غضب شهرزاد

قلت وقد اتجهت إلى القاضي واثقًا بأنه سيرضى بما أقول: فأنا أكفله إن أذنت يا سيدي. قال القاضي في لهجة حلوة مرة، فيها الحنان والسخرية معًا: لو أمنتك على نفسك لأمنتك عليه. فسُقط في يدي، واستحييت من أن أُفجأ بما فُجئت به شهرزاد، وانتظرت في الوقت نفسه أن أسمع من توجيه التهمة إليَّ وأمري بالتهيؤ للدفاع، ولكن صمت القاضي اتصل حتى قطعه صوت مخيف اضطربت له الأرض وامتلأ به الجو، وأوشك الجبل أن يتصدع منه فرَقًا ورعبًا، وتهالك له توفيق ففارقته قواه، وسقطت من يده عصاه، وخر كأنه مغشيٌّ عليه، وإذا هو الحاجب يقول في قصف الرعد كله: إليَّ يا مولاي فأنا زعيم به حتى يتصرَّم الليل. ثم ثاب الهدوء، وثابت معه إلى المتهم قوتُه، وعاد إليه رشده، فسأله القاضي: أتقبل هذا الكفيل؟ قال مضطربًا متهالكًا: على ألا يُسمعني صوته، فإني أخشى ألا أعود إلى أهلي كما فارقتهم سميعًا. قال الحاجب في صوته القاصف: لا بأس عليك. قال المتهم متهالكًا متمالكًا: أوَبأس أشد من هذا البأس؟!

وصعدت في ذلك الوقت من أدنى الجبل السحابةُ تسعى في هدوء ولين، فجعلت تغمر المتهم قليلًا قليلًا وهو يضطرب اضطرابًا عنيفًا، ويصيح صياحًا شديدًا يريد أن يخلص منها فلا يجد إلى ذلك سبيلًا، وما هي إلا لحظة قصيرة حتى أخذته من جميع أقطاره، فإذا شخصه يَخفى، وصوته ينقطع، والسحابة تمضي مُصعِدة أمامها في مثل ما أقبلت به من الهدوء والوقار.

والتفتُّ فلم أجد حولي إلا شهرزاد وغلامها الأسود وإلا صاحبي، وقد أطبق على المكان صمت ليس أقل عمقًا ولا كثافة من هذا الليل الذي غمر كل شيء، على أن ألفاظ شهرزاد كانت تخترق هذا الصمت العميق كما كانت أشعة النجوم تنفذ من هذا الليل الكثيف، وكانت شهرزاد مُغضَبة أشدَّ الغضب، مَغيظة أحدَّ الغيظ، ساخطة على هذا القاضي الذي لم يكفِه أن رد كفالتها في غلظة وعنف حتى اجترأ عليها وتجاوز حقه فيها، وزعم أنها متهمة كتوفيق يجب أن تدافع عن نفسها كما دافع هو عن نفسه، وكانت تقول في صوتها الفضي الجميل: من هذا الذي يجرؤ على أن يتهمني؟! أو من هذا الذي يملك أن يقفني أمام القضاء؟! ومن هذا الذي يستطيع أن يُكرهني على ما لا أريد؟! ثم ترسل في الجو قهقهة عذبة متصلة وهي تقول: لم يبقَ إلا أن تدافع شهرزاد عن نفسها وتقف من القضاء موقف المجرمة، وهي التي أخذت الناس بالجد والعبث، وعلمتهم الاتهام والدفاع. سيعلم هذا القاضي كيف أعصيه وكيف أزدريه وكيف أمتنع عليه، ثم تلفتت إليَّ وهي تقول في شيء من الحنق تكظمه وتخفف من حدته: أرأيت إلى مشورتك يا سيدي كيف تعرِّضني لما لم أتعرض له قط؟!

قلت في أناة وهدوء: إن شخصك الخالد يا سيدتي قد يكون بمأمن من هذا البرد المهلك الذي لا نقوى نحن على احتماله، فإن شئت أن ترديه عنا أو تحمينا منه قبل أن نأخذ في هذا الجدال الذي أظن أنه سيكون شاقًّا طويلًا.

قالت خجلةً متضاحكة: لقد أصبت. ما أدري كيف ذهب عني هذا، ولم تكد تلتفت إلى غلامها الأسود حتى تغير من حولنا كل شيء، وإذا نحن في غرفتها الهادئة الجميلة من قصرها المسحور، وإذا هي مستلقية بين وسائدها، وإذا الخدم يسعون بين أيدينا بما يردُّ إلينا القوة والنشاط.

قالت شهرزاد: الآن يا سيدي وقد أتيحَ لك الأمن والدفء والهدوء تستطيع فيما أظن أن تتحدث إليَّ برأيك في هذه الجراءة التي ما كنت لأتعرض لها لولا أني لقيتك وقبلت رأيك في أمر صاحبنا المسكين.

قلت: مهلًا، أزيلي قبل كل شيء من بيننا هذه الخصومة التي تخلقينها وتجنين بها عليَّ، فإنها خليقة أن تصرفنا عما يجب من تدبير أمرك، وأنت تعلمين أن الزمن لا يذعن لما نريد، وأنه كثير التقلُّب والجموح، يطيل الليل إن أراد، ويقصره إن أحبَّ، إنما هي حركة منه يدفع بها النجوم دفعًا فإذا الليل ينجلي، أو سكون منه يمسك به النجوم في الجو فإذا الليل ثابت مقيم، وما أدري أراغب هو في تعجيل القضاء فيقصر الليل، أم راغب هو في الإبطاء به فيمسك أستاره أن تنكشف، ويمنع ظلمته أن تزول!

قالت وقد رفعت كتفيها الجميلتين، وأشاعت في الغرفة ضحكة ساحرة ساخرة: ما أشد ما تخاف الزمان، وما أعظم ما تُكبِره، وما أكثر ما تحسب له الحساب! هوِّن عليك، إن أمره أيسر مما تظن، وإن تقلُّبه أدنى إلى العبث منه إلى الجد، وإنه يستطيع أن يتهم، ويستطيع أن يقضي فلا يغير اتهامه شيئًا ولا يُحدِث قضاؤه جديدًا. إنما هو كائن مغرور، قيل له إنه قوي فظن بنفسه القوة، وخُيل إليه أنه عظیم فانتحل لنفسه العظمة، بل خُيل إليه أنه موجود فأثبت لنفسه الوجود.

قلت وقد نهضت يظهر على وجهي الغضب، ويضطرب في قلبي الخوف: سيدتي، إن كنت مُصرة على المضي في هذا الحديث فدعيني أنصرف؛ فإني لا أحب مخاصمة الزمن ولا أقدر عليها. وإنك لتخدعين نفسك وتكلفينها أكثر مما تطيق، فقد قبلت الاحتكام إلى هذا القاضي، أترين أنك كنت لاعبة؟ ثم ما يغضبك من اتهامه إياك وأنت قد قبلت حكمه وسعيت إلى مجلسه، وما زلت تنتظرين قضاءه، وتخافين في أعماق نفسك أن يكون قاسيًا على صديقنا البائس؟

قالت في رفق: عد إلى مجلسك يا سيدي، فما دفعني إلى ما تكره إلا ما أجد في نفسي من الحفيظة والمَوجدة. وما كنت أقدِّر أن أُهان وأُتهم جزاء على ما قبلت من الاحتكام إلى الزمن والرضا بقضائه بين توفيق وتلك الأشباح.

قلت: بل جزاء على عبثك به واستطالتك عليه فيما كتبت إلى أسيرك الذي أُخذ منك وأنت كارهة.

قالت: ومهما يكن من شيء فأنت أصل الخصومة التي أخذت نفسي تضيق بها، على قلة ما تضيق نفسي بالأشياء.

قلت: فهذا هو التجني الذي لا أطيقه ولا أرضاه، وإنك لتعلمين أني ما سعيت إليك إلا بعد أن دعوتني، وما اهتديت إلى قصرك هذا إلا حين دللتني عليه، بل حملتني إليه حملًا واختطفتني إليه اختطافًا، أفتعقِّدين الأمر وتخلقين المشكلات، ثم تلقين تبعة ما تفعلين على الأبرياء والآمنين الذين أقبلوا يصطافون، فنصبت لهم من الشباك والأشراك ما ورطهم في هذه القصة المعقدة التي لا يعرفون لأنفسهم منها مخرجًا؟!

•••

سمعت شهرزاد هذا الحديث هادئة، ثم فكرت فيه مُغرِقة في التفكير، ثم رفعت رأسها إليَّ وهي تقول: ربما كان هذا كله حقًّا، ولكن الأمر ما زال أيسر مما تظن، فأنت واثق بأن القاضي سيعدل في أمر صاحبك، وإذن فستذهب إلى مجلس القضاء وستسمع الحكم، فإذا بُرئ صاحبك عدت معه آمنَين إلى حيث تستأنفان اصطيافكما كأن لم تلقيا شهرزاد ولم تعرفا القصر المسحور.

قلت ساخرًا: ما أيسر ما تقولين ذلك، كأنك تجهلين أن لقاءك فتنة وأن قصرك سحر، وأن من دنا منك لا يستطيع أن يطيل النأي عنك، وأن من خرج من قصرك لا يستطيع أن يسلو عن الرجوع إليه! هل لك أن تدَعي هذا الدلَّ وتُعرضي عن هذا التيه حتى نفرغ من هذه القصة التي طالت واشتد تعقدها؟!

قالت: صدقني إني لأبعد مما تظن عن الدلِّ والتيه، ولكن أُكبِر نفسي وأنفسكم أيضًا من أن أخضع لسلطان وإن كان سلطان الدهر، ومن أن أقبل اتهامًا أو أتهيأ لدفاع.

قلت: ومع ذلك فأنت متهمة، ولا بد من أن تدافعي عن نفسك.

قالت: كلَّا، إن لي عن ذلك مندوحة، فأنت تعلم أن هناك أستارًا يكفي أن تُرفع، وأن تُسدل بعد أن أَجوزها؛ وإذا أنا بمأمن من كل عادية لا يبلغني شيء، ولا يصل إليَّ أحد وإن كان الزمان.

قلت: نعم ومن وراء هذه الأستار كنت تريدين أن تلقي توفيقًا.

قالت: كنت أريد أن أحفظه.

قلت: فإنك لا تجهلين أن ما وراء هذه الأستار يُسمى الموت بالقياس إلينا، ويُسمى النسيان بالقياس إليك، أفترضين أن تسدلي أستار النسيان بينك وبين الأحياء؟

قالت: لقد بلوت الأحياء حتى ضقت بهم، وما أكره أن أستريح منهم دهرًا، فلينسوني ولْأنسَهم، وما أظن أني سأشقى بهذا كما يشقون.

قلت: ما كنت أعرف فيك هذه القسوة، إنك لتعلمين أنك عزاء الأحباء وسلوتهم، وأنك رحمة البائسين ونجاة الهالكين منهم. ومع ذلك فلن يخلِّي الزمن بينك وبين ما تريدين للأحياء من هذه الحياة الخشنة الجافة التي يملؤها الجحيم والعذاب المقيم.

قالت وقد نهضت مغضَبة: الزمن أيضًا؟ فأنا إذن مثلكم أمَة له، مذعنة لسلطانه لا أستطيع منه فرارًا.

قلت:

ولو طار جبريل بقية عمره
… … … … … … …

قالت وهي لا تكاد تملك نفسها:

… … … … …
من الدهر ما اسطاع الخروج من الدهرِ

سخف هذَى به شاعر من شعرائكم ظنه وظننتموه فلسفة، ولم تعرفوا أنه الهراء الذي ليس وراءه شيء. سترى يا سيدي أأستطيع الخروج من الدهر أم لا أستطيع. ثم دقت يدًا بيد، فأقبل غلام أسود فقالت له: سترعى هذا السيد حتى يفرغ صاحبه من قضيته، ثم تبلغهما مأمنهما، ثم تلحق بي وراء الأستار.

قال الغلام: الأستار يا سيدتي؟ إنها مأخوذة علينا.

قالت: من أخذها؟

قال: جنود القاضي، إنهم يقومون دونها منذ وجَّه إليك ما وجه من حديث.

قالت: فستنتظرني إذن في القصر حتى أعود.

قال: تعودين من أين يا سيدتي؟

قالت: من وراء الأستار. ألست قد زعمت أن الطريق مأخوذ عليكم؟

قال: وعليك أيضًا يا سيدتي!

هنالك ثار ثائرها، فنهضت ولطمت خد العبد، وإذا هو يجثو بين يديها مستغفرًا، ولكنها مضت أمامه لا تلوي على شيء، وتبعها العبد مستخذيًا خجلًا. ولبثتُ في هذه الغرفة مضطربًا بين الحيرة والدهش والغضب، لولا أن صاحبي أقبل يهمس في أذني: لقد انتصف الليل. ولم أكد أسمع هذه الجملة حتى انجلت عني غمرة هذه القصة كلها، وذكرت الفندق ومن خلَّفت فيه، ونهضت عجِلًا قلقًا أسأل صاحبي: ومن لنا بالعودة وكيف الطريق إلى الفندق؟ وماذا عسى أن يُظن بنا من الظنون؟

ولم يكد صاحبي يهمُّ بالجواب حتى أقبلت شهرزاد شاحبة غاضبة لا تملك نفسها من الغضب والغيظ فتلقي على صاحبي نظرة يطير لها لبُّه، فيرجع أدراجه مسرعًا، ثم تتحول إليَّ قائلة وقد تجاوز السخط بها حدَّه: إنك تفكر في العودة إلى أهلك. كلَّا يا سيدي، يجب أن تعلم أني أسيرة في هذا القصر، أسيرة قاضيك الذي اخترته ووثقت به، فلتكن أنت أسيري، ولن يُخلَّى بينك وبين الحرية حتى يُخلَّى بيني وبين النسيان!

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤