في الحبس الاحتياطي

أمر «الزمن» بتوفيق الحكيم فحُبس في برج ساعة كبيرة في رأس كنيسة «كومباو» على ارتفاع ألف متر عن سطح البحر، ذلك أن «الزمن» دائمًا يقول: «إذا كانت المساجد والكنائس هي بيوت الله، فإن أبراج الساعات هي بيوتي.» ولا يعرف غير رب البرج كم من الأيام لبث المتهم في ذلك الحبس، لا يسمع غير دقات «النصف» و«الربع»، وصرير «العقارب» التي تأكل حياتنا لحظة لحظة، و«التروس» التي تطحن وجودنا ذرة ذرة. وبينا المتهم قد أطرق يأسًا وذلًّا، لا يفكر فيما كان من أمره ولا فيما سيكون، كأنما عقله قد كلَّ وذهنه قد أقفر، وكأنما يأسه قد أغراه بأن يقذف نفسه في «طاحونة الزمن» لتحيله العقارب والتروس إلى دقيق يتناثر في الهواء ويعيش سابحًا في الفضاء، إذا «الريح» تلقي إليه برسالة مختومة من كُوة في قمة البرج، ففضَّ الرسالة بيد كَسلى ونفس ميتة وقرأ:

«عزیزي

يشق عليَّ أن تُخطف مني سريعًا وأن يذهب عني الصفاء الذي أشرق به وجهك في اليوم الأخير، ولكن «السارق مسروق»، ولقد سرقتك فسرقت مني، إن «القاضي» لم يأذن لي في دخول الحبس كي أراك، غير أنه أذن لي في الكتابة إليك، ولطف بي فأمر أن تُحمل إليك رسالتي على أجنحة «الريح»، فإذا طالعتها فهل لي أن أطمع في كلمة منك تقيم بها أودي حتى تعود إليَّ؟»

شهرزاد

وقعت الرسالة من يد السجين، وقد تغير وجهه، لكنه التقطها فقرأها من جديد وقرأها وقرأها حتى كاد يقطعها قراءة. ثم صاح: «هذه المرة قد أصابت مني مقتلًا!»

«أين القلم والقرطاس؟» فتساقطت عليه من الكوة أقلام وقراطيس … فجلس من فوره وكتب:

«سيدتي»، ولكن هذا النداء لم يَرُقه، فمزق الورقة وتناول ورقة أخرى وكتب:

«عزيزتي»، غير أن هذا اللفظ أيضًا فيه فتور، وهو يريد لفظًا كالسياط الساخنة. فمزق القرطاس وتناول غيره وكتب:

«معبودتي

إن حبك خالد كالوجود، ولن يستطيع الزمن أن يفرق بيننا أو يحطم حبنا. إن الحب يحلق فوق الزمن، كما يحلق الفراش فوق الأزهار. إن الحب قد قتل الزمن …»

وما بلغ السجين هذه العبارة حتى سمع ضحكًا عريضًا وقهقهة خشنة كلها سخرية، رن صداها في المكان وارتجت لها عقارب الساعة. ثم خفت الضحك وتلاه صوت أجش عميق النبرات يقول هازئًا: من هذا الأبله الذي يزعم أني قُتلت؟

ولم يسمع السجين غير ذلك، فقد خيَّم السكون، وكأن شيئًا لم يكن في هذا المكان. على أن هذا الصوت الهازئ لم يبرح له صدًى يرن في رأس السجين ويلعب بأفكاره حتى قلبها رأسًا على عقب، فرفع القرطاس ومرَّ عليه ببصره وابتسم، ثم مزقه وتناول قرطاسًا آخر وكتب:

سيدتي

أما أني خُطفت منك سريعًا وسُرقت وشيكًا وأنت الخاطفة السارقة — ولا فخر — فهذا ما يحدث دائمًا، فإن السارق كما قلت مسروق، وما جاءت به الرياح ذهبت به «الزوابع»! ويظهر أن هذا قانون الحياة كما هو قانون القصر! وحياتنا السريعة إن هي إلا خطف في خطف، ولقد خطفتني من أصحابي فخطفني منك الزمن، ولا أدهش إذا خطفني من الزمن من هو أقوى منه، أما أن كلمة مني تقيم أودك فهو أمر يدهشني، ولا أغبطك عليه، فيا لضيعة إنسان تقيم أوده كلمة مني! … وأما رغبتك في زيارتي بالحبس فهو رفق بي ولطف لا أحسبني أنساه لك. وبعد، فإني أخشى أن تكون كلمتي أغلظ مما كنت تتوقعين، ويُخيل إلى ظني السيئ بالمرأة أن كل رسالة تخلو من الإشارة إلى «الحب» هي عند المرأة رسالة غليظة. وأؤكد لك يا سيدتي أني ما كنت أضنُّ على مثلك بهذه الإشارة لو لم يكن «الحب» هذا الصبي الرقيق الضعيف لا يبدأ الكلام أول ما يبدأ إلا بتحدي «الزمن»؛ ذلك الجبار الطاغية المخيف، ولا يفتح فمه الصغير إلا بأغانٍ وأناشيد ينظمها من ألفاظ براقة متلألئة يرى الزمن أنها له وحده، وأنها ما وُجدت إلا ليرصع بها تاجه الهائل … هذه الألفاظ هي «الخلود والأبد والبقاء» يلعب بها «الحب» الجميل لعب الأطفال بكرات البلور ذات الألوان تحت أقدام «الزمن» الساخط الساخر، إلى أن يضيق «الزمن» به وبعبثه ذرعًا فينفخ نفخة صغيرة فإذا «الحب» قد طار بأناشيده وألفاظه ولعبه وأغانيه! ومع ذلك يا سيدتي فأنت تعلمين أن أمري الآن بين يدَي «الزمن»، وأن «قضيتي» الساعة موضع نظره، فهل أستطيع اليوم أن أُغضب هذا «القاضي» العظيم بالانصراف إلى ذلك الطفل اللعوب؟!

وأخيرًا يا سيدتي أرجو أن تتقبلي خالص شكري على جميل عنايتك، وأن تأذني لي في أن أضع عند قدميك:

توفيق الحكيم
دارت «العقارب» دورتها، واستقبلتها أجراس البرج بالضجيج، ورجعت «الريح» مسرعة تحمل إلى السجين الجواب:

«أيها الأسير العزيز

فهمت كل شيء، ما أشد خوفك وخوف صديقك من «الزمن»!

لقد وجَّه طه حسين إليَّ كذلك كتابًا طويلًا عريضًا تترنح سطوره فرَقًا من مخاصمة «الزمن»؛ ذلك الغول الجائع الذي يأكل الناس في غير ميعاد غداء أو عشاء.

ولقد تبينت من قول صديقنا طه أنه لا يريد لك ولا لنفسه أن تؤكلا نيئين قبل أن يتم نضجكما، وقبل أن تفرغا كل ما في جعبتيكما من كتب ومقالات، فراح يتهمني في صراحته الجريئة أني أريد الموت العاجل لمن أسعى إلى استنقاذه من يد الزمن. زعم غريب! فأنا لا أعرف الموت ما هو؛ لأني كما تعلم أعيش دائمًا، وكنت أريد لكما حياة صافية مثل حياتي في ذلك القصر الجميل الذي لا يموت الصيف فيه أبدًا، ولكن … لتكن مشيئة صديقك طه، وليمضِ في إشفاقه على نفسه وعليك وعلى الكون المسكين، الذي لا محالة صائر إلى الفناء بعدكما، سائر إلى حيث تنخر فيه عوامل الفساد إن غادرتماه قبل أن تريقا عليه كل ما عندكما من محابر، وتنثرا عليه كل ما في رأسيكما من نثر! واهًا لكم أيها الأدباء!

لقد طال بي العهد فنسيت أن رءوسكم الآدمية العظيمة يوم تُقدم للدود لن يجد فيها غير كلمات مرصوصة، لا تسمن ولا تغني من جوع! إني في حقيقة الأمر أرثي لكم معشر الآدميين؛ ما أشقَّ جهدكم طول الحياة إرضاءً «للزمن»، وما أشد حرصكم على ألا يلقي بكم في أعماق بحاره الظلماء، التي لا يعرف هو نفسه مقرها ولا غورها؛ بحار النسيان! ما حرصكم هذا أيها الحمقى؟! إنكم يوم تذهبون لن يعنيكم من أمر «الزمن» شيء، وسوف تنقلبون أشياء لا تعرف الدنيا ولا تذكرها، ولا تحفل بشعرها ونثرها ومجدها. إنكم يوم تتجردون من هذا الثوب الآدمي، تتجردون كذلك من تلك الأوهام والأحلام التي تدفعكم إلى تقدير «الزمن»، فالزمن نفسه ما هو إلا الملك المتوج على عرش تلك الأوهام والأحلام، فإذا ذهبت من أدمغتكم ذهب معها، فهو منسوج من مادتها، وهو أضعف وأوهى مما تتصورون، فهو لا شيء غير فنائكم الآدمي تجسم شبحًا هائلًا أحاط بكم من كل جانب. بل إن مخيلتكم الفانية هي التي أفرزت هذا السم الذي تسمونه «الزمن»، ثم طَلَت به حياتكم وسجنتها فيه، فشأنكم شأن «دودة القز» تفرز من لعابها تلك المادة الحريرية التي ما تزال تلتف حولها وتحيط بها حتى تحبسها وتخنقها وتميتها.

فالوجود نفسه يسخر من تلك الكلمة ولا يعرف إلا أنها حماقة من حماقات البشر أو ضرورة من ضرورات حياتهم الزائلة. بل إن الوجود لا يعرف ولا ينبغي له أن يعرف هذا الكائن الموهوم «الزمن»، ولقد استعان صاحبك ببيت من شعر المعري، بديع الخيال حقًّا:

ولو طار جبريل بقية عمره
من الدهر ما اسطاع الخروج من الدهر!

لست أذكر أن كنت أنا التي أوحت إليه به في ساعة من ساعات لهوي وعبثي، إنما الذي يدهشني الآن هو هذا السؤال: هل لجبريل عمر؟ وهل هو يتحرك بجناحيه في الزمان والمكان؟ إذن فهو بشر. إلا إذا قصد بالدهر الله والوجود، فإن الحركة في الزمان والمكان ليست من صفات الخالدين، تلك كلمات ابتدعها البشر لأنفسهم ولوصف حياتهم! إنِّي أعجب دائمًا لأولئك الذين يريدون كشف أسرار الله بكلمات من قاموسهم اللغوي! أليس من المضحك أن تصطنع أيديكم الصغيرة ذلك المسبار القصير لتسبر به غور الكون؟!

أما «الحب» الذي تهزأ به، فهو حقًّا ضعيف رقيق كالزهرة التي لا تعيش أكثر من يوم، ولكنه جميل والجمال لا علاقة له بالزمن؛ فإن اللحظة منه تكفي لإضاءة حياة كاملة. إن لم تصدقني فأصغِ إلى همسات فلاسفتك العظام وقد أشرفوا على الحفرة:

«الكل باطل وقبض الريح … وا حسرتاه! ولا شيء في حياتنا الآدمية يستحق منا الآن تحية وداع، غير لحظة حب ظفرنا بها.»

وبعد، فإني أخشى أن أكون قد قسوت عليك. وأحب أن تعتقد أني على الرغم من رسالتك لم أزل لك صديقة وفية. وإني أنتظر نافدة الصبر ساعة الحكم ببراءتك. وإنك لن تجد مني في كل حين سوى عطف خالص لا ينتظر أجرًا، فنحن الخالدين قد اعتدنا أن نعطي ولا نأخذ. على أنك إذا تفضلت فقبلت مني، راضي النفس صادق الإيمان، ما أبعث إليك مع هذا الكتاب من حب هادئ، لا يرجو شيئًا ولا «يتحدى أحدًا»، ولا يعرف الأغاني والألفاظ والأناشيد، فإنك تعيد ابتسامة الصفاء إلى ثغر المخلصة لك.»

شهرزاد
لم يقرأ المتهم هذه الرسالة مرة ثانية، ولم يُضع وقتًا، وتناول من ساعته القلم وكتب:

سيدتي العزيزة

أبادر فأعترف لك أن كلامك عن «الزمن» قد أدهشني حقيقة. كلَّا، لست أصدق أنك تؤمنين بما تقولين!

إنما هي ثورة أهاجها في نفسك كتابي، الذي آثرت فيه الانضواء تحت لواء «الزمن» على السكون تحت جناح «الحب»، فرأيت أن تنصري «الطفل» بأن تحملي على «الجبار»، على أني أراك أنت أيضًا تنتضين سلاح «الكلمات» حاسبة أنك بها تستطيعين أن تقتلي وأن تمحي من الوجود هذا الكائن الذي نحيا جميعًا في أحشائه. أتأذنين لي في أن أسألك: أين تعيشين؟ ألا تحسين بأنك تعيشين في الزمن؟ هذا الخلود الذي تنعمين فيه؛ ما هو؟ وما معناه؟ أليس هو الحياة المتصلة في «الزمن»؟! إن الزمن ليس وهمًا، إنما هو إناء عظيم لا قاع له يسبح فيه الأحياء والأموات، الخالدون والهالكون، فإذا أخرجت منه، فأين تكونين وإلى من تصيرين؟ العدم؟ إن كان لهذه الكلمة أيضًا معنًى أو وجود لكانت قليلة! فإن من خرج من قصر «الزمن» نُزع عنه رداء «الخلود»؛ إذ لا «خلود» إلا بالقياس إلى «الزمن»! فالزمن كما ترين يفرض سلطانه حتى على الخالدين، فهو الذي يخلع عليهم أبراد «الخلود» الموشاة داخل مملكته التي لا مبدأ لها ولا نهاية، ولا يستطيع جبريل أن يخرج عن حدودها لو طار بقية عمره في أرجائها. نعم، لقد صدق المعري وطه، فإن «الدهر» أو «الزمن» يسع في محيطه جبريل والكون والوجود، فما دام هؤلاء جميعًا قد دخلوا «مجرة» العقل الآدمي فقد خضعوا معه على الرغم منهم ومنه لإمرة «الزمن»، فنحن بغير «الزمن» لا نعي شيئًا ولا تصلح عقولنا لشيء، فإن إبرة العقل متصلة ﺑ «مغناطيس» الزمن. هكذا خُلقنا نحن البشر. وأرجو منك ألا تقولي إن هنالك وجودًا مطلقًا خارج «منطقة نفوذ» الزمن والعقل الآدمي، فإني أجيبك من فوري: إن ما يخرج عن منطقة عقلنا وزمننا لا وجود له عندنا؛ لأننا لا نستطيع أن نتصوره، فأنت موجودة عندي لأنك قد دخلت منطقة تصوري، وما دمت داخل تصوري فإني لا أملك أن أدفع عنك سيطرة «الزمن» الذي يبسط حكمه على رأسي وعلى كل من دخل رأسي من خالدين وهالكين. أرأيت يا سيدتي قوة «الزمن» وجبروته؟ أما قولك إن «الزمن» وهم أفرزته رءوسنا الآدمية، فهو كلام يصدق على كل ما تقع عليه حواسنا من موجودات مادية أو معنوية، فليس هناك في الواقع حقيقة ولا وهم، إنما كل شيء وليد رءوسنا وإفراز أدمغتنا، فما أنت يا سيدتي العزيزة، وما الجبال التي تحيط بي، وما الكتب التي أقرؤها، وما الأصدقاء الذين أحبهم، وما أهلي، وما عملي، وما مالي إلا إفرازات تخرج من رأسي، فأنت و«الزمن» في هذا سيان، لا أستطيع أن أسمي أحدكما وهمًا والآخر حقيقة.

أما دفاعك عن «الحب» فهو جميل ﮐ «الحب». ولست أنكر مطلقًا أنه أعجبني وأثر في نفسي. ما أصدقك إذ تقولين إن لا شيء يستحق منا تحية وداع على الأرض مثل لحظة حب ظفرنا بها! نعم … ولكن … تلك اللحظة، أين هي؟ أنستطيع أن نظفر بها في كل حين؟

وبعد، فأرجو أن تغفري لي هذه المرة أيضًا جفاء هذا الكتاب، فإني إنما أردت أن أعيد إليك الثقة في مولانا «الزمن»، فما دام هو الذي ينظم حياتنا فهو ولا ريب الذي يقيم العدل ويرد الحق إلى ذويه.

واقبلي يا سيدتي المحبوبة خالص شكري على عطفك الذي تجودين به دائمًا عليَّ. ولو كنت أرى قلبي جديرًا بك لبعثته إليك رسولًا أمينًا يقرئك السلام من

أسيرك المخلص توفيق

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤