سَمير شهرزاد

«من مأمنه يُؤتَى الحذِر.» كذلك قالت حكمة القدماء … وأَبَت الظروف إلا أن أكون أنا الدليل الناصع على صدق ما قالت حكمة القدماء. فقد ضقت بالحياة العنيفة المفعمة بألوان النشاط المختلفة في مصر حتى لم أستطع لها احتمالًا، وحتى ضعف كل جسمي وانهدَّت لها قواي، وعجزَتْ لها أعصابي عن المقاومة، فأصبحتُ سريع الغضب سريع الرضا، سريع الانفعال بوجه عام، حتى أنكرتُ نفسي وأنكرني الناس، ولم أرَ بدًّا من أن أفرَّ بما بقي لي من قوة العقل والجسم إلى مكان بعيد أخلو فيه إلى نفسي، وأستريح فيه من هذه الجهود المتصلة، وأستردُّ فيه بعض ما أنفقتُ من القوة، حتى إذا استجمعت منه حظًّا لا بأس به؛ عدتُ إلى مصر فأنفقته مرة أخرى في غير تقصير ولا اقتصاد.

من أجل هذا كله عبرت البحر ومررت بباريس مرًّا سريعًا كأنه مرُّ الطيف، فلم يرني الحي اللاتيني إلا مرة أو مرتين. ثم أويت إلى هذه القرية النائية المنزوية في عِطف من أعطاف الجبل، إلى هذه القرية التي لا يعرفها المصريون، والتي يمرون بها في طريقهم إلى المصايف المعروفة دون أن يخطر لهم الوقوف عندها أو الإقامة فيها. واخترت مع أهلي فندقًا متواضعًا متوسط الحال لا تشغل أهلَه هذه الحركاتُ العنيفة التي تشغل المصطافين، ولا يخطر لمصري أن يأوي إليه إن ألمَّ بهذه القرية خطأ؛ لأن المصريين في العادة إذا عبروا البحر لا يأوون إلا إلى الفنادق الفخمة التي يكثر فيها الفرح والمرح، ويُظَن بأهلها الغنى والثروة وتعوُّد الترف والنعيم.

ولما بلغت الفندق أكرهت صاحبي على أن يختار لنفسه — أو اخترت له أنا — غرفة في الطابق الأعلى لا يصعد إليه أحد إلا الذين لا يَكلَفون بالراحة ولا يشفقون من الجهد؛ لأن غرفة صاحبي إذا كنا في أوروبا هي في الوقت نفسه الملجأ الذي ألجأ إليه إذا أردت القراءة أو الإملاء.

وكذلك اعتقدت، وكان لي الحق أن أعتقد، أني قد أَمِنت الضجيج والعجيج، وضمنت الراحة والهدوء، وأعددت لنفسي ما أنا محتاج إليه لأسترد النشاط من جهة، ولأعوِّض الوقت الضائع من جهة أخرى، فأقرأ كثيرًا وأكتب قليلًا.

وإني لمع صاحبي ذات يوم قد خلونا إلى ديوان من دواوين الشعر ننظر فيه، وانقطعت الصلة بيننا وبين العالم الخارجي حتى ما نسمع هفيف الريح ولا حفيف الأغصان، ولا غناء الطير ولا صياح الأطفال الذين يلعبون في حديقة الفندق، وإذا الباب يُطرَق طرقًا خفيفًا لا نَحفِل به ولا نلتفت إليه، نظن أنه لا يعنينا وإنما يعني الغرفة المجاورة، ولكن الطَّرق يتصل ويُلِح، ثم يشتدُّ شيئًا فشيئًا، ثم يضطرني إلى أن ألتفت، ويَضطر صاحبي إلى أن يضع الكتاب، ثم يَضطره إلى أن ينهض فيفتح الباب ليرى ما دونه، وكان قد أغلقه فأحكم إغلاقه إيثارًا للعافية وإغراقًا في التحفُّظ والاحتياط، ولم يكد صاحبي يفتح الباب حتى رأى شخصًا غريبًا كان يُقدِّر أن يرى كل إنسان وأن يرى كل شيء دون أن يراه؛ شخصًا شرقيًّا في زِي أهل العراق لم يعرفه قط، وهو من أجل ذلك ينكره أشد الإنكار وينكر وجوده في هذه القرية المنعزلة، وينكر اهتداءه إلى هذا الفندق وصعوده إلى هذا الطابق وطَرْقه باب هذه الغرفة.

وكان صاحبي مقتنعًا بأن هذا الشخص قد أخطأ طريقه وجار عن سبيله، وقصد إلى غير مَقصِد، ولكن الشخص يسأله عني ويدفع إليه كتابًا يطلب منه أن يتلوه عليَّ، فيعود صاحبي إليَّ حيران دهشًا، قد كاد يدركه الاختلاط لولا أنه تعوَّد مثل هذه المفاجآت منذ امتحنَتْه الأحداث بمصاحبتي، فهو يفضُّ الكتاب ويقرأ عليَّ هذه الأسطر:

«سیدي

علمت اليوم أنك معتزل في عِطف من أعطاف هذا الجبل الذي أصطاف قريبًا من قمته، فنازعتني نفسي إلى أن أراك، ثم دفعتني نفسي إلى رؤيتك دفعًا لم أجد عنه مندوحة، وكنت أحب أن أسعى إليك حتى لا أكلفك مشقة الحركة وجهد الانتقال، ولكني آثرت أن تسعى إليَّ حتى لا أكلفك مشقة هي أثقل على نفسك فيما أعتقد من المشقة الأولى؛ لأنها معنوية، فأنت تكره من غير شك أن تسعى سيدة للقائك، وأدبك يفرض عليك أن تسعى أنت للقائها. وإذن فأنا أكتب إليك راجية أن تتفضل فتتهيأ للقائي، ولكني أحب أن تعلم أني لا أُزار إلا حين منتصف الليل، وأن زيارتي لن تكلفك جهدًا ولا عناء، فإذا تقدم الليل وكاد ينتصف فانتظر متهيِّئًا للخروج. ولك أن تصطحب هذا الفتى الذي يلزمك لزوم الظل إن لم ترَ من اصطحابه بدًّا، ولك أن تتركه إن كنت قد ضقت به كما تضيق بكثير من الناس وبكثير من الأشياء من حين إلى حين، فأنا أعرف من أمرك يا سيدي أكثر مما تظن … وتقبَّل تحية المَشوقة إلى لقائك.»

شهرزاد

أظنك أيها القارئ العزيز غير محتاج إلى أن أصف لك ما أدركني من الدَّهَش وما أدرك صاحبي من الذهول، ولكن دهشي وذهول صاحبي تجاوزا حدَّهما حين التفت صاحبي فلم يرَ الفتى العراقي الذي حمل إلينا الكتاب، وحين التمسه في الفندق لم يرَ له أثرًا، وحين سأل عنه أصحاب الفندق ظهر له أنهم لم يَرَوه ولم يُحِسوه ولم يعرفوا له خبرًا، وأن أحدًا لم يسألهم عن مكاننا، وأنهم لم يدلُّوا أحدًا على هذا المكان.

كاد الدهش والذهول ينتهيان بصاحبي وبي إلى الجنون أو إلى ما هو أكثر من الجنون، وقد خُيِّل إلينا لحظة أن خيالًا من هذه الخيالات التي تملأ الضمائر وتُنكِرها نفوسنا الشاعرة قد عبث بنا، وأن الذي أثار هذا الخيال هو حضور الأستاذ توفيق الحكيم إلى قريتنا منذ يومين.

فقد حضر صديقنا توفيق الحكيم إلى هذه القرية في قصة لعلك تظهر عليها وقتًا ما، ومنذ انتهى إلينا كثر الحديث بالطبع عن «أهل الكهف»، و«شهر زاد»، و«عودة الروح» وما يتصل بذلك كله من الأدب والنقد والإنتاج والتقصير، وكل هذا العناء الذي فررنا منه إلى فرنسا مُقسِمَين أن نتجنبه في أثناء الصيف. فخُيِّل إلى صاحبي وإليَّ أن كثرة الحديث في الأدب وفي أبطال توفيق الحكيم قد سحرت عقولنا وصورت لنا كل هذا القَصص الذي عرضته عليك، ولكن الكتاب كان بين يدَي صاحبي يمسه بيديه ويراه بعينيه، ويقرأ عليَّ ما فيه من الكلام.

وجعلنا كلما تقدم النهار ودَنَونا من المساء اشتد اضطرابنا وامتلأت قلوبنا وجلًا ورعبًا حتى أنكَرَنا خُلطاؤنا، وأشفق عليَّ أهلي وخُيِّل إليهم أني أتهيَّأ لعلة من العلل أو للون من ألوان الحُمى.

ولست أخفي عليك أني اجتهدت كما اجتهد صاحبي في أن نخفي هذه القصة على من حولنا مخافة أن يُظَن بنا الجنون، وأن نُدخِل الرَّوع على قوم آمنين.

ومن عادتنا إذا رفعنا أيدينا عن طعام العشاء أن نمشي قليلًا في طريق من هذه الطرق الجبلية نستمتع بهذا الهواء الطلق الأَرِج، ثم نعود إلى مخبئنا فنخلو إلى كتبنا حتى يدعونا النوم إلى أن نستريح. وقد جهدنا برغم ما كان يملأ قلبَينا من هذا الخوف المتزايد من لحظة إلى لحظة في أن نُجرِي الأمور كما تعودنا أن نُجرِيها دون أن نغيِّر شيئًا مما أَلِفنا.

فلما أوينا آخر الأمر إلى غرفتنا الشاهقة في السماء لم نقرأ صحيفة ولم نفتح كتابًا ولم ننظر في ديوان، وإنما لبثنا فيما كنا فيه من دهش وحيرة وذهول ننتظر أحد الخطرين؛ فإما أن يتحقق ما أنبَأَنا به الكتابُ، وإذن فالله وحده يعلم ما وراء ذلك، وإما أن يتكشَّف الأمر عن لا شيء، فينتصف الليل وكأننا لم نتسلم كتابًا، ولم نتلقَّ دعوة، ولم نتعرض لخطر ولم نُحِس خوفًا، وإذن فهو الشر الذي ليس بعده شر، هو الجنون الذي لا يختص به فرد من الأفراد، وإنما يشترك فيه اثنان.

وهذه دقات إحدى عشرة تنبئنا بأن انتصاف الليل ليس بعيدًا، وهذا العرق البارد يسيل على جبهتَينا، وها نحن هذان نتكلَّف الجَلَد، ونأبى على أسناننا أن تَصِر، وعلى فرائصنا أن ترتعد، ولكن ماذا! هذا الباب يُطرَق طرقًا خفيفًا، ثم يُفتَح دون أن نأذن بالدخول، ثم … ونُفيق، وإذا نحن في مكان غير المكان الذي أنفقنا فيه أول الليل، ولكن الغريب أننا لا ننكر أنفسنا ولا نُحِس خوفًا ولا وجلًا، ولا نجد إلا ما يجده الزائر لإنسان ذي خطر من هذا التهيُّب اليسير الذي يشغله في أثناء الانتظار أن يُؤذَن له.

ولا يطول هذا الانتظار، وإنما هو قصير جدًّا لا يتيح لنا أن نتبيَّن الغرفة التي ننتظر فيها والأثاث الذي يحيط بنا.

فهذا باب يُفتَح في جانب من جوانب الغرفة، وهذه فتاة رشيقة أنيقة تدخل منه مشيرة قائلة في خفة وفي لهجة عربية فصيحة عذبة: «هل لهذين السيدين أن يتبعاني؟» فنتبعها آمنَين مطمئنَّين كما تعودنا أن نفعل في مصر حين نزور من نزور من العظماء وأشراف الناس. وهي تسعى بين يدينا رشيقة خفيفة الروح كأنما تمشي في الهواء، ونحن نتبعها متنقلَين معها من غرفة إلى غرفة، ومن بهو إلى بهو، تصل إلينا من بعيد أنغام عذبة هادئة متصلة كأنها غناء الأرواح، إن كنا قد سمعنا غناء الأرواح. ثم تنتهي بنا هذه الفتاة الحسناء إلى أستار ثقال، فتقف لحظة مشيرة إلينا أن سيدتها هنا وراء هذه الأستار. ثم تتقدم فتنحِّي سترًا عن يمين وسترًا عن شمال، وتمضي خطوات ثم تنحني محيِّية ثم تنحرف لنا عن الطريق، ثم تنصرف وقد تركتنا مع شهر زاد.

وشهرزاد تلقانا باسمة مبتهجة مشرقة الوجه طَلْقة الأسارير، ولكنها لا تتحرك من مكانها، وإنما تشير إلى صاحبي إشارة خفيفة أن ادنوَا، فدَنَونا، وإذا هي مستلقية على هذا الأثاث الذي يسمونه الكرسي الطويل، قد كثرت من حولها الوسائد، ووُضِعت قريبًا منها مائدة صغيرة قد أثقلتها الكتب والصحف والمجلات، وهي تمنحنا يدًا صغيرة رشيقة، فإذا لثمناها أَذِنت لنا بالجلوس وأبت إلا أن يكون مكاني قريبًا منها، فنجلس ويتصل الصمت لحظات، ثم نسمع صوتًا لا أستطيع أن أشبِّهه إلا بخرير الماء حين يتساقط هادئًا نحيلًا في حوض من المرمر. وإذا هذا الصوت الحلو النحيل البعيد يقول لي: لقد روَّعناك يا سيدي على غير انتظار منك لهذا الخروج، فمعذرة إليك، ولا تلم إلا نفسك، فقد كثر الحديث عنك وكثر ما قرأت لك، حتى إذا علمت بقربك مني لم أجد من لقائك بدًّا. قلت في صوت مضطرب بعض الشيء: عفوًا يا سيدتي، أين أنا؟ ومن تكونين؟ أريد أن أعرف أنائم أنا أم يقظان، فقد اختلفَتْ عليَّ أمورٌ منذ اليوم أذهلتني عن نفسي، ولا أكاد أبلغ هذه الجملة حتى يتردد في هذه الغرفة الواسعة ضحك نحيف حلو، تم تمس يدها الرشيقة الناعمة يدي الغليظة الخشنة في رفق، ويقول الصوت البعيد: لا بأس عليك، لست نائمًا ولا حالمًا، وإنما أنت يقظان حاضر الذهن، وأنت عند شهرزاد. شهرزاد؟ ألا تعرفها؟ لقد طالما استمعتَ لها أيام الصبا، وقد طالما اشتغلتَ بها أيام الشباب، وما أقرب ما كتبتَ عنها منذ عامين اثنين. قلت: لا تعبثي يا سيدتي فلن تستطيعي أن تقنعيني، ولكنها قطعت عليَّ حديثي قائلة: بل أستطيع أن أقنعك بما أشاء، لقد ملأتُ قلبك صبيًّا وملأتُ عقلك شابًّا، وما ينبغي أن تنحرف عني حين ينحرف عنك الشباب. إنك لتعلم حق العلم أن شهرزاد خالدة لم يدركها الموت، ولن يبلغها الفناء، ولن يتحول عنها شبابها، ما بالك تشكُّ في هذا الآن وقد كنت مؤمنًا به حين كنت تقرأ كتاب هذا الشاعر العظيم المسكين الذي فارقنا منذ أسابيع. قلت: هنري دي رينييه؟ قالت: نعم، لقد قرأتَ كتابه وعرفتَ منه أن لي قصرًا في بغداد، فوددتَ لو استطعتَ أن تطير إلى هذا القصر وأن تلقاني وتسمع مني وتتحدث إليَّ، فماذا يروعك وقد تحققت أمنيتك، فأنت في قصري وهذه يدي في يدك، وأنت تسمع حديثي وأنا أريد أن أسمع حديثك؟!

قلت — وما شككتُ في أني مريض قد أخذني هذيان الحُمى: فأنا إذن في بغداد، في القصر الذي وصفه هنري دي رینییه؟

قالت متضاحكة: كلا، أنت في فرنسا قريب من قمة من قمم الألب. ألم تقرأ كتابي هذا الصباح؟ أليس من حق شهرزاد أن تصطاف كما يصطاف الناس؟ ومن الذي قضى عليها أن تنفق الدهر سجينة في قصرها السحري القائم على شاطئ دجلة؟ لقد تغير الزمان وارتقت الحضارة وأُتيحَ لشهرزاد أن تستردَّ حريتها وأن تطوف في أقطار الأرض، فتصطاف في جبال الألب وتشتو في الريفييرا.

قلت: وما يمنعك أن تنفقي الشتاء مرة في مصر؟

قالت: لا شيء، لقد هممت بذلك في الشتاء الماضي لولا هذا الفتى الغريب الذي تسمونه توفيق الحكيم، هو الذي ردني عن مصر بكتابه هذا الذي لم أحبه ولا أستطيع أن أحبه.

قلت متعجبًا: لماذا؟!

قالت: لأنه كشهريار لم يفهمني، وما أظنه سيفهمني.

قلت: وهل فهمك أحد؟

قالت: وما حرصكم على أن تفهموني؟ وما هذا المرض الذي أفسد عليكم كل شيء فأغراكم بفهم كل شيء؟

قلت: مهلًا يا سيدتي لا تغضبي، فإني لم أفهمك ولم أحاول فهمك ولن أحاوله؛ لأنك أحب إليَّ وآثرُ عندي وأجمل في نفسي من أن أمسَّك بهذا السوء الذي نسميه الفهم واستكشاف الحقائق.

قالت — وقد ملأها الرضا والابتهاج واستوت جالسة: لهذا أحببت أن أراك؛ لأنك ترى مثل ما أرى، وتؤمن بأن من فهم شيئًا فقد قتله، وتحب لي أن أحيا في نفسك فلا تحاول أن تقتلني بالبحث عن حقيقتي والجِد في الانتهاء إليها، ولكنك لا تعلم من أمري كل شيء.

قلت: ولا أريد أن أعلم من أمرك كل شيء.

قالت في لهجة المتعبة المحزونة: شيء واحد أحب أن تعلمه حتى لا يكون حبك لي إعجابًا كله، فقد يرضيني أن يكون في هذا الإعجاب بي شيء من الإشفاق عليَّ.

قلت: وما ذاك؟

قالت في تهالُكٍ وفتور: علةٌ أخذت تعتادني منذ حين، هي ضيق الصدر الذي يُلِم بي إذا جنَّ الليل فيحرمني الراحة، ويحول بيني وبين النوم. وليست في الدنيا شهرزاد أخرى تستطيع أن تذود عني هذا الضيق، وتسليني عن هذا الحرج، وتقص عليَّ من القصص ما يدعو إلى النوم كما كنت أفعل أنا مع شهريار في سالف الأزمان.

قلت، وقد أشرق وجهي وامتلأ قلبي بِشرًا، وانطلق من فمي ضحك لم أحس ملاحظته وتنظيمه، واندفع في جسمي نشاط لم أستطع كبحه، وإذا أنا أرفع يدها الرشيقة الناعمة إلى شفتي فألثمها لثمًا متصلًا وهي تلحظني دَهِشة متعجبة.

قلت حين عاد إليَّ الهدوء: لا بأس عليك يا سيدتي، علة طارئة لن تلبث أن تزول، سأردها عنك منذ الليلة، سأصف لك الدواء الذي يردها عنك آخر الدهر.

قالت متلهفة: وكيف ذاك؟ وما ذاك؟ ماذا تقول؟ أجادٌّ أنت؟ أصادق أنت؟ لقد عهدتك مشغوفًا بالمزاح.

قلت — وقد عدت فأشبعت يدها لثمًا وتقبيلًا: والمزاح وحده شفاؤك من هذه العلة يا سيدتي، فَلَأدعونَّ إليك النوم من ليلتك هذه، ولأعلِّمنَّك كيف تَدْعينه منذ غد.

قالت: وكيف يكون ذلك؟

قلت: ستتخذين لك سميرًا.

قالت مبتسمة في شيء من السخرية: وستكون أنت هذا السمير؟

قلت محزونًا: ليتني أصلح لذلك يا سيدتي، إذن أكون أسعد الناس.

قالت: أَوَلا تصلح أنت لذلك؟

قلت: كلا يا سيدتي، أنا أقل الناس حظًّا من الخيال وأعجز الناس عن القصص، وأضيقهم بنفسي وبالوقت، ولولا أن الله قد ملأ الدنيا كتبًا، وأَذِن أنها ستظل أبدًا مملوءة كتبًا لما استطعت لهذه الحياة احتمالًا.

قالت: ومن لي إذن بهذا السمير؟

قلت: وأنا لك به يا سيدتي، إنه صديقك العزيز عليك، الأثير عندك، الحبيب إليك.

قالت: أوجز.

قلت: إنه توفيق الحكيم، وهو منك قريب ليس بينك وبينه إلا ما كان بينك وبيني من الأمد حين كتبت إليَّ، إنه في الفندق الذي أنا فيه.

قالت — وقد ملأها النشاط وأخذها الاهتمام، وامتزج في صوتها الغضب والفرح معًا: هو إذن هنا هذا الآثم، لَيعلمنَّ كيف تكون الكتابة عن شهر زاد.

قلت: ولَتعلمِنَّ أنت يا سيدتي كيف يرضيك إذا أقبل النهار، وكيف يسليك إذا أظلم الليل، لو تعلمين كيف سقط على قريتنا هذه النائية المعتزلة سقوطَ الندى.

قالت: كيف سقط على هذه القرية؟

قلت: سبقَتْه إليها البشائر بمقدمه السعيد، لو رأيتِنا والباب يُطرَق علينا طرقًا عنيفًا مع الصبح حتى إذا فتحنا للطارق رأينا ساعي البريد يحمل إلينا كتابًا مستعجلًا من صاحبك ينبئنا فيه بمكانه من باريس، ورغبته في أن يلحق بنا، ويسألنا أن نختار له فندقًا يأوي إليه، وغديرًا يصطاد السمك فيه. وما نكاد يا سيدتي نفرغ من قراءة الكتاب حتى يُطرق الباب علينا طرقًا عنيفًا، فإذا فتحنا للطارق رأينا ساعية البرق تحمل إلينا رسالة من صاحبك ينبئنا فيها بأنه قد ركب القطار ولم ينتظر رَجْع الجواب، ونحن نلتمس له الفندق ونلتمس له الغدير ونلتمس له المواضع التي يجد فيها أدوات الصيد، وهو يُقبِل مع المساء كما تعرفينه.

قالت: ومتى عرفتُه؟

قلت: ألم تعرفيه من كتابه عنك؟

قالت: كيف أَقبلَ عليكم؟

قلت: أقبل كما ستعرفينه يقظان كالنائم، حاضرًا كالغائب، وغائبًا كالحاضر، قد أخذ من باعة الصحف ما استطاع أن يأخذ، وأخذ من باعة الكتب ما استطاع أن يأخذ، وقضى نهاره في القطار بين الكتب والصحف مختلسًا بين حين وحين نظرة من نافذة العربة، مفتونًا بما يرى، حتى إذا اطمأن به المكان بيننا أخذ يتحدث، فإذا هو دَهِش لكل شيء، سائل عن كل شيء، عارف بكل شيء، جاهل بكل شيء، يتحدث عن الجو، ثم يثب إلى مقالة قرأها في هذه الصحيفة، ويتحدث عن الجبل، ثم يقفز إلى فصل قرأه في ذلك الكتاب، يُقبِل على الطعام ويأخذ فيه، ولكنه مشغول بالنشاط الأدبي في مصر، وبهذا الفصل الذي كُتب عن ذلك المعرض الفني في باريس، ثم يصبح مشغولًا بالصيد مشغوفًا به، متهالكًا عليه يلتمس له أدواته ويُعِدها ويهيِّئها، وهو يفكر فيكِ وفيما آل إليه أمرك، وفي كتابه عنك، وفي ترجمة هذا الكتاب إلى الفرنسية، وفيما يمكن أو لا يمكن من تمثيل قصتك.

قالت وقد نهضت مغضبة: ويل له، أَوَيريد أن يُظهِرني في الملاعب ويعرضني على النَّظارة ويسلمني إلى الممثلين؟

قلت في شيء من المكر: أظنه يطمع في ذلك يا سيدتي.

قالت: لَيعلمنَّ ما جزاء من يعبث بشهرزاد.

قلت: لا تُنغِّصي عليه راحته، إنه سعيد راض مبتهج مغتبط يزور الجبال لأول مرة، لو رأيت ابتهاجه حين استكشف في الغابة شجرة البندق. لقد كان يأكل البندق جافًّا ويأكله رطبًا، ويأكله صِرفًا ويأكله ممزوجًا، ويعرف أنه ثمر لشجر، ولكنه لم يكن يعرف أين يكون، ولا كيف يكون ذلك الشجر، فلما رآه ورأى عليه ثمره لم يملك نفسه ابتهاجًا واغتباطًا. وما أرى إلا أنه سيكتب عن شجر البندق فصلًا أو كتابًا، وما أرى إلا أنه سيُحدِث بين الشجر وثمره حوارًا لذيذًا. لا تنغصي عليه راحته يا سيدتي، لقد رأى الثلج يغطي رءوس الجبال لأول مرة، وكان يقرأ ذلك في الكتب ويسمع عنه في الأحاديث وما كان يُقدِّر أنه سيراه، فلما رآه لم يسَعْ نفسه فرحًا وسرورًا، وأقسم لا يطمئن ولا يستريح حتى يدنو منه ويتصل به، ويملأ منه يديه، ولو استطاع لاحتمل منه ذخيرة إلى مصر.

لا تنغصي عليه راحته يا سيدتي. لقد قرأ وصف الجبل الأبيض حين كان تلميذًا وطالبًا، وسمع أخباره من السائحين، ولم يخطر له قط أن الجبل الأبيض شيء يُرى، فلما رآه كاد يخرج عن طوره، لولا أن تمالك واصطنع الوقار، وهو يقسم لنا جهد أيمانه ليصعدنَّ فيه وليبلغنَّ قمته، فإذا صعبنا له ذلك قال في براءة الصبي النقي: ماذا؟ أليس يكفي أن أغدو إليه مع الصبح وأعود منه حين ينتصف النهار فأدرك معكم الغداء؟!

•••

وأنا مندفع في هذا الحديث عن صديقي الأديب وقد شُغِلت به بعض الشيء، ولكن صاحبتي مُغرِقة في ضحك متصل لا يريد أن ينقضي، قد ردها إلى مكانها بين الوسائد لأنها عجزت عن القيام، فسكتُّ عنها حينًا حتى سكتَ عنها الضحك.

وإذا هي تسألني: أهو من السذاجة بحيث تصف لي؟

قلت: وما وصفت لك من سذاجته إلا أقلها.

قالت: فإن كتابه يصوِّره معقدًا أشد التعقيد.

قلت: هو كذلك معقد أشد التعقيد، فاتخذيه لك سميرًا، فستجدين عنده السذاجة المريحة حين تحتاجين إلى الراحة، والتعقيد المضني حين تحتاجين إلى الجد والتفكير.

قالت: وسيجد عندي ما لم يعلم من أمر شهرزاد.

وكان الخدم قد أقبلوا يحملون ألوانًا من الطعام والشراب لا علم لنا بها، فلما وضعوا ما كانوا يحملون وهمُّوا أن ينصرفوا استوقفَتْ أحدهم وقالت له: في الفندق الذي ذهبت إليه صباح اليوم مصري يقال له توفيق الحكيم، فإذا كان الغد فإني أريد أن أراه.

سمع الخادم أمر سيدته فانحنى وانصرف.

ولست في حاجة إلى أن أُتِم لك بقية ما كان بينها وبيني من حديث، فما أظن أن ذلك يعنيك، وإنما هو يعنيني أنا ويعني شهرزاد، وحسبك أن تعلم أني ودعتها آخر الليل وإنها لَمطمئنة النفس قد زال عنها الحرج، وتهيأت لاستقبال ساعات نوم لذيذ. وأصبحت ألتمس توفيق الحكيم في غرفته، وفي حديقة الفندق، وعند غدير الصيد، وفي مظانِّه من القرية فلا أجده، فأظن أنه ذهب متنزهًا في طريق من هذه الطرق الخضراء الفيحاء، وأنه سيعود إلينا مع الظهر أو مع المساء، ولكنه لا يعود مع الظهر ولا مع المساء، فما أشك في أن أعوان شهرزاد قد اختطفوه وفي أنه سجين هناك في ذلك القصر السحري القائم عند قمة هذا الجبل من جبال الألب.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤