في مأزق خطير

لم يكن «تختخ» يعرف الطريق إلى محل «أبو الدهب» فقرَّر أن يسأل عنه في الصاغة، فوصل إلى هناك ولم يكن من الصعب الوصول إلى المحل، ولكن للأسف وجده مغلقًا؛ فقد كان «أبو الدهب» مريضًا بعد الحادث، لم يَيئس «تختخ»، بل سأل الصائغ المجاور عن عنوان منزل «أبو الدهب» واستطاع الرجل أن يدله عليه.

استقل «تختخ» تاكسيًا إلى حي الزمالك حيث يسكن «أبو الدهب»، وخلفَه تحرك تاكسي آخر كان فيه الرجل ذو النظارة السوداء، وفي شارع «مظهر» بالزمالك عثر «تختخ» على العنوان. وكان التاجر يسكن في الدور الخامس من عمارة ضخمة، فاستقل «تختخ» المصعد ثم اتجه إلى الشقة، ودق جرس الباب ففتحه رجل فسأله «تختخ» عن التاجر فقال له إنه مريض جدًّا، وقد منع الأطباء زيارته.

وقف «تختخ» حائرًا ماذا يفعل، كانت معلومات «أبو الدهب» مهمة جدًّا فقال للرجل: أرجو أن تُبلِّغه أني أريد أن أراه لثوانٍ قليلة بخصوص سرقة المحل.

طلب «الرجل» من «تختخ» أن يتبعه، وأدخله إلى صالون فاخر، وطلب منه الانتظار لحظات.

أخذ «تختخ» ينظر حوله، ولم يكن يحب البقاء في مكانه، فغادَر مقعده بهدء وقد لفت نظره بعض الصور المعلقة على الحوائط؛ وفجأة وقف طويلًا أمام إحدى الصور وقد لمعت عيناه. كانت صورة قديمة نوعًا، ولكن «تختخ» بذكائه استطاع أن يعرف واحدًا من الموجودين، والمكان الذي صورت فيه، لقد كان أحد شوارع المعادي التي يَحفظها شارعًا شارعًا … وأمام أحد المحلات كان يجلس الحاج «إبراهيم» ومعه بعض الأشخاص، وخلفهم لافتة معلقة «جرجس أبو الدهب صائغ وجواهرجي».

وفي هذه اللحظة دخل «الرجل» وسمع «تختخ» صوت خطواته في الغرفة فخرج من أفكاره والتفت إلى القادم وطلب منه الرجل أن يتبعه إلى غرفة نوم «أبو الدهب» فسار خلفه، ودخل غرفة نوم ضخمة، حيث كان «أبو الدهب» ينام في فراشه وقد بدا عليه التعب الشديد، وغيرت السنوات الطويلة شكله عما كان في الصورة.

قال «تختخ»: … آسفٌ للحضور في هذا الموعد غير المناسب …

نظر «أبو الدهب» ﻟ «تختخ» بإمعان ثم سأله: هل أنت «تختخ»؟

دُهش «تختخ» عندما سمع اسمه على لسان الرجل فقال: نعم … إنني هو.

ابتسم الرجل ابتسامة طيبه وقال بصوت ضعيف: ما شاء الله، لقد زارني أحد المفتشين الكبار واسمه «سامي» وتحدَّث عنك بتقدير، وقال لي إنك مُشترِك في حل هذه القضية ولذلك استنتجت شخصيتك.

لم يملك «تختخ» نفسه من الإحساس بالفخر والخجل في الوقت نفسه فقال: إنني هاوٍ بسيط، فقط أحب الاشتراك في حلِّ الألغاز أنا ومجموعة من أصدقائي.

الرجل: على كل حالٍ شكرًا لك … هل هناك خدمة أستطيع أن أؤديها؟

تختخ: نعم … سوف أسأل بعض الأسئلة البسيطة، واسمح لي بإحضار الصورة التذكارية التي لك ولبعض الأصدقاء، والمعلَّقة في غرفة الصالون.

دق «أبو الدهب» جرسًا بجواره فظهر الرجل مرةً أخرى فطلب منه إحضار الصورة ثم أخذ يُحاول الجلوس في فراشه، فساعده «تختخ» وهو يُحسُّ بالأسف لإرهاقه. عاد الرجل بعد لحظات ومعه الصورة، فتناولها منه «تختخ» ومد يده بها قائلًا: هل تذكر هذه الصورة؟

أمسك «أبو الدهب» بالصورة وأخذ ينظر إليها قائلًا: طبعًا إنها صورة لي أنا وبعض الأصدقاء التُقطَت في المعادي منذ سنوات بعيدة.

رقص قلب «تختخ» طربًا وهو يسمع هذه الجملة وقال: وهل تذكر من فيها من الأشخاص؟

أخذ «الرجل» يقرب الصورة من عينيه وقال: أذكر بعضهم … فهذا هو الحاج «إبراهيم» البقال يجلس بجواري … وهذا هو الأستاذ «كريم» لقد كان رجلًا كريمًا حقًّا.

تختخ: وهل كنتَ تسكن في المعادي في هذه الفترة؟

أبو الدهب: نعم … لقد سكنت في المعادي فترة طويلة جدًّا، وكان لي محل هناك … وقد كنا جميعًا، أنا ومن في الصورة، أصدقاء، ولكني تركت المعادي بعد سرقة محلِّي الأولى … إذ إن السرقة التي حصلت أخيرًا، لم تكن السرقة الوحيدة التي بليت بها …

تختخ: وهل قُبض على السارق في السرقة الأولى؟

بدأ «أبو الدهب» يتعب من كثرة الحديث؛ فقال بصوت منخفض: نعم.

تختخ: وهل تذكره؟

أبو الدهب: نعم، ولكن لا تُذكِّرني به، لقد كان رجلًا مخيفًا، وقد قبض عليه رجال الشرطة، وحكم عليه بالسجن …

وجاء وقت السؤال الهام، ولكن فجأة دخل الطبيب، وقد بدا عليه الغضب وقال: آسف جدًّا يا أستاذ، ولكن هذا الحديث يُعرِّض الرجل للموت … إن قلبه ضعيف للغاية، فأرجو تأجيل هذا الحديث لوقت آخر.

لم يستطع «تختخ» الاعتراض، فغادر الغرفة وهو يحس بالأسف الشديد من أجل الرجل ولأنه لم يحصل على الإجابة التي كان يبحث عنها، إجابة السؤال الوحيد الذي كان ربما يحل غموض اللغز. وهكذا نزل في المصعد شارد الذهن، متعبًا.

لحسن الحظ وجد «تختخ» تاكسيًا أمام الباب كأنما كان ينتظره، فركب فيه مسرعًا وطلب من السائق الإسراع إلى محطة باب اللوق. ثم ارتكَن بظهره إلى الخلف في مقعده، وأخذ يفكر في هدوء، وقد بدأ كل شيء يتَّضح له … فالذين وقعت لهم حوادث عصابة لغز «٩» كانوا جميعًا أصدقاء في المعادي منذ سنوات طويلة … ولا بد أن العصابة — لسبب ما زال يَجهله — تريد الانتقام من هؤلاء الأصدقاء بعد مضيِّ كل هذه الأعوام.

كان المساء قد هبط، وبدأت الطرقات تظلم، ومصابيح الشوارع تضاء، وكان «تختخ» مستغرقًا في تفكيره، فلم يُلاحظ أن التاكسي يقطع طريقًا مُختلفًا عن الطريق إلى باب اللوق، وفجأة أحس بالعربة تهتز، فنظر إلى الخارج، ووجد أن إشارة المرور قد أوقفت التاكسي فلم يهتم، ولكنه وجد الباب يُفتح، ويتسلل شخص إلى جواره، دهش «تختخ» جدًّا لهذا التصرف العجيب، ولكنه قبل أن ينطق بحرف سمع الراكب الجديد يقول وهو يُغلق الباب خلفه: اعتبر نفسك أسيري من هذه اللحظة، ولا تُحاول المقاوَمة؛ فمعي مسدس مُستعدٌّ للإطلاق في أي وقت.

انطلق التاكسي مرةً أخرى، وأحس «تختخ» أنه كان أحمق لأنه استغرق في التفكير ونسي أن العصابة تُطاردُه، فنظر إلى الرجل الذي جلس إلى جواره، ولكم كانت دهشته عندما وجده الرجل «ذو النظارة السوداء» الذي كان يقف أمام منزله، فقال له: ماذا تفعل؟ إنني أساعد رجال الشرطة.

الرجل: من أجل هذا أمسكْنا بك.

تختخ: ألست من رجال الشرطة؟

الرجل: لا … إنني أكرههم.

تختخ: ألست أنت الرجل الذي كنتَ تُراقب منزلي؟ لقد حسبناك من رجال الشرطة.

الرجل: لقد كنتم أغبياء، قبضتُم على الشرطي الحقيقي في حين كنت أراقبكم … وقد انتهزت الفرصة، وتظاهرت أني رجل شرطة، وهكذا استطعت مراقبتكم دون أي خوف من جانبي … ودون أي شك من جانبكم.

عض «تختخ» شفته بقوة، لقد كانوا أغبياء حقًّا، وارتكبوا خطأً فاحشًا أدى في النهاية إلى هذا الموقف الخطير.

عاد «تختخ» إلى التفكير مرةً أخرى وأخذ ينظر إلى الطرقات الحافلة بالسيارات والناس، وهو يحس أنه سجين، لقد راقبته العصابة حتى وصل إلى مسكن «أبو الدهب» وكانت تعرف أنه سيعود في تاكسي إلى محطة باب اللوق … فوضعت هذا التاكسي في طريقه، وبمُنتهى السذاجة ركبه ليقع في الفخ.

بدأت السيارة تُغادر الشوارع المزدحمة بعد أن مرت بكوبري الزمالك، ثم مسرح البالون ثم نادي الزمالك والترسانة، فأدرك «تختخ» أنهم سيذهبون به إلى الأماكن المهجورة بعيدًا في أعماق «ميت عقبة».

كانت الدنيا قد أظلمَت تمامًا ولم يَعُد في إمكان «تختخ» مراقبة الطريق ومعرفة خط سير السيارة، وكان آخر ما رآه سور طويل كأنه سور ملعب كرة أو مدرسة، ثم دارت السيارة دورة مفاجئة ووقفت.

قال الرجل ذو النظارة: والآن ننزل، ولا داعيَ لمحاولة الفرار؛ فأنت في حراسة رجال أقوياء لا يتورَّعون عن شيء في سبيل الإبقاء عليك هناك … لقد استطعتَ الإمساك بطرف الخيط للوصول إلى العصابة، ولن نَسمح لك بأن تعود لتروي قصتك لرجال الشرطة.

دخل «تختخ» أمام الرجل إلى مدخل حديقة مهجورة، ثم دقَّ الرجل باب فيلا دقة ثم ثلاث دقات، ثم دقة أخرى، ففُتح الباب، ووقف على بابه رجل جامد الوجه، ذو جرح واضح في خده الأيمن كأنه من أثر سكِّين، ثم تنحى عن الباب وسمح لهما بالمرور.

كانت المفاجأة الثانية التي شهدها «تختخ» في هذا اليوم، هو هذا الكوم الضخم من الأشياء، التي لم يشكَّ لحظة واحدة أنها ممتلكات الضحايا التي سرقتها العصابة.

لم يكن هناك في الشقة سوى الرجل ذي الوجه المجروح … ولاحظ «تختخ» أن الذي كان معه في التاكسي يُحدِّث الشخص الآخر بالإشارة، فأدرك أن الرجل أخرس وأصم وأحس بالرعب لأنه أصبح سجينًا لهذا الرجل المخيف.

قال الرجل «ذو النظارة» موجهًا حديثه إلى «تختخ»: إنَّ الأخرس رجل قاسٍ لا يعرف رحمة، وقد كان بطلًا سابقًا في الملاكمة، فلا تُحاول عمل شيء، وإلَّا!

وصمت الرجل قليلًا بعد أن ألقى تهديده ثم قال بصوت ساخر: سأخرج الآن؛ فعندنا عمل الليلة كأَوامر الزعيم … وسوف أعود في ساعة متأخِّرة من الليل، وأرجو أن أجدك هنا.

وعلى أثر هذه المحاولة خرج «ذو النظارة» وسمع «تختخ» صوت موتور السيارة وهو يدور ثم حركتها وهي تسير، وابتعدت وساد الصمت، ولم يَعُد هناك صوت إلا نقيق الضفادع، وصراصير الحقل وهي تُطلق موسيقاها الحزينة.

جلس «تختخ» في أحد الكراسي وقد أحس بالتعب والإرهاق، ونظر إلى الأخرس فوجد عينَيه تنطلقان بالشراسة، فعرف أنه وقع في مأزق، وقرَّر أن يرخي أعصابه المشدودة، لعله بهذه الطريقة يستطيع التفكير تفكيرًا سليمًا.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤