رحلة

كانت قصيرة جدًّا، ولو استطعت لأطلتها جدًّا، ولكن ماذا أصنع والواجبات المعقولة وغير المعقولة تكرهني على الرجوع إلى مدينة القاهرة؟ هذه التي أحبها أشد الحب حتى كأن الله لم يخلق مدينة غيرها خليقة بالحب، وأضيق بها أحيانًا أشد الضيق، حتى كأن الله لم يخلق مدينة أثقل منها على النفس، وأدعى منها إلى الفرار.

كانت رحلتي قصيرة جدًّا، بدأت يوم الخميس، وانتهت يوم الثلاثاء، وكان أظهر منافعها أني فررت فيها من أيام العيد، فخلوت فيها لا إلى نفسي، ولكن إلى أهلي وأصدقائي، وقلما أخلو إلى أهلي وأصدقائي في القاهرة، بل قلما ألقاهم إلا على مائدة الغداء أو العشاء، بل قلما ألقاهم على هذه المائدة، وما أكثر ما أخلو إلى الغداء أو العشاء، فآخذ حظي من الطعام كارهًا له، متبرمًا به، متعجلًا الانصراف عنه؛ لأن الطعام لا يحب الوحدة، ولا يألف الانفراد.

خلوت إذن في هذه الرحلة القصيرة إلى أهلي وبعض أصدقائي، واستمتعت بهذه اللذة الدقيقة الرقيقة الحلوة، التي تَحُول الواجباتُ المعقولة وغير المعقولة بيننا وبين الاستمتاع بها أيام العمل في مدينة القاهرة، فنتحرق شوقًا إليها وطمعًا فيها، حتى إذا ظفرنا بها كان إحساسنا لها قويًّا عميقًا، وكان انصرافنا عنها لاذعًا أليمًا، وكان إقبالنا على العمل بعدها فاترًا مثيرًا للغيظ أول الأمر، ثم قويًّا منتجًا بعد قليل من المران.

وما عن هذه اللذة الخاصة التي أصبتها في هذه الرحلة من الخلوة إلى الأهل والأصدقاء أريد أن أتحدث في هذا المقال، فإن هذه قصة أخرى كما يقول كيبلنج، والحديث عنها يحتاج إلى شيء من الراحة وفراغ البال، لا سبيل إليه في القاهرة، بل لا سبيل إليه في مصر، وإنما السبيل إليه في قرية من قرى السڤوا أو الدوفينيه أو الكانتال، على قمة جبل من هذه الجبال التي أَلِفت الاعتصام بها إذا أقبل الصيف، والتي فارقتها في الصيف الماضي، وإن نفسي لتتفرق ألمًا، وإن قلبي ليتقطع حسرات، لأني لا أعرف هل أعود إليها، ومتى أعود إليها.

إنما أريد أن أتحدث في هذا المقال عن أشياء لا تحتاج إلى فراغ بال، ولا إلى تفكير طويل، لأنها أيسر من ذلك وأقرب منالًا، وما أدري أأفرغ من هذه الأشياء في هذا الحديث، أم أضطر إلى الحديث إليها في حديث آخر، ولكني أبدأ وأجري على الله.

وأول هذه الأشياء التي أريد أن أتحدث عنها مدرسة فكرت فيها أثناء الذهاب وأثناء الإياب، وكان تفكيري فيها حلوًا مرًّا، حلوًا لأنه اضطرني إلى التفكير في صديقي أحمد أمين، فلا سبيل إلى إنشاء المدارس أو التفكير في إنشائها دون التفكير في صديقي أحمد أمين، وأكبر الظن أنه فكر في هذه المدرسة كما كنت أفكر فيها، فقد ارتحل أثناء العيد كما ارتحلت، واتخذ السيارة كما اتخذتها أداة للسفر ووسيلة إلى الانتقال، ومرًّا لأني لم أشعر قط بالحاجة إلى مدرسة كما شعرت بالحاجة إلى هذه المدرسة، وهي مدرسة الغضب، الغضب الناطق الذي لا يعرف الصمت ولا يرضاه، والغضب المر الذي لا يحب الأناة ولا يصبر على الانتظار، ولا يحتمل تخير الألفاظ والتأنق في العبارات، الغضب اللاذع الذي لا يحتاط ولا يتحفظ في استعمال الألفاظ القاسية الخشنة، الغضب الذي ينبغي أن يشفق منه السلطان وأن يحسب له حسابًا أي حساب، الغضب الذي يقلق النواب والشيوخ أثناء النهار، ويؤرقهم أثناء الليل، ويمنع الوزراء من الراحة والدعة، ويضطرهم جميعًا إلى أن يعملوا ما يستطيعون وما لا يستطيعون ليمنعوه من الظهور ومن الانفجار.

مدرسة الغضب هذه التي فكرت فيها يوم الخميس ويوم الثلاثاء أثناء سفري إلى تونة الجبل، وأثناء عودتي منها، هي التي تُعلِّم المصريين كيف يطالبون نوابهم وشيوخهم ووزراءهم مطالبة شديدة ملحة بالتفكير في المصالح العامة التي تمس أفراد الشعب جميعًا، وبإنفاق أموال الدولة في تحقيق هذه المصالح، وبإنفاق جهود الدولة في تحقيق هذه المصالح، قبل التفكير في أي شيء آخر، وقبل العناية بأي شيء آخر. إن الفرق عظيم جدًّا بين السفر في القطار والسفر في السيارة، فأما في أوروبا فالناس يؤثرون السفر في السيارة، لا لأنه أسرع وأحرى أن يوفر على المسافرين ألوانًا من الراحة والعزلة والفراغ لأنفسهم، والوقوف متى شاءوا هم، والسفر متى شاءوا هم، لا متى شاء نظام القطار فحسب، ولكنهم يؤثرون السفر في السيارة لهذا كله، ولأنهم يجدون فيه ألوانًا أخرى من المتاع لا يجدونها حين يسافرون في القطار، أما في مصر فإن اتخاذ السيارة أداة للسفر لا يوفر على المسافر لذة، وإنما يثير في نفسه ألمًا أي ألم، ولا يكفل له راحة، وإنما يعرضه لتعب أي تعب، أستغفر الله، بل لخطر أي خطر، أستغفر الله، بل لغضب أي غضب، وضيق أي ضيق.

إن المسافر في القطار يتخذ مكانه مطمئنًّا ويلقي نظره بين حين وحين على المدن والقرى والمشاهد التي يمر بها أو تمر به، فيرى ما يحب ويرى ما يكره، ولكنه لا يزيد على أن يرى ما يحب وما يكره، فأما المسافر في السيارة فإنه لا يرى فحسب، ولكنه يرى ويشقى بما يرى وينغمس فيما يرى. ماذا أقول؟ بل هو يمتزج بما يرى ولا يجد من هذا الامتزاج إلا شرًّا ونكرًا. تمضي به السيارة في طرق منها الممهد ومنها غير الممهد، والله يعلم أن الممهد منها لشديد الحاجة إلى أن يُستَأنف تمهيده من جديد، فأما غير الممهد فصوِّره كما أحببت أو كما استطعت فلن تبلغ من تصويره شيئًا، وأيسر ما يمكن أن تقوله في هذا السفر الذي تتخذ السيارة أداة له أنه بديع جدًّا، يعلمك كيف تذوق التراب وكيف تجد طعمه، أستغفر الله، بل كيف تجد طعومه المختلفة: طعمه حين يمر بالفم، وطعمه حين يمر بالأنف، وطعمه حين يمر بالأذن، وطعمه حين يمر بالعين، وطعمه حين يلتصق بأي جزء من أجزاء الجسم، وحين يخترق إلى أجزاء الجسم ما تحمل من ثياب مهما تكن كثيفة محكمة، ومهما تبذل من الاحتياط في اصطناعها والاتقاء بها فلن تبلغ من ذلك شيئًا، إنما أنت في جو من تراب يأخذك من جميع أقطارك فيفسد عليك كل شيء، ويبغض إليك كل شيء، ويملأ قلبك ورأسك، ويطلق لسانك بهذا السؤال أو بهذه الأسئلة: لماذا ندفع الضرائب؟ وفيم تنفق الدولة أموالنا؟ وماذا تصنع الدولة؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نبذل لها كل ما تحتاج إليه من الطاعة والخضوع للنظام؟

والسفر في السيارة لا يخوض بك هذا البحر من التراب فحسب ولا يذيقك طعم التراب حيًّا قبل أن تذوقه بعد عمر طويل إن شاء الله فحسب، ولكنه يعلمك شيئًا آخر فيه خير وفيه شر، وربما كان شره أكثر من خيره: يعلمك كيف تحمل الخطر وكيف تتعرض للخطر، يعلمك كيف ترافق الموت على أن تكون له موردًا ومصدرًا في وقت واحد؛ فسيارتك مصدر خطر متصل على الأحياء من الناس ومن الحيوان على اختلاف أنواعه، حين تمر بالقرى المكتظة بالناس والماشية والدواجن، وحين تمر بالطرق الضيقة المكتظة بهؤلاء جميعًا، وسيارتك عرضة للخطر الذي يحمل الموت، ويمثله لك أصدق تمثيل، ويخيله لك أروع تخييل، حين تمر في هذه الطرق المتضايقة المتضائلة التي يكتنفها الموت من يمين ومن شمال، وأنت حين تسافر في السيارة حامل للموت وقابل له كما قلت آنفًا، وليس الغريب أن تكثر حوادث الموت التي تلقى المسافرين في السيارات والمتعرضين للسيارات المسافرة، وإنما الغريب كل الغرابة أن تكون هذه الحوادث قليلة نادرة كما هي الآن، وإذا دل هذا على شيء فإنما يدل على أن الله يرعى مصر والمصريين، ويرد عنهم الخطر ويذود عنهم المكروه، كما يدل على أن المصريين وإن لم يتعلموا، وإن لم يتثقفوا، قد أتيح لهم حظ من المهارة والبراعة وحسن الاحتياط، وليس هذا كل ما يعلمك السفر في السيارات، وإنما هو أيسره وأظهره، ولكن انظر إلى هذه القرى التي تمر بها، وإلى ما يسيطر عليها من الفقر والبؤس والقذارة وفساد الأمر كله، فستسأل نفسك كما سألت نفسي: لماذا ندفع الضرائب؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نمنحها ما ينبغي أن نمنحها من الطاعة والإذعان للنظام؟ ولن تكتفي بإلقاء هذه الأسئلة على نفسك، ولكنك ستتحرج من أن تذوق في بعض الطريق ما تحمل من طعام؛ لأنك ستستحي أن تفرغ لطعامك ولذتك ومن حولك هذا البؤس المنكر والفقر المدقع والبلاء العظيم، ومن حولك قوم يمرون بك فينظرون إليك، منهم من يبغضك ومنهم من يحسدك، ومنهم من يتمنى لو انتقل ما في يدك إلى يده، واتخذ طريقه إلى فمه لا إلى فمك، وأكثرهم يمنعه الحياء من أن يزيد على النظر والأماني والإذعان للقضاء، وقليل منهم يدفعه البؤس إلى أن يسألك فضلًا مما أنعم الله به عليك أو ينتظر انصرافك عن طعامك ليحتاز بقيته راضيًا فرحًا.

وهذا كله في أيام العيد التي يوسع الناس فيها على أنفسهم ويوسع فيها بعضهم على بعض، فكيف بالأيام التي لا عيد فيها ولا توسعة، وإنما هو العمل المتصل والضيق المستحكم، منذ تطلع الشمس إلى أن تغرب، ومنذ يظلم الليل إلى أن ينجلي؟

والحمد لله على أن هذه الخواطر المؤذية المؤلمة التي تعترضك أثناء السفر فتنغص عليك لذته وتفسد في نفسك بهجته، ليست كل شيء، ولكن هناك ما يصرفك عنها أو يصرفها عنك، وينقلك إلى طور آخر فيه الراحة والرضا، وفيه الجذل والأمل، وفيه البهجة والنعيم. هناك استقبال مضيفيك حين تنتهي الرحلة بهذا البشر الباسم، وهذه البشاشة الطلقة، وهذا الود الذي يحط عنك الثقل ويرفه عليك من الجهد، ويرد نفسك إلى الأمن وقلبك إلى الطمأنينة، وينسيك ما احتملت من مشقة، وما تعرضت له من خطر، وما رُضْتَ نفسك عليه من عناء، وهناك الأحاديث التي تطوف بك في أرجاء الحياة الحاضرة ضاحكة مرة، حزينة مرة أخرى، متأسية مرة ثالثة، والتي تنقلك إلى الحياة الماضية معتبرة متعظة، معجبة مكبرة، راثية محزونة، بين حين وحين، والتي قد تتجاوز بك الماضي والحاضر وما يدعوان إليه من رضا وسخط، ومن إعجاب وغضب، إلى حياة مستقبلة مجهولة، ولكنها على ذلك ترسم في الآفاق ابتسامات حلوة تثير الأمل وتبعث الرجاء.

ثم هناك هذا المكان الذي قصدت إليه من الصحراء العريضة البعيدة الآفاق، التي ملأها الهدوء حتى اكتظت به، وحتى عجزت أو كادت تعجز عن أن تشتمل شيئًا آخر غيره؛ لأنها لا تستطيع أن تشتمل إلا هدوءًا ينبو عنه ما يكون فيها من حركة الناس وأصواتهم واضطرابهم فيما يعرضون له من الأعمال، هدوء في الجو إلا حين تعصف العاصفة، وتتناوح الرياح، ويثور رمل الكثبان، وهدوء في هذا الرمل الساكن المستقر الذي يداعب النسيم سطحه، فلا يبلغ منه شيئًا، ولا يثير منه شيئًا، وإنما يمسه مسًّا رفيقًا رقيقًا، كما تجري يدك في خفة ورفق ورقة على خد صَبِيِّك الحبيب إليك، وهدوء في أعماق هذا الرمل قد مضت عليه القرون، وتصرمت من دونه الحقب، قد نسي الزمان ونسيه الزمان، لولا هذا الأستاذ الذي أرسلته الجامعة منذ أعوام ليرد إلى أعماق الصحراء ذكر الزمن، وليرد على الزمن بعض ما نسيه من الكائنات. هدوء شامل كامل، كان خليقًا أن يتصل شاملًا كاملًا حتى يرث الله الأرض ومن عليها، لولا أن كلية الآداب أرسلت صديقنا سامي جبرة ومعه طائفة من الأعوان وفريق من العمال فأزعجوا هذا الهدوء، وبعثوا في هذه الصحراء حظًّا من حياة.

فهذه الحركة المتصلة، وهذه الرمال تنقل من مكان إلى مكان، وهذا الغناء الحلو، غناء الصعيد، يوقظ النوم الذي اتصل في أعماق الصحراء، وهذه الكهرباء تخلف الشمس إذا كان الليل، وهذه أداة الكهرباء تحدث هذا الصوت المتصل المتقطع الذي يتبع بعضه بعضًا في سرعة ونشاط، والذي يثير في نفسك خواطر غريبة حين يتقدم الليل، فيسكن كل شيء، ويسكت كل شيء غيره، فإنه يظل متصلًا متقطعًا يتبع بعضه بعضًا في سرعة ونشاط.

ثم هذه الآثار التي انحسر عنها الرمل، وانجلى عنها النسيان، واتصلت بأسباب الحياة، أو اتصلت بها أسباب الحياة، وإذا هي تتحدث إلى الناس وتسمع منهم وتعطيهم ما يريدون من العلم بالتاريخ والفن عن رضا وطواعية أحيانًا، وبعد إباء وامتناع أحيانًا أخرى، وقد يلح عليها السائلون بالسؤال فتستعجم ولا تجيب، والدار لو كلمتهم ذات أخبار، كما يقول الشاعر القديم.

وما أحب أن أتحدث الآن عن هذه الآثار المختلفة المتنوعة التي تعظم حتى تبلغ الروعة، والتي تدق حتى لا يكاد يبلغها الحس، وإنها على ذلك لمصدر للجمال البارع، وإنها على ذلك لنفاذة إلى أعماق النفوس.

وما أحب أن أتحدث الآن عن هذه الآثار، فلست من الحديث عنها في شيء، وإنما أسجِّل هذه الظاهرة الغريبة التي يجدها من يزور هذه البقعة من الصحراء، فيضطر إلى أن يعرف هذه الخصلة التي تميز مصر تمييزًا ظاهرًا: خصلة الوحدة الخالدة مهما تختلف الظروف، ومهما تتباعد العصور، ومهما تتباين الأطوار.

في هذه الصحراء آثار وثنية مغرقة في وثنيتها، منها الفرعوني، ومنها اليوناني، ومنها الروماني، ولكنها كلها قد طُبِعت بالطابع المصري، فلم تستطع أن تمتاز من مصر أو تنفرد عنها، وفي أثناء هذه الآثار المغرقة في الوثنية والقدم، يظفر الباحثون بصليب من صلبان النصارى، كيف اندسَّ هذا الصليب في أعماق الصحراء؟ وكيف أقام في هذه الوثنية المغرقة في القدم؟ وفي أثناء هذه الآثار يظفر الباحثون بألوان من القربان أرسلها الوثنيون من المصريين القدماء إلى آلهتهم أو حملوها إلى هؤلاء الآلهة، على نحو ما يرسل المصريون المحدثون ويحملون إلى الأولياء والقديسين من الهدايا والنذور، ومهما أنسَ فلن أنسى هذه اللفافات الضئيلة من البردي قد لُفَّت لفًّا محكمًا وختمت بالطين وأرسلت إلى الآلهة، تحمل إليهم من الأقطار البعيدة ما كان يضطرب في نفوس أصحابها من الأماني والآمال ومن ضروب الخوف وفنون الرجاء.

ومن حول هذه الآثار وعلى آماد غير بعيدة تنبث في الوادي قرى كثيرة يعيش فيها المسلمون والمسيحيون من المصريين، قد أقام أولئك وهؤلاء على ما ورثوا من دين وما ألفوا من عقيدة. يختلف أولئك وهؤلاء إلى مساجدهم وكنائسهم، ولكن انظر إلى هذا الأثر القائم بين آثار إخناتون، ما هذه الدماء التي جمدت حوله؟ وما هذه الدماء التي لُطِّخ بها تلطيخًا؟ إنها دماء الضحايا التي يُقبِل بها أولئك وهؤلاء بين حين وحين فيذبحون عند هذا الأثر، ويلطخون بدمائها هذا الأثر، ويطعمون وينعمون حول هذا الأثر، ثم ينصرفون وقد استقر في نفوسهم الأمل بل الثقة بأن حاجاتهم ستُرضَى، وبأن دعواتهم ستُجاب.

ومن حول هذه الآثار وعلى آماد غير بعيدة يقوم هذا الدير المتهدم المتخرب الذي أهملته مصلحة الآثار المصرية — أو العربية لا أدري — أشد الإهمال، وإنه لخليق بالعناية، وقد أقبل على هذا الدير الخرب راهب لم تعجبه الحياة في الأديرة العامرة، فآثر النسك وحده في أعماق الصحراء، وآوى إلى هذا الدير فأقام فيه. انظر إليه قد جلس على الأرض ومن حوله شباب من المسيحيين قد أقبلوا إليه من القرى القريبة والبعيدة، وهم يرتلون ما يرتلون من الأدعية والصلوات، وانظر إليه حين يقبل عليه الزائرون من أمثالنا، فينهض إليهم هاشًّا باشًّا، ويتلقاهم أحسن لقاء، ويبسط لهم رداءه ليجلسوا عليه، ويهم أن يقدم إليهم الشاي، وإنهم لفي ذلك وإذا حمار الراهب قد أقبل منفلتًا من موقفه فدخل عليهم الدير في أناة وهدوء.

ويثير هذا كله في نفسك ذكريات الرهبانية المسيحية المصرية في أول عهد مصر بالنصرانية، فما أظن أن حياة الرهبان في ذلك العصر القديم كانت تختلف اختلافًا كثيرًا عن حياة هذا الراهب الحديث الذي يعيش في القرن العشرين بعد المسيح.

وتستطيع أن تخترق الصحراء في سيارتك، وأن تحتمل قفز السيارة بك بين الصخور والكثبان ساعة أو ساعتين من نهار، وإذا أنت أمام دير من الأديرة المصرية القديمة قد دُفِع إلى التجديد دفعًا عنيفًا، وتخفف من المحافظة تخففًا شديدًا، فجُدِّد فيه كل شيء، ولم يكد يحتفظ من آثاره القديمة بشيء، ولم يبقَ فيه من القديم إلا هذه العادات والصلوات الدينية التي تقام في السَّحَر إلى أن يشرق الصبح، والتي تقام في المساء إلى أن يظلم الليل.

في هذه الرقعة الضيقة من الصحراء تعيش مصر القديمة بوثنيتها الفرعونية واليونانية والرومانية، وتعيش مصر القرون الوسطى بإسلامها الساذج ومسيحيتها الساذجة، وتعيش مصر الحديثة ببحثها عن العلم، وتقصيها للآثار، وأخذها بأسباب الحضارة الحديثة عن أحسن وجه وأكمله، ويشرف على هذه الصور المختلفة لمصر في عصورها المختلفة وأطوارها المتباينة روح واحد خالد لا يختلف ولا يتغير، ولا يضعف ولا يدركه الفتور، وإنما هو هو دائمًا يبعث فيما حوله وفيمن حوله الحياة والنشاط والأمل والثقة واليقين، وهو روح مصر الخالدة، التي بقيت، وستبقى، مهما تختلف الأحداث، ومهما تتباين الظروف.

أليس هذا كله خليقًا أن ينسيك ما لقيت أثناء الرحلة إليه مما يثير الغضب والحزن ويطلق الألسنة بهذه الأسئلة: لماذا ندفع الضرائب؟ ولماذا ننشئ الدولة؟ ولماذا نمنحها ما ينبغي لها من الطاعة والإذعان للنظام؟ بلى إنه لينسيك هذا كله، ويطلق لسانك، ويملأ نفسك بخواطر أخرى، أيسرها أن من الهين أن نحتمل المشقة، ونبذل الجهد، ونلقى ألوان العناء، لنشهد مصر المختلفة المتفقة، المتعددة الواحدة، الخالدة على كل حال.

يناير ١٩٤٠

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤