الدفاع

وقف المتهم لحظة مضطربًا بين صمت الجموع ووجومهم، وانتباه شهرزاد والتفات طه حسين، وقد أمسك أنفاسه وأصاخ بسمعه. ثم ارتفع صوت المتهم رويدًا رويدًا كأنما هو آتٍ من مكان بعيد:

أيها القاضي العادل

تهمة خطيرة تلك التي رماني بها المدَّعون، أو المدعيان، إذ قد سقط من الحساب اثنان ظهر كذبهما للمحكمة، وهرب اثنان ضجرًا من طول الإجراءات فيما أرى، وتنازل اثنان كرمًا ونبلًا من دون ريب، فلم يصمد في وجهي غير ملك ووزير! وهذا شرف عظيم!

قبل أن أبدأ دفاعي، أود أن أبدي أسفي لهذه الدعاوى التي أقامها عليَّ أشخاص يمتُّون إليَّ بسبب. إنه لمن المؤلم أن أراني منفردًا بين إخواني الأدباء بهذا الموقف الذي وضعني فيه اليوم هؤلاء الأشخاص المحترمون، وإني لأعجب كلما تذكرت أن غيري من الأدباء لم يلقَ من أشخاصه ما ألقى من هذا الإكرام؛ فها هو ذا «هيكل» لم ترفع عليه «زينب» قضية في المحكمة «الشرعية». وهذا «العقاد» لم يقاضِه «ابن الرومي» أمام المحكمة «المختلطة». وهذا «المازني» ترك الأموات والأشباح وأخرج على مسرح كتاباته أهل بيته وذويه من الأحياء، فلم يتذمر أحد منهم، فما بال أشخاصي أنا من دون بقية الخلق هم الذين قد أساءوا الأدب وثاروا وتمردوا، كأني يوم كتبتهم غمست قلمي في مداد ممزوج بلعاب الجن الأخضر أو ماء الفلفل الأحمر.

وبعد، فما هي حقيقة الاتهام؟ أني قد زوَّرت ولفَّقت وقذفت إذ جعلت الملك والوزير على صورة لا يرضيانها لنفسيهما؟ إنِّي أترك لعدالة المحكمة تقدير الجميل الذي أسديته إلى هذين المخلوقين بذلك التزوير والتلفيق المزعومين، إنهما قد مثَلا الساعة ورأيناهما مجرَّدين عن ذلك الثوب الذي ألبسهما إياه تلفيقي وتزويري، ماذا رأت المحكمة منهما الآن غير ملك جاهل سفاك ووزير تافه صعلوك؟! أين ذلك التفكير الذي وضعته في رأس شهريار فارتفع قليلًا عن الأرض، فلم يحفل ﺑ «عبد» شهريار الواقف خلف الأستار بقدر ما حفل بما اختفى وراء عقلها من أسرار! … وهذا الوزير …

القاضي (مقاطعًا للدفاع) : إنهما قد رفضا هذه الصورة على كل حال. وهي في نظرهما قبيحة!
الدفاع (يمضي) : أيها القاضي! ليس من حق أحد أن يرفض صورة وضعها مبدع لأنها قبيحة أو مليحة! إن للمبدع أن يُظهِر أشخاصه على أي وجه يريد ما دام فيها حياة نابضة.
القاضي : وهل من حق المؤلف أن يشوه الأشخاص؟
الدفاع : وهل من حق الخالق أن يشوه بعض المخلوقات؟ وهل من حقي أن أطالب خالقي بأن يغير الصورة التي وضعني عليها، وأن يبْدل أنفي الذي لا يعجبني بأنف آخر، وطبعي الذي يتعبني بطبع آخر؟
القاضي : ولكن رجل الفن مطالَب بالكمال!
الدفاع : إن الكمال في الفن وفي الطبيعة هو خلق الحياة النابضة، ولا شيء غير ذلك.
القاضي : أوَيستوي عندك في الجمال حياة نابضة كحياة المشلولين والمشوَّهين في أجسامهم وعقولهم، وحياة أخرى كحياة «ألسبياد» الجميل الجسم، السليم العقل، و«هيلين» البديعة الحسن الذكية الفؤاد؟!
الدفاع : سيدي القاضي! إنك تضيق عليَّ الخناق وتحاسبني حسابًا عسيرًا.
القاضي (باسمًا) : ألست تريد قضاء «الزمن»؟!
الدفاع (يفكر مليًّا) : نعم، صدقت يا سيدي. إن الجمال هو كمال الكمال. هو الحياة النابضة الصحيحة المتناسقة المصفَّاة من عيوب النقص والتشويه، مرت عليها الطبيعة بيد التجربة والأستاذية على مدى أحقاب الأحقاب! ولكن … من ذا يزعم أن هذا «الجمال» في مقدورنا نحن الآدميين في كل حين؟! وهل هو في مقدور «الطبيعة» في كل حين؟! كم مثلًا من أمثلة الجمال الكامل في «الجسم والقلب والعقل معًا» استطاعت الطبيعة أن تخرجه منذ آدم حتى اليوم؟ وبأي ثمن صنعت تلك الآيات؟ وبعد كم من التجاريب؟ أليس الثمن ملايين الملايين من المخلوقات العادية والناقصة والمشوهة على مر الأحقاب والعصور؟ أليس النقص والتشويه والتكرار تجاريب الطبيعة الفاشلة؟ إن الطبيعة لتتكبَّد العناء هي أيضًا في خلق الجمال! فهي لا تختلف كثيرًا عن «فيدياس»؛ إنه كذلك قد أسقط من فتات الرخام الضائع والتماثيل الناقصة أكوامًا على أكوام قبل أن يبرز من بينها آيته الفنية «بالاس»، وما لي أفرق بين الطبيعة وفيدياس، كأن الإنسان شيء مستقلٌّ عن الطبيعة؟! إنه جزء منها، خاضع للقانون الذي يسيرها، وذلك القانون وحده هو الكامل المنزَّه، لا نقص فيه ولا تقصير، وهو الذي دبر لها وأراد هذا القصور. فإذا كان الكمال أو الجمال نادرًا في الطبيعة على قوتها وعظمتها، فإن العمل الفني الكامل هو عند البشر أقل وأندر.
ولأتحدثن الآن عن نفسي قليلًا، وأنا بين «يدَي» الزمن، فأقول إنِّي ما زعمت يومًا ولن أزعم أني صنعت من هؤلاء الأشخاص «المدعين» شيئًا يقرب كثيرًا أو قليلًا من الجمال الفني، وإن كنت صنعت ذلك لما عرفت، فإن صانع الجمال لا يراه، ومن دنا من قمة الكمال أصابه الدوار ففقد شيئًا من إدراكه لما يصنع ولقيمة ما يصنع، وأصبح شأنه شأن أولئك الصوفيين الذين يقفون بأعتاب «الله» بعد صعود طويل وجهد شاق، فيغمرهم ضباب النشوة، فإذا هم لا يرون شيئًا ولا يميزون بعقولهم شيئًا.

ولما كنت الآن على ثقة بأني لا أشعر بدوار ولا بضباب، فإني ولا جدال بعيد عن قمة «الكمال». وكل ما أزعم لك يا سيدي القاضي في شأن عملي هذا أني كنت دائمًا حسن النية، سليم الطويَّة، لا أملُّ السير بوسائلي الضعيفة، صاعدًا في ذلك الطريق الوعر الطويل المؤدي إلى هيكل «الجمال» العظيم، دون أن أطمع يومًا في رؤيته، ولو عن كثب، إنما أقضي حياتي أمشي وأتعثر في أشواك هذا السبيل إلى النهاية، وعزائي الوحيد أني أعيش في طريق «الجمال» وأقضي نحبي فيه، فإذا رفق رب «الهيكل» بي، وألفاني يومًا خليقًا أن يضع على قبري زهرة من حديقته، فذاك كل جزائي، وغاية ما أطمع فيه … وأخيرًا يا سيدي القاضي، لست أملك إلا أن أعهد إليك باسمي وشرفي وأمري فاحكم بما ترى، وأنت إذا حكمت فإنك تحكم بالحقِّ والعدل، ولست أخاف وجهَيك؛ فإن فيك أيها «الزمن» «سواد» الدهماء، وفيك «نور» العلماء. وبهذا الحكم المزدوج على الأشياء لا يفلت حقٌّ من مصفاتك.

•••

جلس المتهم وقد خيم الصمت العميق في ذلك الليل الساجي على الجموع الساهمة. وأطرق القاضي مليًّا، ثم رفع رأسه:

النطق بالحكم عند الفجر، وليُفرَج فورًا عن المتهم بالضمان الشخصي!

فقام «الحاجب» ونادى في قفصه: من يضمن المتهم؟

فنهضت شهرزاد صائحة: أنا أضمنه وأحفظه في قصري حتى الفجر.

فتحرك «القاضي» في جلال رهيب وقال ملتفتًا إلى شهرزاد: لا تقبل المحكمة ضمانك؛ لأنها لا تأمنك عليه.

فبُهتت شهرزاد ووجم الحاضرون، ولكن القاضي لم يُطل صمته، بل قال مخاطبًا شهرزاد: ولأنك متهمة مثله.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤