطنًا؛ أي تحت مستوى الوعي subliminal. والمصطلح الأخير شائع في الأدب بهذا المعنى، وهو مركَّب من البادئة أو الصدر –sub بمعنى تحت، وliminis، وهي حالة المضاف إليه من كلمة limes اللاتينية بمعنى عتبة threshold أو حد. كذلك أكَّد كالر أن الأنماط الشكلية يمكن أن تُحدث تأثيرها دون أن تساهم في المعنى الظاهر للعمل الأدبي. واتجه آخرون، مثل نيكولاس رويت Nicholas Ruwet وجاك جنيناسكا Jacques Geninasca، إلى تطبيق نظريات جاكوبسون وطرائق تحليله بالتركيز على تدعيم الأنماط اللغوية للتأثير الذي يُحدثه المعنى، ولو أنهم بذلك يفصلون بين العناصر البنيوية؛ أي عناصر البناء وعناصر الدلالة بالعلامات؛ أي السيميولوجيا؛ ولذلك فهم لا يساهمون في إقامة الدراسة الفنية على أُسس علوم اللغة الحديثة.

اللغة والأدب

وأمَّا الزاوية الثانية فهي النظر إلى الأدب باعتباره مثيلًا للغة، ولو أنه يستخدم اللغة، فمعانيه تعتمد على نُظُم متعارف عليها؛ أي على العرف convention، وهي التي تساعد القارئ على تفسير to interpret ما يقرأ. ومن ثم كانت ضرورة وضع مفاهيم تشرح هذا التصوُّر، وكان بارت كما هو معروف أهم من وضع وطوَّر هذه المفاهيم؛ فالأدب في نظره لا يتكوَّن من مجرَّد عبارات، بل من عبارات تُعتبَر كلٌّ منها علامةً في نظام أدبي خاص، يسمِّيه نظامًا من الدرجة الثانية second order. فالجملة يختلف معناها في القصيدة عنه في الخبر الصحفي، وهي تتحوَّل في العمل الفني مع غيرها من العبارات إلى عناصر من هذا النظام الأدبي؛ أي إلى رموز لها دلالة مقصورة على معناها داخل العمل الفني، بفضل ما يسمِّيه بارت بالعقد الخفي المبرم بين الكاتب والقارئ، والذي يطلِق عليه لفظة écriture الذي يعني أي عرف أدبي، والعقد في الحقيقة يتكوَّن من عدد من هذه الأعراف الأدبية التي تمكِّن القارئ من التواصل مع الكاتب.

الأدب والثقافة

والأدب في رأي بارت يشبه الثقافة من زاوية أخرى؛ فالثقافة تُصِر على التطابق بين الدال والمدلول؛ أي بين الكلمة ومعناها، وعلى الإحالة الكاملة إلى المدلول بحيث يتصوَّر القارئ أن إشارة كلمة السحاب مثلًا إلى ما يراه في السماء أمر طبيعي natural لا وليد العرف، وهو ما يسمِّيه بارت بميل الثقافة إلى إضفاء صفة الوضع الطبيعي naturalization على العلاقة بين الكلمات والمعاني. ولذلك يحاول من يفسِّر الأدب، حتى دون وعي منه، أن يضفي هذه الصفة الطبيعية على ما يقرأ حتى يدرك معناه؛ فنحن نقرأ الرواية استنادًا إلى شفرات رمزية للمعاني وقواعد المنطق المستقاة من خبراتنا خارج الرواية؛ أي في الحياة العادية، وكذلك طبقا لشفرات رمزية للمعاني وقواعد المنطق المستقاة من معرفتنا بالأدب؛ فالأولى تنصرف مثلًا إلى طرائق السلوك الإنساني التي تبيِّن لنا إذا ما كانت الشخصية personality متجانسةً أو ممزَّقة، وإذا ما كانت العلاقات بين الدوافع والأعمال مقبولةً ومعقولة أم لا، وإذا ما كانت أحداث القصة منطقيةً أو تتوالى بصورة غير منطقية وما إلى ذلك. وتنصرف الثانية إلى ما نألفه في الأدب من ذاك جميعًا، والاستدلال extrapolation من رموزه على معانٍ أخرى وهلم جرًّا، بحيث نستطيع أن نخرج من العمل بمعانٍ أو دلالات متجانسة متماسكة استنادًا إلى مبدأ التماثل مع الحياة خارجه؛ أي vraisemblable (أو verisimilitude الإنجليزية)؛ أي إننا حين نفعل ذلك نحاول في الحقيقة استعادة recuperation الواقع والتقاليد الأدبية من ثنايا العمل الأدبي. أمَّا الرواية أو العمل الأدبي الذي تسهِّل استعادة الواقع والتقاليد الأدبية فيطلق عليه بارت صفة «المقروء» lisible (أي readable أو readerly) التي تعني حرفيًّا هنا القابل للقراءة، أو الذي قصد به أن يقرأ، أو الموجَّه إلى القارئ «نص القراءة». وأمَّا العمل الأدبي الذي لا نستطيع أن نفهمه طبقًا لِمَا درجنا عليه من أعرافٍ حياتية وأدبية (وهو يسمِّيها نماذج models)، فهو يطلق عليه صفة «المكتوب» scriptible (أو writable أو writerly) والتي تعني على وجه الدقة العمل الذي تقتضي قراءته المشاركة في كتابته من جانب القارئ vicariously — أي نيابةً عن الكاتب («نص الكتابة») — (انظر في المعجم readerly and writerly texts).
والتحليل البنيوي إذن لا يرمي إلى تفسير العمل الأدبي، ومن ثم إلى التعرُّف على الواقع والأعراف فيه، وهو ما يسمِّيه بارت بالاستعادة، بل إلى الكشف عن خصائصه التي تمكِّن القارئ من تفهُّمه وإدراك تجانسه ووحدته، وهي الخصائص أو العناصر التي قد تتفق وقد تختلف مع الواقع الحياتي والواقع الأدبي بالنسبة لقارئ معيَّن. بل إن الناقد في رأي بارت لا يحاول اكتشاف بناء العمل، بل يحاول اكتشاف إمكانياته البنائية structuration، وهي كلمة فرنسية توازي الإنجليزية structuring، ومن ثم فالناقد يركِّز على تأثير الدوال signifiers؛ أي العناصر ذات الدَّلالة التي تقوم بترحيل to defer أو إرجاء المعنى (أو تعليقه suspension) من خلال المادة الفنية التي تتجاوز معنى الألفاظ، مثل الإيقاع في الشعر والقافية والأنماط الصوتية. وحركة هذه العناصر هي التي يعزو إليها نقاد البنيوية ما يسمونه بإنتاجية النص productivity of text؛ لأنها تجبر القارئ على أن يتخلَّى عن دوره باعتباره المستهلك السلبي passive consumer أو المتلقي السلبي لِمَا يفهم دون عناء، بل إن يصبح المشارك الإيجابي في إخراج المعنى أو التوصُّل إلى معنًى ما، أو ما يسمونه إنتاج المعنى production of meaning ما دام يشارك في استكشاف كل ما يمكن أن يتضمَّنه النص من أنظمة orders.
وهذه المفهومات تؤدِّي بطبيعة الحال إلى نبذ مفهوم المحاكاة أو التمثيل والتركيز على النص، والاهتمام بالتناص intertextuality الذي يجدر بنا أن نُنعِم النظر إليه الآن. التناصُّ معناه في أبسط صورة هو التفاعل داخل النص بين الطرائق المختلفة للتعبير (أو «اللُّغات») المستقاة من نصوص أدبية أخرى، أو من كتابات أخرى غير أدبية. وقد رأينا أن الشكليين الروس كانوا يحاولون إضفاء الغرابة making strange على الأشياء العادية (وهو ما كان شلي Shelley الشاعر الإنجليزي يدعو إليه، متأثِّرًا بوردزورث Wordsworth)، وكذلك فإن أنصار البنيوية يؤكِّدون طابع الغرابة الذي يكسو كلَّ عمل أدبي بسبب تضمينه ألوانًا من التعبير تُغيِّر من رؤيتنا للعالم. فالجمع في قصيدة واحدة بين عدة ضروب من الكتابة يغيِّر من معنى كل منها، من خلال تغيُّر العلاقات التي نشأنا على توقُّعها فيما بين كلٍّ منها والعالم الخارجي.٣ وهم يعتبرون ذلك لونًا من ألوان البلاغة، وإذن فإن إبراز العمليات البلاغية rhetorical processes في العمل الأدبي ومن ثم احتلالها مكان الصدارة في الأدب يؤكِّد وجود الأدب باعتباره عاملًا يدفع القارئ إلى محاولة إعادة تنظيم خبراته ومعانيها، على عكس ما تحاول الثقافة أن تفعله من إرساء معانٍ موحَّدة وثابتة لهذه الخبرات، وإضفاء الصِّبغة الطبيعية عليها.
وفي أواخر السبعينيات وعلى امتداد الثمانينيات تعرَّضت البنيوية للهجوم من جانب من يُطلقون على أنفسهم «ما بعد البنيويين» الذين اتهموها أو صوَّروها بأنها محاولة علمية scientific لاختزال اللغة والأدب، ويختزل بمعنى reduce هو المقصود، وربما كان المعنى أيضًا هو المسخ وَلَوْ نَشَاءُ لَمَسَخْنَاهُمْ عَلَى مَكَانَتِهِمْ (يس: ٦٧)، والمسخ أو التحوُّل هو metamorphosis؛ أي تحويلهما إلى شفرات وحسب، أو إلى مجموعات من المقابلات والتعارضات، ووصفوا مذهبهم بأنه محاولة للكشف عن الطرائق التي تستطيع النُّصوص أن تتجاوز بها عمل to outplay الشفرات أو تقهر التعارُضات التي تقوم عليها. ولكن هذا الاتهام، كما رأينا، ظالم؛ لأن البنيوية لم تعمد إلى وضع نظم مطلقة للشفرات، بل ولم تقل إنها متسقة بصورة مطلقة، بل اهتمَّت أيضًا بحالات انكسار النمط disruption أو الإخلال به، ولو أنها، شأن أي مذهب جديد، قد بالغت بعض الشيء في تصويره.
١  ربما كان ذلك الكلام النظري في حاجة إلى أمثلة من حياتنا الراهنة، ولا شيء أهم في نظري ممَّا يسمَّى بظاهرة «الحجاب». والحديث عن هذه الظاهرة ملتهب بطبعه؛ لأنه يجر إلى ساحة خلاف لا أعتزم دخولها، خصوصًا بسبب ربطه بالدين أو جعله محورًا للدين، ولكنها ظاهرة اجتماعية لها بناؤها الخاص، ولها النظام الشامل الذي تندرج فيه، وهي أيضًا علامة، وهي فعل مادي له معناه في ذاته. أمَّا بناء الظاهرة فيعتمد على التقابل بين عدد من الثنائيات binary sets؛ مثل التقابل بين التفرُّد في فترة المراهقة (في عملية التفرُّد individuation process وفقًا لمفهوم يونج Jung) وبين الاتفاق مع الجماعة conformity وبين الإحساس بالقوة بالتمرُّد على التقاليد، وبين نشدان القوة من مظهر الصلاح والتقوى (أو الإحصان وحسب)، سواء كان وراءه تمسُّك حقيقي بالدين في العبادات والمعاملات أم لا، وبين رفض سلطان الأسرة أو الرجل rejection of family or patriarchal authority وبين محاولة إرضاء to placate, appease الأهل أو الزوج … إلخ.
وهذه الثنائيات تتفاوت في أبنيتها الاجتماعية وفقًا للنظم الشاملة التي تندرج فيها مثل نظام الطاعة الذي يستند في المجتمعات التقليدية منذ أقدم العصور إلى «علامات» الانصياع obeisance أو التسليم بأي معنًى كان: surrender أو homage أو deference أو حتى بصورة الموافقة acquiescence على ما يقوله أو ما يُمليه رب الأسرة، الذي يتحوَّل في القبيلة إلى شيخها ثم يتخذ صورة الحاكم، وطاعته هي دليل التوافق الاجتماعي social harmony، كما يندرج في إطار ما يصوِّره الدعاة activists والمناضلون militants في سبيل قضية ما cause على أنه فساد الزمان، ونحن نعرف أن كل عصر يتصوَّر أنه آخر الزمان ودرك الفساد الأسفل، وقديمًا شكت امرأة إلى عمر بن الخطاب فساد الزمان («فسد الزمان يا عمر»)، ومن ثم يندرج في إطار طلب الحماية من مصدر من وراء الزمان.
وتتفاوت دلالة هذه الثنائيات باعتبارها «علامات» — أي من وجهة النظر السيميوطيقية — وفقًا لتفاوت صور تغطية شعر الرأس. ويمكن أن تكون نقطة الانطلاق في الدراسة السيميوطيقية هي علاقة فعل التغطية، بمعنى كلمة الحجاب والاحتجاب من الناحيتَين الآنيَّة أو التزامنية synchronic؛ أي معناها الحالي الذي ينصرف إلى من يسمَّين بالمحجبات وهن ظاهرات للعِيان مختلطات بعالم الرجال (عالم الشر المستطير). وعبر الزمنية diachronic؛ أي معناها القديم الذي أحياه شوقي (مال واحتجب، وادَّعى الغضب؛ أو: أرى شجرًا في السماء احتجب، وشق العِنان بمرأًى عجب)، فتفاوت صور التغطية يمكن تحليله سيميوطيقيًّا في إطار ثُنائيات الدوافع السابقة، ودراسة تطوُّر الظاهرة كفيلة بتحديد دلالة أو مغزى significance كل نوع من تغطية الشعر، في عدة أطر (اجتماعية – أو اقتصادية – أو ثقافية)، وعلاقة كل حالة بالثنائيات السابق ذكرها.
٢  لم أشأ أن أتوقَّف طويلًا عند ترجمة هذا المصطلح الأساسي من مصطلحات البنيوية؛ لأن المعنى العام له مفهوم؛ ولذلك فمكان إيضاحه الطبيعي هو الهامش؛ فالسيمترية (الكلمة التي عرَّبها أرباب الفنون التشكيلية) تعني التماثل أو التناظر في التكوين، بمعنى قُدرة الناظر إلى اللوحة على تقسيمها إلى جزءَين متماثلَين أو متناظرَين. ولكن ذلك، كما هو واضح، عسير في الأدب. فالمقصود، وفقًا للمعنى الدقيق للكلمة (المركَّبة من sym (syn) بمعنى (معًا) و metros بمعنى مقياس، والكلمة اليونانية هي symmetros)؛ هو «استواء تقسيم» العمل الفني على جانبَي خط التقسيم (الوهمي) والألفاظ التي استخدمها هنا هي نفسها التي استخدمها أبو الهلال العسكري في كتاب «الصناعتَين» (أي الشعر والنثر) والمثل الأعلى الذي ضربه لجمال الصياغة واستواء التقاسيم هو: «تشبه أعجازه بهواديه، وموافقة مآخيره لمباديه.» فالعبارتان متماثلتان في المعنى والمبنى، وتحقِّقان صفة السيمترية على مستوى العبارة (سلوا كئوس الطِّلا هل لامست فاها، واستخبروا الراح هل مسَّت ثناياها؛ شوقي)، أمَّا على مستوى العمل الكلي فقد اكتفيت بلفظ التناسق، مفضِّلًا إياه على «المرادفات» أو «شبه المرادفات» near synonyms مثل التناسب proportion، أو التوازن balance أو التوافق harmony، فكلها بعيدة عن الدلالة على السيمترية.
٣  خير نموذج على ذلك رواية أوليس Ulysses (أو عوليس) للكاتب الأيرلندي جيمس جويس James Joyce؛ فتفاوت الأساليب التي يستخدمها تُقيم علاقات مع فترات زمنية متفاوتة في تاريخ الأدب، ومن ثم في تاريخ الثقافة الأوربية، وهي أنصع مثل على التناص بمعناه الحديث.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤