الفصل الثاني

الحاضرة

في الماضي كانت بابل ونَينَوَى، وقد بُنيت كلٌّ منهما بالطوب. وكانت أثينا، ذات أعمدة من الرخام والذهب. وروما التي شُيدت على أقواس فسيحة من الحطام. وفي القسطنطينية، توهَّجت المآذن كشموع ضخمة حول القرن الذهبي … ولكن الفولاذ، والزجاج، والبلاط، والأسمنت، ستكون مواد ناطحات السحاب. ستظل براقةً تلك الأبنية ذات الملايين من النوافذ المتراصة على الجزيرة الضيقة، في هرم فوق آخرَ كرأس سحابة بيضاء فوق عاصفة رعدية.

عندما أُغلق باب الغرفة خلفه، شعر إد تاتشر بالوحدة الشديدة؛ حيث سيطرت عليه حالة من التململ الشديد. فقط لو كانت سوزي هنا، لكان أخبرها عن المال الكثير الذي كان سيجنيه، وكيف أنه سيودع ١٠ دولارات في مصرف الادخار كل أسبوع من أجل إلين الصغيرة؛ هذا المبلغ سيتضاعف إلى ٥٢٠ دولارًا في السنة … وفي غضون ١٠ سنوات من دون الفائدة سيتضاعف إلى ما يزيد على ٥٠٠٠ دولار. ينبغي أن أحسب الفائدة المركَّبة على ٥٠٠٠ و٢٠ دولارًا بنسبة ٤٪. مشى بحماس في أرجاء الغرفة الضيقة. أصدر موقد الغاز صريرًا هادئًا كالقطط. وقعت عيناه على العنوان الرئيسي في صحيفة ملقاة على الأرض بجوار دلو الفحم حيث أسقطها في أثناء ركضه كي يلحق بسيارة أجرة ليأخذ سوزي إلى المستشفى.

مورتون يوقِّع على بيان مدينة نيويورك الكبرى مُصدِّقًا
على القانون الذي سيجعل نيويورك أكبر ثاني حاضرة في العالم

طوى الصحيفة وهو يستنشق نفسًا عميق ووضعها على الطاولة. أكبر ثاني حاضرة في العالم … وكان أبي يريدني أن أقف في متجره التافه القديم في أونيورا. ربما كنت سأفعل ذلك لولا وجود سوزي … أيها السادة المحترمون، بما أنكم قد منحتموني الليلةَ هذا الشرف الفريد بعرضكم عليَّ الشراكة المبدئية في شركتكم، أود أن أُقدِّم لكم فتاتي الصغيرة، زوجتي. أدين لها بكل شيء.

عندما انحنى أمام الموقد لتحيَّتهم، لامس ذيل معطفه قطعةً من الصيني وأوقعها من فوق البوفيه بجوار خزانة الكتب. وقف ليلتقطها مُصدِرًا صوت طقطقة خفيفًا بملامسة لسانه لأسنانه. كُسر رأس الدمية البورسلين الهولندية الزرقاء من جسمها. «والمسكينة سوزي مغرمة بدمياتها. يجدر بي الذهاب للفِراش.»

رفع النافذة ومدَّ جسمه خارجها. مرَّ قطار سريع مدوٍّ في نهاية الشارع. لسعت نفثة من دخان الفحم فتحتَي أنفه. تدلَّى من النافذة لفترة طويلة ناظرًا للشارع يمنةً ويسرة. ثاني أكبر حاضرة في العالم وسط المنازل المبنية من الطوب، وضوء المصابيح المكدَّر، وأصوات مجموعة من الصِّبية يمزحون ويتشاجرون فوق درج منزل في الجهة المقابلة، والخطوات الثابتة المعتادة لرجل شرطة، شعر بمسيرة كمسيرات الجنود، كباخرة دولابية تعبر نهر هدسون أسفل طريق باليساديس، كموكب انتخابي، عبر الشوارع الطويلة وفي اتجاه شيء طويل، وأبيض، ومهيب، ومليء بصفوف الأعمدة. إنها الحاضرة.

امتلأ الشارع فجأةً بأشخاص يركضون. أعلن شخصٌ يلهث عن اندلاع حريق.

«أين؟»

انزوت مجموعة الصِّبية في المنعطف في الجهة المقابلة للطريق. رجع تاتشر أدراجه إلى الغرفة. كانت حرارتها خانقة. كان جسده يرتعد بالكامل لدرجةٍ لا يمكنه معها البقاء في الخارج. ينبغي أن أذهب إلى الفِراش. سُمعَت من الشارع أصوات الحوافر القوية وجرس سيارة الإطفاء الهستيري. فليُلقِ نظرة. ركض نازلًا الدرج وقبعته في يده.

«في أي اتجاه؟»

«في المربع السكني التالي.»

«إنه مبنًى سكني.»

كان مبنًى سكنيًّا من ستة طوابق وذا نوافذ ضيقة. كان الخُطاف والسلم قد رُفعا للتو. وكان الدخان البني يتدفَّق سريعًا من النوافذ السُّفلية متبوعًا ببعض الشرارة هنا وهناك. كان ثلاثة من رجال الشرطة يُؤرجحون هِراواتهم وهم يدفعون بالحشد للخلف بعيدًا عن سلالم المنازل وقضبانها في الجهة المقابلة. في المساحة الفارغة في منتصف الشارع، لمعت سيارة الإطفاء والعربة الحمراء ذات الخرطوم بلون نحاسي برَّاق. شاهد الناس الموقف في صمت محدِّقين في النوافذ العليا حيث تحرَّكت الظلال وومض ضوء من حين لآخر. بدأ عمود رفيع من اللهب يضطرم فوق المنزل كشمعة رومانية.

همس رجل في أذن تاتشر، قائلًا: «المَنْوَر.» ملأت عصفة ريح الشارع بالدخان وبرائحة كرائحة الخِرَق المحترقة. شعر تاتشر على حين غفلة بالإعياء. عندما انقشع الدخان، رأى أناسًا مُعلَّقين في حشود راكلين، مُعلَّقين من أياديهم من حافة إحدى النوافذ. وكان رجال الإطفاء على الجانب الآخر يساعدون النساء على نزول أحد السلالم. توهَّج اللهب في منتصف المنزل توهُّجًا أكثر سطوعًا. وسقط شيء أسود من إحدى النوافذ ممدَّدًا على الرصيف صارخًا. كان رجال الشرطة يدفعون الحشد للخلف إلى أطراف المربع السكني. وتوالى وصول سيارات إطفاء جديدة.

قال رجل: «لديهم خمسة أجهزة إنذار حرائق بالداخل. ما رأيك في ذلك؟ كل شخص منهم في الطابقَين العلويَّين كان محبوسًا. إنه حريق مُتعمَّد. أشعله شخص لعين مهووس بالحرائق.»

جلس شاب مكوَّمًا على حافة الرصيف بجوار مصباح الغاز. وجد تاتشر نفسه واقفًا بجواره مدفوعًا بالحشد من خلفه.

«إنه إيطالي.»

«زوجته في ذلك المبنى.»

«لا تسمح له الشرطة بالدخول.» «زوجته حامل. لا يمكنه التحدُّث بالإنجليزية ليسأل رجال الشرطة عنها.»

كان الرجل ذو الحمَّالات الزرقاء مُقيَّدًا بحبل من الخلف. كان يحرِّك ظهره في اضطراب، ويُطلِق من حين لآخر وابلًا من الأنين بكلمات لا يفهمها أحد.

كان تاتشر يشق طريقه خروجًا من بين الحشد. كان ثمة رجل عند الناصية ينظر في صندوق إنذار الحريق. وعندما لامسه تاتشر وهو يمر بجواره، شم رائحة زيت الفحم الحجري منبعثةً من ملابس الرجل. نظر الرجل لأعلى إلى وجهه مبتسمًا. كان ذا وجنتَين سمينتَين متدليتَين وعينَين جاحظتَين وامضتَين. بردت يدا تاتشر وقدماه فجأة. إنه المهووس بإشعال الحرائق. تقول الصحف إن أمثاله يتجوَّلون حول الحادث هكذا لمشاهدته. مشى مسرعًا إلى المنزل، وصعِد الدرج، وأغلق باب الغرفة وراءه. كانت الغرفة هادئةً وفارغة. كان قد نسي أن سوزي لن تكون هناك في انتظاره. بدأ في خلع ملابسه. ولم يكن ليستطيع أن ينسى رائحة زيت الفحم الحجري على ملابس الرجل.

•••

حرَّك السيد بيري أوراق الأرقطيون بعصاه. وكان وكيل العقارات يستجديه بصوت مُنغَّم:

«لا أُخفي عليك يا سيد بيري، إنها فرصة لا تُفوَّت. تعرف المقولة القديمة يا سيدي … لا تطرق الفرصةُ بابَ المرء في شبابه سوى مرة واحدة. يمكنني في غضون ستة أشهر أن أضمن لك أن قيمة هذه الأرض ستتضاعف تقريبًا. وحيث إننا الآن جزء من نيويورك، ثاني أكبر مدينة في العالم، فلا تنسَ يا سيدي أنه … سيأتي الوقت، وأنا على يقين تام بأني سأشهده وإياك، حيث يمتد جسر وراء آخر فوق النهر الشرقي جاعلين لونج آيلاند ومانهاتن أرضًا واحدة، وحيث يصبح حي كوينز قلب الحاضرة الكبيرة ومركزها النابض بالحياة كشارع أستور بليس اليوم.»

«أعلم ذلك، ولكنني أبحث عن شيء آمن تمامًا. بالإضافة إلى أنني أريد أن أبني. لم تكن زوجتي بصحة جيدة في هذه الأيام القليلة الماضية …»

«ولكن ما الذي عساه أن يكون أكثر أمانًا من العرض الذي أقدِّمه لك؟ هل تدرك يا سيد بيري أنني حتى إن كنت سأتكبَّد خسارةً شخصية جسيمة، فسأُتيح لك فرصة الاستثمار قبل أي أحد في أكبر العقارات المضمونة تمامًا في العصر الحديث. إنني لا أقدِّم لك الأمان فحسب، بل السهولة، والراحة، والرفاهية. إن موجةً كبيرة تسحبنا يا سيد بيري سواء بإرادتنا أم لا، موجة كبيرة من التوسُّع والتقدُّم. سيحدث شيء عظيم الشأن في السنوات القليلة القادمة. جميع هذه المخترعات الميكانيكية — الهواتف، والكهرباء، والجسور الفولاذية، والعربات التي تسير بلا جِياد — جميعها تقود إلى شيء ما. والأمر يرجع إلينا إذا كنا سندخل إلى هذا التقدم، ونكون في صدارته … يا إلهي! لا أستطيع أن أصف لك ما الذي سيعنيه هذا …» ثم بعدما أخذ السيد بيري يلكز بعصاه بين العشب الجاف وأوراق الأرقطيون، أزال شيئًا بها. انحنى والتقط جمجمةً مثلثة ذات قرنَين على شكل قصبة حلزونية. قال: «يا إلهي! لا بد أنها كانت لخروف جيد.»

•••

شعر بود بالنعاس من أثر رائحة الرغوة، وعطر ما بعد الحلاقة، والشعر المحروق الذي يُثقل جو متجر الحلاقة، فجلس وأومأ برأسه، ويداه الكبيرتان الحمراوان متدليتان بين ركبتَيه. ظل صوت المقص يقرع طبلتَي أذنيه مذكِّرًا إياه بقرع قدمَيه على الطريق الذي مشاه جائعًا من ناياك.

«التالي!»

«ماذا؟ … حسنًا، أريد فقط أن أحلق ذقني وأن أقص شعري.»

تحرَّكت يدا الحلاق القصيرتان السمينتان عبر شعره، وأزَّ المقص كدبور خلف أذنَيه. ظلَّت عيناه تغمِّضان، ففتحهما بسرعةٍ مقاوِمًا النوم. كان بإمكانه أن يرى خلف المُلاءة المخطَّطة المبعثر عليها الشعر المرمَّل ذاك الرأسَ المتأرجحَ الأشبه برأس المطرقة للفتى الملوَّن الذي كان يُلمِّع حذاءه.

دندن رجل ذو صوت عميق من فوق الكرسي بجواره: «أجل يا سيدي، إنه الوقت الذي يُرشِّح فيه الحزب الديمقراطي رجلًا قويًّا …»

«هل تريد أن تحلق عنقك كذلك؟» قرَّب الحلاق وجهه المستدير الدهني البشرة في وجهه.

أومأ بود.

«أتريد أن تغسل شعرك بالشامبو؟»

«لا.»

عندما أرجع الحلاق الكرسي ليحلق له، أراد أن يرفع عنقه كسلحفاة طين انقلبت على ظهرها. انتشرت الرغوة على وجهه فأصابته بالنعاس، مخدِّرةً أنفه ومالئةً أذنَيه. فأصبح مغمورًا في الرغوة فيما يشبه سريرًا من الريش، رغوةً زرقاء، وسوداء، يشقها لمعان الشفرة القَصِي، كلمعان مجرفة لحرث الأرض عبر سُحب من الرغوة السوداء الضاربة إلى الزُّرقة. أما الرجل الهَرِم خلفه، الذي كان موجودًا في أحد حقول البطاطس، فقد التصقت الرغوة البيضاء على وجهه المليء بالدماء. امتلأ جوربه بالدماء التي كانت تقطر من تلك البثور على عقبَيه. شبك يديه ببعضهما باردتَين وصلبتَين كيدَي رجلٍ ميت أسفل غطاء. دعني أقُم … وفتح عينَيه. كانت أنامل سمينة تُدلِّك ذقنه. حدَّق لأعلى في السقف حيث كانت أربع ذبابات تُشكِّل رقم ثمانية حول جرس أحمر مصنوع من الورق الكريبي. كان لسانه كجلد جاف في فمه. عدَّل الحلاق الكرسي مرةً أخرى. نظر بود حوله بعينَين طارِفتَين. «نصف دولار، ونيكل لتلميع الحذاء.»

«يعترف بقتل أمه المقعدة …»

يسمع صوته متثاقلًا وسط طنين أذنَيه، وهو يقول: «أُتمانع أن أجلس هنا دقيقةً لقراءة تلك الصحيفة؟»

«تفضَّل.»

«يحمي أصدقاء باركر …»

تتلوَّى الطباعة السوداء أمام عينَيه. الروس … «يلقي الرِّعاع الحجارة» … (إرسال خاص إلى «هيرالد») ترينتون، نيوجيرسي.

•••

ناثان سیبتس، صبي في الرابعة عشرة من عمره، ينهار اليوم بعد أسبوعَين من الإصرار على إنكار إدانته، ويعترف للشرطة بأنه كان مسئولًا عن موت أمه المسنة القعيدة هانا سیبتس، بعد مشاجرة في منزلهما بطريق جيكوبز كريد، على بعد ستة أميال شمال هذه المدينة. كان محتجَزًا في هذه الليلة في انتظار إجراء هيئة المحلَّفين الكبرى.

«دعم بورت آرثر في مواجهة العدو … تفقد السيدة ريكس رماد زوجها».

في يوم الثلاثاء الرابع والعشرين من مايو وفي حوالي الساعة الثامنة والنصف، رجعت إلى المنزل بعد أن نمت في المدحلة البخارية طوال الليل، وصعدت إلى غرفتي لأحظى بمزيد من النوم. كنت قد غفوت لتوي عندما صعدت أمي لغرفتي وطلبت مني النهوض مهدِّدةً بأنني إن لم أنهض فسترمي بي في الأسفل. أمسكت أمي بي بقوة لتلقيني في الأسفل. ألقيت بها أولًا وسقطَت في القاع. نزلت الدرج فوجدت أن رأسها كان ملتويًا على أحد جانبَيه. ثم رأيت أنها قد ماتت، فعدَّلت عنقها وغطَّيتها بمُلاءة.

•••

طوى بود الجريدة بعناية، ووضعها على الكرسي وغادر محل الحلاقة. كان الهواء بالخارج تفوح منه رائحة الحشود، زاخرًا بالضوضاء وضوء الشمس. لم يكن إلا كإبرة في كومة من القش … تمتم عاليًا: «وأنا في الخامسة والعشرين من عمري.» يفكِّر في الصبي البالغ الرابعة عشرة من العمر … ويسير بخطًى أسرع على طول الأرصفة الصاخبة حيث تُلقي الشمس بأشعتها عبر السكة الحديدية المرتفعة، مُخطِّطةً الشارع الأزرق بشرائط صفراء مشتعلة ودافئة. ليس سوى إبرة في كومة من القش.

•••

جلس إد تاتشر متحدِّبًا فوق مفاتيح البيانو مدندنًا بلحن «موسكيتو باريد». تدفَّق ضوء الشمس لفترة ما بعد ظهيرة يوم الأحد مُغبَّرًا عبر ستائر النافذة الدانتيل الثقيلة، وتلوَّى على الورود الحمراء للسجادة، ونشر خيوطه في أرجاء الردهة غير المرتبة. جلست سوزي تاتشر مسترخيةً بجوار النافذة تشاهده بعينَين زرقاوَين بدرجة تبدوان معها فاقعتَين على وجهها الشاحب. بينهما، تخطو إلين الصغيرة بأناة راقصةً وسط ورود الحقل المشمس على السجادة. أمسكَت بيدَيها الصغيرتَين فستانها الوردي المكشكش، وقالت بين الحين والآخر بصوتها الصغير وفي نبرة إصرار: «انظري إليَّ يا أمي.»

قال تاتشر، وهو لا يزال يعزف: «انظري للطفلة. إنها راقصة باليه صغيرة مثالية.»

ثمة صحائف من جريدة يوم الأحد ملقاة حيث سقطت من الطاولة، بدأت إلين في الرقص عليها، ممزِّقةً إياها أسفل قدمَيها الصغيرتَين الرشيقتَين.

أنَّت سوزي من فوق كرسيها المُخملي الوردي، قائلة: «لا تفعلي ذلك يا عزيزتي إلين.»

«ولكني يا أمي يمكنني أن فعل ذلك وأنا أرقص.»

«قلت لكِ لا تفعلي ذلك.» انتقل إد تاتشر إلى عزف لحن «باركارول». كانت إلين ترقص على اللحن، مُؤرجحةً يدَيها معه، وممزِّقةً الجريدة بقدمَيها الرشيقتَين.

«أرجوك يا إد احمل الطفلة؛ إنها تمزِّق الجريدة.»

أنزل أصابعه في نغمة متراخية. «يجب ألَّا تفعلي ذلك يا عزيزتي. فأنا لم أنتهِ من قراءتها بعد.»

واصلت إلين ما تفعله. فانقضَّ عليها تاتشر من فوق كرسي البيانو وأوقفها وهي تتلوَّى وتضحك فوق ركبته. «يجب أن تنتبهي دائمًا يا إلين عندما تتحدَّث أمكِ إليك، ويجب ألَّا تكوني مُخَرِّبةً يا عزيزتي. إن صناعة تلك الجريدة تُكلِّف الكثير من المال، ويعمل فيها أشخاص كثيرون، وقد خرجتُ لشرائها ولم أنتهِ من قراءتها بعد. إيلي تتفهَّم الموقف، أليست كذلك؟ نحن نريد بِناءً في هذا العالم وليس هدمًا.» ثم واصل عزف «الباركارول» وواصلت إلين الرقص، وكانت تخطو برِقة بين الورود على الحقل المشمس المرسوم على السجادة.

•••

جلس ستة رجال إلى الطاولة في المكان المخصَّص لتناول الطعام، وأخذوا يأكلون بسرعة وقبعاتهم على أقفيتهم.

صاح الشاب الجالس في طرف الطاولة، والذي كان يحمل صحيفةً في يدٍ وكوبًا من القهوة في اليد الأخرى: «جيميني كريكيت! أيمكنك التغلُّب عليه؟»

قال رجل ذو وجه طويل وخِلال أسنان على جانب فمه مدمدمًا: «أتغلَّب على ماذا؟»

«يظهر ثعبان كبير في الجادة الخامسة … صرخت السيدات وركضن في جميع الاتجاهات هذا الصباح في الساعة الحادية عشرة والنصف عندما زحف ثعبان كبير خارجًا من صدع في بناء ذي جدار يدعم المستودع في الجادة الخامسة وشارع ٤٢ وبدأ يعبر الرصيف …»

«يا لها من قصة مبالغ فيها …»

قال رجل هَرِم: «ذلك شيء تافه. عندما كنت صبيًّا، كنا نذهب لاصطياد طيور الشُّنْقُب في بروكلين فلاتز …»

همهم الشاب وهو يطوي جريدته ويُهرع للخارج إلى شارع هدسون، الذي كان مليئًا برجال وفتيات يسيرون بهِمة في الصباح ذي المَسحة القرمزية، قائلًا: «يا إلهي! إنها التاسعة إلا الربع.» أحدث احتكاك حَدوات أحصنة الجر ذات الحوافر المشعرة وسحق عجلات عربات البيع جلبةً صامَّةً للآذان وملأت الجو بغبار كثيف. كانت تنتظره عند باب إم سوليفان آند كو، مستودع ومخزن، فتاة ترتدي قلنسوةً مزركشةً بالورود، وقد علقت ربطة عنق فراشية خزامية اللون أسفل ذقنها المائل الرشيق. شعر الشاب بفوران يكتسحه من داخله، كزجاجة مياه غازية فُتحت لتوها.

«مرحبًا إيميلي! … لقد حصلت على ترقية.»

«تكاد تتأخَّر بعض الشيء، أتعلم ذلك؟»

«ولكن بحق، لقد حصلت على زيادة دولارَين.»

أمالت ذقنها أولًا على جانب ثم على الآخر.

«لا أهتم.»

«تعلمين ما عليكِ قوله إذا حصلت على ترقية.» نظرت مقهقِهةً في عينَيه.

«وما هذه سوى البداية …»

«ولكن بمَ تفيد ١٥ دولارًا في الأسبوع؟»

«عجبًا، إنها ٦٠ دولارًا في الشهر، وأنا أتدرَّب على العمل في الاستيراد.»

«أيها الأحمق، ستتأخَّر.» استدارت فجأةً وركضت صاعدةً الدرج المليء بالقُمامة المبعثرة، وأصدرت تنورتُها الجرسية الشكل ذات الثنيات صوتَ حفيفٍ وهي تتحرَّك من جانب إلى آخر.

«يا إلهي! إنني أكرهها. إنني أكرهها.» سالت دموعٌ حارة في عينَيه، ومشى بسرعة في شارع هدسون إلى مكتب وينكيل آند جوليك، مستوردون من غرب الهند.

كان سطح القارب بجوار الرافعة الأمامية دافئًا ومبلَّلًا بالماء المالح. كانوا ممدَّدين جنبًا إلى جنب في قماش الدنيم المشحَّم يتحدَّثون خاملين في همس، وآذانهم تملؤها رغوة المياه المندفعة من شق المقدمة المستديرة للعبَّارة بقوةٍ عبر الأمواج الرمادية المخضرَّة العالية لتيار الخليج.

بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «يمكنني أن أقول لك يا سيدي الهَرِم إن نيويورك تُصيبني بالجنون … في اللحظة التي نرسو فيها سأذهب إلى اليابسة وسأظل عليها. لقد سئمت حياة الكلاب هذه.» كان خادم المركب ذا شعر أشقر ووجه بيضوي سمني متورِّد، وسقط عَقِب سيجارة منطفئة من بين شفتَيه عندما تحدَّث. قال بالفرنسية: «تبًّا!» بحث عنه حيث تدحرج على سطح القارب. لقد أفلت من يده وقفز في مصارف المياه.

قال الصبي الآخر الذي كان مستلقيًا على بطنه راكلًا زوجًا من الأقدام المتسخة لأعلى في ضوء الشمس الخافت: «دعه. فلدي الكثير. سيُرجعك القنصل إلى المركب.»

«لن يمسك بي.»

«وماذا عن خدمتك العسكرية؟»

«فلتذهب مع المركب إلى الجحيم. ولتذهب معهما فرنسا كذلك.»

«أتريد أن تصبح مواطنًا أمريكيًّا؟»

«لمَ لا؟ فللمرء الحق في اختيار بلده.»

مسح الآخر أنفه بقبضة يده مفكرًا ثم زفر بصافرة طويلة. قال: «إنك لرجل حكيم يا إميل.»

«ولكن يا كونغو، لمَ لا تأتي أنت أيضًا؟ بالطبع لا تريد أن تمسح النُّفايات في مطبخ سفينة نتنة طوال حياتك.»

تقلَّب كونغو وجلس متربِّعًا، وهو يحك رأسه الذي كان مليئًا بالشعر الأسود المجعَّد.

«أتعلم تكلفة قضاء ليلة مع امرأة في نيويورك؟»

«لا أعلم، أظن أنها باهظة … لن أذهب إلى اليابسة لإثارة الفوضى، بل سأحصل على وظيفة جيدة وأعمل. ألَا تفكِّر في شيء سوى النساء؟»

قال كونغو وهو يستلقي على سطح السفينة مرةً أخرى، دافنًا وجهه الأسود الملطَّخ بالسُّخام بين ذراعَيه المطويتَين: «ما الفائدة؟ لمَ لا؟»

«أريد أن أذهب إلى مكان آخر في العالم، ذلك ما أعنيه. فأوروبا قد فسدت وتعفَّنت. ولكن في أمريكا يمكن للمرء أن يتقدم. محل الميلاد لا يهم، التعليم لا يهم. الجميع يتقدم.»

«ولكن لو كانت هناك امرأة شابة جذابة ولطيفة معنا الآن حيث سطح السفينة الدافئ، ألن ترغب في مداعبتها؟»

«بعدما نصبح أغنياء، سنحظى بالكثير، الكثير من كل شيء.»

«وهل ليس لديهم أي خدمة عسكرية؟»

«لمَ عساهم أن تكون لديهم؟ إن المال هو ما يسعَون وراءه. فهم لا يرغبون في قتال الناس، وإنما في التجارة معهم.»

لم يردَّ كونغو.

استلقى خادم المركب على ظهره ناظرًا إلى السُّحب. لقد تدفقت من الغرب في صروح متراكمة ضخمة يسطع ضوء الشمس من بينها، مشرقةً وبيضاء كرقائق القصدير. كان يمشي عبر شوارع ذات مبانٍ بيضاء وطويلة وفوق بعضها، متبخترًا في سترة مشقوقة الذيل وياقة بيضاء طويلة، ثم صعد فوق درجٍ من القصدير، عريض، وممسوح ونظيف، عبر بوابات زرقاء، دلف إلى داخل قاعاتٍ من الرخام المخطَّط حيث صوت حفيفٍ وخشخشة نقودٍ من أوراق، وفضة، وذهب على طاولات قصديرية طويلة.

بالفرنسية: «تبًّا لقد حان الوقت.» وصل إلى آذانهما خافتًا صوت ضربات الجرس المزدوجة في عش المراقبة. «ولكن لا تنسَ يا كونغو أنه في الليلة الأولى التي وصلنا فيها اليابسة …» ثم طقطق بشفتَيه. «لقد رحلنا.»

«كنت نائمًا. وحلمت بفتاة شقراء شابة. كنت سأحظى بها لولا أن أيقظتني.» نهض خادم السفينة على قدمَيه ناعرًا، ووقف لبرهة ناظرًا جهة الغرب حيث تنتهي الأمواج في خط متعرِّج حاد أمام سماء صلبة ومباغتة كالنيكل. ثم دفع بوجه كونغو لأسفل أمام سطح السفينة وركض إلى مؤخرتها، خافقةً قدماه في قبقابه الخشبي وهو يمضي.

•••

بالخارج، كان أحد أيام السبت الحارة من شهر يونيو يُجرجر أشلاءه في شارع ١١٠. استلقت سوزي تاتشر مضطربةً في السرير، ويداها مبسوطتان في زُرقة ونحول فوق غطاء السرير أمامها. تراءت إليها أصوات عبر جدار الغرفة الرفيع. كانت فتاة شابة تصيح بصوت به خَنَف:

«قلت لكِ يا أمي لن أعود إليه.»

ثم أدركت صوتًا رصينًا لامرأة يهودية عجوز تجادل قائلة: «ولكن الحياة الزوجية يا روزي ليست كلها متعة ومرحًا. يجب على الزوجة أن تطيع زوجها وأن تعمل على راحته.»

«لن أفعل ذلك. لا يمكنني التحمُّل. لن أعود لذلك الحيوان القذر.»

اعتدلت سوزي في سريرها، ولكنها لم تستطع سماع ما قالته المرأة العجوز بعد ذلك.

صرخت الفتاة فجأة: «ولكنني لم أعُد يهودية. هذه ليست روسيا، إنها نيويورك الودود. وللفتيات حقوق هنا.» ثم صُفع باب وساد الصمت.

تقلَّبت سوزي تاتشر في السرير تئنُّ مضطربة. أولئك الأشخاص البغيضون لا يمنحونني لحظة هدوء. أتت من الأسفل صلصلة صندوق موسيقى بموسيقى أوبريت «الأرملة الطَّروب». يا إلهي! لمَ لم يرجع إد إلى المنزل؟ إنه لمن القسوة أن يتركوا امرأةً مريضة وحدها هكذا. يا لها من أنانية! لوت فمها لأعلى وأجهشت بالبكاء. ثم استلقت هادئةً مرة أخرى، محدِّقةً في السقف تشاهد الذباب وهو يطن طنينَه المستفز حول مصباح الإنارة الكهربائية. أحدثت عربةٌ في الشارع صوت جلَبة. كان بإمكانها سماع أصوات صياح الأطفال. ومرَّ فتًى يصيح بصدور طبعة ثانية لإحدى الصحف. ماذا لو نشب حريق؟ كذلك الحريق المروِّع في مسرح شيكاغو. أوه، سيصيبني الجنون! تقلَّبَت في السرير، وأظافرها المدبَّبة تغرز في راحتَي يدَيها. سأتناول قرصًا آخر. ربما أستطيع أن أحظى ببعض النوم. رفعت نفسها مستندةً إلى مرفقها وتناولت القرص الأخير من علبة معدنية صغيرة. كانت جرعة الماء التي تبلع بها القرص تُسكِّن حلقها. أغلقت عينَيها واستلقت في هدوء.

نهضت مجفلة. كانت إلين تقفز في أنحاء الغرفة، وكانت قبعتها الخضراء تسقط من مؤخِّرة رأسها، وكانت تجعُّدات شعرها النحاسية اللون تندفع في جموح.

«أوه يا أمي، أريد أن أكون فتًى.»

«اهدئي يا عزيزتي. فأمكِ تشعر بالتعب بعض الشيء.»

«أريد أن أكون فتًى.»

«عجبًا يا إد، ماذا فعلت للفتاة؟ إنها منزعجة للغاية.»

«إننا لسنا سوى متحمسَين سوزي. فقد كُنا نشاهد المسرحية الأروع على الإطلاق. لقد أحببناها كثيرًا، إنها شديدة الشاعرية وكل تلك الأشياء البديعة. وقد كانت مود آدامز رائعة. أحبَّت إيلي كل دقيقة فيها.»

«يبدو من السخف، كما سبق وقلت، أن تأخذ طفلةً صغيرة …»

«أوه يا أبي، أريد أن أكون فتًى.»

«إنني أُحب فتاتي الصغيرة كما هي. يجب أن نذهب مرةً أخرى يا سوزي ونصطحبك معنا.»

«أنت تعلم جيدًا يا إد أنني لن أكون على ما يرام.» اعتدلت جافلةً في جلستها، وشعرها يتدلَّى أصفر باهتًا ومستقيمًا أسفل ظهرها. «أوه، ليتني أموت … ليتني أموت ولا أكون عبئًا عليكما أكثر من ذلك … أنتما تكرهاني. إن لم تكونا تكرهاني لمَ تركتماني وحدي هكذا؟» أُصيبت بغصة ووضعت وجهها بين راحتَيها. شبَّكت بين أصابعها، وقالت: «أوه، ليتني أموت.»

«أرجوكِ يا سوزي، من السيئ أن تقولي ذلك.» وضع ذراعه حولها وجلس على السرير بجوارها.

بكت بهدوء وأسقطت رأسها فوق كتفه. وقفت إلين محدِّقةً فيهما بعينَيها الرماديتَين المستديرتَين. ثم استأنفت القفز هنا وهناك، مغنيةً لنفسها: «إيلي ستصبح فتًى، إيلي ستصبح فتًى.»

•••

بخطواتٍ بطيئة وطويلة، وعرجة بسيطة في قدمَيه المتقرحتَين، مشى بود في شارع برودواي، مارًّا بأراضٍ فارغة حيث كانت العلب المعدنية تومض وسط العُشب وشجيرات السُّمَّاق والرجَّيد، وبين صفوف لوحات الإعلانات ولافتات سجائر بول دورهام، ومارًّا بأكواخ وعشش سكنية مهجورة، وبأودية عميقة ضيقة متراكمة بكومات من القُمامة المحمولة على العجلات حيث تلقي عربات القُمامة بالرماد والآجُر، وبكُتل من الصخور الرمادية حيث حفارات البخار الطارقة والقاضمة بلا انقطاع، وبأنقاب تشق طريقها بصعوبة عبرها عربات مليئة بالصخور والطَّمي على ممرات من ألواح إلى الشارع، حتى وجد نفسه يمشي على أرصفة جديدة بمحاذاة صف من المنازل ذات شقق مبنية بالطوب الأصفر، ونظر إلى نوافذ متاجر البقالة، حيث المغاسل الصينية، والمطاعم السريعة، ومتاجر الزهور والخَضراوات، والخياطون، ومتاجر الأطعمة المستوردة والجاهزة. بمروره أسفل سقالة أمام مبنًى جديد، التقت عيناه بعينَي رجل هَرِم كان يجلس على حافة الرصيف يعتني بمصابيح زيتية. وقف بود بجواره، رافعًا بنطاله، وتنحنح ثم قال:

«ألَا أخبرتني يا سيدي أين يجد المرء مكانًا جيدًا ليبحث فيه عن عمل؟»

«لا يوجد مكان جيد للبحث عن عمل أيها الشاب … هناك أعمال لا بأس بها … سأُتم عامي الخامس والستين بعد شهر وأربعة أيام، وقد كنت أعمل منذ أن كنت في الخامسة حسب تقديري، ولم أجد عملًا جيدًا بعد.»

«يمكنني العمل في أي شيء.»

«هل لديك بطاقة نقابة؟»

«ليس لديَّ شيء.»

قال الرجل الهَرِم: «لا يمكنك الحصول على عمل في البناء دون أن يكون معك بطاقة نقابة.» حك شُعيرات ذقنه الرمادية بظهر يده ومال فوق المصابيح مرةً أخرى. وقف بود محدِّقًا في غابة من عوارض المباني الجديدة يفوح منها الغبار حتى لمح عينَي رجل يرتدي قبعةً دربية عبر نافذة مأوًى لحارس. مسح نعله في اضطراب ودخل. لو كان بإمكاني أن أمضي قدمًا إلى مركز كل شيء …

عند الناصية التالية، كان ثمة حشد مجتمع حول سيارة بيضاء عالية. تدفَّقت سُحب من البخار من طرفها الخلفي. وكان هناك رجل شرطة يرفع عاليًا فتًى صغيرًا من إبْطيه. خرج من السيارة رجل أحمر الوجه ذو شاربٍ أبيض كثيف يمشي غاضبًا.

«قلت لك أيها الضابط إنه رمى حجرًا … يجب أن تتوقَّف مثل هذه الأشياء. لأن معاونة ضابط للأشرار والمشاغبين …»

كانت هناك امرأة ذات شعر مرفوع في ربطة ضيقة أعلى رأسها، وكانت تهز قبضتها أمام الرجل في السيارة، وتصرخ قائلة: «كاد يدهسني أيها الضابط، كاد يدهسني.»

شق بود طريقه بجوار شاب يرتدي مئزر جزار وقبعة بيسبول بالمقلوب.

«ما الأمر؟»

«تبًّا، لا أعلم … أظنه شجارًا من تلك المشاجرات التي يُحدثها راكبو السيارات. ألَا تقرأ الصُّحف؟ لا لوم عليهم، ألَا توافقني؟ بأي حق تنطلق تلك السيارات اللعينة في أرجاء المدينة مكتسحةً النساء والأطفال؟»

«يا للهول، أيفعلون ذلك؟»

«بالطبع يفعلون ذلك.»

«اسمع … امم … أيمكنك يا سيدي أن تخبرني بمكان جيد أبحث فيه عن عمل؟» أرجع صبي الجزار رأسه للوراء وضحك.

«يا إلهي، لقد ظننت أنك ستطلب صدقة … أظنك لست من نيويورك … سأُخبرك بما عليك فعله. ستستمر في السير في برودواي حتى تصل إلى دار البلدية …»

«هل مركز كل شيء هناك؟»

«بالطبع … ثم ستصعد الدرج وتسأل عن الحاكم … لقد سمعت أن هناك بعض المقاعد الشاغرة في مجلس البلدية …»

دمدم بود، وهو يمشي مسرعًا: «اللعنة، بالطبع لديهم مقاعد فارغة.»

•••

«تدحرجي يا عزيزتي … تدحرجي يا أحجار النرد اللعينة.»

«أنت تعرف لغتها يا سلاتس.»

«هيا، فليأتِ الرقم سبعة!» ألقى سلاتس بالنرد من يده مطقطِقًا، وإبهامه في محاذاة أصابعه المتعرِّقة. «مرحى.»

«أشهد لك بأنك لاعب محترف يا سلاتس.»

وضع كلٌّ منهم بيده المتسخة نيكلًا على كومة النقود التي تتوسط دائرة من ركبهم المرقَّعة الملتصقة كل منها في الأخرى من الأمام. كان الفِتيان الخمسة يجلسون على أعقابهم أسفل مصباح في شارع ساوث ستريت.

«هيا يا فتياتي، إننا ننتظر … تدحرجي أيتها الأحجار الصغيرة الملعونة، تبًّا، هيا، تدحرجي.»

«توقفوا يا رجال! هذا بيج ليونارد وعصابته يتوجَّهون ناحية المربع السكني.»

«سأبرحه ضربًا ﻟ …»

كان أربعة منهم يمشون بتراخٍ بمحاذاة الرصيف، وينتشرون تدريجيًّا دون أن يلتفتوا خلفهم. أما الفتى الأصغر ذو الوجه الصغير الذقن كالمنقار، فقد ظل في الخلف في هدوء مجمِّعًا العملات المعدنية. ثم ركض بمحاذاة الجدار وتلاشى في الممر المظلم بين منزلَين. بسط جسمه خلف مدخنة وانتظر. اقتحمت الأصوات المختلطة للعصابة الممر، ثم واصلوا السير في الشارع. كان الفتى يعد النيكلات في يده. عشرة. «يا إلهي، إنها ٥٠ سنتًا … سأخبرهم أن بيج ليونارد قد رفع العجين.» لم يكن لجيوبه بطانة؛ فلف النيكلات في أحد أطراف قميصه.

•••

امتزج قدح من نبيذ الراين وكأس من الشامبانيا في كل مكان بمحاذاة الطاولة البيضوية البيضاء البراقة. وفي ثمانية أطباق بيضاء لامعة، قُدِّمت ثماني قطع من كانابي الكافيار فيما يشبه حلقات من الخرز الأسود على أوراق الخس، وأحاطت بها تقسيمات من الليمون المنثور مع شرائح رفيعة من البصل وبياض البيض. قال النادل الهَرِم بمزيج من الفرنسية والإنجليزية وهو يجعِّد جبهته المتعرِّجة: «بكثير من العناية، ولا تنسَ.» كان رجلًا قصيرًا متمايلًا في مشيته وله بعض شعيرات سوداء لصقها بإحكام على رأسه المقبَّب.

«حسنًا.» أومأ إميل برأسه بجدية. كانت ياقته ضيقة عليه للغاية. وكان يرج زجاجةً أخيرة من الشامبانيا في دلو الثلج المحاط بالنيكل على طاولة التقديم.

بمزيج من الفرنسية والإيطالية والإنجليزية: «بكثير من العناية، اللعنة … هذا الرجل يُلقي بالمال كقُصاصات ورق، انظر … إنه يعطي بقشيشًا، انظر. إنه رجل فاحش الثراء. إنه لا يهتم كم أنفق من المال.» ربت إميل على ثنية مفرش المائدة لتسويته. بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «لا تفعل ذلك … يداك متسختان، قد تترك أثرًا.»

متكئين في البداية على قدم واحدة، ثم على الأخرى، وقفوا منتظرين والمناشف أسفل آباطهم. من المطعم بالأسفل وسط روائح الطعام المطهو بالزبد، وصلصلة السكاكين والشوك والأطباق، أتى الصوت الخفيض بموسيقى رقصة فالس.

عندما رأى إميل رئيس النادل ينحني خارج الباب، ضغط شفتاه في ابتسامة مطيعة. كانت هناك امرأة شقراء مسنة ترتدي عباءة أوبرا سلمونية اللون تُهفهِف على ذراع رجل مستدير الوجه كان يحمل قبعته العالية أمامه كمصد، وفتاة صغيرة مُجعَّدة الشعر ترتدي رداءً أزرق تُظهر أسنانها وتضحك، وامرأة سمينة ترتدي تاجًا وشريطًا مُخمليًّا أسود حول عنقها وذات أنف منقاري ووجه بلون السيجار … صدور قمصان زائفة، وأيادٍ تُسوِّي ربطات عنق بيضاء، وومضات بريق سوداء أعلى قبعات وأحذية جلدية لامعة، وثمة رجل خبيث بأسنان ذهبية ظل يلوِّح بذراعَيه متلفِّظًا بتحيات بصوت كصوت بقرة، وقد وضع قطعةً من الألماس بحجم عملة نيكل في صدر قميصه الزائف. كانت الفتاة الصهباء في غرفة المعاطف تجمع الأردية. دفع النادل الهَرِم إميل. قال عاوجًا فمه وهو ينحني: «إنه الزعيم الكبير.» بسط إميل جسمه على الجدار وهم يدخلون الغرفة ويخرجون منها مصدرين جَلَبة. وجد أنفُه نفحةً من نبات الباتشولي، عندما التقط أنفاسه باغتته بحرارةٍ وصلت إلى جذور شعره.

صاح الرجل المزيَّن بالألماس: «ولكن أين فيفي ووترز؟»

«قالت إنها ستتأخَّر نصف ساعة. أظن أن الرجال لن يدعوها تمر من باب المسرح.»

«حسنًا، لا يمكننا انتظارها حتى وإن كان هذا عيد ميلادها؛ فأنا لم أنتظر أحدًا في حياتي.» وقف لبرهة مُقلِّبًا عينه الشاردة في النساء حول الطاولة، ثم أخرج سوارَي كمَّيه قليلًا من سترته ذات الذيل، وجلس بغتة. نُسف الكافيار في غمضة عين. نعق بصوت أجشَّ: «وماذا عن كأس نبيذ الراين العريضة أيها النادل؟» حبس إميل أنفاسه وامتصَّ وجنتَيه إلى الداخل أثناء لمِّه للأطباق، وقال بالفرنسية: «حالًا يا سيدي …» تكوَّن الصقيع على الأقداح عندما صبَّ النادل الهَرِم النبيذ في الكأس العريضة من إبريق زجاجي مزخرف يطفو فيه النعناع، والثلج، وقشر الليمون، وشرائح رفيعة طويلة من الخيار.

«أها، هذا سيَفي بالغرض.» رفع الرجل المرصِّع ثيابه بالألماس كأسه إلى شفتيه، وشرب منها ثم أنزلها وهو يُلقي نظرةً جانبيةً على السيدة بجواره. كانت تربت بالزبد على لُقيمات من الخبز وتُلقي بها في فمها، مغمغِمةً أثناء ذلك:

«لا يمكنني أن آكل سوى أصغر الوجبات الخفيفة، أصغر الوجبات الخفيفة فحسب.»

«ذلك لا يمنعكِ من تناول الشراب يا ماري، أليس كذلك؟»

أطلقت ضحكةً مقهقِهة وضربت على كتفه بمروحتها المطوية. «يا إلهي، يا لك من مخادع!»

هسهس النادل الهَرِم بمزيج من الإيطالية والفرنسية في أذن إميل: «اللعنة، فلتضئ لي.»

عندما أضاء المصابيحَ أسفل صحنَي التسخين والضيافة المعدنيَّين على طاولة التقديم، بدأت رائحة الشيري الساخن، والقشدة، والكركند تفوح في الغرفة. كان الهواء ساخنًا، ومليئًا بالطنين، والعطر، والدخان. بعد أن عاون إميل في تقديم الكركند على طريقة نيوبرج وأعاد ملء الكئوس، اتكأ على الحائط، ومرَّر يده فوق شعره الرطب. انزلق نظره تجاه كتفَين لحميَّين لامرأة أمامه، ثم نزل على ظهرها الأملس حيث ظهر مشبك فضي صغير غير مقفول أسفل زركشة الدانتيل. لف الرجل الأصلع الرأس الجالس بجوارها ساقه حول ساقها. كانت شابة، في عمر إميل، وظلَّت تنظر لأعلى في وجه الرجل بشفتَين مفتوحتَين ورطبتَين. جعل هذا إميل يشعر بالدوار، ولكنه لم يستطع التوقف عن النظر.

قال الرجل ذو الألماسة مصدِرًا صريرًا عبر فمه الممتلئ بالكركند: «ولكن ما الذي حدث لِفيفي الجميلة؟» وتابع: «أظن أنها حقَّقت نجاحًا مرةً أخرى هذا المساء ممَّا جعل سهرتنا المتواضعة لا تروق لها.»

«إن الأمر من شأنه أن يجعل أيَّ فتاةٍ مترفِّعةً.»

قال الرجل ذو الألماسة ضاحكًا: «حسنًا، ستتفاجأ مفاجأة عمرها الصغير إن توقعت أننا سننتظرها. ها، ها، ها. أنا لم أنتظر أحدًا في حياتي، ولن أنتظر أحدًا الآن.»

دفع الرجل ذو الوجه المستدير بطبقه على الطاولة وكان يلعب بالسوار في معصم السيدة الجالسة بجواره. «أنتِ الليلة يا أولجا تمامًا في جاذبية فتيات لوحات جيبسون.»

قالت رافعةً قدحها أمام الضوء: «ها أنا أجلس جلسة فتاةٍ تستعد أن تُرسم الآن.»

«أعلى يد جيبسون؟»

«لا، بل على يد رسام حقيقي.»

«أُقسم أنني سأشتري تلك اللوحة.»

«ربما لن تتسنَّى لك الفرصة.»

أومأت له برأسها ذي الشعر الأشقر المصفَّف بتسريحة بومبادور.

«إنكِ لمشاكسة صغيرة وماكرة يا أولجا.»

ضحكت مبقيةً شفتَيها محكمتَين فوق أسنانها الطويلة.

كان رجل يميل في اتجاه الرجل ذي الألماسة، ناقرًا بإصبع قصير وبدين على الطاولة.

«كلا يا سيدي، كمقترح عقاري، فإن شارع ٢٣ قد انهار … وقد اعترف الجميع بذلك … ولكن ما أريد أن أحدِّثك عنه في سرية بعض الوقت يا سيد جودالمينج، هو هذا … كيف تُجنى جميع الأموال الطائلة في نيويورك؟ عائلات أستور، وفاندربيلت، وفيش … في مجال العقارات بالطبع. إن الفرصة أصبحَت مواتيةً أمامنا الآن لتحقيق ربحٍ كبير … نكاد نصل … فلنشترِ في شارع ٤٠ …»

رفع الرجل ذو الألماسة حاجِبًا وهزَّ رأسه. «لقضاء ليلة في أحضان الجمال، أوه ضع الهموم جانبًا … أو شيء من هذا القبيل … اللعنة أيها النادل، لمَ تأخَّرت الشامبانيا؟» نهض وسعل في يده، ثم بدأ في الغناء بصوته الناعق:

أوه لو كان الأطلسي محيطًا من الشامبانيا
أمواجًا براقةً من الشامبانيا.

صفَّق الجميع. كان النادل الهَرِم قد قسَّم لتوِّه كعكة ألاسكا، بوجه متورِّد كالبنجر، وكان ينزع فِلينة شامبانيا جامدة. عندما فرقعت الفِلينة، أطلقت السيدة ذات التاج صرخة. شربوا نخب الرجل ذي الألماسة.

نَخب كونه رجلًا جيدًا وبهيجًا …

مال الرجل ذو الأنف المنقاري وسأل الفتاة الجالسة بجانبه: «ماذا تطلقون على هذا الطبق؟» كان شعرها الأسود مفروقًا من المنتصف، وكانت ترتدي فستانًا أخضر باهتًا بكُمَّين منتفخَين. غمز ببطء ثم حدَّق بشدة في عينَيها السوداوَين.

«هذا أفخم طعام وضعتُه يومًا في فمي … أتعلمين أيتها الشابة، إنني لا آتي كثيرًا إلى هذه المدينة … (ابتلع صبابة كأسه). وعندما آتي إلى هنا، فإنني أشعر عادةً بالاشمئزاز بعض الشيء عندما أغادر …» تفحَّصت نظرتُه البرَّاقة والمحمومة من أثر الشامبانيا معالمَ عنقها وكتفَيها، وتجوَّلت للأسفل إلى ذراعها العاري. «ولكني أظن بعض الشيء هذه المرة …»

قاطعته بوجه متورِّد: «لا بد أن في هذا آفاقًا لِحياة عظيمة.»

«كانت حياةً عظيمة في الأيام الخوالي، كانت حياةً صعبة ولكنها كانت حياة الرجال … أنا سعيد أنني جنيت ثروتي في تلك الأيام … فما كنت لأحصل على الحظ نفسه الآن.»

نظرت إليه. «يا لك من متواضع في تسميته حظًّا!»

كان إميل يقف خارج باب الغرفة الخاصة. لم يعد هناك ما يُقدَّم. مرَّت به الفتاة الصهباء من غرفة المعاطف وفي ذراعها معطف كبير متهدِّب بقبعة. ابتسم محاوِلًا جذب انتباهها. فتنشقت ورفعت أنفها في الهواء. لن تنظر إليَّ لأنني نادل. سأُريهم عندما أجني بعض المال.

أتى النادل الهَرِم هامسًا في أذنه: «اطلب من تشارلي زجاجتَي مويت وشاندون أُخريَين، من الزجاجات ذات المذاق الأمريكي.»

كان الرجل ذو الوجه المستدير واقفًا. «السيدات والسادة …»

ارتفع صوت مزمِّر: «الصمت في حظيرة الخنازير …»

قالت أولجا بصوت شديد الهدوء: «الخنزير الكبير يريد أن يتحدَّث.»

«السيدات والسادة، نظرًا للغياب المؤسف لنجمتنا نجمة مدينة بيثيلهم والممثِّلة المتفرِّغة …»

قالت السيدة ذات التاج: «لا تسبَّ يا جيلي.»

«السيدات والسادة، لست معتادًا على …»

«أنت ثمل يا جيلي.»

«… أيًّا كان اتجاه المد … أعني سواء أسارت الرياح في اتجاهنا أم في عكسه …»

جذب شخص الرجل ذا الوجه المستدير من ذيل معطفه، فجلس بغتةً على الكرسي.

قالت السيدة ذات التاج متوجِّهةً إلى رجل طويل الوجه بلون التبغ كان يجلس في نهاية الطاولة: «إنه لأمر مروِّع … إنه لأمر مروِّع أيها الكولونيل، تلك الهيئة المزرية التي يصبح عليها جيلي عندما يسكر …»

كان الكولونيل يفك بإتقان لُفافة القصدير من على حبة سيجار. قال متثاقلًا: «يا للهول، أمَا تقولينه صحيح؟» كان وجهه جامدًا فوق شاربه الرمادي الكث. «ثمة حكاية غاية في الرعب عن أتكنس الهَرِم المسكين، إليوت أتكنس الذي اعتاد أن يكون مع مانسفيلد …»

قال الكولونيل ببرود شديد وهو يفصل نهاية السيجار بمطواة صغيرة ذات قبضة من اللؤلؤ: «أحقًّا؟»

«قل لي يا تشيستر، هل علمت أن مابي إيفانز كانت تُحقِّق نجاحًا؟»

«بأمانة يا أولجا لا أعلم كيف تفعل ذلك. فليس لها شخصية مميزة …»

«حسنًا، لقد ألقى حديثًا، ثملًا كلورد كما تعلم، في إحدى الليالي عندما كانوا في جولة في كانساس …»

«إنها لا تستطيع الغناء …»

«لم يُبلِ الرجل المسكين بلاءً جيدًا قط تحت الأضواء الساطعة …»

«إنها لا تتمتَّع بأقل مقوِّمات الشخصية …»

«وقد ألقى خطابًا كخطابات بوب إينجيرسول نوعًا ما …»

«الرجل الهَرِم المسكين … آه، لقد عرفته جيدًا بالخارج في شيكاغو في الأيام الخوالي …»

«أحقًّا؟» أمسك الكولونيل بعناية بعود ثقاب مشتعل ووجَّهه نحو طرف سيجاره …

«وقد كان هناك وميض برق مروِّع وكرة نار دخلت من إحدى النوافذ وخرجت من الأخرى.»

«هل … قُتل؟» زفر الكولونيل نفخة من دخان أزرق في اتجاه السقف.

صاحت أولجا صارخة: «ماذا، هل قلت إن بوب إينجيرسول قد صعقه البرق؟» «نال ما يستحقه ذلك الملحد المقيت.»

«لا، ليس بالضبط، لكن الأمر أرعبه لدرجةٍ أدرك معها الأشياء المهمة في الحياة، وهو الآن يتردَّد على الكنيسة الميثودية.»

«من الطريف عدد الممثِّلين الذين أصبحوا قساوسة.»

قال الرجل ذو الألماسة مُصدِرًا صريرًا: «لا يمكن الحصول على جمهورٍ بأي طريقة أخرى.»

حام النادلان خارج الباب يستمعان للجَلَبة بالداخل. قال النادل الهَرِم هامسًا بمزيج من الفرنسية والإيطالية: «كومة من الخنازير اللعينة … اللعنة!» هزَّ إميل كتفَيه. «تلك الفتاة السمراء تنظر إليك طوال الليل …» ثم اقترب بوجهه من إميل وغمز. «بالطبع، ربما تحصل على شيء جيد.»

«لا أريد أيًّا منهن ولا أيًّا من أمراضهن القذرة.»

صفع النادل الهَرِم فخذه. «لا يوجد شباب في هذه الأيام … عندما كنت شابًّا اغتنمت الكثير من الفرص.»

قال إميل مُطبِقًا على أسنانه: «إنهن لا ينظرن إليك أصلًا. فما نحن سوى بذلات متحركة.»

«تمهَّل قليلًا، ستتعلَّم في النهاية.»

انفتح الباب. انحنَوا احترامًا في اتجاه الرجل ذي الألماسة. رسم شخص ساقَي امرأة على مقدمة قميصه. فتورَّدت وجنتاه تورُّدًا واضحًا. وتدلَّى الجفن السفلي لإحدى عينَيه، ممَّا أكسب وجهه الأشبه بوجه حيوان ابن عرس نظرةً غريبة مائلة جانبًا.

«ما هذا بحق الجحيم، ما هذا بحق الجحيم يا ماركو؟» هكذا غمغم. «ليس لدينا شيء نشربه … أحضر لنا قدرًا مملوءًا من الشامبانيا.»

انحنى النادل الهَرِم وقال بالفرنسية: «على الفور يا سيدي …» ثم بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «أخبِر أوجست يا إميل، في الحال وليكن الشراب مُثلَّجًا جيدًا.»

عندما نزل إميل إلى الدهليز، سمع غناءً.

أوه لو كان الأطلسي محيطًا من الشامبانيا
أمواج براقة من …

كان ذو الوجه المستدير وذو الأنف المنقاري عائدَين من دورة المياه يترنَّحان مُشبِّكَين اليدَين وسط النخيل في الردهة.

«هذان الأحمقان اللعينان يصيبانني بالغثيان.»

«أجل يا سيدي هذا ليس عشاء الشامبانيا الذي اعتدنا حضوره في فريسكو في الأيام الخوالي.»

«آه كانت تلك أيامًا رائعة.»

ثبَّت ذو الوجه المستدير نفسه إلى الجدار، وقال: «بالمناسبة، هل رأيت أيها الصديقُ القديم هوليوك ذلك المقال الصغير المنمَّق للغاية حول تجارة المطاط الذي نشرتُه في الجريدة الصباحية … سيجعل ذلك المستثمرين يقرضون … كفئران صغيرة.»

«ما الذي تعرفه عن المطاط؟ … إنه ليس جيدًا.»

«انتظر وسترى أيها الصديق القديم هوليوك، أو ستخسر فرصة عمرك … سواء أكنتُ سكران أم مستفيقًا، يمكنني أن أشم رائحة النقود … في الهواء.»

«لماذا لا تحصل على أي فرصة إذن؟» تحوَّل الوجه الأحمر للرجل ذي الأنف المنقاري إلى اللون الأرجواني؛ إذ انحنى إلى الأمام مطلقًا صيحاتٍ عاليةً من الضحك.

قال الرجل الآخر بجدية: «لأنني دائمًا ما أُطلع أصدقائي على حيلي. أنت أيها الفتى، أين هي هنا غرفة الطعام الخاصة؟»

بالفرنسية: «من هنا يا سيدي.»

مرَّ بهما فستان أحمر ملتفٌّ ذو ثنيات كثنيات الأكورديون، ويعلوه وجه بيضوي صغير تُحيط به تجعُّدات شعر مستوية بنية، وتبرز أسنان لؤلئيَّة في ضحكة من فم فاغر.

صاح الجميع: «فيفي ووترز. عجبًا يا عزيزتي الصغيرة فيفي، تعالَي إلى ذراعَي.»

رفعوها على كرسيٍّ حيث أخذت تهزُّ قدميها هزاتٍ سريعة، والشامبانيا تقطر من كأسها المائلة.

«كريسماس مجيد.»

«عام جديد سعيد.»

«ليعُد عليكم هذا اليوم …»

كان شاب وسيم قد تبعها للداخل يتمايل بصعوبة حول الطاولة ويغنِّي:

أوه ذهبنا إلى معرض الحيوانات
وكانت الطيور والوحوش هناك
والرُّبَّاح الكبير
على ضوء القمر
كان يمشِّط شعره الكستنائي.

صاحت فيفي ووترز وبعثرت الشعر الرمادي للرجل ذي الألماسة: «هوبلا.» قفزت نازلةً من فوق الكرسي بركلة قدم، وتبخترت في أنحاء الغرفة، بركلات عالية بتنورتها المنفوشة لأعلى حول ركبتَيها.

«أوه لالا، إنها الفرنسية ذات الركلات العالية!»

«ترقَّبوا باليه أصحاب القامة القصيرة.»

كانت ترتدي في ساقَيها الرشيقتَين جوربَين حريريَّين أسودَين لامعَين على نعلَين متوردَين أحمرَين يومضان في وجوه الرجال.

صاحت المرأة ذات التاج: «إنها مجنونة.»

هوبلا. كان هوليوك يترنَّح في المدخل وقبعته العالية مائلة على رأس أنفه المتورِّد. أطلقت صيحةً وركلتها.

صاح الجميع: «إنه هدف.»

«بحق المسيح، لقد ركلتِني في عيني.»

حدَّقت فيه لثانية بعينَين مستديرتَين ثم أجهشت بالبكاء فوق مقدمة القميص العريضة للرجل ذي الألماسة. نشجت قائلة: «لن أدع نفسي أُهان هكذا.»

«افرك العين الأخرى.»

«فليحضر أحد ضِمادة.»

«اللعنة، كادت تخلع عينه.»

«فلتستدعِ سيارة أجرة أيها النادل.»

«أين يمكن العثور على طبيب؟»

«سيكلِّفك ذلك كثيرًا يا صديقي القديم.»

ضغط على عينه بمنديل مليء بالدموع والدم أحضره إليه ذو الأنف المنقاري متعثِّرًا. احتشد الرجال والنساء عند الباب ووراءه، وكان آخرهم الشاب الأشقر، الذي أخذ يتمايل ويغنِّي:

والرُّبَّاح الكبير على ضوء القمر
كان يمشِّط شعره الكستنائي.

كانت فيفي ووترز تنشج ورأسها على الطاولة.

قال الكولونيل الذي كان لا يزال جالسًا حيث هو طوال السهرة: «لا تبكي يا فيفي. إليكِ شيئًا أتوقَّع أنه سيجعلك تشعرين بحال أفضل.» دفع بكأس من الشامبانيا نحوها على الطاولة.

شهقت وبدأت في شربها برشفات صغيرة. «مرحبًا يا روجر، كيف حال الفتى؟»

«الفتى بأفضل حال، شكرًا لك … ولكنه يشعر بالضجر، ألَا ترين؟ سهرةٌ مع مثل هؤلاء الأوغاد …»

«أنا جائعة.»

«لا يبدو أن هناك أي شيء متبقٍّ لتناوله.»

«لم أكن أعلم أنك ستحضر، وإلا كنت قد أتيت باكرًا، صدقًا.»

«أحقًّا كنتِ ستفعلين؟ … حسنًا، هذا لطيف جدًّا.»

سقط الرماد من سيجار الكولونيل، فنهض واقفًا. «حسنًا يا فيفي، سأستدعي سيارة أجرة وسنذهب بها في جولة في المتنزَّه …»

تجرَّعت الشامبانيا وأومأت مبتهجة. «يا إلهي، إنها الساعة الرابعة …» «معكِ أغطية مناسبة، أليس كذلك؟»

أومأت مرةً أخرى.

«رائع يا فيفي … أرى أنكِ في هيئة جيدة.» كان وجه الكولونيل الذي يشبه في لونه لون السيجار تنفك قَسَماته مبتسمًا. «حسنًا، هيا هلمي.»

نظرت حولها مذهولة. «ألَا أصطحب معي أحدًا؟»

«لا داعي إطلاقًا!»

وجدا مصادفةً في الردهة الشاب الأشقر، الذي كان يتقيَّأ في هدوء في دلو الحريق أسفل نخلة اصطناعية.

قالت مجعِّدةً أنفها لأعلى: «أوه، فلنتركه.»

قال الكولونيل: «لا داعي إطلاقًا!»

أحضر إميل معطفَيهما. إذ كانت الفتاة الصهباء قد ذهبت إلى المنزل.

«اسمع يا ولد.» لوَّح الكولونيل بعصاه. «اطلب لي عربة أجرة رجاءً … وتأكَّد من أن الحصان مناسب ومن أن السائق غير ثمل.»

بالفرنسية: «على الفور يا سيدي.»

كانت السماء خلف الأسقف والمداخن زرقاء كالياقوت. استنشق الكولونيل ثلاث أو أربع رشفات من الهواء المعبَّأ برائحة الفجر، ورمى سيجاره في المزراب. «أقترح تناول شيء للإفطار في كليرمونت. لم أجد شيئًا مناسبًا لتناوله طوال الليل. تلك الشامبانيا الحلوة بفظاعة، يا للقرف!»

قهقهت فيفي. بعد أن تفحَّص الكولونيل ثُنَّات الحصان وربت على رأسه، ركبا العربة. لف الكولونيل ذراعه بعنايةٍ حول فيفي وانطلقا في طريقهما. وقف إميل لبرهة عند باب المطعم يفرد تجاعيد ورقة بقيمة خمسة دولارات. كان متعبًا وكان مُشْطا قدمَيه يؤلمانه.

عندما خرج إميل من الباب الخلفي للمطعم، وجد كونغو في انتظاره جالسًا على عتبة الباب. كانت لبشرة كونغو مظهر أخضر بارد أعلى ياقة معطفه المهترئة المطوية لأعلى.

قال إميل لماركو: «هذا صديقي. أتينا على المركب نفسه.»

«أليس لديك زجاجةٌ من النبيذ تحت معطفك؟ يا إلهي، لقد رأيت بعض الدجاج الجيد يخرج به من هذا المكان.»

«ولكن ما الأمر؟»

«فقدت وظيفتي، هذا كل ما في الأمر … لم أعد أُريد أن أتعامل مع ذلك الرجل. تعالَ واشرب القهوة.»

طلبوا القهوة وكعك الدونات في عربة طعام على قطعة أرض فارغة.

سأل ماركو بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «حسنًا، هل تُحب هذا البلد الكريه؟»

«لمَ لا؟ أنا أُحب أي مكان. فكل الأماكن سواء؛ في فرنسا تكسب القليل ولكنك تعيش حياةً جيدة، وهنا تكسب الكثير ولكنك تعيش حياةً سيئة.»

بالإيطالية: «هذا البلد حاله مقلوب رأسًا على عقب.»

«أظن أنني سأعود إلى البحر مُجدَّدًا …»

قال الرجل ذو الوجه الشبيه بثَمَرة القرنبيط، والذي رمى بأقداح القهوة الثلاثة على المنضدة: «لماذا لا تتعلَّمون الإنجليزية بحق الجحيم؟»

أجاب ماركو: «إذا تحدَّثنا الإنجليزية، فلربما لا يعجبك ما نقوله.»

«لماذا طردوك من العمل؟»

بالفرنسية: «تبًّا! لا أعرف. تجادلت مع البعير الهَرِم الذي يدير المكان … كان يعيش بجوار الإسطبلات، وبالإضافة إلى غسيل العربات كان يجعلني أنظِّف أرضيات منزله … وزوجته لها وجه كهذا.» زمَّ كونغو شفتَيه وحاول أن يبدو كالأحول.

ضحك ماركو. قال بالإيطالية: «اللعنة!»

«كيف كنت تتحدَّث معهما؟»

بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «كانا يشيران إلى الأشياء، وكنتُ أومئ برأسي وأقول حسنًا. كنت أذهب إلى هناك في الساعة الثامنة وأعمل حتى الساعة السادسة، وكانا يكلِّفانني كل يوم بأشياء كريهة أكثر … ليلة أمس طلبا مني تنظيف المرحاض في الحمام. هززت رأسي … ذلك عمل المرأة … غضبَت غضبًا شديدًا وبدأَت تصرخ. كنت بدأتُ في تعلُّم الإنجليزية … وقلتُ لها اذهبي إلى الجحيم … ثم جاء الرجل الهَرِم وطاردني في الشارع بسوط العربة وقال إنه لن يدفع لي أجري الأسبوعي … وبينما كنا نتجادل طلب رجلًا من رجال الشرطة، وعندما حاولت أن أشرح للشرطي أن الرجل الهَرِم مدين لي بعشرة دولارات نظير الأسبوع، قال ارحل أيها الإيطالي الحقير، وضربني على رأسي بهِراوته … اللعنة إذن …»

احمرَّ وجه ماركو. «أقال لك أيها الإيطالي الحقير؟»

أومأ كونغو برأسه موافقًا وفمه ممتلئ بكعك الدونات.

تمتم ماركو بالإنجليزية: «ما هو سوى أيرلندي حقير. لقد سئمت هذه المدينة العفنة …»

بمزيج من الإنجليزية والإيطالية: «هذا هو الحال نفسه في جميع أنحاء العالم، الشرطة تضربنا، والأغنياء يسرقون أجورنا المعدومة، والخطأ خطأ مَن؟ … اللعنة! خطؤك، وخطئي، وخطأ إميل …»

«إننا لم نصنع العالم … بل هم من صنعوه أو ربما الإله هو من صنعه.»

«الإله في صفهم، مثله مثل الشرطة … عندما يحين الوقت سنقتل الإله … أنا من أنصار الفوضى.»

همهم كونغو بالفرنسية: «اللعنة على البرجوازيين.»

«هل أنت واحد منا؟»

هزَّ كونغو كتفَيه. «لستُ كاثوليكيًّا أو بروتستانتيًّا؛ أنا مفلس وبلا عمل. انظر إلى ذلك.» أشار كونغو بإصبع متسخ إلى شق طويل في ركبة بنطاله. «تلك هي الفوضى … اللعنة، سأذهب إلى السنغال وأصبح زنجيًّا.»

ضحك إميل وقال: «أنت تبدو زنجيًّا بالفعل.»

«لذلك يسمونني كونغو.»

تابع إميل قائلًا: «ولكن ذلك كله سخف. فالناس جميعهم سواء. كل ما في الأمر أن هناك بعض الناس قد تقدَّموا وآخرين لم يتقدَّموا … لذلك أتيت إلى نيويورك.»

بمزيج من الإيطالية والإنجليزية: «تبًّا، لقد ظننت ذلك أيضًا منذ ٢٥ سنة … عندما تصبح هَرِمًا مثلي ستعرف جيدًا. ألَا تشعر أحيانًا بالعار هنا؟ هنا» … طرق ببراجم أصابعه على مقدمة قميصه … «أشعر بحرارة وكما لو كان هناك غُصة هنا … ثم أقول لنفسي تشجَّع فَيَومنا آتٍ، يوم تسيل الدماء.»

قال إميل: «أنا أيضًا أعد نفسي. ولكني أقول لنفسي عندما يكون لديك بعض المال أيها الفتى.»

«اسمع، قبل أن أغادر تورينو عندما ذهبتُ آخر مرة لرؤية أمي، حضرتُ اجتماعًا للرفاق … نهض رجل من كابوا للتحدُّث … كان رجلًا وسيمًا للغاية، وطويلًا وشديد النحافة … قال إنه لن تعود هناك سلطة عندما لا يحيا أحد بعد الثورة على عمل الآخرين … الشرطة، والحكومات، والجيوش، والرؤساء، والملوك … كل ذلك يمثِّل السلطة. السلطة ليست شيئًا حقيقيًّا؛ إنها وهم. إن العامل هو الذي يخترع كل ذلك لأنه يؤمن به. اليوم الذي نتوقف فيه عن الإيمان بالمال والمِلكية سيكون ما ولَّى كحلم عندما نستيقظ. لن نصبح بحاجة إلى القنابل أو المتاريس … الدِّين، والسياسة، والديمقراطية؛ كل ذلك للإبقاء علينا في حالة الغفلة … يجب أن يجوب الجميع أرجاء البلاد منادين في الناس: استيقظوا!»

قال كونغو: «عندما تنزل إلى الشارع سأكون معك.»

«هل تعرف ذلك الرجل الذي أتحدث عنه؟ … ذلك الرجل، إريكو مالاتيستا، هو أعظم رجل في إيطاليا بعد جاريبالدي … قضى حياته كلها في السجن والمنفى، في مصر، وفي إنجلترا، وفي أمريكا الجنوبية، وفي كل مكان … إن كان بإمكاني أن أصبح رجلًا مثله، لا يهمني ما يفعلونه؛ يمكنهم أن يعدموني، أن يطلقوا النار عليَّ … لا يهمني … أنا سعيد للغاية.»

قال إميل ببطء: «ولكن لا بد أن رجلًا كهذا مجنون. لا بد أنه مجنون.»

تجرَّع ماركو آخر رشفة من قهوته. «مهلًا. أنت صغير للغاية. ستفهم … واحد تلو الآخر يجعلوننا نفهم … وتذكَّر ما قلتُه … ربما سأكون مسنًّا، ربما سأكون قد مت، لكنه سيأتي اليوم الذي يستيقظ فيه العُمال من العبودية … ستُقيمون الإضرابات في الشارع وستهرب الشرطة، وستذهب إلى المصرف حيث يُسكب المال على الأرض ولن تنحني لتلتقطه، لا شيء أفضل من ذلك … إننا نُعد أنفسنا في جميع أنحاء العالم. هناك رفاق حتى في الصين … كانت ضاحيتك الصغيرة في فرنسا هي البداية … فشلت الاشتراكية. حان الوقت للفوضويين أن يوجِّهوا الضربة التالية … وإن فشلنا فسيكون هناك آخرون …»

تثاءب كونغو، وقال: «أشعر بالنعاس الشديد.»

بالخارج، كان الفجر بلون الليمون يغمر الشوارع الفارغة، حيث كان يقطر من الأفاريز، ومن قضبان سلالم الطوارئ، ومن حوافِّ صناديق القُمامة، كاسرًا كتل الظل بين الأبنية. كانت مصابيح الشوارع مطفأة. عند الناصية، نظروا إلى شارع برودواي الذي كان ضيقًا ومسفوعًا كما لو أن نارًا قد طالته.

قال ماركو، وصوته متحشرج في حلقه: «لا أرى الفجر مطلَقًا لدرجة أنني لا أقول لنفسي ربما … ربما اليوم.» تنحنح وقرع قاعدة عمود إنارة، ثم غادرهما بخطوته المتمايلة، مستنشقًا دفقات قويةً من الهواء البارد.

«أصحيحٌ يا كونغو أنك تريد العودة للعمل في البحر؟»

«لمَ لا؟ أود أن أرى العالم قليلًا …»

«سأفتقدك … وسيكون عليَّ البحث عن غرفة أخرى.»

«ستجد صديقًا آخر لتُشارِكه غرفتك.»

«ولكن إذا فعلتَ ذلك فستظل بحَّارًا طوال حياتك.»

«وماذا يهم؟ عندما تصبح غنيًّا وتتزوَّج سآتي لزيارتك.»

كانا يسيران في الجادة السادسة. دوَّى صوت قطار سريع فوق رأسَيهما مخلِّفًا صلصلة طنين لتتلاشى وسط عوارض السكة الحديدية بعد مروره.

«لمَ لا تبحث عن عمل آخر وتبقى لبعض الوقت؟»

أخرج كونغو سيجارتَين منحنيتَين من جيب صدر معطفه، وأعطى واحدةً لإميل، وأخرج عود ثقاب لإشعال سيجارته، وترك الدخان يخرج بطيئًا من أنفه. «لقد سئمت الوضع هنا كما أخبرتك …» وضع يده أفقيًّا على تفاحة عنقه، قائلًا: «إلى هنا … ربما سأعود للوطن وأزور فتيات بوردو الصغيرات … فعلى الأقل لا يرتدي جميعهن البَلِّين … سأنضم باعتباري متطوِّعًا في البحرية وأرتدي قبعةً ذات كرة مزركشة حمراء … الفتيات يُعجبن بذلك. تلك هي الحياة الوحيدة التي أراها … السُّكر وإحداث الفوضى يوم دفع الرواتب ورؤية الشرق البعيد.»

«وتموت مصابًا بالزهري في أحد المستشفيات في سن الثلاثين …»

«وماذا يهم؟ … إن جسمك يجدِّد نفسه كل سبع سنوات.»

كانت رائحة الدرج في منزلهما ذي الغرف المفروشة للإيجار كرائحة الملفوف والجِعَة الفاسدة. صعدا متعثِّرَين ومتثائبَين.

«إن الانتظار لأمر شاق وكريه … إنه يجعل أخمصَي قدمَيك يؤلمانك … انظر، سيكون يومًا جيدًا؛ يمكنني أن أرى الشمس على حاوية الماء في الجهة المقابلة.»

خلع كونغو حذاءه وجوربه وبنطاله وتكوَّر في السرير كالقط.

تمتم إميل وهو يمدِّد نفسه على الحافة الخارجية للسرير: «تلك الستائر القذرة تُدخل الضوء كلَّه.» تقلَّب مضطربًا فوق المُلاءة المجعَّدة. وكانت أنفاس كونغو الواصلة إليه منخفضةً ومنتظمة. فكَّر إميل، فقط لو كنت كذلك، لا يقلقني شيء … ولكن ليس هكذا تتقدَّم في العالم. يا إلهي، هذا غباء … إن ماركو مختل، ذلك الأحمق الهَرِم.

ورقد على ظهره ناظرًا لأعلى إلى البقع الصدئة على السقف، يرتجف في كل مرة يهزُّ فيها قطارٌ مارٌّ الغرفة. بحق الإله المقدس، يجب أن أدخر المال. عندما تقلَّب، اهتزَّت ألواح السرير وتذكَّر صوت ماركو الأجش الهامس: لا أرى الفجر مطلقًا لدرجة أنني لا أقول لنفسي ربما.

•••

قال سمسار المنازل: «لو تأذن لي بلحظة يا سيد أولفسن. بينما كنت أنت والسيدة تفكِّران في الشقة …» وقفا جانبًا متلاصقَين في الغرفة الفارغة، ينظران من النافذة إلى شارع هدسون الذي يغلب عليه لون الأردواز والسفن الحربية الراسية ومركب شراعي ينحرف عكس التيار.

التفتت إليه فجأةً بعينَين براقتَين، وقالت: «أوه يا بيللي، فقط فكِّر في الأمر.»

وضع ذراعه على كتفَيها وسحبها تجاهه ببطء. «يمكنكِ تقريبًا استنشاق رائحة البحر.»

«فكِّر قليلًا يا بيللي في أننا سنعيش هنا، في طريق ريفير سايد درايف. سيكون عليَّ قضاء يوم في المنزل … السيدة وليام سي أولفسن، ٢١٨ طريق ريفير سايد درايف … تُرى هل سيكون من الصواب وضع العنوان على بطاقات زيارتنا.» أخذت بيده وقادته عبر الغرف الفارغة النظيفة التي لم يعِش فيها أحد من قبل. كان رجلًا كبير الحجم بطيء الحركة ذا عينَين زرقاوَين شاحبتَين وغائرتَين في رأس طفولي أبيض.

«هذا يكلِّف الكثير من المال يا بيرثا.»

«يمكننا تحمُّله الآن، بالطبع يمكننا ذلك. يجب أن نعيش بما يتناسب ودخلَنا … منصبك يتطلَّب ذلك … وفكِّر في كَم السعادة التي سنكون فيها.»

رجع سمسار المنازل إلى الردهة فاركًا يدَيه. «حسنًا، حسنًا … آه، أرى أننا قد توصَّلنا إلى قرار مبشِّر بالخير … أنت حكيم للغاية أيضًا؛ فليس هناك موقع أجمل في مدينة نيويورك، وفي غضون بضعة شهور لن تتمكن من الحصول على أي شيء في هذا الطريق بأي مقابل.»

«أجل سنأخذه من أول الشهر.»

«جيد جدًّا … لن تندم على قرارك يا سيد أولفسن.»

«سأُرسل لك شيكًا بالمبلغ في الصباح.»

«وقتما يناسبك … وما عنوانك الحالي من فضلك؟ …» أخرج سمسار المنازل دفترًا وبلَّل عَقِب قلم رصاص بلسانه.

«يُفضَّل أن تكتب فندق أستور.» تقدَّمت أمام زوجها.

«أمتعتنا مخزَّنة حاليًّا.»

احمرَّ وجه السيد أولفسن.

«و… و… نريد اسمَين لشخصَين يمكن الرجوع إليهما في مدينة نيويورك من فضلك.»

«إنني أعمل لدى كيتنج وبرادلي، مهندسَين صِحيَّين، ٤٣ بارك أفنيو …»

أضافت السيدة أولفسن قائلة: «لقد ترقَّى لتوه إلى منصب مساعد المدير العام.»

عندما خرجا إلى الطريق وسارا وسط المدينة في عكس اتجاه ريح شديدة، صاحت قائلة: «أنا سعيدة جدًّا يا حبيبي … ستصبح حياتنا حقًّا تستحق العيش الآن.»

«ولكن لماذا أخبرتِه أننا نُقيم في فندق أستور؟»

«لم أستطع أن أُخبره أننا نقيم في حي ذا برونكس، كيف لي أن أُخبره بذلك؟ كان سيظن أننا يهود ولن يؤجِّر لنا الشقة.»

«ولكنكِ تعلمين أنني لا أُحب ذلك.»

«حسنًا، يمكننا ببساطة الانتقال إلى فندق أستور لِمَا تبقَّى من الأسبوع إذا كنت تريد أن تشعر بالصدق الشديد … لم أُقِم في حياتي في فندقٍ كبيرٍ في وسط المدينة.»

«أوه يا بيرثا، إنها مسألة مبدأ … إنني لا أُحبك أن تكوني كذلك.»

التفتت ونظرت إليه بفتحتَي أنفٍ مرتعشتَين. «أنت رخو للغاية يا بيللي … كنت أتمنَّى أن يكون زوجي متمتِّعًا بالرجولة.»

سحبها من ذراعها. وقال بخشونة ووجهٍ منصرف عنها: «لنسِر هنا.»

سارا في تقاطع طرق بين الأبنية. وعند إحدى النواصي، كان النصف الواهن لبيتٍ ريفي ذي ألواح مضادة للمطر لا يزال قائمًا. كان هناك نصف غرفة على جدارها ورق حائط مرسوم عليه زهور زرقاء، متآكل بفعل آثار دخان مدفأة، تحوَّلت إلى بقع بنية، وخزانة محطمة داخل الجدار، وهيكل سرير حديدي منحنٍ.

•••

كانت الأطباق تنزلق بلا نهاية عبر أصابع بود السمينة. وتفوح حوله روائح القُمامة ورغوة الصابون. يمسح الأطباق بدورتَين بالممسحة الصغيرة، ثم يغمرها بالمياه، ثم يشطفها، ثم يكوِّمها في الرف كي يجفِّفها الفتى اليهودي الطويل الأنف. كانت ركبتاه مبلَّلتَين من سكب المياه، وكان الشحم يزحف إلى ساعدَيه، ويتشنَّج مرفقاه.

«تبًّا، هذا عمل لا يليق برجل أبيض.»

قال الفتى اليهودي وسط صلصلة الأطباق ودبيب واضطراب الموقد حيث كان ثلاثة طهاة متعرِّقين يقلون البيض ولحم الخنزير وشرائح الهامبورجر ويحمِّرون البطاطس ومفروم اللحم المحفوظ: «لا يهمني شيء ما دمت أجد طعامي.»

قال بود ممرِّرًا لسانه حول فمه لإزاحة قطعة من اللحم المملَّح هرَسَها بلسانه في سقف فمه: «بالطبع آكل جيدًا.» يمسح الأطباق بدورتَين بالممسحة الصغيرة، ثم يغمرها بالمياه، ثم يشطفها، ثم يكوِّمها في الرف كي يجفِّفها الصبي اليهودي الطويل الأنف. سادت لحظة هدوء. أعطى الفتى اليهودي بود سيجارة. وقفا متكئَين على الحوض.

«لا توجد طريقة لجني الأموال من غسيل الأطباق.» تمايلت السيجارة بين شفتَي الفتى اليهودي البدينة وهو يتكلَّم.

قال بود: «هذه ليست وظيفةً مناسِبة لرجل أبيض على الإطلاق. من الأفضل الانتظار؛ فهناك البقشيش.»

دخل رجل يرتدي قبعةً دربية عبر الباب المتأرجح من المطعم السريع. كان رجلًا كبير الفك وذا عينَين كعينَي خنزير، وكان يلتصق خارجًا من منتصف فمه باستقامة سيجار طويلًا. لمحه بود وشعر بوميض بارد يلوي أحشاءه.

همس: «من ذلك؟»

«لا أعلم … أظنه زبونًا.»

«ألَا يبدو لك أنه أشبه بأحد المحقِّقين؟»

«كيف لي أن أعرف بحق السماء؟ لم أدخل السجن من قبل.» احمرَّ وجه الفتى اليهودي ومد فكَّه.

وضع مساعد النادل كومةً جديدة من الأطباق المتسخة. يمسح الأطباق بدورتَين بالممسحة الصغيرة، ثم يغمرها بالمياه، ثم يشطفها، ثم يكوِّمها في الرف. عندما مرَّ الرجل ذو القبعة الدربية البُنية راجعًا عبر المطبخ، ثبَّت بود نظره على يدَيه السمينتَين الحمراوَين. حتى وإن كان محقِّقًا، فماذا بحق الجحيم … عندما أنهى بود تنظيف دفعة الأطباق، مشى إلى الباب ماسحًا يدَيه، وأخذ معطفه وقبعته من فوق الشماعة وانسلَّ خارجًا من الباب الجانبي مارًّا بصفائح القُمامة وخرج إلى الشارع. من الحماقة إضاعة ساعتَين مدفوعتَي الأجر. في نافذة محل نظارات، كانت الساعة الثانية وخمسًا وعشرين دقيقة. مشى في شارع برودواي، مارًّا بميدان لينكولن، عبر دوَّار كولومبوس، ووصل إلى وسط المدينة نحو مركز كل شيء حيث المزيد من الازدحام.

•••

استلقت وركبتاها منحنيتان إلى ذقنها، وشَدت ثياب نومها بقوة أسفل أصابع قدمَيها.

«تمدَّدي واخلدي إلى النوم يا عزيزتي … عِدي أمك أنكِ ستنامين.»

«ألن يأتي أبي ويقبِّلَني قبلة ما قبل النوم؟»

«سيفعل عندما يرجع إلى المنزل؛ فقد رجع إلى المكتب وأنا ذاهبة إلى السيدة سبين جارن للعب الورق.»

«متى سيرجع أبي إلى المنزل؟»

«قلت لكِ يا إيلي اخلدي إلى النوم … سأترك المصباح مضاءً.»

«لا يا أمي، إنه يصنع ظلالًا … متى سيعود أبي إلى المنزل؟»

«عندما يكون مستعدًّا.» كانت تخفض ضوء مصباح الغاز. تجمَّعت الظلال من الأركان مكوِّنةً أجنحةً واندفعت معًا. «طابت ليلتكِ يا إلين.» ضاق شريط الضوء القادم من الباب خلف الأم، ضاق ببطء ليصبح خيطًا أعلى القمة وبمحاذاتها. أصدر مقبض الباب نقير غلقه، وتلاشى وقع الخطوات في الردهة، ثم صُفع باب المنزل. دقَّت الساعة في مكان ما في الغرفة التي سادها الصمت، أما خارج الشقة، خارج المنزل، فكانت العجلات ووقع حوافر الخيول المتبخترة، أصواتًا متعاقبة في دوي متصاعد. كان الظلام دامسًا فيما عدا خيطَي الضوء اللذَين شكَّلا حرف L مقلوبًا في زاوية الباب.

أرادت إيلي أن تبسط قدمَيها، ولكنها كانت خائفة. ولم تجرؤ على صرف عينَيها عن الحرف المقلوب في زاوية الباب. إذا أغمضت عينَيها، فسيذهب عنها الضوء. بجوار السرير، من ستائر النافذة، ومن الخزانة، ومن أسفل الطاولة اندفع الظل مصرصِرًا نحوها. أمسكت بإحكام بكاحلَيها، ودفعت بذقنها بين ركبتَيها. ظهرت الوسادة منتفخةً في الظل، حيث كانت الظلال المتقلبة تزحف إلى سريرها. إذا أغمضت عينَيها، فسيذهب عنها الضوء.

كان الزئير الغامض المتواصل في الخارج يذوب عبر الجدران جاعلًا الظلال المتعانقة ترتجف. أخذ لسانها ينقر في أسنانها كدقات الساعة. تصلَّب ذراعاها وساقاها، كما تيبَّس عنقها، وكانت على وشك الصراخ. صراخ يعلو دوي الضوضاء الجنونية بالخارج، صراخ يجعل أباها يسمعها ويعود إلى المنزل. التقطت أنفاسها وانكمشت مرةً أخرى. ليت أبي يعود. تداخلت الظلال المدوية وتراقصت، وترنَّحت تدور وتدور. ثم كانت تبكي، وكانت عيناها مليئتَين بالدموع الدافئة المُطمَئِنَّة، التي كانت تسيل فوق وجنتَيها وإلى داخل أذنَيها. تقلَّبت وأخذت تبكي ووجهها مدفون في الوسادة.

•••

اختلجت مصابيح الغاز لبعض الوقت في الشوارع الأرجوانية من أثر البرودة، ثم اختفى ضوءُها تحت أثر الفجر المُتَّقِد. يسير جاس ماك نيل، والنوم لا يزال يداعب عينَيه، بجوار عربته مُؤرجِحًا سلةً من الأسلاك ممتلئةً بزجاجات الحليب، ويتوقف عند الأبواب جامعًا الزجاجات الفارغة، ويصعد السلالم الباردة مستعيدًا كيف يميِّز بين درجات الحليب المختلفة وأنصاف اللترات من القشدة والحليب الرائب، بينما تُصبح السماء خلف الأفاريز، والخزانات، وقمم الأسقف، والمداخن ورديةً وصفراء. يتلألأ الصقيع على عتبات الأبواب وحواف الأرصفة. ويترنَّح الحصان ذو الرأس المتدلَّى قافزًا من باب إلى آخر. هناك، يظهر أول آثار أقدام داكنة على الرصيف المفروش بالصقيع. تقرقع عربة جِعة ثقيلة في الشارع.

صاح جاس ماك نيل في شرطي يلوِّح بذراعَيه عند ناصية الجادة الثامنة، قائلًا: «مرحبًا يا مويكي، تشعر ببعض البرودة، أليس كذلك؟»

«مرحبًا جاس. ألَا يزال البقر يُنتج الحليب؟»

كان ضوء النهار قد انتشر عندما ضرب أخيرًا باللجام الرِّدفَ الهزيل لفرسه الخَصِي ورجع إلى منتجات الألبان، حيث تثب الزجاجات الفارغة وتهتز في العربة وراءه. في الجادة التاسعة، ينطلق قطار بالأعلى مصلصِلًا في وسط المدينة خلف محرِّك أخضر صغير تنبعث منه بقع من الدخان بيضاء وكثيفة كالصوف القطني، وتذوب في الهواء الغِرِّ بين المنازل المتجمدة ذات النوافذ السوداء. التقطت الأشعة الأولى للشمس النقشَ المُذهَّب «نبيذ وكحوليات دانييل ماك جيليكودي» عند ناصية الجادة العاشرة. لسان جاس ماك نيل جاف وللفجر مذاقٌ مالح في فمه. من شأن صفيحةٍ من الجِعَة أن تجعله يشعر بتحسُّن في صباح بارد كهذا. لفَّ اللجامَ حول السوط وقفز فوق العجلة. شعر بوخزٍ في قدمَيه المخدرتَين عندما اصطدمتا بالرصيف. دقَّ برجلَيه لاستعادة تدفُّق الدم إلى أخمصَي قدمَيه، واندفع عبر البابَين المتأرجحَين.

«اللعنة عليَّ إن لم يكن هذا هو بائع الحليب، جالبًا لنا نصف لترٍ من القشدة لقهوتنا.» بصق جاس في وعاء البصق المُلمَّع لتوه بجوار الحانة.

«أيها الفتى، إنني عطشان …»

قال الساقي مزمجرًا بوجهٍ أشبه بشريحة لحم مربَّعة: «لقد شربت الكثير من الحليب مرةً أخرى يا جاس، أنا متأكد من ذلك.»

تفوح من الحانة رائحة منظِّف المناضد والنشارة الطازجة. عبر نافذة مفتوحة، داعب شعاع متورِّد لضوء الشمس ردف امرأة عارية تتكئ في هدوء كبيضة مسلوقة فوق فَرشة من السبانخ في صورةٍ ذات إطار مذهَّب خلف منضدة الحانة.

«حسنًا يا جاس، فيمَ ترغب في صباح بارد وجميل كهذا؟»

«أظن أن الجِعَة ستكون اختيارًا جيدًا يا ماك.»

تصاعدت الرغوة في الكأس، مهتزةً لأعلى، وتساقطت. مسح الساقي أعلى الكأس بملعقة خشبية، ممَّا جعل الرغوة تسكن لبرهة، ثم وضع الكأس مرةً أخرى أسفل صنبور يُصدر صريرًا ضعيفًا. يضع جاس عقبه بارتياح على السياج النحاسي.

«حسنًا، كيف حال العمل؟»

تجرَّع جاس كأس الجِعَة وأشار بيدٍ مبسوطة للأمام إلى عنقه قبل أن يمسح بها فمه. «بلغ الأمر الحلقوم … سأُخبرك بما سأفعل، سأذهب إلى الغرب، وسآخذ أرضًا فارغة في داكوتا الشمالية أو في أي مكان آخر وسأزرع القمح … أُتقن جيدًا العمل في المزارع … أما العيش هنا في المدينة، فلا جدوى منه.»

«ما رأي نيللي في ذلك؟»

«لن يروق الأمر لها في البداية؛ فهي تُفضِّل وسائل الراحة في المنزل وكل ما اعتادت عليه، غير أنني أظن أنها سيُعجبها الوضع عندما نذهب إلى هناك كذلك. فهذه ليس حياةً مناسبة لها أو لي أيضًا.»

«معك حق. فهذه المدينة في طريقها إلى الدمار … سأبيع أنا والفتيات ما لنا هنا في يوم من الأيام عمَّا قريب حسب ظني. إن استطعنا أن نشتريَ مطعمًا لائقًا في الحي السكني أو نُزلًا على الطريق، فهذا ما سيناسبنا. أضع عينَي على عقار صغير خارج طريق برونكسفيل، على مسافة يسهل الوصول إليها بالسيارة.» متأمِّلًا يرفع قبضته الشبيهة بالمطرقة إلى ذقنه. «لقد سئمت من طرد هؤلاء السكارى الملاعين كل ليلة. اللعنة، أتركتُ الحَلبة لأستمر في القتال؟ آخرها ليلة أمس؛ إذ بدأ رجلان الشجار، وكان عليَّ أن أتشاجر مع كلٍّ منهما كي يغادرا المكان … لقد سئمت من الشجار مع كل سِكير في الجادة العاشرة … أترغب في مشروب آخر على حساب المكان؟»

«يا إلهي، أخشى أن تشم نيللي رائحة الكحول مِني.»

«أوه، لا تبالِ لذلك مطلقًا. لا بد أن نيللي قد اعتادت على شربك بعضَ الخمر. فزوجها الهَرِم يحبُّه كثيرًا.»

«ولكني صدقًا يا ماك لم أسكر ولو مرةً منذ زفافنا.»

«لا ألومهم. فنيللي فتاة جميلة حقًّا. وتلك التجعيدات الصغيرة في شعرها تسلب الرجال عقولهم.»

أرسل كأس الجِعة الثانية إحساسًا بالتورُّد اللاذع والرغوي إلى أنامل جاس. فصفع فخذه ضاحكًا.

«إنها كقشرة البيضة، هذه هي طبيعتها يا جاس، وهي سيدة شديدة الرقي كذلك.»

«حسنًا، أعتقد أنني سأرجع إليها.»

«يا لك من شيطان صغير محظوظ أن تعود إلى المنزل لتنام في سريرك مع زوجتك، بينما نستهل جميعًا الذهاب للعمل!»

ازدادت حمرة وجه جاس المتورِّد. وخدرت أذناه. «أحيانًا تكون لا تزال في الفراش … وداعًا يا ماك.» خرج داقًّا بقدمَيه في الشارع مجدَّدًا.

ازداد الصباح وَحشة. إذ استقرَّت السُّحب الكئيبة فوق المدينة. صاح جاس وهو يهز رأس الفرس الخَصِي: «انهض يا ذا الجلد والعظام المُسنة.» الجادة الحادية عشرة ممتلئة بالغبار الجليدي، وقعقعة سحق العجلات، واحتكاك الحوافر على الأرض المرصوفة بالحصى. وفي مسارات السكة الحديدية، تُسمع جلجلة جرس قاطرة ودبيب تفريغ عربات البضائع. جاس في الفراش مع زوجته يتحدَّث إليها برِفق. اسمعي يا نيللي، لا تمانعين من أن ننتقل إلى الغرب، أليس كذلك؟ لقد أرسلت طلبًا للحصول على أرض مزرعة فارغة في ولاية داكوتا الشمالية، إنها أرض ذات تربة سوداء حيث يمكننا جني كومة من المال بزراعة القمح؛ فبعض الرجال أصبحوا أغنياء بعد خمس غلات جيدة … وهي حياة صحية أكثر للأطفال على أي حال … «مرحبًا يا مويكي!» لا يزال مويكي الهَرِم المسكين في نوبة عمله. إن العمل شرطيًّا فيه تعرُّض للبرودة. أُفضِّل أن أكون مزارعًا للقمح وأن يكون لديَّ بيت مزرعة كبير، وحظائر، وخنازير، وخيل، وبقر، ودجاج … وتُطعم نيللي الدجاج عند باب المطبخ بشعرها الجميل المجعَّد …

صاح رجل مناديًا جاس من فوق حافة الرصيف: «مرحبًا، يا إلهي … انتبه للعربات!»

ينفرج فم صائحًا أسفل قبعة ذات حافة، ويلوِّح علَم أخضر. «يا إلهي، إنني فوق قضبان السكك الحديدية.» حوَّل رأس الحصان بقوة. اصطدمت العربة خلفه متصدعة. العربات، والحصان الخَصي، والعلم الأخضر، والمنازل الحمراء تدور وتتلاشى في الظلام.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤