من شهرزاد

سمعت شهرزاد من أسيرها هذا الإغراء فرفعت كتفيها الجميلتين رفعًا رفيقًا أنيقًا لا يكاد يُحَس، وقالت في سخرية لم يلحظها الأسير الأديب: «رأي موفَّق»، ثم تناولت قضيبًا دقيقًا من العاج فمسَّت به إناء أجوف من الفضة سمع له صوت فيه عذوبة وخفاء، وانفرجت له أستار جانبية من القطيفة المقصبة، وخرج من بين هذه الأستار ثلاث فتيات حسان قد اعتدلت قاماتهن أجمل اعتدال، وصُوِّرت وجوههن أحسن تصوير، تقدمن في خطًى متزنة متقاربة، حتى إذا دنَون من سيدتهن انحنين فأطلن الانحناء، ثم استوين فأحسنَّ الاستواء، والأسير قائم ذاهل يُردِّد طرفَه الحائر بينهن وبين سيدتهن لا يفهم شيئًا ولا يقول شيئًا. وشهرزاد تنظر إليه وعلى ثغرها ابتسامتها الغامضة وتقول له في صوت تملؤه الأناة والمكر والدهاء والشعور بقوة الملك والسلطان معًا: «لا يزغْ بصرك يا سيدي ولا تسرعْ إليك الفتنة؛ فإنك لم تتجاوز بعدُ أول الطريق.»

ويختلط الأمر على الأسير فيذهب عنه ما كان قد أظهر من تجلُّد واصطنع من وقار، ويسوءُه أن قد نَفَذت شهرزاد إلى نفسه فرأت اضطرابه وتردده وحيرته بين هذا الجمال الخالد الذي استقر بين الوسائد الحريرية، والذي كان يحاوره منذ حين، وهذا الجمال الرائع الذي انفرجت عنه الأستار، ويهمُّ أن يُجمجِم معتذرًا، ولكن شهرزاد تخفف عليه المئونة وتضع عنه الوزر، وتتجه إلى هؤلاء الفتيات الحسان قائلة:

خُذن هذا السيد، فأصلِحن من أمره وهيِّئنه لمسامرتي، ثم عُدن به إليَّ إذا صار لها أهلًا!

هنالك يطيش لب الأسير ويغيب رشده ويفارقه صوابه، فيسأل: بماذا تأمرين يا سيدتي؟! وماذا تريدين أن يُصنَع بي؟! وإلى من تسلمینني؟!

فتجيبه شهرزاد مبتسمة في شيء من القسوة: ألم تنظر إلى المرآة؟ ألم ترَ أنك أشعث أغبر؟ أتظن أنك على هذه الحال الرَّثة تصلح لمسامرة الملوك؟

قال الأسير:

سيدتي إنِّي لا أصلح لشيء، ولم أطلب شيئًا إلا أن أُرَد إلى حيث كنت، وأعود حرًّا طليقًا أطوف في المسالك والطرقات حول سالنش، وألتمس غديرًا أصطاد فيه السمك.

قالت: ولكن الله أراد لك أن تمسي لي سميرًا.

قال: وأنت تسلمينني إلى هؤلاء الفتيات الحسان، فماذا تريدين أن يصنعن بي؟

قالت: يُصلِحن من أمرك، ويُزِلن عنك ما رَكِبك من الغبار وما علاك من شَعَث، يُجْرين المشط والمِقَص على رأسك، ويُنزِّهن الموسَى في لحيتك هذه، ويأخذن من أظافرك، ويُبْدِلنك من ثياب المدينة هذه ثياب القصر، ثم يَردُدنك إليَّ سمحًا طلقًا لا تقتحمك العين، ولا يتجافى الطَّرْف عن النظر إليك.

قال مرتاعًا: وهن اللاتي سيصنعن بي هذا كله؟

قالت: وما يسوءُك من ذلك؟

قال: ما أعرف والله ما يسوءُني مما يسرني، ولكني أتوقع يومًا كيوم بفنوس.

قالت: في قصة أناتول فرانس لقد ألهمته هذه القصة في ساعة من ساعات فراغه وفي لحظة من لحظات عيني، ولكن لا بأس عليك فما أنت بالقديس وما أنا …

قال مسرعًا: عفوًا يا سيدتي.

وأشارت هي إلى الفتيات أن أَسرِعن، فأَحَطن به ودفعنه دفعًا يسيرًا إلى ما وراء الأستار.

وخَلَت شهرزاد إلى نفسها فأخذت قلمها وكتبت إليَّ هذا الكتاب الذي أَلفَيتُه من الغد على مائدة صاحبي، لم يحمله إليَّ ساعي البريد، ولم يعرف صاحبي كما لم أعرف كيف وصل إلينا.

«سیدي

لك مني الشكر المضاعَف والتحية الخالصة، لقد وجدت في زيارتك إياي راحة وترفيهًا عليَّ، ولقد استقبلت بعد انصرافك عني نومًا هادئًا مطمئنًّا، ولقد نصحتَ لي فصَدَقتَ النصح، وأشرت عليَّ فأحسنت المشورة، فقد خطف أصحابي صديقك الأديب وحملوه إليَّ على الحال التي كان عليها في طريق من طرق سالنش أشعث أغبر مهملًا، قد اختلط أمره وهو يحسب أن الرشد لم يفارقه، وامتلأ قلبه رَوعًا ورعبًا وهو يظن أنه أشجع الناس.

حملوه إليَّ وقد اتخذ معطفه ترسًا يتقي به ما أقبل عليه من شر، ولم يخطر له أن يقاوم المعتدين عليه حتى بعصا الصيد هذه التي كان يهزها في يده كما يهز الفارس العربي رمحه السمهري. ولم أكد أراه وأسمع له حتى استيقنت أنه — كما أنبأتَني — ساذج بريء. زعم أنه شجاع وأنه ذاد عن نفسه ما استطاع، ولم يُقدِّر أن الذين حملوه إليَّ قد أنبئوني بما لقوا من مقاومته، وما بلَوا من حسن دفاعه عن نفسه. ولكني لم أكد أحاوره وأطيل معه الحديث حتى تبينت أنه — كما أنبأتني عنه — معقد شديد التعقيد؛ فقد أخذ يداورني ويماكرني ويلقي إليَّ جملًا ذات وجهين وأخرى ذات أوجه. راعه أني اتخذته سميرًا فأراد أن يخلص من هذه الخدمة التي يتهالك عليها كثير من الأدباء، وتتقطع دونها أعناق كثير من أصحاب المواهب والنبوغ، فسلك إلى هذا التخلص طرقًا أيسر ما توصف به أنها يسيرة كل اليسر، ملتوية كل الالتواء. ألم يطلب إليَّ أن آذن له في أن يتثاءب؟ أرأيت أديبًا يتثاءب في حضرة شهرزاد؟ ألم يعرض عليَّ أن أصحبه إلى الغدير أو البحيرة لنصطاد السمك معًا؟ فلمَّا لفتُّه إلى أن شهرزاد لا ينبغي لها أن تصطاد السمك لم يَخَف من أن يُذكِّرني بأن أبي كان صيادًا.

إنه لساذج كل السذاجة، معقد كل التعقيد. لقد كان يدفعه تعقيده إلى أن يمكر بي وينثر لي الشباك والأشراك، ولقد كانت سذاجته تخيِّل إليَّ أني قد انخدعت لمكره ووقعت في حبائله، فقد كان يفهم كلامي على وجهه ولا يُقدِّر أني أستطيع أن أَلقى مكرًا بمكر وعبثًا بعبث وخداعًا بخداع. له الله، إنه يظن أن المكر وقْف عليه، وأن الدهاء لم يُخلَق إلا له. إنه قد فهم كيد النساء فظن أنه أبلغ كيدًا من النساء، ولكني ملكت أمري أكثر مما ملك أمره، فخيَّلتُ إليه وخيَّل هو إلى نفسه أني لم أنكر مما قال شيئًا، وأظهرت له يأسي منه وخيبة أملي فيه وفي قدرته على أن يسامرني ويطرد عني الحرج والضيق. فسرَّه ذلك وأرضاه، وظن أن انتصاره محقَّق وأن الإفراج عنه قريب، ولست أريد أن أغريك به ولا أن أفسد ما بينك وبينه من الود، فأنا حريصة على أن تصلح الأمور أبدًا بينكما، ولست أريد أن أعاتبك ولا أن ألومك، فإنِّي لم أصدق ما قال فيك، ولم أنخدع بكيده لك، ولكني أريد أن أؤكد لك أنه ساذج حقًّا؛ فقد زعم لي وظن أني سأصدق ما زعم لي، زعم لي أنك رغَّبتني في مسامرته لتفلت أنت من هذه المسامرة وتخلو إلى شاعرك الذي أنت مشغول به، والذي تُؤْثر الاستماع له والتحدث عنه على مسامرة شهرزاد.

وقد رأى مني ما أَقنَعه بأني مصدقة مُحنَقة مفكرة في الانتقام فتجاوز الكيد إلى الإغراء، وعرض عليَّ أن أخطفك كما خطفته، ويسَّر عليَّ أمر خطفك من حديقة الفندق تحت شجرة الزيزفون، أو من هذه الغرفة التي تخلو فيها مع صاحبك إلى شاعرك هذا الذي يشغلك في هذه الأيام. وقد أظهرت له قبول رأيه، فلا تسَلْ عما ملأ قلبه وظهر على وجهه من الغبطة والبشر، ولكن ابتهاجه لم يَطُل، فما أسرع ما دعوت ثلاثًا من جواريَّ فأمرتهن أن يأخذنه فيفعلن به الأفاعيل، ثم يرددنه إليَّ وقد صار أهلًا لمسامرتي. ولو رأيته بين أيدي هؤلاء الفتيات لرأيت عجبًا، ولو سمعته يتحدث إليهن لسمعت عجبًا، ولكن لن أقصَّ عليك شيئًا من ذلك وإنما أدع له إنباءك به، فإن له في هذا فنًّا لا يخلو من فكاهة ترضيك، وأنت ستراه من غير شك وستراه عندي، فما أظنك تكره زيارتي، وما أصدق أن المتنبي يشغلك عني، وهبِ المتنبي قادرًا على أن يصرفك عن شهرزاد فإن صاحبك في حاجة إليك؛ فأمره أشد مما تظن خطرًا، بل هو أشد خطرًا مما كنت أُقدِّر ومما كنت أريد.

لقد كنت ألتمس سميرًا فدللتني عليه، ولكن قصري لم يكد يحتويه حتى كثر الماكرون به والكائدون له والمتألبون عليه، هؤلاء أشخاصه الذين خلقهم خلقًا في هذه القصة التي نسجها حول شهرزاد، والذين بَعُد عهدهم بي وانقطعت أخبارهم عني حتى أُنسيتُهم أو كدت أنساهم، وحتى نسُوني أو كادوا ينسَونني، قد عرفوا مكانه من القصر وخضوعه لسلطاني، ولست أدري كيف عرفوا ذلك، فأقبلوا جميعًا، ولست أدري من أين أقبلوا، وكلهم يريد أن يخاصمه، وكلهم يريد أن يقتصَّ منه لأنه صوَّرهم على غير ما يحبون وأنطقهم بما لا يرضَون، وأجرى على أيديهم من الأعمال وأدار في رءوسهم من الخواطر ما لم يخطر لأحد منهم ببال. وما ظنك بشهريار الذي فارقني منذ أحقاب وأحقاب، وقد عاد إليَّ اليوم يحاورني ويجادلني في هذا الرجل الذي صوَّره كما تعرف، وجعله كما يقول مثلًا للغباء الذي يزعم الذكاء، والغفلة التي تدَّعي الفطنة، والضعف الذي يتكلف القوة، ومثلًا لأكثر من ذلك؟! وهو يلومني ويغريني ويحرضني، ويسألني كيف أعفو عن هذا الذي اتهمني فيما لا ترضى امرأة حقيرة أن تُتهم فيه، فكيف بملكة كريمة مثلي متسلطة على القلوب خالدة على الأزمان؟! وقمر يقسم ما أضمر لمليكه غدرًا، ولا أدار في خَلَده شيئًا يستحي أن يظهره.

والعبد — وويل لصاحبك من العبد — إنه ثائر فائر، إنه مُرغٍ مُزبِد، إنه مُبرِق مُرعِد، إنه يريد أن يمزق صاحبك بأنيابه وأظافره، إنه لا يطيق التفكير في العفو عن هذا الرجل الذي جعله صورة بشعة لأبشع ما يتسلط على العقول والأبدان، وهو يغريني ويحرضني ويريد أن يضرم النار في قلبي لولا أن قلبي أهدأ من أن تضطرم فيه النار. وهو يسألني كيف أترك الحياة لرجل صوَّرني في هذه الضعة، وجعلني أهبط من أعلى عليين لأَكلَف بهذا المخلوق البشع الدنيء؟! والساحر يقسم ما سحر، والجلاد يقسم ما باع السيف لينفق ليلة هنيئة، وأبو ميسور يقسم ما أظلَّت حانته إثمًا قط، حتى زاهدة تقسم ما عرفت سرًّا ولا سُئلت عنه ولا باحت به ولا اتخذت وسيلة إلى معرفته. وكل هؤلاء مَغيظ مُحنَق يلحُّ عليَّ في أن أنتقم له وأنتقم من صديقك البائس المسكين. ومع أني كنت ضيقة به ساخطة عليه حين قرأت كتابه، فقد أدركتني الرحمة له والرفق به حين رأيت هذه الأشباح كلها تريد أن تشرب دمه وتأكل لحمه وتَعرُق عظمه عرقًا، أسرع إلى زيارتي يا سيدي فلعلك تعينني على حماية هذا الصديق المسكين.

على أنني لا أريد أن يظن بي صاحبك أني خطفتك كما خطفته، فأنت أحب إليَّ وأوثق عندي من أن تُخطَف، ولكني أريد أن تنبئني باستعدادك لزيارتي، فاكتب إليَّ إن كنت في هذه الزيارة راغبًا، ولا تكلف نفسك محاولة إرسال الكتاب إليَّ، ولكن إذا أتممت إملاءه فليضعه صاحبك على المائدة، فهذا يكفي. وأنا مُظهِرة أسيري البائس على كتابك ليعلم أن الناس جميعًا لا يُخطَفون، وأن منهم من يزورون شهرزاد عن شوق إليها ورغبة في زيارتها، وأن المتنبي مهما يشغلك فلن يصرفك عني. وإلى أن يصل إليَّ كتابك أرجو أن تتقبل يا سيدي تحية التي تنتظرك مَشوقة إليك.»

شهرزاد

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤