محنة توفيق الحكيم

وقد غمرني في محضر شهرزاد من الجمال والسحر ومن الظرف والعطف، ومن رشاقة الحركة وعذوبة الحديث؛ ما أنساني صنيع هؤلاء الجواري الماكرات، وكاد يردني إلى الأمن والهدوء وإلى الدعة واللذة، لولا أن خاطرًا ملحًّا كان يتردد عليَّ من حين إلى حين فيذهلني بعض الشيء عما كنت أجد من نعيم، وكأن شهرزاد قد أحست هذا فهي تدق في ظرف يدًا بيد، وإذا الفتاة التي أدخلتنا عليها في الزيارة الأولى قد أقبلت خفيفة ظريفة كعادتها، فانحنت ثم استوت، وإذا شهرزاد تسألها ما صنع صاحب الأستاذ. قالت الفتاة في صوت ساحر: هو هنا يا مولاتي منذ ساعة، قلِق النفس مضطرب البال، لا يصدق ما أؤكد له من مكان الأستاذ بين يديك، ولا يريد أن يطمئنَّ حتى يراه.

قالت شهرزاد: فأدخليه.

ثم التفتت إلى الفتاة وانصرفت، وقالت: أظنك تستطيع الآن أن تخلص لي؟ وهممت أن أجيبها لولا أن عبدها الأسود أقبل مسرعًا فقطع علينا الحديث وهو يقول: أدركي أسيرك يا مولاتي فقد أشرف على الخطر ودنا من البوار. قالت شهرزاد في هدوء يملؤه الدلُّ والتِّيه: وما ذاك؟ قال الأسود: اجتمعت على سجنه الأشباح يا سيدتي، ولولا أني وكَّلت بهذا السجين أشد من في القصر من أبناء أبي قوةً وأيْدًا، وأصلبهم عودًا وأقدرهم على المقاومة، وأصبرهم على الجهاد؛ لاقتُحِم السجن عليه اقتحامًا، ومع ذلك فالأشباح مُلِحة في الهجوم تصطنع فيه فنونًا من العنف الصريح والمكر المغري، ولست آمن أن تظهر على الجند، فإن كانت لك حاجة في أسيرك فأسرعي إليه، فلن يردَّ الأشباحَ عن سجنه إلا مرآك.

•••

وكنت قد نسيت توفيق الحكيم وشُغلت عنه بما لقيت من شدة أول الأمر، وبما كنت أنعم فيه من لين ذلك الوقت، فلما سمعت ذكره وعرفت تعرضه للخطر عادت إليَّ نفسي، فسألت الأسود: وهل ظفرتم به؟ وكيف وجدتموه؟

قال الأسود، وهو يقاوم الضحك مخافة أن يُحفِظ مولاته: أخذناه يا سيدتي وأنفذنا فيه قوانين القصر!

قالت شهرزاد: أوَكنت تظن أن سذاجته تغلب مكري؟! أوَتحسب أن الخروج من هذا القصر ميسَّر لمن دخله؟! وإذن فأي أمن لشهرزاد وأي سلطان بقي لها؟! وأي سحر هذا الذي يحيط بالقصر إذا أتيح لرجل ساذج كتوفيق أن يفرَّ من أهله وينفذ من أبوابه كما يريد؟!

قلت: فإني لم أفرَّ من أهله يا سيدتي، ولكني دخلت عليهم القصر ولم يشعروا بدخولي، وانسبت فيه انسياب الحية ولم يعرفوا مكاني منه. قالت وهي تضحك: فإن هذه قصة أخرى لعلها أشد تعقيدًا مما تظن، أواثق أنت بأن رسلي ليسوا هم الذين أغروك بالخروج في طلب القصر ودلوك على طريقه، وانتهوا بك وبصاحبك إلى هذه الفجوة التي انسللتما منها؟ ولكنَّ في الأمر تقصيرًا من غير شك.

ثم التفتت إلى الأسود قائلة: والفتيات، ماذا صنعتم بهن؟

قال: أنفذت فيهن قوانين القصر يا مولاتي. وهن الآن مشدودات من شعورهن إلى السقف في غرفة العذاب تُصب عليهن السياط صبًّا.

قلت مأخوذًا: أوَتفعلون هذا بهؤلاء الجواري الحسان؟!

قالت شهرزاد: كأن قلبك قد رق لهن، وكأنك نسيت أنهن أعرضن عما كان يجب من إنفاذ أمري وفرغن للهوهن … وما ينبغي لمن اتصل بشهرزاد أن يُشغل عنها بنفسه، فكيف بهؤلاء الإماء اللاتي لا وجود لهن إلا مستمدًّا مني؟!

قلت مستعطفًا: رفقًا بهن يا سيدتي، فقد كن ضعافًا وقد كن أغرارًا، ظننَّ وراء الأَكَمة شيئًا، فلم يجدن إلا هواء وغرورًا.

قالت شهرزاد: وإعراضًا عنهن وفرارًا منهن.

قلت: فإني شافع فيهن.

قالت: سنرى في أمرهن، ولكن لنسرع إلى صديقنا الأسير، فما ينبغي أن تستأثر به الأشباح الضارية.

ولا بد من أن أعيد عليك قصة صديقنا الأسير من بدئها، فإنك لم تعرف إلا آخرها؛ هو الآن محصور في سجنه مغلوب على أمره، تتراءى له الأشباح مُوعِدة مُنذِرة، ولكنها لا تبلغه لمكان هؤلاء الجنود السود، وهو كلما رآها اضطرب من رأسه إلى قدميه، وجرت الرعشة في بدنه كله، فأسنانه تصطكُّ وفرائصه ترتعد، وصوته يخرج من فمه هائلًا مبهمًا لا يُفهَم منه إلا شيء واحد، وهو أنه جزِع يستنجد ويستغيث، فكيف انتهى إلى هذا السجن؟ عرفنا ذلك من أمره فيما بعد، فلا تسلْ عن ضحكنا منه ولا تسل عن ضحكه من نفسه. وما أظن إلا أن هذه القصة التي وقعت له في دهليز من دهاليز القصر المسحور ستملأ ما بقي من حياته الطويلة إن شاء الله ضحكًا وفرَقًا.

سيضحك منها إذا لقي الناس وأمِن الاعتداء عليه، وسيفرق منها إذا خلا إلى نفسه وأشفق أن تنجم له الأشباح من الأرض أو تهبط عليه من السقف أو تنشقُّ له عنها الجدران.

كان إذن يضرب في دهاليز القصر وقد اتخذ معطفه وقاء من كل شر، لا يخرج من دهليز إلا دُفع إلى دهليز، ولا يفصل عن بهو إلا أُلقي إلى بهو، حتى ضاقت به السبل، وسُدت عليه الطرق، وكان قد منَّى نفسه بالإفلات وزين لها النجاة، وكان قد أخذ ينعم بأول الانتصار ويرى أنه قد خلص من هؤلاء الفتيات الحسان، وأمِن عبثهن بجسمه وعقله معًا، ولكنه يمضي في الأَبْهاء ويدور في الدهاليز دون أن يجد مخرجًا إلى النور! حتى طال عليه الوقت واشتد عليه الكرب وثقلت عليه المحنة، وعَظُم في نفسه البلاء. وإنه لَفيما هو فيه من السعي الذي لا يكلُّ والدوران الذي لا يجدي، وإذا بصيص من نور ضئيل يخلص إليه من بعيد، فيخيل إليه أنه قد وجد خيط أریان، ويرى نفسه غريقًا قد أُتيحت له خشبة النجاة فهو يتعلق إلى هذه الخشبة بيديه ورجليه وأسنانه. وهو يتبع هذا النور الضئيل وقد عقد به أمله كله، ووصل به نفسه كلها. وهو يجمع ما بقي له من قوة ويجري في أثر هذا النور حتى ينتهي إلى فُرجة ضيقة في الجدار فيُدخِل نفسه فيها ويجاهد ويحتال حتى يَنفُذ إلى ما وراء الجدار، وإذا هو في فضاء واسع يضطرب فيه نسیم بارد قوي يردُّ إليه بعض ما فقد من قوته. وكان خليقًا — وقد خرج إلى الفضاء الطلق خائر العزم منهوك القوى — أن يتهالك على الأرض ليستريح، ولكنه يمضي أمامه وقد أسلم ساقيه للريح، وأقسم في دخيلة نفسه ألا يطمئنَّ ولا يستقرَّ حتى يبعد عن هذا القصر البغيض، والفضاء أمامه واسع عريض قد اختلطت أرجاؤه، وأطبقت عليه ظلمة كثيفة يخترقها بين حين وحين هذا النور الضئيل، فيتبعه صاحبنا جادًّا في ذلك كل الجِد، وما يشك في أن قدرة الله قد أرسلت إليه هذا الشعاع فرجًا من حرج، ومخلصًا من ضيق، ولكنه يقف فجأة في شيء من الذهول والدهش كأنه قد أحس شيئًا من طريق السمع أو من طريق البصر، فإذا مضت عليه لحظات قصار زال عن نفسه الشك وفارقها الريب، فهو يحس شيئًا من طريق السمع والبصر معًا، يرى بناء متواضعًا قد قام منه غير بعيد، أو يُخيَّل إليه أن شخصًا ماثلًا قريبًا من هذا البناء، ويسمع صوتًا تحمله إليه الريح لا يفهمه أول الأمر ولا يثبته، ولكنه يصغي إليه ثم يدنو منه فإذا هو يسمع ويثبت ويفهم ويعي، وإذا هو دَهِش قد كاد يُفقِده الدَّهَش رشده، وذاهل قد كاد يغلبه الذهول على ما بقي له من صواب، إنه يسمع صوتًا عربيًّا يتغنى غناء عربيًّا، فإذا أطال الإصغاء خلص إليه من هذا الغناء شعر عربي فصيح، هنالك ينكر الرجل نفسه، ويتهم حسه، ولا يكاد يشك في أن أطيافًا من هذه الأطياف التي تملأ الجو قد مكرت به واحتالت عليه، حتى أوقعته في شر مما فر منه، ذلك أنه في فرنسا في إقليم سفوا العليا، فإذا أُتيح له أن يسمع صوتًا يتغنى في ظلمة الليل فأقصى ما يمكن أن يكون هذا الصوت فرنسيًّا يتغنى شعرًا فرنسيًّا، ولكن ماذا؟ إنه ليس مجنونًا ولا مختلط العقل، فهو يسمع غناء، وغناء عربيًّا فصيحًا يملأ عليه الجو من حوله ويدعوه، نعم يدعوه ويلحُّ عليه في الدعاء والإغراء، إنه يتبيَّن الألفاظ التي يسمعها، إنه يحفظها، إنه يعيدها على نفسه، إنها تقع من قلبه الجافِّ المحترق مواقع الماء من ذي الغُلة الصادي. إنها ملأت قلبه ونفسه، إنها ملكت عليه أمره، إنها قد استهوته استهواء، واستغوته استغواء، إن هذا الغناء يصل إلى أبيات من الشعر لا يكاد ينتهي إليه البيت منها حتى يعيده كما سمعه كأنه صبي يعيد على معلمه ما يلقى عليه من الكلام:

أهلًا وسهلًا بخائف يمشي
مُستوحِش هارب من الوحشِ

نعم أنا والله هذا القادم، إني لأمشي في هذا الفضاء العريض مُستوحِشًا، وما هؤلاء الفتيات اللاتي هربتُ منهن إلا وحشًا من وحش الجن لا من وحش الإنس.

فرَّ من القصر وهو يجهل ما
دُبِّر من حيلة ومن غشِّ

نعم والله، لقد فررت من ذلك القصر البغيض وما أدري ماذا دَبَّر لي کید شهرزاد ومكر طه حسين.

أقبِل فعندي لك الأمان، وما
يُدنيك فورًا من أرض سالنشِ

لبيك لبيك، ها أنا ذا آمِن من الخوف، فاحملني إلى سالنش، إلى فندق مون جولي، فقد بعدتُ عنه وقد اشتقت إليه، إني لمُتعَب، إني لمكدود، ما أشد حاجتي إلى الراحة.

إن شئتَ نومًا فعندنا سُررٌ
وثيرة فَرشها من القشِّ

من القش، أو من الحطب، أو من الخشب، أو من الحجر، النوم! النوم! أريد أن أنام لأفلت من هذه الأحلام المروعة.

أو شئتَ شربًا فإن بيرتنا
تملأ رأس النديم بالوشِّ

لقد نضب ريقي ويَبِس حلقي، وجف لساني حتى كأنه الحطب، بيرة سالنش في تلك القهوة الصغيرة، قهوة الجبل الأبيض التي كنت أخلو فيها إلى نفسي وإلى القدح والقرطاس سبع ساعات كاملة.

أو شئتَ أكلًا فإن جبنتنا
لا يأتلي دودها من النَّغشِ

كاممبير، ركفور، روبلوشون، جبنة مصر، يجب أن أكون نائمًا، فما ينبغي أن يكون ما أسمع وما أحس إلا حلمًا!

والحب عندي كما اشتهيتَ، له
بَيضٌ عظامٌ قريبة الفقشِ

هنا يمتلئ فم صاحبنا بضحك عريض متهلِّل، وتنطلق ساقاه في الريح، لقد أيقظه هذا البيت ونبَّهه، لقد عرف هذا الصوت، إنه صديقه طه حسين قد أقبل يخلِّصه وينجيه، إن هذا البيت يُذكِّره بذلك السؤال الذي ألقاه ذات ليلة على المائدة حين قُدِّم له لون من الطعام يسميه الفرنسيون بئر الحب، وأراد أن يسأل أيدخل البيض في تكوين هذا اللون، فقال: أفي الحب بيض؟ فضحكت الجماعة، وأجابه صديقه طه حسين: نعم فيه بيض يفقس عن فَرُّوج، هو إذن طه قد طالت عليه غيبتي فأقبل يبحث عني ويستنقذني.

أصحابنا كلهم ذَوو بلَهٍ
تأمن منهم مرارة القفشِ

إنه لطه حسين ما أشك في ذلك، إنه يطمئنني ويهدئ رَوعي، وينبئني بأنه لن يعبث بي ولن يتندر عليَّ كلما هفوت في حركة أو حديث.

حياتنا لو علمتَ ناعمةٌ
لم يلقَها قطُّ عاهل الحَبشِ

الحبش! وما خطب النجاشي في هذه القصة؟ لقد علمت أنه كان في لندن، ثم ذهب منها إلى جنيف، ثم عاد منها إلى لندن، فما لي وللنجاشي! ألا أزال مختلط العقل؟! أنائم أنا كاليقظان، أيقظان أنا كالنائم؟!

أقلُّ ما في أقلِّها سمكٌ
يسبح في بركة من المشِّ

سمك! بركة! مش! فقد أتيح لي إذن كل ما أنا محتاج إليه. أستطيع أن أصيد وأستطيع أن أسبح وأستطيع أن أرتوي.

أقبِل أعنَّا على الهموم فقد
ضقنا ذراعًا بالكنس والرشِّ

كلا، كلا، لست يقظان بل أنا نائم، لست نائمًا بل أنا يقظان. لست عاقلًا بل أنا مجنون، لست مجنونًا بل أنا عاقل. ماذا أسمع؟ الكنس والرش! إن طه حسين لا يكنس ولا يرش، ولكنه يقرأ المتنبي ويتحدث عن شهرزاد. أين أنا؟! ماذا دهاني؟! ماذا أصابني؟! ثم تنحدر من عينيه دموع غِلاظ ساخنة، ولكن يدًا ضخمة عريضة ثقيلة تنقضُّ على كتفه، وصوتًا غليظًا أجشَّ يقول له في نبرات مرتعشة يرتعش لها الفضاء من حوله ويرتعد لها جسمه النحيف: هوِّن عليك فما بك من بأس.

هنالك يصيح الأسير الهارب: من أنت؟ ألست طه حسين؟

فيجيب الصوت الغليظ الأجشُّ: كلا یا سیدي، ولكني رئيس الشرطة في القصر المسحور. علمت بفرارك ولم أرد أن آخذك أخذًا عنيفًا، فمددت لك أسباب الأمل، وزينت لك طريق الهرب حتى انتهيت إلى ما كان يجب أن تنتهي إليه من الإذعان لسلطان شهرزاد. والأمور كلها تجري في هذا القصر المسحور على نحو من هذه الدعابة الحرة التي تظهر قاسية بعض القسوة، ولكنها لينة كل اللين، فلا تخف ولا تحزن، واستقبل أمرك راضيًا مطمئنًّا، فما أرى إلا أنه سينتهي إلى ما تحب وترضى. قال ذلك وقاد الأسير إلى هذا البناء المتواضع، حتى إذا تجاوز الباب نظر توفيق فإذا سرير عليه وسائد من القش قد هُيئ له كأنما يدعوه ليستريح، قال توفيق وقد اختنق صوته بالبكاء: ماذا تريدون أن تصنعوا بي؟

قال رئيس الشرطة: نريد أن نريحك شيئًا فقد أجهدك الهرب، ونريد أن نطعمك فقد أضناك الجوع، ونريد أن نسقيك فقد ألحَّ عليك الظمأ، ونريد أن نرضيك ونُرفِّه عليك فنعود بك إلى غدير لا يفلت منك سمكُه. ثم نريد بعد هذا كله أن نردَّك إلى مولاتنا شهرزاد لترى فيك رأيها، وما أظن إلا أنها ستدفعك إلى فتيات أخريات مِلاح أو فياح، يُصلِحن من أمرك ثم يُعِدنك إليها خليقًا أن تكون لها سميرًا، فإن شهرزاد إن قضت شيئًا لم يردَّ قضاءها إلا الله.

سمع توفيق هذا كله فخرَّ على سرير القش لا يعي شيئًا، أكان نائمًا؟ أكان مغشيًّا عليه؟ ولكنه أفاق بعد لحظة فإذا هو في مكان مظلم يَنفُذ إليه نور ضئيل شاحب تمنى بعد لحظة لو لم ينفذ إليه، فقد استطاع أن يتبيَّن بفضل هذا النور وجوه ثلاث من الإماء السود كأقبح ما خلق الله وكأبشع ما عرف الناس، وقد انحنين عليه في رفق أيسر منه العنف، وابتسام أجمل منه العبوس، وهن يداعبنه بأصوات مُنكَرة، ويمسحن وجهه وعنقه بأيدٍ خشنة تُجري في جسمه قُشَعريرة فظيعة وهو يصيح بهن: من أنتن؟! ما خطبكن؟! ماذا تردن مني؟! إليكن عني! وكأن زجره لم يكن إلا إغراء، فهن يُقبِلن عليه ويَدنون منه، ويبسمن له عن أنياب كأنها أظفار السباع، ويمددن إليه شفاههن البشعة المنكَرة يُظهِرن الرغبة في تقبيله، وهو يلتمس معطفه ليتقيهن به فلا يجده، وهو يهمُّ أن ينهض ليعدو هاربًا فلا يستطيع؛ لأنه يحس في رجليه ثقل القيد، وإذا هو يتقيهن بالوسائد يحمي بها منهن وجهه، ولكن أيديهن الخشنة تعمل فيما بقي لهن من جسمه عملًا ثقيلًا طويلًا مؤذيًا، حتى إذا بلغ منه الجهد وأدركه الإعياء، وكاد يعود إلى النوم أو الإغماء تفرقن عنه لحظة ثم أقبلن عليه وقد ثاب إليه شيء من رشد وقوة فأجلسنه مترفقات، وقدمن إليه طعامه وشرابه من جبن كاممبير وبيرة سالنش، فيسرع إلى ما قُدِّم إليه من ذلك إسراع النَّهِم الشَّرِه الذي أنهكه الجوع. وما يكاد يفرغ من طعامه وشرابه، ويسترد حظًّا من رشده وصوابه، ويبدأ التفكير في أمره كيف ابتدأ وإلامَ انتهى؛ حتى يرى رئيس الشرطة مقبلًا عليه ومن ورائه غلام أسود نحيف، ولكنه حسن الطلعة يحمل أدوات الصيد كاملة، فإذا رأى توفيق أدوات الصيد عاد إليه نشاطه، وجرت على وجهه المتعَب الشاحب ابتسامة حلوة فيها سذاجة الطفل البريء، وهمَّ أن ينهض ولكن القيد يثقل رجليه، فيثوب إلى نفسه حزينًا مبتئسًا، ولكن صاحب الشرطة يدنو منه متلطفًا له فيحط عنه القيد، ويخلي بينه وبين الحركة والنشاط.

ونهض الأسير سعيدًا بهذه الحرية التي رُدت إلى رجليه، مغتبطًا بهذه النزهة التي تُهيَّأ له عند غدير يصطاد فيه السمك، معجبًا بذكاء هذا الغلام الأسود النحيف الرشيق الذي لم ينسَ من أدوات الصيد ما تعود هو أن ينساه، فاحتمل معه سلة رحبة كأنه ينتظر أن يصطاد سمكًا كثيرًا، ولكن توفيقًا عندما حدَّق في هذه السلة الرحبة عاد إليه الشك وابتسم فيما بينه وبين نفسه، والتفت إلى رئيس الشرطة قائلًا: «أجادُّون أنتم في أمر هذا الصيد أم لا يزال عبثكم بي متصلًا؟» قال صاحب الشرطة: «هلمَّ یا سیدي، سترى عندنا وتفهم ما لا تريد أن ترى ولا تفهم من أن حياة الناس مِزاج من الجِد والهزل لا تخلص لأحد الأمرين.» قال توفيق وهو يتبع صاحب الشرطة والغلام يتبعه: ما رأيت كالليلة جدًّا وهزلًا، وقسوة ولينًا، وعبثًا وفلسفة. ومضى صاحب الشرطة أمامه يتبعه توفيق والغلام يتبعهما، حتى إذا مشوا دقائق وقف صاحب الشرطة عند باب، ثم أدار في الباب مفتاحًا فانفتح له، ثم دخل وقال لتوفيق: اتبعني يا سيدي. فلم يكد توفيق يخطو أمامه خطوات حتى ارتد مسرعًا وقد أشاح بوجهه وقد وضع يديه جميعًا على أنفه وفمه. قال صاحب الشرطة: اتبعني يا سيدي. قال توفيق: إلى أين؟ قال صاحب الشرطة: إلى الصيد! قال توفيق: أي صيد؟ قل إلى الموت، ما هذه الريح الكريهة القاتلة؟! قال صاحب الشرطة وهو يضحك: إنها الريح التي تحبها وتَكلَف بها؛ ريح الجبن. لقد أكلت منه حتى عِفته، فما لي وللجبن! وأين يكون الجبن من الصيد؟! قال صاحب الشرطة وهو يلحُّ في رفق: اتبعني يا سيدي، واعلم أن المزاح في قصر شهرزاد لا يكذب أبدًا. أنسيت البيت الذي استهواك منذ حين:

أقلُّ ما في أقلِّها سمكٌ

قال توفيق:

يسبح في بركة من العسلِ

قال صاحب الشرطة: هذا كلام تقرؤه في ديوان المتنبي مع صديقك طه حسين. وكنت خليقًا أن تصطاد سمك السكر واللوز من بركة العسل لو لم تخالف عن أمر شهرزاد، فأما وقد فعلت، فستصطاد الفسيخ والرَّشال والسردين من بركة المش. ثم أحس توفيق كأن قوة خفية تحمله وتدفعه إلى الأمام، ونظر فإذا هو قد شُد إلى كرسي من الخشب وأُجلس إلى حوض طويل عريض يضطرب فيه سائل كدِر كريه، ويلعب فيه سمك مختلف الألوان والأحجام. وإذا أداة الصيد في يد توفيق، وإذا صاحب الشرطة يقول له في أناة وهدوء: تستطيع أن تلهو بالصيد حتى نأتيك. ثم ينصرف عنه وينصرف عنه الغلام. ويهمُّ توفيق أن ينهض ليتبعهما فلا يستطيع؛ لأنه قد شُد إلى كرسيه شدًّا. على أن محنته هذه لا تطول، فقد اصطاد سمكتين أو سمكات، وكان كلما أخرج واحدة منها وهمَّ أن يخلِّصها من السنارة وثبتْ إليه هذه تَعلَق بأنفه، وهذه تعلق بخده، وهذه تعلق بإحدى أذنيه، وإنه لفي هذا الكرب العظيم والعذاب الأليم، وإذا ضجيج يُسمَع من بعيد، ثم يدنو شيئًا فشيئًا، ثم يَعظُم حتى يملأ الجو، وإذا صاحب الشرطة يُقبِل ومعه جماعة من الجند فيحملون توفيقًا وقد خارت قواه، ويسعون به مسرعين إلى حيث يلقونه إلقاء في هذه الحجرة التي تهاجمها الأشباح، وتقوم دونها الجنود السود. وقد أدركته شهرزاد وأنا معها ولم يبقَ فيه إلا رمق من حياة، فلم تكد الملكة تدنو من السجن حتى انحاز عنه الأشباح ناحية، وأقاموا مع ذلك مُلحِّين يطلبون رأس هذا الأسير الذي أساء إليهم في أنفسهم وكرامتهم وأعراضهم، ويُقسمون لا يَريمون حتى يبلغوا منه ما يريدون. قالت شهرزاد في صوت كأنه حديث الورد النضر — إن كنت قد سمعت للورد النضر أو الذابل حديثًا: عودوا إلى مكانكم من القصر، فسيكون لي معكم حديث، ولكم عليَّ ألا تنصرفوا إلا راضين.

سمع الأشباح هذا الحديث الحلو من ذلك الصوت العذب، فانصرفوا في أناة وهدوء، وهمَّت شهرزاد أن تعود أدراجها، ولكني قلت لها مستعطفًا: والأسير يا سيدتي؟ ألم يأنِ لك أن ترديه إلى ما أنت أهل له من العفو والفضل؟! قالت: بلى، ولكن بعد أن يأخذه الفتيات الحسان فيُصلحن من أمره ويُعدنه إليَّ كما أريد أن يكون. وما أتمَّت هذه الجملة حتى أقبلت الفتيات الثلاث الحسان مستخذِياتٍ يسعين على استحياء، ويخفضن رءوسهن ذلًّا وانكسارًا، فأخذن توفيقًا وأحطن به وانصرفن معه إلى الحمام.

وتعود شهرزاد وأنا معها إلى حيث كنا؛ نأخذ فيما كنا فيه من حديث المحاكمة لهذا الأسير البائس، ونلتمس الحيل والوسائل إلى استنقاذه من هذه الأشباح الضارية والأرواح الباغية، وأنا أهوِّن الأمر على شهرزاد وأؤكد لها أن الزمان قاضٍ عدل حازم لا يعرف الضعفُ ولا الظلم إلى نفسه سبيلًا، تتغير الأشياء من حوله وتتبدل الظروف وتلتبس أخلاق الناس، ويتنكَّر الأحياء للأحياء، ويتنكر الأموات للأموات والأحياء أيضًا، تنقضي الدول وتقوم مكانها دول أخرى، وتُثل العروش وتُبنى مكانها عروش أخرى، ينتظم أمر الناس ويضطرب، وتجتمع كلمتهم وتفترق، والزمان كما هو ثابت مستقر لا يَحول ولا يزول. وإن توفيقًا لم يُقدِم على ما أقدم عليه حين كتب قصته إلا وهو عالم بما يأتي وما يدع، مقدِّر لما سيلقى من نقد، متهيِّئ لاحتمال ما سيتعرض له من تبعات، وهو قد ثبت للأحياء فليس عليه خوف من الأموات. وإنا لفي هذا الحديث وإذا شهرزاد تبعث من فمها الظريف الدقيق آهة الفرِحة المرحة المبتهجة الطَّروب، فقد انفرجت الأستار الجانبية عن توفيق الحكيم وهو أجمل منظرًا وأبهى طلعةً مما يستطيع أصدقاؤه أن يتصوروا مهما تذهب بهم الظنون.

والفتيات الثلاث الحسان يعلمن وحدهن ماذا أنفقن من جهد، وماذا سلكن من حيلة ليرددن توفيق الحكيم إلى شهرزاد شابًّا وسيمًا أنيقًا رائع الجمال. ومن يدري لعله يقصُّ عليك سيرته معهن أو سيرتهن معه حين يكتب مذكراته في يوم من الأيام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤