حكم الزمان

فلما تقضي الليل إلا أقلَّه
وكادت توالي نجمِه تتغوَّرُ

يمَّمنا مجلس القضاء، فكنا السابقين إليه، ولبثنا لحظات مأخوذين یبهرنا هذا الجلال الذي لا يرقى إليه الوصف؛ جلال الصمت قد امتدت أرجاؤه حتى طبَّقت الجو كله من حولنا، لا تشقه إلا هذه الموسيقى الضئيلة المتهالكة التي كانت تضطرب فيه اضطرابًا متصلًا حلوًا، فيه أمن للقلوب ولذة للنفوس، والتي كانت تصدر عن هذه الحشرات الضئيلة المنبثَّة المستخفية في ثنايا ذلك العشب الكثيف، وجلال هذه الظلمة التي كانت تَروع لكثافتها وامتدادها من كل نحو وفي كل وجه، لا تشقها إلا أشعة ضئيلة متفانية، ملائمة لتلك الموسيقى الضئيلة المتهالكة، كانت تصدر من هذه النجوم البعيدة التي أخذت تجدُّ في الهرب، كأنما كانت تريد أن تبلغ مأمنها قبل أن يدركها ضوء الصباح. وكانت نفوسنا تجد في أعماقها شعورًا قويًّا بجمال حزين مُغرِق في الحزن، كأنه صورة لهذا الكون الذي كان يحيط بنا وبغيرنا، والذي كان يأتلف من مزاجين مختلفين أشد الاختلاف؛ ظلمة كثيفة قد شاع فيها صمت عميق، وأصوات نحيلة تصعد من الأرض فتلقاها في الجو أشعة ضئيلة تهبط من السماء. ومع أنَّا كنا قد افترقنا مختصمَين أو كالمختصمين منذ ساعات قصار، فقد أحسست نفسي تدنو من نفس شهرزاد، وما أرى إلا أنها كانت تجد مثل ما أجد، وإذا يدانا تلتقيان، وإذا هي تسألني في صوت لم يكن أقلَّ نحولًا من بعض هذه الأصوات التي كانت تضطرب في الجو: ما رأيك في هذه الموسيقى؟ أليست باهرة للعقول ساحرة للقلوب، مُنسِية للخطوب والأحزان؟!

وأهمُّ أن أجيبها، ولكن يدها اللطيفة تضغط يدي الخشنة كأنها أنكرت صوتها فهي لا تريد أن تسمع صوتي، وكأنها تُؤْثر ألا يأخذ الحديث بيننا طريق الألسنة والأسماع، بل طريقًا أخرى هي أيسر وأقرب، وهي طريق النفوس حين تتحدث إلى النفوس في غير صوت مسموع أو جرس محسوس.

•••

وما أدري ألَبِثنا كذلك وقتًا طويلًا أو قصيرًا، ولكنا نشعر فجأة كأنا انتُزعنا في عنف من عالم الغيب ورُدِدنا في قوة إلى عالم الشهادة. وهذه سحابة تسعى في وقار وأناة كأنما تنزلق على الجبل، حتى إذا جازت هذا المكان الذي كنا نقيم فيه لم تقف ولم تتمهل، وإنما مضت في طريقها منحدرة، ولكنها تنحسر في لطف وظرف عن شخص نجده ماثلًا أمامنا، فإذا تبيَّناه عرفناه، وإذا هو المتهم، عليه معطفه وفي يده عصاه. وأنت تستطيع أن تسأله عن ليلته تلك التي قضاها ضيفًا على السحاب، فقد حدثنا عنها حديثًا ظريفًا طريفًا شائقًا رائقًا ما أريد أن أسوقه إليك؛ لأني أقدر حقوق الأدباء في إذاعة ما يعرض لهم من الأحداث، وما توحي إليهم به الخطوب، ولا سيما في هذه الأيام التي اشتدت فيها مطالبة الأدباء وأهل الفن بحماية حقوق المؤلفين، وما أظن أن صديقنا يبخل عليك بهذا الحديث؛ فقد سمعته يتحدث إلى نفسه — وما أكثر ما يتحدث صديقنا إلى نفسه فيسمع الناس — بأنه خليق أن يذيع هذه القصة في كتاب. وأخذت أشخاص مختلفة متباينة تبلغ هذا المكان، منها ما يصعد ومنها ما يهبط، ومنها ما يأتي عن يمين ومنها ما يأتي عن شمال، وكلٌّ صامت لا يُسمع له صوت، وكلٌّ هادئ لا تحَس له حركة. ثم يضطرب الجوُّ ويهتزُّ الجبل وتمتلئ النفوس مهابة ووقارًا؛ فقد قصف الحاجب العنيف بأن القاضي قد أخذ مكانه من مجلس القضاء.

ثم يمتلئ الجو من حولنا بصوت رقيق رفيق يدعو شهرزاد ويتهمها بأنها أهانت القاضي باللفظ والكتابة، ويسألها أن تردَّ عن نفسها هذه التهمة إن عرفت إلى ذلك سبيلًا.

فتقف شهرزاد ولا تقول إلا ألفاظًا قليلة، ولكنها قاسية بما كان يملؤها من سخرية ويترقرق فيها من مزاح، ولله ذلك الصوت ما كان أعذبه وأجمل موقعه من القلوب حين كان يذيع في ذلك الجو الرهيب نغماته الساحرة التي كانت تشيع فيه شيوع الكهرباء فتُسحر لها النفوس، وتسري لها في الأجسام رِعدة لذيذة لا تُعقِب أذًى ولا ألمًا.

قالت شهرزاد: لا أقف هذا الموقف لأدافع عن نفسي، فلست أعرف لأحد الحق في أن يتهمني بإثم مهما يكن. وأنا الحرية كلها، والحرية التي تشيع النشاط في العقول، وتذيع الحياة في القلوب، وتبعث الحرارة في العواطف والمشاعر والأهواء. أنا الحرية الخالصة التي لا تعرف حدًّا ولا تنتهي إلى غاية ولا أمد، ولا ترجو لشيء ولا لأحد وقارًا. أنا الحرية الطاغية التي يظلم كل من يحاول أن يحدَّ من طغيانها، ويبغي كل من يحاول أن يكبح من جماحها؛ لأن نظام الحياة، بل نظام الكون يريدها على أنها تكون طاغية جامحة، لا تذعن لقوة ولا تؤمن لسلطان، لا أقف هذا الموقف لأتلقى اتهامًا؛ لأني فوق الاتهام، ولا أُلقي دفاعًا؛ لأني فوق الدفاع، وإنما أقف لأردَّ هذا القاضي إلى رشاده، وأعيد إليه فضلًا من صوابه، وأنعَى إليه نفسه إن مضى في غروره أو أسرف في غلوائه، فظن أنه يقدر على الحرية ويسيطر على شهرزاد، لقد أصاب المتنبي حين قال منذ ألف سنة …

قال توفيق مقاطعًا: وأنت أيضًا قد أدركتك عدوى المتنبي؟ ولكنه لم يمضِ في حديثه، فقد قصف الرعد قصفة ردته إلى السكوت.

ومضت شهرزاد في حديثها عن إصابة المتنبي حين قال منذ ألف عام:

أتى الزمانَ بنوه في شبيبته
فسرَّهم، وأتيناه على الهَرمِ

قالت: وكنا نحسب أن ألف عام لا تعدل يومًا بالقياس إلى هذا القاضي، وأنه يستطيع أن يهرم على مهلٍ ويشيخ في أناةٍ، دون أن ينتهي إلى خرف ويفارقه حِلم أو يذهب عنه صواب، وكنا نظن أن آلافًا وآلافًا من السنين ستمضي قبل أن نحتاج إلى أن ننبهه بين حين وحين أنه أخطأ في الحكم أو جار عن قصد السبيل. وكنت أتهيأ لأكون منه مكان تلك الفتاة الأعرابية التي كانت تقرع لأبيها العصا تنبهه أنه جار في الحكم أو حاد عن القصد، ولكن قاضينا أسرع إلى الهَرم وأسرع الهرم إليه حتى تجاوز كل حساب، وما كان ينبغي لي أن أجهل ذلك أو أجادل نفسي فيه وأنا أرى بوادره تشيع في أقطار الأرض، وتفسد على الناس حياتهم في غير بيئة، فإذا الحرية تُضطهد، وإذا آثارها تُصادَر، وإذا العقل يُنفى من الأرض، وإذا الأقلام والألسنة تخضع بألوان القهر والمراقبة والتضييق، وإذا رسلي يعودون إليَّ يائسين بائسين يشكون زهد الناس فيهم وفيما يحملون إليهم من ثمرات الحرية التي تذيع الخصب في العقل والشعور. كنت أظن أنها أزمة تأتي الناس من إسرافهم في الحضارة، وتعرِّضهم لأخطارها وأمراضها التي تَعرِض وتزول، فإذا هي أزمة تأتيهم من أبيهم الزمان الذي فارقه الشباب، وتصرَّمت عنه الكهولة القوية، وأدركته الشيخوخة وما يتبعها من أعراض الفناء والانحلال، إلا أن أكون مخطئة وأن يكون هذا الشيخ الوقور مريضًا ألمَّ به بعض العلة، وإذن فأنا كفيلة بعيادته والقيام على تمريضه، والطب لما يلحُّ عليه من الداء.

قال القاضي في صوته الهادئ الشائع العريض: حسبك يا شهرزاد، فقد استنار القاضي.

ثم دعا المتهم وسأله: ألا تريد أن تزيد على ما قلت شيئًا؟

قال توفيق وهو يرتعش ارتعاشًا عنيفًا: لا يا سيدي، ولكني أتوسل إليك ألا تحمِّلني من تبعات شهرزاد قليلًا أو كثيرًا؛ فإني أراها أسرفت كثيرًا، فليكن إسرافها على نفسها لا عليَّ.

قالت شهرزاد وقد التفتت إليه ضاحكة: ويحك! وكيف خنتني قبل أن يصيح الدِّيك؟

ثم غمر المجلسَ صمتٌ عميق لم يتصل إلا لحظاتٍ قصارًا، وإذا نحن نسمع صوتًا هادئًا عذبًا يتلو علينا الحكم، ولكننا لا نتبين من أين يبلغنا هذا الصوت.

قال الصوت: والآن وقد سمعنا ادعاء المدَّعين ودفاع المتهم الأول، ولاحظنا اعتزال من اعتزل وعدول من عدل عن الاتهام؛ نقرر أن من حقِّ الأديب أن ينشئ أشخاصه كما يريد هو لا كما يريدون هم، بل إن من الحق على الأديب أن يتلقى أشخاصه كما يؤديهم إليه فنه، لا يغير من صورهم التي تلقَّاهم عليها ولا يبدِّل، ولو حاول ذلك لما استطاعه ولما وجد إليه سبيلًا. ولمن شاء أن ينكر عليه أو على فنه هذه الصورة كلها أو بعضها، وأن يعيب عليه فنه أو على فنه ما يكون فيها من ضعف أو نقص أو تشويه، وما ينبغي لهذه الأشخاص نفسها أن تثور بمُنشئها أو تمكر به أو تكيد له أو تتألَّب عليه، أو تبغي له سوءًا، أو تستنزل عليه عقابًا، فإن فعلت فهي طاغية يجب أن تُرد عن طغيانها، وباغية يجب أن تُصد عن بغيها، وجامحة يجب أن يُكبح جماحها، ومُنشئها وحده هو القادر على ذلك، وسبيله إليه ترقية فنه وتجديده، واصطناع الأناة والدقة والإتقان في التصوير والتعبير جميعًا. ولما كان المتهم قد أعلن تواضعه واعترف بقصوره، وسلَّم بأنه في حاجة إلى أن يسعى ويطيل السعي، وإلى أن يجدَّ ويُمعِن في الجد لا ليبلغ الكمال، بل ليدنو منه، ولما كنا نُقدِّر للمتهم تواضعه وطموحه إلى الكمال، واعترافه ببعد الأمد أمامه، ولما كنا نحرص على أن نمنحه المعونة على ما يريد من الرقي الفني، فقد قضينا أولًا بإسقاط دعوى المدعين وتبرئة المتهم مما وُجِّه إليه، ثانيًا بنفيه عن سالنش وعن الأرض الفرنسية كلها شهرًا، وإرساله إلى سالزبورج حيث الفصل الموسيقي، وحيث يستطيع أن يجد من جمال الفن ما يُدنيه خطوة أو خطوتين من الكمال.

•••

ثم انقطع الصوت لحظة أتاحت لتوفيق أن يدفع من صدره آهة عميقة تصوِّر ابتهاجه بما حُط عنه من ثقل، وما أُزيل عنه من حرج، وما مُهد له من سبب لترك سالنش وسمكها الذي لم يصطده إلى سالزبورج وموسيقاها الرائعة الحلوة معًا، ولكن الصوت يعود فيملأ علينا الجو من جميع نواحيه قائلًا: أما المتهمة الثانية، فبعد أن سمعنا دفاعها الذي تزعم أنه نعي علينا وتأديب لنا؛ نقرر أن من حقها أن تستمتع بطبيعتها التي هي الحرية الخالصة، ولكن في غير إسراف ولا جموح؛ لأن الإسراف في الحرية قتل لها واعتداء عليها. ومن حيث إنها قد تجاوزت الحد وجارت عن القصد، واستطالت على السلطان بعد أن اطمأنت إليه، وثارت به بعد أن اعتمدت عليه في إقرار العدل، ومن حيث إنها بهذه السيرة تؤذي نفسها، وتؤذي الذين يتبعونها من رسلها الخالدين وأشياعها الهالكين، ومن حيث إنَّا نحرص على الحرية، ونرفق بها من أن نخلِّي بينها وبين هذا الطغيان الخطر، ومن حيث إنَّا مع ذلك نقدر حاجة الحرية إلى أن تُمد لها الأسباب ولا يشتد عليها التضييق؛ فقد قضينا بأن يلزمها الأرق المضني الذي تعانيه إلى آخر الصيف.

هنا نهضتُ مندفعًا في شيء من العنف غير قليل قائلًا في صوت لم أملك تهدئته ولا تنظيمه: إذن فلن تأرق وحدها ما بقيتُ قريبًا من القصر المسحور.

قال توفيق في صوت المنكر الدهِش: ما رأيت مثلك رجلًا يعترف بالسلطان ثم يتحداه ويخرج عليه!

والتفتنا فإذا كل شيء قد عاد إلى هيئته قبل أن ينعقد مجلس القضاء؛ ظلمة مطبقة تضطرب فيها أشعة النجوم المنهزمة، وصمت عميق تتردد فيه أصوات الحشرات المتغنية. وتوفيق حائر الطرف يهز رأسه عجبًا ودهشًا واستغرابًا، ولسانه يتردد في فمه: حقًّا لا أدري أين أنا وماذا يُراد بي!

وشهرزاد تقول في صوتها العذب: أنت على قمة الجبل الذي طالما تمنَّيت أن تصعد فيه، وطالما غرَّك به الغرور، فظننت أنك تستطيع أن تبلغ قمته ثم تنتهي إلى حضيضه في ساعات، ولا يُراد بك إلا ما تحبُّ لنفسك وما يحبُّ لك الزمن من الاستماع للموسيقى في سالزبورج.

قال توفيق: ولكن كيف السبيل إلى سالنش لأركب القطار؟

قالت شهرزاد: لا بأس عليك، سنبلغك مأمنك، وإن خنتنا قبل أن يصيح الدِّيك.

وهنا أراد توفيق أن يعتذر، ولكنها أخذت عليه طريق الاعتذار قائلة له: بل أنا المعتذرة إليكما، فقد كلفتكما أهوالًا وحمَّلتكما أثقالًا، وضيعت عليكما شهرًا من أشهر الصيف.

قلت: لم تضيعي علينا شيئًا يا سيدتي، بل رفهت علينا، وأرحتنا من سخف الحياة بما فيها من جدِّ الأمر وهزله.

قالت: من يدري، لعلك لم تخطئ، ولعل ما في هذه القصة من سخف لا يلائم ما أَلِف الناس من سخف الحياة الجادة والهازلة أن يسلي غيركما من الناس عن أثقال الدهر وهموم الحياة، فما أظن أن الناس تعوَّدوا عندكم أن يروا أديبين يعبثان بنفسهما وبالأدب … أذيعا هذا اللهو إن شئتما؛ فمن يدري، لعل اللغو خير ما في الحياة!

وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤