الفصل الثامن

التفسيرية

قلنا إن التفسير لم يكن هدفًا من أهداف البنيوية في أي مرحلة من مراحلها، ولكنه كان في أوربا (وفي ألمانيا على وجه التحديد) قوةً يحسب حسابها، ولن نستطيع أن نتفهَّم الخطوة التالية في تطوُّر البنيوية إلى ما بعد البنيوية والتفكيكية إلا على ضوء ما يسمَّى بالتفسيرية أو الهرمانيوطيقا hermeneutics. والمعنى الدقيق لهذه الكلمة هو فن تفسير النصوص interpretation (أي تحديد معانيها) خصوصًا من خلال مجموعة ثابتة من القواعد rules وفنون الصنعة techniques، كالقواعد النحوية أو أسس الأبنية البلاغية الخاصة بكل لغة، إلى جانب وجود نظرية أدبية أو قانونية أو دينية تُحكم مسار التفسير.
وأصل الكلمة يرجع إلى الكلمة اليونانية hermeneuein، وهي فعل معناه «يفسِّر» وإن كانت استعمالاته كما يقول المتخصِّصون توحي بثلاثة اتجاهات لهذا المعنى؛ أولها: هو تفسير الشعر شفويًّا (ومن ثم يقترب معناه من «التعبير» to express، وثانيها: هو الشرح to explain، وثالثها: هو الترجمة to translate. ولا يزال معنى الترجمة قائمًا في كلمة interpret، وإن كان مقصورًا على ما يسمَّى بالترجمة الفورية؛ أي ترجمة الكلام فور التفوُّه به، وإن كُنا قد سمعنا من يُشير إليها باسم الترجمة التزامنية simultaneous translation؛ أي المصاحبة لحديث المتحدث بدلًا من الترجمة التعاقبية consecutive التي يقدِّم فيها المترجم معنى الفقرات فقرةً فقرة، وما يسمَّى خطأً بالترجمة المنظورة at sight translation، وصحتها الترجمة الشفوية لنص مكتوب (أي بالنظر إليه)، والمنظور كما هو معروف هو الذي ينتظر وقوعه؛ أي المتوقَّع foreseeable.
وأول كتاب يصادفنا فيه هذا المصطلح هو «مُحاورات أفلاطون»؛ ولذلك فهو يسمِّي الشعراء hermenes ton theon؛ أي مُفسِّري أو مُترجمي الآلهة، ونجد اللفظ بعد ذلك عند زينوفون Xenophon وأرسطو Aristotle، ولكن الذي يهمنا هو استخدامه في الإشارة إلى تفسير الكتاب المقدس أو التعليق عليه؛ فكثيرًا ما نجد على أغلفة أمثال هذه الكتب لفظة hermeneia. والطريف أن الكلمة وثيقة الصلة بأحد أرباب اليونان وهو هيرميس Hermes الذي نعرفه في الآداب الأوربية باسم رسول الآلهة، لكنه كان كما يقول المختصون إله «الهوامش» و«الحواشي»، وهي الكلمات الحديثة لِمَا كان يقع على تخوم أي منطقة، أو أي نص أو كتاب، وله مهام كثيرة مثل إرشاد الموتى إلى العالم السفلي، وهو رب الرُّقاد والتحوُّل، وابتسام الحظ والثراء المفاجئ، وهو كذلك لص!
أمَّا موقع التفسيرية من النقد القديم وما كان يسمَّى بفقه اللغة «الديني» فهو بمثابة القلب النابض؛ إذ كان القدماء يفرِّقون بين الدراسة النصية textual study التي تشبه ما نسمِّيه اليوم ﺑ «التحقيق والنشر» وبين التفسير الذي يقع عليه عبء تفهُّم النص أو إفهامه للجمهور، وما يفعله الشيخ في تراثنا العربي يجمع بين المهمتين؛ فهو يقرأ النص قراءةً معيَّنة، بمعنى أنه يضبطه في الصورة التي وصلت إليه، ويحذف ما يراه دخيلًا عليها، أو يُضيف ما يراه لازمًا، ثم يقرئ تلاميذه هذا النص، بمعنى أنه يقدِّم إليهم صورته التي حقَّقها، إلى جانب تفسيره الخاص به. أمَّا النقد الأدبي عند القدماء، فهو مرحلة تالية للتفسير، وكانت غالبًا تتضمَّن إصدار الحكم على النص.
وأقدم استعمال للكلمة في اللغة الإنجليزية، وفقًا لقاموس أكسفورد الكبير Oxford English Dictionary (OED)، يرجع إلى أوائل القرن الثامن عشر (عام ١٧٣٧م)، ولم تثبت الكلمة أقدامها وترسخ إلا في أثناء الجدل الذي اندلع في أواخر القرن الماضي بسبب آراء داروين Darwin التي وجدت أنصارًا يُهمُّهم إعادة تفسير بعض آيات الكتاب المقدس، ومن ثم دعت الحاجة إلى التمييز بين «التفسيرية» (الهرمانيوطيقا) التي تعني علم التفسير ونظرياته، وبين الشرح exegesis الذي يعني «صناعة» التفسير، بمعنى ممارسته وتطبيقاته في الكتاب المقدس. والكلمة وثيقة الصِّلة بكلمة hermetic التي تعني السحر أو الغموض أو ما يستعصي على الأفهام أو الخبيء الدفين، المشتقة من «هيرميس»، ويقال إنها مشتقة من الترجمة اليونانية لاسم الإله المصري تحوت Thoth، وهو Hermes Trismegistus وهو المؤلف الأسطوري لنصوص الأسرار والسحر ولا علاقة لها بشبيهتها hermit (الناسك المشتقة من eremites اليونانية التي تعني «الصحراوي» أو المقيم في الصحراء، ومنها جاءت اللاتينية eremita التي كثيرًا ما نُصادفها في الكتب الدينية، والإنجليزية الوسطى hermite).
كان الكشف عن الغموض أو عن الخبيء أو عن المستقبل oracle/prophecy إذن من المعاني العريقة لهذه الكلمة. وكان القدماء يلجئون إلى التفسير منذ فجر التاريخ لمعرفة معنى الأحلام (تأويل الأحاديث)؛ أي ليعبِّروا عن الرؤيا، وهو ما شاع في العربية أيضًا باسم تفسير الأحلام، منذ النص الفرعوني المسمَّى «كتاب الأحلام» Dreambook الذي كُتب منذ أربعة آلاف سنة تقريبًا، حتى «تفسير الأحلام» Interpretation of Dreams لسيجموند فرويد Sigmund Freud، وهو شائع عند اليونان. وكان ذلك أيضًا من ألوان النبوءة، كما قلنا؛ أي الكشف عن الغيب. ولكن أهم استعمال له في إطار المباحث الأدبية هو القول بأن الأساطير رموز symbols/allegories، وبأن كثيرًا ممَّا نعتمد فيه على ظاهر النص يمكن الكشف عن خباياه عن طريق فنون التفسير. ولم تكن محاولات جرانفيل Granville ومدرسته the allegorists (انظر كتاب بازل ويلي وعنوانه «خلفية القرن السابع عشر» Basil Willey, The Seventeenth Century Background, (Penguin) لتفسير ما جاء في الكتاب المقدس تفسيرًا رمزيًّا، وهي المحاولات التي استمرَّت حتى عصرنا الحالي؛ جديدة من نوعها؛ فمن قديم قال الرُّواقيون The Stoics إن أرباب اليونان رموز لعناصر الطبيعة، وفسَّروا سلوكها في الأساطير تفسيرًا يوافق مذهبهم، وهذا ما عاد إليه ألدوس هكسلي Aldous Huxley في كتابه «موسيقى الليل» Music at Night.
وقد استمرَّت عبر العصور محاولات استخدام التفسير لتأويل الكتب المقدسة، وتفاوتت نظريات التفسير، وأشهرها لدينا المبادئ الثلاثة أو المحاور الثلاثة التي يدور عليها تفسير النصوص المقدسة؛ أولها هو الالتزام بحرفية النص literal؛ أي ظاهر اللفظ. والثاني هو المغزى الخُلُقي moral (مبادئ السلوك المستقاة من النص). والثالث هو الدلالة الروحية spiritual (أي الخاصة بالإيمان والراحة النفسية).
وقد سادت هذه المحاور أو المستويات الثلاثة للتفسير حتى عهد القديس أوغسطينوس St. Augustine الذي عدَّلها فأصبحت المعنى الحرفي، والمغزى الأخلاقي، والدلالة الرمزية، ثم التأويل الباطني anagogical (الجواني، ورحم الله عثمان أمين) أو الروحي للنص المقدس؛ أي إنه عدَّل بعض الشيء في مفهوم «القيمة الروحية» للنص فجعله استشفافيًّا يقوم على ما توحي به الكلمات لا على ما تعنيه، وأضاف الدلالة الرمزية. ولقد انتشرت بيننا في العصر الحديث هذه النزعة الرمزية كما ذكرت، ولكن العصر الذهبي للتفسير الرمزي، كما يقول أحد الشراح، كان إبَّان القرون الوسطى.

الاصطلاح الديني والتفسيرية

عندما قدَّم مارتن لوثر Martin Luther ترجمته الجديدة للكتاب المقدس في عام ١٥١٧م، كان في الحقيقة يقدِّم تفسيرًا جديدًا للنص المقدس، فدعوته، وحركة الاصلاح الديني The Reformation برمتها كانت تعتمد على افتراض الحاجة إلى تفسير جديد لذلك النص الهام. وسرعان ما هُرع آباء الكنيسة الجديدة — البروتستانتية — إلى إخراج تفسيراتهم الخاصة؛ ممَّا دفع الغيورين على الدين إلى وضع القواعد اللازم اتباعها في التفسير، فصدر أول كُتيب يتضمَّن لفظ الهرمانيوطيقا عام ١٦٥٤م وعنوانه:
Hermeneutica sacra sive methodus exponendarum sacrarum literarum.
أي «التفسير المقدس أو منهج شرح النصوص المقدسة» لمؤلفه دانهاور Dannhauer، وهو يمثِّل الانصراف عن التخريجات الرمزية، ثم محاولة تبسيط المعاني الظاهرة في النص. وكان لوثر — ثم كالفن Calvin — من دعاة البساطة وعدم التعقيد، ومن ثم كان الاتجاه الذي ساد تلك الفترة هو البحث عن المعنى المقصود intended بدلًا من بناء طبقات من الدلالات الرمزية. وكان لوثر كثيرًا ما يقول إن الكتاب المقدس نصه واضح، وكافٍ بذاته، ويفسِّر بعضه بعضًا.
وسرعان ما تتابعت الكتب التي تضع قواعد التفسير والتي ساعد على تكاثرها توافر المطابع ذات الحروف المنفردة؛ أي التي يمكن استخدامها عدة مرات، وذكر إبلنج Ebling أن عدة مئات من هذه الكتب قد صدرت منذ وقت لوثر حتى مطلع القرن التاسع عشر!
وكانت السمة الغالبة في منهج التفسير في القرن الثامن عشر هي الاعتماد على فقه اللغة اللاتينية philology (واليونانية طبعًا — حيث إن الترجمة كانت من النص اليوناني للكتاب المقدس — وكانت طبعة إرازموس Erasmus للنص اليوناني للعهد الجديد دافعًا إلى تنشيط دراسة اليونانية وفقهها). وكان الهدف دائمًا، كما يقول وولف F. A. Wolf هو أن يبذل المفسِّر قُصارى جهده «لتفهُّم الأفكار المكتوبة أو حتى المنطوقة للمؤلف على نحو ما يُريده هو لنا أن نفهمها.» وهو يضع ثلاثة مستويات للتفسير؛ الأول هو التفسير النحوي grammatica، والثاني هو التاريخي historica (أي الخلفية التاريخية للنَّص بما في ذلك سيرة المؤلف)، والثالث هو الفلسفي philosophica (أي الإطار الفكري العام الذي يضم المستويَين الأولَين). وقد استمرَّ ذلك الاتجاه حتى ثار عليه شلايرماخر Schleiermacher في أوائل التاسع عشر؛ إذ رفض التفسير القائم على فقه اللغة واتهم المذهب بالتناقض وتضارب القواعد!
وقد صدرت ترجمة كتابه المسمى «التفسيرية العامة» General Hermeneutics بالإنجليزية عام ١٩٧٨م، فألقت الضوء على الاتجاه الذي استمرَّ قرابة قرن كامل منذ صدور الكتاب أول مرة عام ١٨١٩م بالألمانية Allgemeine Hermeneutik وحتى دراسات هايدجر وجادامير التي حوَّلت الدفة من جديد. ويقول كِتاب «التفسيرية العامة» إن التفسير هو ببساطة «فن الفهم»، سواء كان النَّص مكتوبًا أو منطوقًا. والتفسير هو «ما يفعله كل طفل حين يستدل على معنى الكلمات الجديدة من السياق الذي وردت فيه.»
وينتهي شلايرماخر بعد التمييز بين التفسير النحوي (أي اللغوي) والتفسير الفني (أي النفسي psychological) إلى أن المفسِّر تمر به لحظات نورانية يستشف فيها معاني لا يفصح عنها ظاهر اللفظ، وهي لحظات نبوئية استشفافية divinatory تمكِّنه من فهم فردية المؤلِّف من خلال «أسلوبه». وكان ذلك الكتاب بمثابة خطوة حاسمة لتجاوز التفسير ذي القواعد الفقهية أو اللغوية، ووضع الأسس لنظرية جديدة عن طبيعة التفسير بل والفهم، وكان من حسن حظ شلايرماخر أن قيَّض الله له من اعتنق مذهبه وكتب سيرة حياته (نُشرت عام ١٩٦٦م من تحرير ريديكر) وهو الفيلسوف ف. ديلتي W. Dilthy الذي زاد على تعريف شلايرماخر بأن حدَّد التفسير بأنه يعني فهم أي شيء انطبعت فيه روح الإنسان، أو حسبما يقول: Schriftlich fixierte Erlebnisausdrucke.
وقد تكون هذه أعمالًا فنية، أو قانونًا ساميًا، أو قصيدة، أو نصًّا مقدسًا، أو بناءً معماريًّا أو رقصة — أي كل شكل مسَّته وشكَّلته الروح الإنسانية لكي يفصح عن معنى sinnhaltige Form — وقد حاول ديلتي أن يشرح عمليًّا الخبرة، فالتعبير، فالفهم، أو حسب قوله: Erlebnis-Ausdruck-Verslehen.
وأن يوضِّح التضاد أو التقابل بين الفهم اليقيني (وهو ما يترجَم خطأً بالمؤكد emphatic في العلوم الإنسانية)، وبين الشرح استنادًا إلى قانون العلة والمعلول causal فحسب في العلوم الطبيعية، ومن ثم أن يضع أُسس ما أطلق عليه «نقد العقل التاريخي» critique of historical reason، وكان يأمل أن يؤدِّي ذلك إلى إرساء الأُسس المنهجية للعلوم الإنسانية على غرار نفس الأسس المنهجية التي أرساها كانط Kant للعلوم الطبيعية في كتابه «نقد العقل الخالص» Critique of Pure Reason. وقد صدرت مختارات من مؤلفاته عام ١٩٧٦م، ثم سلسلة المختارات الكاملة في خمسة أجزاء من تحقيق ونشر ر. أ. ماكريل R. A. Makkreel، وف. رودي F. Rodi، وكانت لا تزال تصدر حتى عام ١٩٨٥م. ولكن العالم الفرنسي الشهير ريكور Ricoeur أثبت في كتاب أصدره عام ١٩٦٨م باسم «تضارب التفاسير» Conflict des interpretations أن التمييز عسير، والفصل أعسر، بين العلوم الإنسانية والطبيعية، استنادًا إلى مذهب التفسير وحده كما سيأتي الحديث عنه تفصيلًا. ولكن جهود ديلتي في إضفاء الطابع المنهجي «العلمي» على التفسير أوجدت له مكانًا متميِّزًا في عصر الوضعية المنطقية وإنكار الدَّور النفسي أو الروحي في إدراك حقائق الأشياء. وربما كان ذلك هو المدخل الحقيقي لموقف هايدجر Heidegger الذي ثار عليه درايدا Derrida ثورةً عارمة؛ ولذلك فلا بد من إلقاء نظرة سريعة عليه.

التفسيرية وفلسفة الوجود

كان فتجنشتاين Wittgenstein لا يزال يدعو لمذهبه، الذي تأثَّر فيه ببرتراند رسل مثلما أثَّر فيه عندما نشر هايدجر أوَّل كتبه التي تشير صراحةً إلى التفسير، وهو «الوجود والزمن» Sein und Zeit عام ١٩٢٧م، وقبل ذلك بستة أعوام كان فتجنشتاين قد نشر «الرسالة المنطقية الفلسفية» المشهورة باسم «الرسالة» Tractatus فاحتدم الصراع الفلسفي بين ما يسمَّى بالفلسفة اللغوية linguistic philosophy أو ما نسمِّيه نحن بفلسفة التحليل اللغوي، التي ترمي إلى رد أصول الفكر كله إلى اللغة، وبالتحديد إلى ما أسميته مبدأ «التحقُّق من الصدق» verification؛ أي تحديد مدى صدق العبارة استنادًا إلى الواقع الخارجي external reality، وبين الاتجاه المثالي الألماني (ومعنى «المثالي» عدم الاكتفاء بالظواهر المادية وافتراض وجود أصول روحية أو فكرية لها أنقى وأسمى).
وكان يمثِّل الاتجاه الأخير هايدجر ومن بعده جادامر Gadamer (المولود عام ١٩٠٠م ولا يزال بقيد الحياة حتى عام ١٩٩٤م)، أمَّا هايدجر فقد أوضح في كتاب صدر عام ١٩٥٩م واسمه «على الطريق إلى اللغة» On the Way to Language (وبالتحديد في القسم السابع) أن مذهبه في كتابه عن الوجود والزمن هو اتباع التفسيرية في إيضاحه للوجود الإنساني، وهو يورد المصطلح هنا صراحةً hermeneuein، وحجته في ذلك أن كل إنسان لديه إحساس بمعنى الوجود. وقال إن إيضاح هذا المعنى هو «التفسيرية — أو الهرمانيوطيقا — بالدلالة الأصلية للكلمة، التي تشير إلى عملية التفسير والشرح Auslegung»، وهو بهذا يوسِّع من معنى المصطلح إلى أقصى حدٍّ ممكن؛ إذ يوازي في ذلك الكتاب وفي غيره — طبقًا لبعض شارحيه (انظر المراجع) — بين الوجود والتفسير، قائلًا إن الوجود يتضمَّن عملية تفسير دائبةً ولا تتوقَّف أبدًا، ممَّا يذكِّر بمذهب ديكارت Descartes عن «الفكر» أو طاقة التفكير باعتبارها دليلًا على الوجود.
ولكن هايدجر هنا يورد «حلقةً» جديدة أو دائرة لا نهاية لها، ولنا أن نبدأ من أي مكان على قطر هذه الدائرة في طريق التفكير الفلسفي فنعود إلى المكان نفسه من جديد — ولنقل إننا سنبدأ من «الفهم» understanding باعتباره فهم الذات وجوديًّا؛ أي الإدراك الحدسي لوجودنا — فالذات والوجود هنا لفظان متعادلان — فإذا انطلقنا من هذا الفهم استطعنا إدراك الوجود باعتباره معنًى مجرَّدًا، ومن ثم نعود إلى إدراك علاقة الوجود المجرَّد بالذات، ومن خلال ذلك نستطيع تفسير أي نص. أمَّا إذا اخترنا أن نبدأ بالنص، مهما تكن طبيعته، فإن عملية التفسير نفسها — أي النشاط النفسي أو الروحي الذي يمكِّننا من التفسير — سوف توصلنا إلى إدراك وجودنا، ومن ثم إلى إدراك الوجود المجرَّد وهلم جرًّا. أي إن هايدجر يرفض فكرة التوصُّل إلى المعنى الكلي عن طريق ضم معاني الأجزاء، ثم فهم معاني الأجزاء من جديد من خلال التفسير الكلي للنص، وهي الدائرة القديمة التي كان يُطلَق عليها اسم «دائرة التفسيرية» hermeneutical circle، ويحل محلها «دائرته» الجديدة التي تفترض دائمًا الفهم الوجودي المتأصِّل في النفس، والفطري.

اللغة مناط البحث

لقد تطوَّر هايدجر، انطلاقًا من هذا المفهوم الأساسي للتفسير، إلى وضع نظرية متكاملة للفهم تقوم على أنه طاقة تحكمها العوامل التاريخية؛ فالفهم تاريخي لأنه أولًا يصدر في نقطة زمنية ويرتبط بها، وثانيًا لأن المفاهيم التي توارثناها من التاريخ دائمًا ما تؤثِّر في تفهُّمنا للنصوص، ومن ثم في تحليلنا إياها، وفي النهاية في «تفسيرها».

وفي المرحلة الأخيرة من تفكيره كان يعتبر أن اللغة هي مناط البحث أولًا وأخيرًا، وأن التعمُّق في هذا البحث سوف يأتي لنا بالتفسير الذي يتفق مع فلسفته فيما يتعلَّق بإدراك الوجود، ومن ثم أطلق على اللغة التعبير الذي أثار علماء اللغة من بعده، وخصوصًا جاك دريدا؛ ألَا وهو أن اللغة «منزل الوجود» house of being. وكان يعتقد أن ذلك كله يقوم على الدراسة الموضوعية للنصوص، وخصوصًا النصوص الأدبية في مقالة شهيرة له بعنوان Der Ursprung der Kunstwerkes؛ أي «أصل العمل الفني»، نشرها عام ١٩٣٦م. بل إن خليفته جادامير قد استند إلى هذه المقالة في الهجوم على «الاتجاه الذاتي في علم الجمال منذ كانط»، وهو الاتجاه الذي يُنكر قدرة الأعمال الفنية على التعبير عن الحقيقة؛ فالحقيقة كما يعرفها جادامير، متأثِّرًا بهايدجر، هي حقيقة وجودية أولًا، ومن ثم فهو يؤيِّد ما ذهب إليه هايدجر من أن «وجود» العمل الفني نفسه أكبر دليل على حقيقته، والتفسير هو وسيلة إثبات هذا الوجود. وقد ألحَّ على هذه الفكرة في كتابه الذي يعتبر العمدة في هذا الباب، والذي أصدره بالألمانية عام ١٩٦٠م، بعنوان «الحقيقة والمنهج» Wahrheit and Methode، ثم تُرجِم إلى الإنجليزية عام ١٩٧٥م (والنسخة التي بين أيدينا اليوم نسخة منقَّحة صادرة عام ١٩٨٨م).
ولم يمضِ عام أو عامان حتى تعرَّض ذلك الكتاب لهجوم شديد من جانب الناقد الإيطالي إميليو بيتي Emilio Betti، الذي أعلن أن الألمان يناقضون أنفسهم ولا يفهمون معنى الموضوعية في تناولهم للتفسير، وهو يقول في فقرة شهيرة في كتاب أصدره عام ١٩٦٢م، إن التفسير الموضوعي قد أُلقي به في عُرض البحر، مؤكِّدًا أن ما يدعو إليه هو العودة إلى التقاليد والتراث؛ «أي إلى الهرمانيوطيقا باعتبارها المجال العام لمشكل التفسير»، وهو يصف الهرمانيوطيقا بأنها ذلك المبحث العام العظيم الذي فاضت مياهه العذبة فأكسبت الدنيا سناها وسناءها إبَّان الحركة الرومانسية، وكانت العامل المشترك في جميع العلوم الإنسانية، وكانت الشغل الشاغل لكثير من القرائح المبدعة في القرن التاسع عشر، قائلًا إن ذلك الشكل الجليل العريق من الهرمانيوطيقا أخذت أضواؤه تخبو في وعي الكُتاب الألمان.
وتعرَّض جادامير للهجوم على مدى الستينيات، من التفكيكيين (كما سيأتي ذكره) وغيرهم من الدارسين خارج ألمانيا؛ ففي أمريكا هاجمه أ. د. هيرش E. D. Hirsch في كتاب أصدره عام ١٩٦٧م بعنوان «صحة التفسير» Validity in Interpretation، ويقترح فيه مواصلة تقاليد الهرمانيوطيقا المنهجية التي تستهدف وضع تفسيرات موضوعية للنُّصوص. ولكن الاتجاه الديني الذي قويت شوكته بعد الحرب العالمية الثانية في ألمانيا وجد في هايدجر وجادامير بعض العناصر الإيجابية التي تساعد الباحثين على التصالح مع النصوص المقدسة، فاتجه ثلاثة من علماء اللاهوت الألمانيين إلى تبَني «منهج» جادامير (وهم ر. بولطامان R. Bultamann وج. إيبلينج G. Ebeling وأ. فوخس E. Fuchs)، كما اتجه بعض علماء اللاهوت الأمريكيين إلى اعتبار كتاب جادامير المذكور بابًا يمكنهم الدخول من خلاله إلى لون من التفسير المقنع على أُسس فلسفية للنصوص المقدسة، ومنهم ج. روبنسون وج. كوب J. Robinson وG. Cobb، على حين اتجه فريق من الباحثين الألمان إلى إثبات صحة ما دعا إليه جادامير بتطبيقه على النصوص الأدبية من خلال جمعية كوَّنوها في الستينيات، واستمرَّت اجتماعاتها تُعقد مرةً كل عامَين حتى أوائل الثمانينيات، وهي جمعية «الهرمانيوطيقا وفن الشعر»، وإن كانوا يشيرون إليها باسم الورشة Workshop (أي حلقة العمل أو حلقة التدارس). ولم يصلنا بالإنجليزية منها سوى إعلان المقاصد، أو المانيفستو الذي أصدره اثنان من أعلامها عام ١٩٧٠م، هما زوندي وياوس Szondi and Jauss، والذي يدعوان فيه إلى إصلاح ما يسمَّى بفقه اللغة philology، وإعادة النظر في التاريخ الأدبي.

التفسيرية والبنيوية

نعود الآن إلى ريكور Paul Ricoeur وكتابه الذي سبقت الإشارة إليه، وهو «تضارب التفسيرات». وترجع أهمية هذا الفيلسوف الفرنسي إلى محاولته إقامة جسور بين الهرمانيوطيقا والفلسفة التحليلية من جهة، والبنيوية التي كانت تمر بتحوُّلات كبيرة في نظرياتها، والتحليل النفسي واللاهوت. ويتميَّز موقف ريكور في كتابه بعنوان «عن التفسير: مقال عن فرويد»: De l’ Interpretation Essai Sur Freud, 1946 بالتفريق بين «هرمانيوطيقا الارتياب» hermeneutics of suspicion (ونحن نناقش هذا المصطلح في القسم التالي من المقال)، وهو المذهب التفسيري الذي «يرتاب» في وجود معانٍ باطنة وراء النص الظاهر، والذي سلكه أتباع ماركس Marx وفرويد ونيتشه Nietzsche، وبين هرمانيوطيقا الوصول إلى المعنى الحقيقي، وهو الأسلوب المستخدم في التفسيرات اللاهوتية والدائرة في فلك «فقه اللغة».
أمَّا اللون الأول فهو يعتبر أن النص يجسِّد وعيًا زائفًا ينبغي قهره والتغلُّب عليه، وأمَّا الثاني فهو ينظر إلى النص باعتباره لونًا من التحدي للوعي الزائف للمفسِّر interpreter، ومن ثم حاول في ذلك الكتاب تبيان ما أخطأ فيه جادامير، وخصوصًا عدم إيضاحه لحالات انحراف أو تحريف المعنى distortion، ومن ثم انعدام صحة التواصل communication، وهو ما نعاه هابرماس Habermas أيضًا على جادامير، وهو من تلاميذه السابقين، في ثلاثة كتب لم تُترجَم إلا في عام ١٩٨٣ و١٩٨٧ و١٩٨٨م. وتطرَّق ريكور بالتفصيل لِمَا زعمه هايدجر وجادامير من ابتغاء منهج علمي من خلال انتقاداتهما لمناحي القصور في المناهج السَّلفية للتفسير، فأوضح أن تبيان العيوب والمثالب لا غبار عليه، ولكنه لا يؤدِّي إلى وضع منهج متماسك يقوم على أُسس موضوعية علمية.
وانتقل ريكور في السبعينيات إلى السيميوطيقا — علم العلامات الذي عرضنا له آنفًا ونُخصِّص له فصلًا لاحقًا — في كتاب بالغ الأهمية وهو «الاستعارة الحية» La Metaphore Vive (١٩٧٥م) الذي تُرجِم باسم «حكم الاستعارة» The Rule of Metaphor، وفي كتاب آخر هو «نظرية التفسير» Interpretation Theory (١٩٧٦م)، ثم أتبعه بأهم عمل له وهو كتاب ضخم يقع في ثلاثة أجزاء (مجلدات) بعنوان «الزمن والرواية» Time and Narrative (وعنوانه الأصلي Temps et Récit، ١٩٨٣–١٩٨٥م)، وصدرت الترجمة للمجلدات الثلاثة متعاقبةً في ١٩٨٣ و١٩٨٦ و١٩٨٨م.
وهذه الأعمال مجتمعةً تمثِّل المدخل الحقيقي للأساس الفلسفي للتشابك بين العلوم الإنسانية والعلوم الطبيعية؛ بحيث يمكن أن تنتمي الهرمانيوطيقا إلى جميع المباحث البشرية باعتبارها منهجًا لدراسة الظواهر، مكتوبةً كانت أم مرئية أم مسموعة، وهنا يركِّز ريكور على ضرورة الالتزام بمنهج يسمح بالتفاعل فيما بين المباحث المتعدِّدة؛ فالمنهج المرتبط بمذهب فكري سابق على النص أو على الظاهرة سوف يرصد فقط، أو ربما ينحاز إلى، ما يتفق مع المذهب في التفسير، وهو هنا، في رأي بعض الشراح، يطوِّر ما كتبه هو نفسه (إن لم يكن ينقِّحه ويعدِّله)، في كتبه الأولى مثل كتاب «التاريخ والحقيقة» Histoire et Vérité (١٩٥٥م) الذي يطبِّق فيه الظاهراتية phenomenology على التفسير (انظر المعجم)، ومثل «رمزية الشر» (١٩٦٠م) La Symbolique du Mal الذي يصنِّف فيه فئات تفسيرنا لمفاهيم الخير والشر التقليدية وفقًا لظواهرها المجسَّدة، ومذهبه التفسيري الأول يرهص باتجاهه إلى السيميوطيقا، وخصوصًا بسبب توسيعه لمفهوم العلامات في حتى تنتظم جميع الظواهر في أحوالها وتشابكاتها المختلفة.

تأثير نيتشه

والتغيير الجذري الذي تعرَّضت له التفسيرية في فرنسا، كما سوف نبيِّن في الحديث عن التفكيكية، له جذوره التي لا مناص من الإشارة إليها في كتابات الفيلسوف الألماني نيتشه Nietzsche، وقد صدرت الترجمة الإنجليزية لكتابه «عن أنساب الأخلاق» On the Genealogy of Morals عام ١٩٦٩م، والذي أثَّر في أفكار دريدا Derrida وميشيل فوكوه Michel Foucault التفسيرية وآفاقها؛ إذ إن نيتشه يقول إن التفسير بطبيعته يعتمد على المنظور الشخصي perspectival، وهو يقع دائمًا خارج تخوم الموضوعية post objective، بل لا يمكن الفصل بينه وبين مصالح الذين يملكون زمام الأمور في ثقافةٍ من الثقافات، ومن ثم يمكن الإشارة إلى هذه المصالح باسم مصالح السلطة power interests، ولا يمكن إماطة اللثام عن هذه المصالح التي تكمن وراء كل تفسير إلا بالبحث عن أنسابها؛ أي بتتبُّع جذورها في التاريخ وفي المجتمع؛ فكل تفسير يخضع لشجرة عائلة كثيرًا ما يغفل المفسِّر عنها؛ لأنه يستظل بظلها ويأكل من ثمرها.
وكان ميشيل فوكوه سبَّاقًا إلى رفض المذهب الظاهراتي (الذي أسميته الظاهراتية في الفقرة السابقة)، وصرَّح بذلك دون لبس أو غموض، وكان مذهبه يقضي بأن يستند التفسير إلى الكشف عن مصالح القهر coercive interests وأبنية السلطة power structures التي تُخفيها اللغة، واتجه في تفكيره إلى الثقافة وظواهرها في المجتمع محاولًا أن يجعل من رصد الأنساب لكل مفهوم منهجًا يصل به إلى أبنية المجتمع الإنساني الموروثة، وأخرج في ذلك عدة كتب لا تهمنا، وصرَّح في إطار النقد الأدبي. ولكن اتكاءه على اللغة في إطار مفهومات التفسير كان عاملًا ساعد حركة ما بعد البنيوية في الوقوف على قدمَيها، ودعم جهود دريدا واتجاهه الفلسفي الذي سنعرض له بإيجاز في القسم التالي من المقال.
أمَّا دريدا فقد انقضَّ بلا هوادة على تراث الفكر الألماني في التفسير برمته، فأعلن رفضه لمذهب هوسرل Husserl الظاهراتي (والمعروف أن كتاب هوسرل بعنوان Ideen (١٩١٣م) — أي الأفكار — كان قد ترجمه ريكور إلى الفرنسية)، ومذهب هايدجر الذي يُعتبر مذهبًا لدراسة الوجود من خلال الظاهرات العقلية (كما سبق أن شرحنا)، ويشار إليه أحيانًا بتعبير phenomenological ontology؛ إذ زعم أن مذهب هوسرل ومذهب هايدجر يضمران ما أسماه بميتافيزيقا الحضور metaphysics of presence (وهو ما سنشرحه في القسم التالي) خصوصًا كتاب هوسرل بعنوان «بحوث في المنطق» Logische Untersuchungen (١٩٠٠م)، والذي تُرجم إلى الإنجليزية بعنوان Logical Investigations عام (١٩٧٠م)، وأن ما يدَّعيه هايدجر من الهجوم على فكرة «التركيز على الكلمة»، ومعناها إحالة اللغة إلى العالم الخارجي logocentrism، يخفي الإيمان بذلك «الحضور» الميتافيزيقي، ومن ثم فإن مذهبهما في التفسير ناقص ومعيب وغير موضوعي. وكان سبيل دريدا إلى نقض هذا المذهب ذا طابع ثوري وجذري إلى أبعد الحدود؛ فهو لا شك يتفق مع هايدجر في رفض إحالة اللغة إلى الواقع المحسوس، ولكنه يختلف معه أنه يرفض مبدأ الإحالة في ذاته؛ فهو يهاجم جميع نظريات التفسير؛ لأنها في رأيه تقوم على ذلك الفكر الميتافيزيقي، وهو يرفض بذلك أيضًا تاريخ النقد الأدبي برمته ودون استثناء.
والطريف هنا أن دريدا يستعير من هايدجر كلمته الألمانية Destruktion؛ أي الهدم أو التحطيم أو Abbau حتى في الهجوم عليه، ويُكسبها طابعًا فرنسيًّا، ويهبها معنًى أعمق؛ إذ يجعلها déconstruction؛ أي التفكيكية، وسوف نرى ما جرَّه هذا الاتجاه الفلسفي في التفسير على المفهومات النقدية والأدبية. ولكن يجمل بنا قبل الانتقال إلى التفكيكية أن نلخِّص بعض الاتجاهات الحديثة في التفسير، والتي تُعتَبر قائمةً حتى أوائل التسعينيات.

التحدي الفرنسي

عندما التقى جادامير بدريدا في باريس عام ١٩٨١م، وكان لقاءً قصيرًا، تحدَّثا بطبيعة الحال عن علاقة التفسير بما بعد البنيوية التي كان الأخير رائدها.

ولم يكن يشغل بال جادامير ما فعله الأمريكيون بنظرياته عن التفسير، خصوصًا على أيدي الفيلسوف الأمريكي البراجماطي ريتشارد رورتي Rorty، الذي أيَّد مذهبه (في كتابَيه «الفلسفة ومرآة الطبيعة» Philosophy and the Mirror of Nature (١٩٧٩م) و«عواقب البراجماطية» Consequences of Pragmatism ١٩٨٢م)، ولا على أيدي بيرنشتاين Richard J. Bernstein الذي حاوره — بل وحاور رورتي وهابرماس — في محاولة لإقامة التفسير على أسس واقعية وعملية جديدة. ولكن الذي كان يشغله هو ما أسماه ﺑ «التحدي الفرنسي» The French Challenge (انظر الفصل بعنوان النص والتفسير في كتاب Michelfelder and Palmer)؛ إذ شهدت الثمانينيات نزوعًا مُطردًا نحو إنقاذ «التفسيرية» باعتبارها مذهبًا فلسفيًّا في صورته الحديثة؛ ممَّا أصبح المثاليون والبراجماطيون على حد سواء يعتبرونه تهديدًا للفكر الإنساني نفسه؛ أي الاتجاه التفكيكي الفرنسي الذي ارتبط في أذهانهم بالهدم والإنكار والسلبية المطلقة.
فالفلسفة البراجماطية الأمريكية تُعتبر فرعًا — أو «قريبًا من بعيد» كما نقول بالعامية — للفلسفة الواقعية الإنجليزية، وهي تحتفل كما هو معروف بوليام جيمس William James وجون ديوي John Dewey، وقد أضاف رورتي في تقييمه للتفسير تقسيمًا جديدًا على أساسِ مَن أسماهم بأنصار الأُسس (أو بالأُسسيين foundationalists) الذين يضعون أُسسًا مستقاة من الميتافيزيقا ومن نظرية المعرفة للفكر والتفسير، ومَن أسماهم بمناهضي الأُسس antifoundationalists، وذكر في عدادهم، إلى جانب هذَين، كيركجارد Kierkegaard وفتجنشتاين وجادامير والمرحلة الأخيرة من فكر هايدجر. وكان بذلك يحاول تقريب مناهج التفسير الحديثة من الفكر الواقعي العملي أو البراجماطي، بل لقد كتب بيرنشتاين إليه كتابًا كاملًا عام (١٩٨٣م) أسماه «تجاوز الموضوعية والنسبية» Beyond Objectivism and Relativism، يقول فيه إن التفسير يقدِّم أساسًا «لحوار جديد» للكشف عن الأبعاد التي لم يحاول أحد حتى الآن أن يميط اللثام عنها للعقلانية rationality، ويؤكِّد أن التفسيرية تشير إلى ما يتجاوزها وما ينصَب على العمل والواقع العملي؛ أي praxis.

السياسة والتفسيرية

في أواخر الثمانينيات أصدر ستانلي روزين Stanley Rosen كتابًا بعنوان «الهرمانيوطيقا باعتبارها مبحثًا سياسيًّا» Hermeneutics As Politics (١٩٨٧م)، وجَّه أنظار الدارسين إلى جوانب السياسة الكامنة في علوم التفسير أو في مذهب التفسيرية بصفة عامة، ومن ثم احتدمت المناقشات خصوصًا في الدوريات الأدبية والنقدية (بل والخاصة بالعلوم الاجتماعية) حول الطابع السياسي لبعض المذاهب الفكرية القائمة على التفسيرية، وخصوصًا المناقشة العاصفة والمشحونة بالتوتُّر والانفعال حول الاتجاهات أو الميول الفاشية لهايدجر، في كتاب أصدره فيكتور فارياس Victor Farias بعنوان «هايدجر والنازية» (تُرجم عام ١٩٨٩م) Heidegger and Nazism، وكذلك، كما سوف نرى، ما قام به دريدا من إلقاء الضوء على العلاقة بين التفكيكية والسياسة.
والعلاقة بين التفسيرية والأدب والنقد علاقة وثيقة، وتاريخها معروف، وما يهمنا هو تحوُّل الاتجاه التفسيري في العصر الحديث من الكاتب إلى القارئ، بحيث أصبح التساؤل يدور حول موقف القارئ، بل أصبح القارئ هو محور الدراسة في شتى الاتجاهات التفسيرية الحديثة. وإذا كانت المدارس اللغوية الحديثة، وفلسفات اللغة التي بُنيت عليها، تتطلَّب من الناقد اليوم تقديم نظرات علمية في عملية «إنتاج النص» production of text، فالقارئ غير مطالب بالإلمام بهذه النظريات؛ إذ لا يُطلب منه إلا الإلمام بمفهوم أو بنظرية متماسكة عن التفسير، أو التفسيرية. ويتساءل أحد كبار الدارسين عمَّا إذا كانت النظرية التفسيرية تستند إلى نظرية الفهم أو تؤدِّي إليها؛ أي هل يمكن اعتبار أن الفهم أسبق من التفسير؟ ولو أن ذلك كله قد تعرَّض لضربات معاول هدم التفكيكية.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤