الفصل الثالث

دولارات

على طول السياج كانت هناك وجوه، وفي فتحات الإضاءة كانت هناك وجوه. باتجاه الريح، أتت رائحة كريهة من الباخرة الصغيرة الحجم البدينة المربوطة في المرساة، والمائلة قليلًا على أحد جانبَيها ويتدلَّى من صاريها الأمامي علَم العزل الأصفر.

قال الرجل الهَرِم الذي كان ساندًا على مجدافه: «مستعد أن أدفع مليون دولار لأعرف سبب مجيئهم.»

قال الشاب الذي كان يجلس في المؤخرة: «فقط من أجل هذا البلد يا أبي. أليست أرض الفرص؟»

قال الرجل الهَرِم: «لا أعرف سوى شيء واحد. عندما كنت صبيًّا، كان الهمج الأيرلنديون يأتون في الربيع مع أول أسراب سمك الشاد … الآن لا يوجد شاد، وهؤلاء الناس، الرب يعلم من أين أتَوا.»

«إنها أرض الفرص.»

جلس شاب ذو وجه بيضوي، وعينين قاسيتين، وأنف نحيف مجعد على كرسي دوار، واضعًا قدمَيه على مكتبه الجديد المصنوع من خشب الماهوجني. كانت بشرته شاحبة، وكانت شفتاه مُتجهِّمتَين قليلًا. تلوَّى على الكرسي الدوَّار وهو يشاهد الخُدوش الصغيرة التي كان يُحدِثها حذاؤه على القشرة الخشبية. اللعنة، لا أهتم. ثم نهض فجأةً مُصدِرًا صَيحة الدوران، وطَرَق على ركبته بقبضته المقفولة. صاح قائلًا: «النتائج. جلست لمدة ثلاثة أشهر أحك مؤخرتي على الكرسي الدوَّار … ما الفائدة من اجتياز كلية الحقوق والتسجيل في النقابة إن لم يستطع المرء العثور على أحد يُطبِّق عليه ما تعلَّمه؟ عبس ناظرًا للنقش الذهبي عبر الباب ذي النافذة الزجاجية.»

نيودلاب جرويج

محامٍ

نيودلاب، إنه اسم من ويلز. نهض واقفًا. أقرأ تلك اللافتة اللعينة معكوسةً كل يوم منذ ثلاثة أشهر. سأُصاب بالجنون. سأخرج وأتناول الغداء.

فرد صدريته وأزال عن حذائه بعض ذرَّات الغبار بمنديل، ثم قبض وجهه بتعبير عن الإنهاك الشديد، وهُرع خارجًا من المكتب، مهرولًا على الدرج وخرج إلى شارع ميدن لين. أمام مطعم اللحوم، رأى عنوانًا في طبعة خاصة لإحدى الصحف باللون الوردي: «إزاحة اليابانيين من موكدين». أخذ بالصحيفة وطواها أسفل ذراعه أثناء مروره عبر الباب المتأرجح. جلس إلى إحدى الطاولات وقرأ بعناية قائمة الطعام. يجب ألَّا أُبذِّر في الإنفاق حاليًّا. «يمكنك أيها النادل أن تجلب لي لحمًا مسلوقًا على طريقة نيو إنجلاند، وشريحةً من فطيرة التفاح، وقهوة.» كتب النادل ذو الأنف الطويل الطلب في قُصاصة الورق التي معه، ناظرًا إليها جانبًا بعبوس ينم عن اهتمام … ذلك هو غداء محامٍ لا عمل له. تنحنح بالدوين وفرد الصحيفة … لا بد أن هذا سيُنشِّط السندات الروسية بعض الشيء. زيارة المحاربين القُدامى للرئيس … «حادث آخر في مسارات الجادة الحادية عشرة». أُصيب بائع الحليب إصابةً بالغة. مرحى، يمكنني أن أرفع قضية تعويض صغيرةً بارعة من هذا الحادث.

أُصيب أوجاستس ماك نيل، ٢٥٣ غرب، شارع ٤، الذي يعمل على عربة حليب لصالح شركة إكسلسيور ديري، إصابةً بالغة في وقت مبكِّر من صباح اليوم عندما ارتدَّ قطار شحن على قضبان سكة حديد نيويورك سنترال …

يجب أن يقاضي السكةَ الحديدية. بالتأكيد يجب أن أجد هذا الرجل وأجعله يقاضي السكة الحديدية … لم يستعِد وعيه بعد … ربما قد مات. في تلك الحالة يمكن لزوجته أن تقاضيهم وتطلب تعويضًا أكبر … سأذهب إلى المستشفى بعد ظهيرة اليوم … وأتقدَّم على أيٍّ من هؤلاء المخادعين. تناول قضمةً من الخبز تناولَ العازِمِ على الأمر ومضغها بحيوية. بالطبع لا، سأذهب إلى المنزل وأرى ما إذا كان لديه زوجة أو أم أو أحد من هذا القبيل، وأقول لها: معذرةً يا سيدة ماك نيل إن كنت أقتحم عليكِ ابتلاءكِ العميق، ولكنني أُجري تحقيقًا في هذه اللحظة … أجل، أنا مُوَكَّل من أصحاب مصالح مرموقين … ارتشفَ ما تبقَّى من قهوته ودفع الحساب.

ركب الترام من برودواي مُردِّدًا ٢٥٣ غرب، شارع ٤، مرارًا وتكرارًا. ثم سار غربًا بمحاذاة شارع ٤، متجنِّبًا واشنطن سكوير. نشرت الأشجار أفرعها الأرجوانية الهشة في سماء بلون الحمام؛ فتوهَّجت المنازل الكبيرة النوافذ في الجهة المقابلة مزدهرةً بلون وردي برَّاق وغير مبالية. إنه المكان المثالي لإقامة محامٍ له باع كبير في الممارسة التقليدية للمهنة. حسنًا، سنرى. عَبَر الجادة السادسة واتَّبع الشارع إلى طريق ويست سايد القذر، حيث فاحت رائحة الإسطبلات وامتلأت الأرصفة بقطع النُّفايات والأطفال الزاحفة. لا يمكنه تخيُّل العيش هنا وسط الأيرلنديين والأجانب الوضعاء، حثالة الكون. عند المنزل رقم ٢٥٣، كانت هناك عدة أجراس غير مُعلَّمة. وكانت هناك امرأة بأكمام مطوية ذات نقشة مربعة على ذراعَين على شكل النقانق تُخرج ممسحةً رمادية من النافذة.

«أيمكنكِ أن تخبريني ما إذا كان أوجاستس ماك نيل يعيش هنا؟»

«إنه يرقد في المستشفى. إنني على يقين من هذا.»

«حسنًا. وهل له أي أقارب يعيشون هنا؟»

«وما الذي تريده منهم؟»

«إنه أمر يتعلَّق بالعمل بعض الشيء.»

«اصعد إلى الطابق العُلوي، وستجد زوجته هناك، ولكنها على الأرجح لن تستطيع مقابلتك … المسكينة قلقة للغاية على زوجها، وقد تزوَّجا من ١٨ شهرًا فقط.»

كانت على الدرج علامات من آثار أقدام موحلة، وكانت منثورةً عليه هنا وهناك الفضلاتُ التي تتساقط من صناديق القُمامة. بالأعلى، وجد بابًا دُهِن حديثًا باللون الأخضر الداكن، وطرَقه.

أتى صوت فتاة جعله يشعر برعشة بسيطة: «مَن هناك؟» لا بد أنها شابة.

«هل السيدة ماك نيل هنا؟»

أتى صوت الفتاة الطروب مرةً أخرى: «نعم. ما الأمر؟»

«إنه أمر يتعلَّق بالعمل بخصوص حادثة السيد ماك نيل.»

«هل الأمر يتعلَّق بالحادثة؟» انفتح الباب بهزات حذرة بسيطة. كان لها أنف وذقن حادَّين وأبيضَين بياض اللؤلؤ، وكومة من شعر مُجعَّد بُني ضارب إلى الحمرة انسدل في تجعُّدات بسيطة مستوية حول جبهتها العالية الصغيرة. حدَّقت فيه بعينَيها الرماديتَين والحادتَين.

«هل لي أن أتحدَّث إليكِ لدقيقة بشأن حادثة السيد ماك نيل؟ هناك أمور قانونية مُعيَّنة متعلِّقة بالحادثة أشعر أنه من واجبي أن أعلمكِ بها … بالمناسبة، أتمنَّى أن يكون في حال أفضل.»

«أوه، أجل لقد استعاد وعيه.»

«هل يمكنني الدخول؟ فالأمر يطول شرحه.»

«أظن أنه يمكنك.» انبسطت شفتاها المتجهِّمتان في ابتسامة مائلة. «لا أظن أنك ستأكلني.»

«لا، صدقًا لن أفعل.» أصدر ضحكةً مضطربة من حلقه.

قادَته إلى غرفة الجلوس المعتمة. «لن أرفع الستائر كي لا ترى الفوضى التي تعلو كل شيء.»

«اسمحي لي أن أُعرِّفكِ بنفسي يا سيدة ماك نيل … جورج بالدوين، مكتبي في ٨٨ شارع ميدن لين … كما ترَين فأنا متخصِّص في مثل هذه القضايا … اختصارًا للأمر … كان زوجكِ مُجهَدًا، وكاد موظفو سكة حديد نيويورك سنترال المذنبون، أو الذين يُحتمَل فيهم الإهمال الإجرامي، أن يودوا بحياته. هذه حادثة كافية لرفع قضية ضد السكة الحديدية. لديَّ ما يدفعني للاعتقاد بأن شركة إكسلسيور ديري ستطالب بالتعويض عن الخسائر المتكبَّدة: الحصان، والعربة، وغيرها …»

«أتعني أنك تظن أن جاس سيحصل على تعويضٍ لنفسه على الأرجح؟»

«بالضبط.»

«كم يمكنه أن يجني في رأيك؟»

«حسنًا، يعتمد ذلك على مدى سوء إصابته، وعلى موقف المحكمة، وربما على مهارة المحامي … أظن أن ١٠ آلاف دولار ستكون مبلغًا معتدلًا.»

«وهل لا تطلب مالًا لنفسك؟»

«نادرًا ما تُدفع أتعاب المحامي حتى تصل القضية إلى نتيجة ناجحة.»

«وأنت محامٍ، أصدقًا؟ تبدو صغيرًا بعض الشيء على أن تكون محاميًا.»

ومضت عيناها الرماديتان في عينَيه. وضحك كلاهما. شعر بفورة دافئة غير مبرَّرة تسري في جسده.

«أنا محامٍ بالرغم من ذلك. وأنا متخصِّص في مثل هذا النوع من القضايا. وقد حصلت لتوي يوم الثلاثاء الماضي على ستة آلاف دولار لعميل ركله حصان في سباق تناوب الأحصنة أثناء ركضه في الحلقة … في تلك اللحظة تمامًا كما قد تعلمين هناك هوجة كبيرة تطالب بسحب جميع التراخيص على مسارات الجادة الحادية عشرة … أظن أن هذا وقت مناسب للغاية.»

«أخبرني، هل تتكلَّم دائمًا هكذا أم أن هذه فقط طريقتك في العمل؟»

أرجع رأسه إلى الوراء وضحك.

«جاس المسكين الهَرِم، دائمًا ما كنت أقول إنه محظوظ.»

زحف خافتًا إلى الغرفة عويل طفل عبر الجدار الفاصل.

«ما هذا؟»

«إنها الطفلة … البائسة الصغيرة لا تفعل شيئًا سوى الصراخ.»

«ألديكم أطفال إذن يا سيدة ماك نيل؟» أثلجت الفكرة صدره بطريقة ما.

«واحدة فقط … ماذا تتوقَّع؟»

«هل زوجكِ في مستشفى الطوارئ؟»

«أجل، أعتقد أنهم سيسمحون لك برؤيته ما دام الأمر يتعلَّق بالعمل. إنه يئن أنينًا مروِّعًا.»

«فقط لو تمكَّنت من العثور على بعض الشهود الجيدين.»

«لقد رأى مايك دوهينى كل شيء … إنه يعمل في الشرطة. وهو صديق مُقرَّب لجاس.»

«وربي لقد أصبح لدينا قضية بكل ما تحمله الكلمة من معنًى … وستُسوَّى دون اللجوء إلى المحاكم … سأنطلق إلى المستشفى.»

جاء وابل جديد من البكاء من الغرفة الأخرى.

همست، مقطِّبة جبينها: «أوه، تلك الطفلة المزعجة. يمكننا استغلال المال جيدًا يا سيد بالدوين …»

«حسنًا، يجب أن أذهب.» التقط قبعته. «وبالطبع سأبذل أقصى ما في وسعي في هذه القضية. هل يمكنني أن أمرَّ عليكِ وأخبركِ بالتقدم المُحرَز في القضية من وقت لآخر؟»

«أتمنَّى أن تفعل ذلك.»

عندما تصافحا عند الباب، لم يبدُ أنه يريد ترك يدها. فتورَّد وجهها.

وقالت بصلابة مصطنعة: «حسنًا، وداعًا وشكرًا جزيلًا على زيارتك.»

ترنَّح بالدوين متخبِّطًا وهو ينزل الدرج. تدفَّقت الدماء في رأسه. أجمل فتاة رأيتها في حياتي. شرعَت الثلوج في التساقط بالخارج. وكانت ندفات الثلج كمداعبات مختلسة باردة على وجنتَيه الساخنتَين.

•••

كانت السماء فوق سنترال بارك مرقَّطةً بسُحب ذات ذيول مدبَّبة صغيرة كحقل من الدجاج الأبيض.

«اسمعي يا أليس، لنَسلُك هذا المسار الصغير.»

«ولكن يا إلين لقد قال لي أبي أن أذهب من المدرسة مباشرةً إلى المنزل.»

«جبانة!»

«ولكن يا إلين، هؤلاء الخاطفون المروِّعون …»

«قلت لكِ لا تدعيني إلين بعد الآن.»

«حسنًا يا إلين، إلين خادمة زنبق أستالوت.»

كانت إلين ترتدي فستانها الجديد ذا النقشة المربعة على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي. وكانت أليس ترتدي نظارةً وكانت ساقاها نحيفتَين كدبابيس الشعر.

«جبانة!»

«هناك رجال مرعبون يجلسون على ذلك المقعد. هيا يا إلين الجميلة، لنذهب إلى المنزل.»

«أنا لا أخاف منهم. يمكنني أن أطير كبيتر بان إن أردت.»

«ولماذا لا تفعلين ذلك؟»

«لا أريد الآن.»

بدأت أليس تتذمَّر. «أوه يا إلين، أظن أنكِ خبيثة … هيا إلى المنزل يا إلين.»

«لا، سأذهب للتنزُّه في سنترال بارك.»

نزلت إلين الدرج. وقفت أليس لدقيقة على الدرجة العليا ضابطةً توازنها على قدم واحدة أولًا ثم على الأخرى.

صاحت إلين: «جبانة، جبانة، جبانة!»

فرت أليس منتحبة. «سأخبر أمكِ.»

سارت إلين في المسار الأسفلتي وسط الجنبات راكلةً أصابع قدمَيها في الهواء.

في ثوبها ذي النقشة المربَّعة على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي الذي أحضرته لها والدتها من محل هيرن، سارت إلين في المسار الأسفلتي راكلةً أصابع قدمَيها في الهواء. كانت تضع دبوس زينة ذا شوك فضي على كتف الفستان الجديد ذي النقشة المربَّعة على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي الذي أحضرته لها والدتها من محل هيرن. إلين عروس لاميرمور ستتزوَّج. «المخطوبة». أنشد مزمار القربة الاسكتلندي وسط محصول الشيلم. كان للرجل الجالس على المقعد رُقعة فوق عينه. رقعة سوداء على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي. رقعة سوداء على طراز الفوج الملكي الاسكتلندي. الخاطف من الفوج الملكي الاسكتلندي، وسط الشجيرات ذات الحفيف يُبقي الخاطفون على زي الفوج الملكي الاسكتلندي. لا تركل أصابع قدمَي إلين في الهواء. إلين مذعورة من الخاطف من الفوج الملكي الاسكتلندي، إنه رجل ضخم ذو رائحة كريهة من الفوج الملكي الاسكتلندي ويضع رُقعةً فوق عينه. تخاف أن تركض. حكَّت قدمَيها الثقيلتَين على الأسفلت وهي تحاول الركض مُسرِعة. تخاف أن تلتفت. الخاطف من الفوج الملكي الاسكتلندي خلفها مباشرة. عندما أصل إلى عمود الإنارة، سأركض إلى المربية التي تحمل الطفل، وعندما أصل إلى المربية التي تحمل الطفل، سأركض إلى الشجرة الكبيرة، وعندما أصل إلى الشجرة الكبيرة … آه، أنا متعبة للغاية … سأنفذ إلى داخل شارع سنترال بارك ويست ثم مباشرةً إلى المنزل. كانت خائفةً أن تلتفت. ركضت وهي تشعر بوخزة في جانبها. ركضت حتى أصبح مذاق فمها كعُملة البنس المعدنية.

سألتها جلوريا درايتون، التي كانت تنط الحبل خارج منزل عائلة نوريلاند: «لمَ تجرين يا إيلي؟»

قالت إلين لاهثة: «لأنني أريد ذلك.»

•••

صبغ ضوء الغسق النبيذي اللون ستائر الموسلين متسلِّلًا إلى العَتمة الزرقاء للغرفة. جلسا إلى كلا جانبَي الطاولة. ومن إناء النرجس الذي كان لا يزال ملفوفًا بمنديل ورقي، لمعت زهور نجمية الشكل بوميض فوسفوري خافت، باعثةً رائحة ترابية رطبة تداخلت مع عطر لاذِع غير فوَّاح.

«لطفٌ منك أن أحضرت لي هذه يا سيد بالدوين. سآخذها لجاس في المستشفى غدًا.»

«أرجوكِ لا تدعيني بهذا الاسم.»

«ولكني لا أحب الاسم جورج.»

«لا يهمني ذلك؛ فأنا أحب اسمكِ يا نيللي.»

وقف ينظر إليها، وقد التفَّت أثقال معطَّرة حول ذراعَيه. وتدلَّت يداه كقفازَين فارغَين. كانت عيناها سوداوَين، وقد اتسعتا، وامتدَّت شفتاها تجاهه في الناحية الأخرى من الزهور. انتزعت يدَيها لأعلى لتغطِّي وجهها. وكانت ذراعه حول كتفَيها النحيلتَين الصغيرتَين.

«ولكن صدقًا يا جورج، يجب أن نكون حذرين. يجب ألَّا تأتي هنا كثيرًا. فلا أريد أن يشرع جميع الشمطاوات في المنزل في الحديث عنا.»

«لا تقلقي من ذلك … يجب ألَّا نقلق من أي شيء.»

«لقد كنت أتصرَّف كالمجنونة في هذا الأسبوع الأخير … يجب أن أكف عن ذلك.»

«أتظنين أنني كنت أتصرَّف على نحو طبيعي؟ أُقسم لكِ يا نيللي أنني لم أفعل شيئًا كهذا من قبل. فأنا لست من هذا النوع من الرجال.»

أظهرت أسنانها المتساوية ضاحكة. «أوه، لا يمكن معرفة حقيقة الرجل.»

«ولكن إن لم يكن ثمة شيء رائع وفريد بيننا، أتظنين أنني كنت سأُلاحقك بهذه الطريقة؟ لم أشعر بالحب تجاه أحد غيركِ يا نيللي.»

«هذه مزحة جيدة.»

«ولكنها الحقيقة … لم أستمتع بشيء كهذا من قبل. فقد عملت بجهد جهيد لاجتياز كلية الحقوق، وغير ذلك من الأمور لدرجة أنني لم يكن لديَّ وقت للتعرُّف إلى الفتيات.»

«إذن أنت تعوِّض عن وقتك الضائع.»

«أوه يا نيللي، لا تقولي ذلك.»

«ولكن صدقًا يا جورج، يجب أن أقطع هذه العلاقة. ماذا سنفعل عندما يخرج جاس من المستشفى؟ وأنا أُهمل في رعاية الطفلة وفي كل شيء.»

«اللعنة، لا أهتم بما سيحدث … أوه يا نيللي.» أدار وجهها تجاهه. التصقا متأرجحَين، وقد تشابك فماهما بشوق مُتَّقد.

«انتبه، كاد المصباح أن يسقط علينا.»

«يا إلهي، أنتِ رائعة يا نيللي.» تهاوى رأسها على صدره، وكان بإمكانه أن يشعر بسخونة شعرها الهابط في جميع أنحاء جسده. كان الظلام دامسًا. والتفَّت ثعابين من ضوءٍ من مصباح الشارع مخضرَّةً حولهما. نظرت عيناها لأعلى إلى عينَيه السوداوَين في هيبة وذعر.

همس بصوت مرتجف خافت: «لنذهب يا نيللي إلى الغرفة الأخرى.»

«الطفلة هناك بالداخل.»

تباعدا بأيادٍ باردة يتبادلان النظرات. «تعالَ وساعدني. سأُحرِّك المهد بالداخل هنا … انتبه ألَّا توقظها وإلا فستنفجر في الصراخ.» خرج صوتها بطقطقةٍ مبحوحة.

كانت الطفلة نائمة، ووجهها الطري الصغير منكمشًا على نفسه بشدة، وقبضتاها الورديتان الدقيقتان مطبقتين على الغطاء.

قال بضحكة مكتومة مصطنعة: «تبدو سعيدة.»

«ألَا يمكنك أن تبقى هادئًا … اخلع حذاءك … فكفى الناس سماع قرع حذاء رجالي بالأعلى هنا … ما كنت لأفعل هذا يا جورج، ولكني لا أستطيع التحمُّل …»

تلمَّس طريقه إليها في الظلام. جثم فوقها بطيش لاهثةً أنفاسه لهثًا جنونيًّا عميقًا، وهو يقول: «يا حبيبتي …»

•••

«إنك تتلاعب بنا يا صاحب القدم المسطحة …»

«كلا، صدقًا، أقسم بقبر أمي أنها الحقيقة … خط عرض ٣٧ في ١٢ غربًا … اذهبوا هناك وانظروا … رسَونا على تلك الجزيرة بقارب الضابط الثاني، وعندما غرق قارب إليوت بي سيمكينز كان هناك أربعة من الذكور و٤٧ من الإناث بما في ذلك النساء والأطفال. ألم أكن أنا مَن أخبر الصحفي بكل شيء عن الحادث، وقد ظهر الخبر في جميع صُحف يوم الأحد؟»

«ولكن يا صاحب القدم المسطحة، كيف أخرجوك من هناك؟»

«أقول لكم حملوني على نقالة، وإلا فأنا كاذب أحول. ويمكنكم أن تنعتوني بالوغد إن لم أكن قد غرقت، إذ نزلت للأسفل منحنيًا كقارب إليوت بي القديم.»

رجعت الرءوس للوراء على الأعناق السميكة مطلقةً وابلات من الضحك، وكانت الكئوس يُدق بها على الطاولة المستديرة ذات العلامات الدائرية، وكانت الأفخاذ ترن بالصفعات، والمرافق تخزُّ في الضلوع.

«وكم كان من الرجال في القارب؟»

«ستة بمن فيهم السيد دوركينز الضابط الثاني.»

«سبعة وأربعة يساوي أحد عشر … يا للهول … أربعة وثلاثة على أحد عشر من النساء للفرد … لقد كانت جزيرةً رائعة.»

«متى تُغادرُ العبَّارةُ التالية؟»

«يُفضَّل أن نتناول شرابًا آخر لذلك … أنت يا شارلي، فلتملأ الكئوس.»

سحب إميل كونغو من مرفقه. بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «تعالَ للخارج لحظة، لديَّ شيء لأخبرك به.» كانت عينا كونغو دامعتَين، وقد تبع إميل مترنِّحًا إلى منضدة الحانة الخارجية. بالفرنسية: «أوه أيها الصغير الغامض.»

«اسمع، عليَّ أن أذهب للقاء صديقة.»

«أوه، هذا ما يقلقك، أليس كذلك؟ لطالما كنت أقول إنك رجل حكيم يا إميل.»

بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «انظر، هذا عنواني في ورقة في حال نسيته: ٩٤٥ ويست ٢٢. يمكنك المجيء والنوم هناك إن لم تكن ثملًا للغاية، ولا تجلب أي أصدقاء، أو نساء، أو أي شيء. أنا على وفاق مع صاحبة المنزل، ولا أريد أن أُفسد علاقتي بها … أتفهمني؟»

بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «ولكني أريدك أن تأتي إلى حفل رائع … فلتحتفل قليلًا، بحق السماء! …»

«عليَّ أن أعمل في الصباح.»

«ولكني معي راتب ثمانية أشهر في جيبي …»

«على كل حال، ائتِني غدًا في حوالي الساعة السادسة. سأنتظرك.»

سدَّد كونغو بصقةً من اللُّعاب في المبصقة بركن الحانة، ورجع عابسًا إلى الغرفة الداخلية، قائلًا بالفرنسية: «إنك تُزعجني، كما تعلم، بأخلاقك.»

«اجلس يا عزيزي كونغو، سيُغنِّي بارني أغنية «الوغد ملك إنجلترا».»

قفز إميل في عربة ترام وتوجَّه إلى الحي السكني. في شارع ١٨، ترجَّل وسار غربًا إلى الجادة الثامنة. وبعد بابَين من الناصية، كان هناك متجر صغير. فوق إحدى نافذتَيه، كان مكتوبًا بالفرنسية «حلوى»، وفوق الأخرى «أطعمة مستوردة وجاهزة». وفي وسط الباب الزجاجي، كُتب بأحرف المينا البيضاء «إميل ريجو، أطايب المائدة الرفيعة المستوى». دخل إميل. وصلصل الجرس على الباب. كانت امرأة سوداء وبدينة ذات شعر أسود فوق فمها تنعس خلف طاولة البيع. خلع إميل قبعته. بالفرنسية: «مساء الخير مدام ريجو.» نظرت جافلةً لأعلى، ثم أظهرت ابتسامتها العميقة غمازتَين.

قالت بنبرة بوردولية مدوِّية بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «حسنًا، هكذا تنسى أصدقاءك. قلت لنفسي هذا الأسبوع إن السيد لوستيك ينسى أصدقاءه.»

«لم يَعُد لديَّ وقت نهائيًّا.»

«الكثير من العمل والكثير من المال، أليس كذلك؟» عندما ضحكت، اهتزَّ كتفاها وثدياها الكبيران أسفل صَدرِيتها الزرقاء الضيقة.

غمز إميل بإحدى عينَيه. «كان يمكن أن يصبح الأمر أسوأ … ولكني سئمت الانتظار … إنه عمل مُرهق للغاية، ولا أحد ينتبه لنادل.»

«إنك رجل طموح يا سيد لوستيك.»

بالفرنسية: «ماذا تريد؟» تورَّد وجهه، وقال بخجل: «اسمي إميل.»

أدارت السيدة ريجو عينَيها نحو السقف. «كان ذلك اسم زوجي المتوفَّى. لقد اعتدت ذلك الاسمَ.» تنهَّدت بعمق.

«وكيف حال العمل؟»

بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «ليس بالجيد ولا بالسيئ … لقد زاد سعر لحم الهام مجدَّدًا.»

«إن عصابة شيكاغو من تفعل ذلك … إنها ذات نفوذ في مجال لحوم الخنزير؛ فهذه هي طريقة جني الأموال.»

لاحظ إميل أن عينَي السيدة ريجو السوداوَين الجاحظتَين تتفحَّصان عينَيه. «لقد استمتعت بغنائكِ كثيرًا في المرة الماضية … وفكَّرت فيه كثيرًا … تُحسِّن الموسيقى مزاج المرء، أليس كذلك؟» تمدَّدت غمازات السيدة ريجو أكثر فأكثر عندما ابتسمت. «لم يكن زوجي المسكين يستمتع بالغناء … ذلك آلمني كثيرًا.»

«ألَا يمكنكِ أن تُغنِّي لي شيئًا هذا المساء؟»

«هل تريد مني ذلك يا إميل؟ … ولكن ليس هناك أحد ليقوم على خدمة الزبائن.»

«سأُهرع إليهم عندما نسمع الجرس، إن كنتِ تسمحين لي بذلك.»

بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «جيد جدًّا … لقد تعلَّمت أغنيةً أمريكية جديدة … إنها أغنية جميلة.»

أغلقت السيدة ريجو الصندوق بمفتاح من حُزمة المفاتيح التي تُعلِّقها في نطاقها، ومرَّت عبر الباب الزجاجي في آخر المتجر. تبعها إميل وقبعته في يده.

«أعطني قبعتك يا إميل؟»

«أوه، لا تشغلي بالكِ.»

كانت الغرفة بالخلف عبارةً عن بهوٍ صغير ذي ورق حائط أصفر ومزهر، وستائر قديمة للباب باللون الوردي الضارب إلى لون السلمون، وأسفل حامل الغاز الذي تتدلَّى منه حُزمة من الكريستالات، كان هناك بيانو وفوقه صور فوتوغرافية. أصدر كرسي البيانو صريرًا عندما جلست عليه السيدة ريجو. مرَّرت أصابعها فوق المفاتيح. جلس إميل بعناية فوق كرسي ذي حافة حادة بجوار البيانو ووضع قُبَّعته فوق ركبتَيه، ودفع بوجهه للأمام مائلًا في اتجاه وجهها كي تتمكَّن أثناء عزفها من رؤيته بطرف عينها. شرعت مدام ريجو في الغناء:

ما هي إلا طائر في قفص من ذهب
مظهر تُسَر برؤيته
قد تظن أنها سعيدة
وخالية من الهم
ولكنها ليست كذلك برغم ما يبدو عليها …

صلصل الجرس على باب المتجر عاليًا.

صاح إميل بالفرنسية مُهرَعًا إليه: «تفضَّل.»

قالت فتاة صغيرة ذات ضفيرتَين: «نصف رطل من شرائح نقانق البالوني.» مرَّر إميل السكين عبر راحة يده وقطَّع النقانق بعناية. مشى على أطراف أصابعه إلى البهو ووضع المال على حافة البيانو. كانت مدام ريجو لا تزال تغنِّي:

تجد الأمر مؤسفًا عندما تفكِّر في حياتها الضائعة
إذ لا يمكنها الزواج مِمَّن هو في مثل عمرها
لقد بيع الجمال
مقابل ذهب رجل هَرِم
إنها طائر في قفص من ذهب.

وقف بود على ناصية شارعَي برودواي ويست وفرانكلين يأكل الفول السوداني من كيسٍ في يده. كان وقت الظهيرة وقد ذهب جميع ماله. وكانت السكة الحديدية المرتفعة ترعد فوق رأسه. تمايلت ذرات الغبار أمام عينَيه في ضوء الشمس ذي الخطوط العارضة. احتار في الطريق الذي يسلكه، فتهجَّى أسماء الشوارع للمرة الثالثة. مرَّت عربة سوداء لامعة يجرها حصانان لامعا الأرداف، وانعطفت بحِدة في الناصية أمامه كاشطةً الأرض المرصوفة بالحصى بعجلاتها الحمراء اللامعة التي توقَّفت فجأة. كانت هناك حقيبةٌ جلدية صفراء على المقعد بجوار السائق. وداخل المقصورة، تحدَّث رجلٌ يرتدي قبعةً دربيةً بنيةً بصوتٍ عالٍ إلى امرأة ترتدي فرو ريش رماديًّا حول عنقها وتضع ريش نعام رماديًّا في قبعتها. انتزع الرجل مسدسًا لأعلى إلى فمه. رجع الحصانان للخلف وغاصا في وسط حشد مندفع. اخترقهم رجال الشرطة. وأخرجوا الرجل على حجرٍ حافة الرصيف وهو يتقيَّأ دمًا، ورأسه متدلٍّ ومرتخٍ فوق صدريته ذات النقشة المربَّعة. وقفت المرأة طويلةً وبيضاء بجواره تلف فرو الريش في يدَيها، وكان ريش النعام الرمادي في قبعتها يتألَّق في ضوء الشمس المخطَّط أسفل السكة الحديدية المرتفعة.

«كانت زوجته تصطحبه إلى أوروبا … سيُبحر قارب «داتشلاند» في الثانية عشرة. ودَّعتُه للأبد. كان على متن «داتشلاند» في الثانية عشرة. لقد ودَّعني للأبد.»

وخز شرطي بود في معدته بمرفقه، قائلًا: «اجلس بعيدًا عن الطريق يا عزيزي.» ارتجفت ركبتاه. ذهب إلى حافة الحشد وسار بعيدًا مرتجفًا. وقد قشَّر في حركة تلقائية حبةً من الفول السوداني ووضعها في فمه. يُفضَّل أن أترك البقية للمساء. لفَّ فم الكيس وأسقطه في جيبه.

•••

أسفل المصباح القوسي ذي الرذاذ الوردي والبنفسجي أخضر الحواف، مرَّ الرجل الذي يرتدي بذلةً بنقشة مربعة بفتاتَين. كانت الفتاة الأقرب له ذات وجه بيضوي وشفتَين ممتلئتَين، وكانت عيناها حادتَين كطعنات سكين. سار بضع خطوات، ثم استدار وتبعهما متلمِّسًا ربطة عنقه الجديدة المصنوعة من الساتان. حرص على تثبيت دبوس الألماس على شكل حَدوة حصان في مكانه. مرَّ بهما مجدَّدًا. كانت قد أدارت وجهها. ربما كانت … كلا، لا يمكنه القول. من حسن حظه أنه كان معه ٥٠ دولارًا. جلس على المقعد وتركهما تمران عليه. لن يرتكب خطأً ويعرِّض نفسه لإلقاء القبض عليه. لم تلحظاه. تبعهما في الطريق وخارجه إلى سنترال بارك. كان قلبه يخفق. سأُعطي مليون دولار ﻟ … معذرة، ألستِ الآنسة أندرسون؟ أسرعت الفتاتان الخطوات. وقد غابتا عن ناظرَيه وسط الحشد العابر لدوَّار كولومبوس. أسرع في برودواي مارًّا بمربع سكني تلو الآخر. بحث عن تلك الممتلئة الشفتَين، ذات العينَين الحادتَين كطعنات السكين. حملق في وجوه الفتيات يمنةً ويسرة. أين عساها أن تكون قد ذهبت؟ أسرع الخطى في برودواي.

•••

كانت إلين تجلس بجوار والدها على مقعد في باتري بارك. كانت تنظر إلى حذائها البني ذي الأزرار. لامس شعاع من ضوء الشمس حافة الحذاء وكل زر من أزراره الصغيرة المستديرة عندما هزَّت قدمَيها من أسفل ظل فستانها.

كان إد تاتشر يقول: «فكِّري كيف سيكون الذهاب للخارج على إحدى هذه العبَّارات. تخيَّلي عبور المحيط الأطلسي العظيم في سبعة أيام.»

«ولكن يا أبي، ما الذي يفعله الناس طوال ذلك الوقت في البحر؟»

«لا أعلم … أظنهم يسيرون في أنحاء المركب ويلعبون لعبة الورق ويقرءون وما إلى ذلك. ثم يرقصون.»

«يرقصون في المركب! أظن أنه سيكون رقصًا بشعًا على رءوس أصابع أقدامهم.» قهقهت إلين.

«يفعلون ذلك في العبَّارات الحديثة الكبيرة.»

«لماذا لا نذهب يا أبي؟»

«ربما سنذهب يومًا ما عندما أدَّخر المال.»

«أوه يا أبي، فلتسرع وتدَّخر الكثير من المال. والدة ووالد أليس فون يذهبان إلى جبال وايت كل صيف، ولكنهما سيذهبان في الصيف القادم إلى الخارج.»

نظر إد تاتشر عبر الخليج الذي امتدَّ في أُفق أزرق رقراق إلى داخل السديم البني في اتجاه المضيق. وقف تمثال الحرية ضبابيًّا كالسائر أثناء نومه وسط الدخان الملتف لزوارق القطر، وصواري المراكب الشراعية، والكتل المتثاقلة الفجة لعبَّارات الطوب وصنادل الرمال. أشرقت الشمس الساطعة في كل مكان بضوئها الأبيض على شراع أو على هيكل علوي لباخرة. وتنقَّلت العبَّارات الحمراء جيئةً وذهابًا.

«لماذا نحن لسنا أغنياء يا أبي؟»

«هناك الكثير من الناس أكثر فقرًا منا يا إيلي … لن تُحبِّي أباك أكثر من ذلك لو كان غنيًّا، أليس كذلك؟»

«أوه، نعم، كنت سأُحبك أكثر يا أبي.»

ضحك تاتشر. «حسنًا، قد يتحقَّق ذلك في يومٍ من الأيام … ما رأيكِ في شركة إدوارد سي تاتشر آند كو، محاسبون معتمدون؟»

قفزت إلين واقفة، وقالت: «أوه، انظر إلى ذلك القارب الكبير … ذلك هو القارب الذي أُريد أن أُسافر فيه.»

نعق بجوارهما صوت بلكنة كوكنية: «ذلك قارب «هارابيك».»

قال تاتشر: «أوه، هل هذا صحيح؟»

بحماس أوضح رجل مهترئ الحال مُزعج الصوت كان يجلس على مقعدٍ بجوارهما: «بالفعل يا سيدي، أجمل سفينة في البحر يا سيدي.» سُحبت لأسفل قبعة ذات حافة مكسورة من الجلد اللامع فوق وجهٍ شاحبٍ صغيرٍ خرجت منه رائحةٌ ضعيفة من شراب الويسكي. «نعم يا سيدي، إنه «هارابيك» يا سيدي.»

«يبدو أنه قارب كبير وجيِّد بالتأكيد.»

«إنه أحد أكبر القوارب يا سيدي. لقد أبحرت على متنه أكثر من مرة، وعلى متن «ماجيستيك» و«تيوتونيك» أيضًا يا سيدي، كلاهما قوارب جيدة، رغم أنني أُصاب بدُوار البحر بعض الشيء كما قد ترى. لقد عُينت مُضيفًا في شركتَي هينمان ووايت ستار لاين البحريتَين طوال الثلاثين عامًا الماضية، والآن أنزلوني من على متن سفنهم في عمري هذا.»

«أوه، كلنا يعاني سوء الحظ أحيانًا.»

«وبعضنا يعاني منه طوال الوقت يا سيدي … كان بإمكاني أن أكون رجلًا سعيدًا يا سيدي لو كان باستطاعتي الرجوع إلى بلدي القديم. هذا ليس مكانًا لرجل هَرِم، إنه للشباب والأقوياء، هذا كل ما هنالك.» مدَّ يده الملتوية من أثر النقرس عبر الخليج وأشار إلى التمثال. «انظر إليها، إنها تنظر صوب إنجلترا.»

همست إلين مرتجفةً في أذن والدها: «هيا لنذهب يا أبي. هذا الرجل لا يعجبني.»

«حسنًا، سنذهب ونلقي نظرةً على أُسود البحر … يومًا سعيدًا.»

«ألَا يمكنك أن تعطيَني ثمن كوبٍ من القهوة يا سيدي؟ فأنا مُعدِم للغاية.» وضع تاتشر دايم في يده المتسخة المكوَّرة كمقبض الباب.

«ولكن يا أبي، لقد قالت أمي لا تدع الناس أبدًا يتحدَّثون معك في الشارع، وأن تنادي على الشرطة إذا فعلوا ذلك، وأن تجري بأقصى سرعة من أولئك الخاطفين المرعبين.»

«لا خطر عليَّ من الخطف يا إيلي. ذلك فقط للفتيات الصغيرات.»

«هل سأستطيع أن أتحدَّث مع الناس في الشارع هكذا عندما أكبر؟»

«لا يا عزيزتي، لن تستطيعي فعل ذلك.»

«هل كنت سأستطيع لو كنتُ ولدًا؟»

«أظن ذلك.»

توقَّفا أمام حوض الأسماك لدقيقة للنظر أسفل الخليج. كانت العبَّارة ذات زورق القَطر المنبعث منها دخان أبيض أمام كلا قوسَيها محاذيةً لهما وتعلو فوق العبَّارات والقوارب. دارت النوارس وصاحت. وألقت الشمس بنورها السمني على الأسطح العُليا للقوارب وعلى الأقماع الصفراء الكبيرة ذات الأغطية السوداء. من الصاري الأمامي، رفرف شريط من الأعلام الصغيرة متبخترًا أمام السماء الأردوازية.

«وهناك الكثير من الأشخاص الآتين من الخارج على ذلك القارب، أليس كذلك يا أبي؟»

«انظري، يمكنكِ أن ترَي … أسطح القوارب سوداء من كثرة الناس.»

•••

مشى بود كوربينينج عبر شارع ٥٣ من إيست ريفر، ليجد نفسه واقفًا بجوار كومة من الفحم على الرصيف. على الجهة الأخرى من كومة الفحم، كانت هناك امرأة بشعر أشيب ترتدي قميصًا نسائيًّا مكشكشًا من الدانتيل وتضع مشبكًا ورديًّا كبيرًا ذا نقش بارز على انحناء صدرها المرتفع، وكانت تنظر إلى ذقنه غير المحلوق وإلى معصمَيه اللذَين تدلَّيا عاريَين من أسفل كمَّي معطفه الباليَين. ثم سمع نفسه يتحدَّث، قائلًا:

«ألَا تظنين أنه بإمكاني أن أحمل لكِ هذه الشِّحنة من الفحم على ظهري يا سيدتي؟» حوَّل بود ثِقَله من إحدى قدمَيه إلى الأخرى.

قالت المرأة بصوت أجش: «هذا تمامًا ما يمكنك فعله. فقد تركه رجل الفحم البائس هذا الصباح وقال إنه سيعود لإدخاله. أظنه سكيرًا كبقيتهم. تُرى، هل يمكنني الوثوق بك في المنزل.»

قال بود متلعثمًا: «أنا من شمال البلاد يا سيدتي.»

«من أي منطقة؟»

«من كوبرستاون.»

«هممم … أنا من بافلو. إن هذه بالتأكيد مدينة لكل مَن ينتمي إلى أي مكان آخر … حسنًا، ربما تكون متورِّطًا في إحدى السرقات، ولكن ما باليد حيلة فأنا أريد وضع ذلك الفحم بالداخل … ادخل أيها الرجل، سأُعطيك مجرفةً وسَلة وإذا لم توقع أيًّا من الفحم في المدخل أو على أرضية المطبخ؛ لأن عاملة التنظيف غادرت لتوها … بالطبع لا بد أن يأتي الفحم عندما تكون الأرضية نظيفة … فسأعطيك دولارًا.»

عندما أحضر الدفعة الأولى، كانت تجول في أنحاء المطبخ. جعلته معدته الجوفاء المتشققة جوعًا يتأرجح دائخًا، ولكنه كان سعيدًا بالعمل بدلًا من جر قدمَيه بلا نهاية على الأرصفة وعبر الشوارع متحاشيًا العربات والترام.

سألته عندما رجع لاهثًا بالسلة الفارغة: «كيف لم تحصل على عمل منتظم أيها الرجل؟»

«أظن لأنني لم أستوعب طرق المدينة بعد. فقد وُلدت ونشأت في مزرعة.»

«ولماذا أردت أن تأتي إلى هذه المدينة المروِّعة؟»

«لم أتمكَّن من البقاء في المزرعة أكثر من ذلك.»

«من المُفزع ما سيئول إليه هذا البلد إذا ترك جميعُ الشباب اليافعون الأقوياء المزارعَ وأتَوا إلى المدن.»

«ظننت أنه بإمكاني أن أحصل على عمل في الميناء يا سيدتي، ولكنهم يتخلَّصون من الرجال على أرصفة الميناء. ربما يمكنني أن أعمل بحَّارًا، ولكن لا أحد يريد عديمي الخبرة … لم أتناول شيئًا منذ يومَين.»

«كم هذا فظيع … لمَ لم تذهب أيها الرجل المسكين إلى أحد مقار الإرساليات المسيحية أو شيء من هذا القبيل؟»

عندما أدخل بود الدفعة الأخيرة، وجد طبقًا من اليخنة الباردة في ركن طاولة المطبخ، ونصف رغيف من الخبز الفاسد، وكوبًا من الحليب الذي كان حامضًا بعض الشيء. أكل على عجل وبالكاد كان يمضغ الطعام، ووضع آخر قطعة من الخبز الفاسد في جيبه.

«حسنًا، هل استمتعت بغدائك البسيط؟»

«شكرًا يا سيدتي.» أومأ وفمه ممتلئ بالطعام.

«إذن، يمكنك الذهاب الآن وشكرًا جزيلًا لك.» وضعت ربع دولار في يده. نظر بود بعينَين طارِفتَين للربع دولار في راحة يده.

«ولكنكِ يا سيدتي قلتِ إنكِ ستعطينني دولارًا.»

«لم أقل مطلقًا شيئًا كهذا. غير معقول … سأُحضر زوجي إذا لم تخرج من هنا فورًا. في الواقع، أنا أُفكِّر في إبلاغ الشرطة لأن …»

وضع بود الربع دولار في جيبه دون أن ينبس ببنت شفة وجرَّ قدمَيه خارجًا.

سمع نخير المرأة وهو يغلق الباب خلفه، قائلةً: «يا له من جحود!»

كانت التقلُّصات تزداد حدةً في معدته. توجَّه شرقًا مرةً أخرى، وسار على طول المربعات السكنية إلى النهر وقبضتاه ضاغطتان بشدةٍ أسفل أضلعه. توقَّع أن يتقيَّأ في أي لحظة. لن يفيدني في شيء أن أتقيَّأ. عندما وصل إلى نهاية الشارع، استلقى على منحدر نُفايات رمادي بجوار الرصيف. تسرَّبت رائحة جُنجُلات ثخينة كالعصيدة وحلوة من مصنع الجِعَة خلفه المدوي صوته. اشتعل ضوء غروب الشمس في نوافذ المصانع على جانب لونج آيلند، وومض في فتحات إضاءة زوارق القَطر، واستلقى في مساحةٍ شاسعةٍ ملوَّنةٍ باللونَين الأصفر والبرتقالي المتجعِّدَين فوق المياه المتسارعة الخضراء المائلة إلى اللون البني المتوهِّج فوق الأشرعة المنحنية لمركب شراعي كان يكتسح المد ببطء داخلًا إلى مضيق هيل جيت. خفَّت حدة الألم بداخله. اشتعل شيء وتوهَّج عبر جسده كتسرُّب ضوء غروب الشمس. جلس. شكرًا للرب، لن أتقيَّأ.

•••

الطقس رطب وقارس البرودة على متن السفينة ساعة الفجر. عندما تضع يدك على سور السفينة تجده مُبلَّلًا. كانت رائحة مياه الميناء البنية كرائحة أحواض الغسيل، وكانت تُحفحف بلُطف ضاربةً جوانب الباخرة. يفتح البحارة مخبأ السفينة. تُسمع صلصلة سلاسل وجلَبة من رافعة محرِّك البخار حيث يجلس رجل طويل يرتدي رداء عمل سروالي أزرق عند ذراع تحريك، وسط غيمة من الغبار تحيط بوجهه كما لو كان يُحيطه بمنشفة مُبلَّلة.

«هل نحن حقًّا في الرابع من يوليو يا أمي؟»

أمسكت يد الأم بيده جيدًا وسحبته نزولًا على الدرج إلى قاعة الطعام. كان المضيفون يُكدِّسون الأمتعة عند أرضية الدرَج.

«هل نحن حقًّا في الرابع من يوليو يا أمي؟»

«نعم يا عزيزي، للأسف إنه كذلك … أيام الإجازات هي وقت سيئ للوصول فيه. لا أزال أظن أنهم سيكونون جميعًا بالأسفل للقائنا.»

كانت ترتدي رداءها الصوفي الأزرق، وغطاء رأس بنيًّا طويلًا ومجرجرًا، والحيوان البني الصغير ذا العينَين الحمراوَين والأسنان التي هي أسنان حقيقية حول عنقها. تفوح منه رائحة كرات العُثَّة، وتفوح أيضًا رائحةُ خزانات الملابس المنثور بها المناديل الورقية. الجو حار في قاعة الطعام، حيث تصدر المحركات هديرًا هادئًا خلف حاجز السفينة. يومئ رأسه فوق كوب الحليب الساخن الملوَّن بالكاد بالقهوة. تُسمَع جلجلة ثلاثة أجراس. يطقطق رأسه لأعلى مجفلًا. تُطنطن الأطباق وتُسكب القهوة مع اهتزاز السفينة. ثم صوت ارتطامٍ وصلصلة سلاسل المرساة ثم هدوء تدريجي. نهضت الأم لتنظر عبر فتحة الإضاءة.

«حسنًا، سيكون يومًا جيدًا في النهاية. أظن أن الشمس ستتوهَّج عبر الضباب … فكِّر في الأمر يا عزيزي، سنصل إلى الوطن أخيرًا. هنا وُلدت يا عزيزي.»

«وهذا هو الرابع من يوليو.»

«أسوأ حظ … حسنًا يا جيمي، يجب أن تعدني أن تبقى على ممشى السفينة وأن تكون حذرًا. فلم تنتهِ أمك من حزم أمتعتها. عدني أنك لن تفعل شيئًا سيئًا.»

«أعدك بذلك.»

مدَّ أصابع قدمَيه على العتبة النحاسية لباب غرفة التدخين وتمدَّد على سطح السفينة، ثم استيقظ فاركًا ركبته العارية تمامًا في الوقت الذي يمكنه فيه بالضبط رؤية الشمس تخترق السُّحب القاتمة وتُرشرش دفقًا أحمر من السطوع على صفحة الماء الأسمنتية اللون. كان لبيللي نمش على أذنَيه كهؤلاء الذين يدعمون روزفلت وليس باركر كأمهم، وكان يلوِّح بعلم حريري في حجم منديل للرجال في زوارق القَطر الصفراء والبيضاء.

سأل عن الشمس كما لو كان يملكها، قائلًا: «هل رأيت الشمس تُشرق؟»

يقول جيمس وهو يبتعد بعد أن ألقى نظرةً متراخية على العَلَم الحريري: «بالتأكيد رأيتها من فتحة الإضاءة.» ثمة أرض قريبة على الجهة الأخرى، أقرب لضفة خضراء ذات أشجار ومنازل بيضاء شاسعة ذات أسطح رمادية.

يسأل الرجل الذي يرتدي التويد وذو الشارب المتدلي: «حسنًا يا صغيري، ما شعورك بالرجوع إلى الوطن؟»

«هل نيويورك من هنا؟» أشار جيمي فوق الماء الراكد الذي يُحد بضوء الشمس.

«نعم بالتأكيد يا صغيري، خلف ضفة الضباب هناك تقع مانهاتن.»

«رجاءً يا سيدي، ما ذلك؟»

«تلك هي نيويورك … كما تعلم فنيويورك تقع على جزيرة مانهاتن.»

«هل هي فعلًا على جزيرة؟»

«حسنًا، ما رأيك في ولد لا يعلم أن مدينته تقع على جزيرة؟»

تلمع أسنان الرجل ذي التويد الذهبي عندما يضحك بملء فمه. يتمشَّى جيمي في أنحاء السفينة، راكلًا عقبَيه وتعتمل المشاعر في داخله، تقع نيويورك على جزيرة.

تقول السيدة من الجنوب: «تبدو سعيدًا بالذهاب إلى الوطن أيها الولد الصغير.»

«أوه، أنا كذلك بالفعل، بوسعي النزول وتقبيل الأرض.»

«حسنًا، ذلك شعور وطني جميل … أنا سعيدة لسماعك تقول ذلك.»

يثور جيمي ويجول. ويُردِّد في رأسه كالمُواء: سأُقبِّل الأرض، سأُقبِّل الأرض. ويدور على سطح السفينة.

«ذلك القارب ذو العلم الأصفر هو قارب العزل.» يتحدَّث رجل بدين يرتدي خواتم في أصابعه — وهو يهودي — إلى الرجل ذي التويد. «حسنًا، يستأنف القارب السير … كان ذلك سريعًا، أليس كذلك؟»

«سنصل بحلول وقت الإفطار، إفطار أمريكي، إفطار منزلي جيد قديم.»

ظهرت الأم على سطح السفينة يُرفرف غطاء رأسها البني. «ها هو معطفك يا جيمي، عليك أن تحمله.»

«هل يمكنني أن أُخرج ذلك العَلَم يا أمي؟»

«أي عَلَم؟»

«عَلَم أمريكا الحريري.»

«لا يا عزيزي، نضعه جانبًا.»

«أرجوكِ، أريد هذا العلم لأننا في الرابع من يوليو وهكذا.»

«لا تعوِ يا جيمي. عندما تقول أمك لا فهذا يعني لا.»

تلسعه الدموع؛ فيتجرَّع غُصةً في حلقه وينظر لأعلى إليها.

«جيمي، لقد وضعناه جانبًا في حزام الشالات وأنا متعبة جدًّا من جَلَبة تلك الحقائب اللعينة.»

«لكن بيللي جون يمسك واحدًا.»

«انظر يا عزيزي، هناك أشياء تفوتك … ها هو هناك تمثال الحرية.» تقف امرأة خضراء طويلة ترتدي معطفًا على جزيرة رافعةً يدها.

«ما ذلك الذي في يدها؟»

«تلك شعلة يا عزيزي … فالحرية تُنوِّر العالم … وهناك جزيرة جوفرنرز على الجهة الأخرى. هناك حيث الأشجار … وانظر، ذلك هو جسر بروكلين … إنه منظر جميل. وانظر إلى جميع أحواض السفن … تلك هي باتري بارك … والصواري والسفن … وها هي قمة كنيسة ترينيتي ومبنى بوليتزر.» … يُصفِّر خُوَار القارب البخاري، والعبَّارات حمراء ومؤكسدة كالبط الذي يُزبد الماء الأبيض، وتُدفع قافلة كاملة من السيارات على صندل يدفعه زورق قَطر داخله، ما يخرج عنه نفثات بخار كالقطن متساوية الحجم جميعها. يدا جيمي باردتان ويئز من داخله.

«يجب ألَّا تتحمَّس أكثر من اللازم يا عزيزي. انزل وانظر إذا ما كانت أمك قد تركت أي شيء في مقصورتنا الخاصة.»

شريط من الماء تعلوه الشظايا، وصناديق البقالة، وقشر البرتقال، وأوراق الملفوف يضيق أكثر فأكثر بين القارب والحوض. تلمع فرقة للآلات النحاسية في ضوء الشمس، حيث قبعاتهم البيضاء ووجوههم الحمراء المتعرِّقة، عازفين أغنية «يانكي دودل». «هذا للسفير، ذلك الرجل الطويل الذي لا يغادر مقصورته مطلقًا.» انزل المعبر المائل، وانتبه ألَّا تزل. «ذهب يانكي دودل إلى المدينة» … وجه أسود لامع، وعينان مكحَّلتان برَّاقتان، وأسنان مصقولة بيضاء. «أجل سيدتي، أجل سيدتي» … «يغرز ريشةً في قبعته، ويسمِّيها طرازًا ماكارونيًّا» … «نتمتَّع بحرية التنقل في الميناء.» يُظهر ضابط يرتدي زيًّا أزرق رأسًا أصلع منحنيًا لأسفل … «تومتي بوم بوم بوم بوم … كعك وسكاكر» …

«ها هي الخالة إيميلي والجميع … كم لطيف أنكِ أتيتِ يا عزيزتي!»

«أنا هنا منذ الساعة السادسة يا عزيزتي!»

«يا إلهي، كم كَبِر!»

الفساتين الخفيفة، ولمعة دبابيس الزينة، والوجوه التي حُشرت في وجه جيمي، ورائحة الورود وسيجار زوج الخالة.

«يا له من رجل صغير بحق! تعالَ يا سيدي، دعني أنظر إليك.»

«وداعًا إذن يا سيدة هيرف. إن جئت يومًا في طريقنا … جيمي، لم أرَك تُقبِّل الأرض أيها الشاب.»

«أوه، إنه مَرِح جدًّا، ناضج للغاية … يا له من طفل ناضج!»

سيارة الأجرة رائحتها عفنة، وتنطلق مدمدِمةً ومترنِّحةً في جادة واسعة يحوم فيها الغبار، عبر شوارع من الطوب كريهة الرائحة ومليئة بالأطفال المتسخين الصارخين، وفي أثناء كل ذلك يُصدر صندوق السيارة صريرًا.

«أمي حبيبتي، لا تظنين أنها ستنقلب، أليس كذلك؟»

تضحك مميلةً رأسها إلى أحد جوانبه، وتقول: «لا يا عزيزي.» وجنتاها ورديتان وعيناها تتلألآن تحت غطاء رأسها البني.

«أوه يا أمي.» يقف ويقبِّلها على ذقنها. «يا لهم من أناسٍ كثيرين يا أمي!»

«ذلك لأننا في الرابع من يوليو.»

«ماذا يفعل ذلك الرجل؟»

«لقد كان يشرب يا عزيزي للأسف.»

من منصةٍ صغيرةٍ ملفوفةٍ بالأعلام، يُلقي خطابًا رجلٌ ذو شارب أبيض وحمالات حمراء صغيرة فوق قميصه الذي لا يرتدي أي شيء فوقه. «إنه خطيب الرابع من يوليو … إنه يقرأ إعلان الاستقلال.»

«لمَ؟»

«لأننا في الرابع من يوليو.»

بووم! … تلك مفرقعة مدفعية. «ربما أخاف ذلك الولد اللعين الحصان … الرابع من يوليو يا عزيزي هو اليوم الذي وُقِّع فيه إعلان الاستقلال في عام ١٧٧٦ في أثناء حرب الاستقلال. لقد قُتل جدي الأكبر هارلاند في تلك الحرب.»

يُصلصِل فوق الرءوس قطار صغير مرح ذو محرِّك أخضر.

«تلك هي السكة الحديدية المرتفعة … وانظر هذا هو شارع ٢٣ … ومبنى فلاتيرون.»

انعطفت سيارة الأجرة بحِدة إلى ميدان يغمره ضوء الشمس، وتفوح منه رائحة الأسفلت والحشود، وتوقَّفت أمام باب طويل حيث يركض للأمام رجال ملوَّنون بأزرار نحاسية.

«وها نحن عند فندق الجادة الخامسة.»

يُباع الآيس كريم في متجر العم جيف، وهو ذو مذاق خوخي حلو وبارد في سقف الفم. من العجيب أنك بعد مغادرة السفينة لا يزال بإمكانك الشعور بحركتها. تذوب قطع الغسق الزرقاء في شوارع شمال المدينة المربعة. تفيض الصواريخ برَّاقةً في الغسق الأزرق، وتتساقط الكرات الملونة، وألعاب بنجال النارية، ويضيف زوج الخالة جيف دولاب نار على الشجرة خارج باب المنزل ويوقده بسيجاره. أما الشموع الرومانية، فعليك حملها. «انتبه وأدِر وجهك أيها الصبي.» ارتطام ساخن ودمدمة في يديك، وكرات على شكل بيض تتصاعد، حمراء، وصفراء، وخضراء، ورائحة البارود والأوراق الموقَّعة. في الشارع المضطرم الجياش يجلجل جرس، يجلجل أقرب، ويجلجل أسرع. تضرب حوافر الخيول المجلودة الأرض فتقدح شرارات، وتمر سيارة إطفاء مدوية، مستديرةً عند الناصية حمراء، ومصدرةً دخانًا، ونحاسية. «لا بد أن الحريق في برودواي.» تمر بعدها الشاحنة ذات الخطاف والسلم وخيول رئيس الإطفاء السريعة الخطوات. يليها طنطنة سيارة إسعاف. «نال شخص جزاءه.»

الصندوق فارغ، يدخل تحت أظافرك مسحوق رملي ونُشارة، وعندما تتحسَّسه تجده فارغًا، كلا بل ما زالت تمر بعض سيارات الإطفاء الخشبية الصغيرة. سيارات إطفاء حقيقية. «يجب تحريكها يا زوج الخالة جيف. أوه، إنها الأفضل يا زوج الخالة جيف.» وضعوا بها المفرقعات وانطلقوا بأزيز سريعًا على أسفلت الشارع الأملس، مدفوعين بأَذناب مشتعلة ذات ريش براقة، تاركة دخانًا خلف بعض سيارات الإطفاء الحقيقية.

اندسَّ في السرير في غرفة طويلة ومقبضة، بعينَين ساخنتَين وساقَين يؤلمان. قالت الأم عندما دسَّته في السرير، منحنيةً فوقه بفستان حريري لامع ذي كمَّين متدليَين: «إنها آلام النمو يا عزيزي.»

«ما هذه الرُّقعة السوداء الصغيرة على وجهكِ يا أمي؟»

ضحكت وأصدرت قلادتُها طنينًا خفيفًا، قائلة: «تلك لتجعلني أبدو أجمل.»

استلقى هناك محاطًا بخزانات ملابس طويلة. أتى من الخارج صوت العجلات والزعيق، وصوت فرقة موسيقية من بعيد من حين لآخر. آلمته ساقاه كما لو كانتا ستسقطان عنه، وعندما أغلق عينَيه كان يُسرع عبر ظُلمة تتسع تدريجيًّا على سيارة إطفاء حمراء تقذف بالنيران والشرار والكرات الملونة من ذيلها المُؤزز.

•••

اخترقت شمس يوليو الفتحات في الستائر البالية على نوافذ المكتب. جلس جاس ماك نيل في مقعد موريس وعكازاه بين ركبتَيه. كان وجهه أبيض ومنتفخًا من جرَّاء الشهور التي قضاها في المستشفى. كانت نيللي ترتدي قبعةً قشية عليها زهور خشخاش حمراء، وكانت تؤرجح نفسها جيئةً وذهابًا على الكرسي المتحرِّك عند المكتب.

«الأفضل أن تأتي وتجلسي بجواري يا نيللي. فذلك المحامي قد لا يعجبه أن يجدكِ تجلسين إلى مكتبه.»

جعَّدت أنفها لأعلى ونهضت واقفة. «أؤكِّد لك يا جاس أنك خائف حد الموت.»

«كنتِ ستخافين أنتِ أيضًا لو كنتِ قد خضتِ ما خضتُه مع طبيب السكة الحديدية الذي أخذ يطعن فيَّ ويحدق فيَّ كما لو كنت سجينًا، والطبيب اليهودي الذي أحضره المحامي وقال لي إنني أصبحت معاقًا تمامًا. يا إلهي، أنا متعب للغاية. ولكني أظن أنه كان يكذب.»

«افعل ما قلته لك يا جاس. أبقِ فمك مغلقًا واترك الرجال الآخرين يتحدَّثون.»

«بالتأكيد لن أنبس ببنت شفة.»

وقفت نيللي خلف كرسيه وبدأت تدلِّك شعره المجعَّد للخلف بعيدًا عن جبهته.

«سيكون من الرائع العودة للمنزل يا نيللي، حيث أطباقك الشهية وما شابه.» وضع ذراعه حول خصرها وجذبها إليه.

«ربما لن يتعيَّن عليَّ أن أطهو أو أن أقوم بأي من تلك الأعمال فيما بعد.»

«أظن أنني لا يعجبني الأمر … يا إلهي، لا أدري كيف سنعيش إن لم نحصل على ذلك المال.»

«أوه، سيساعدنا أبي كما كان يفعل.»

«أرجو من الرب ألَّا أظل مريضًا طوال حياتي.»

دخل جورج بالدوين صافعًا الباب الزجاجي خلفه. وقف ناظرًا إلى الرجل وزوجته لبرهة ويداه في جيبَيه. ثم قال بابتسامة هادئة:

«حسنًا، لقد أُنجز الأمر يا سادة. بمجرد توقيع التنازل عن أي دعاوى أخرى، سيُسلِّمني محامي السكة الحديدية شيكًا بقيمة ١٢٥٠٠ دولار أمريكي. ذلك هو ما اتفقنا عليه أخيرًا.»

قال جاس لاهثًا: «١٢ ألف دولار أمريكي. ١٢٥٠٠. انتظر قليلًا … أمسك بعكازيَّ حتى أخرج وأُدهس مرةً أخرى … انتظر حتى أُخبر ماك جلليكادي بالأمر. سيُلقي الهَرِم بنفسه أمام قطار» … تماسك جاس، وأردف: «حسنًا يا سيد بالدوين إنك رجل عظيم … أليس كذلك يا نيللي؟»

«هو كذلك بالتأكيد.»

حاول بالدوين أن يمنع نفسه من النظر في عينَيها مباشرة. كانت تسري في جسده دفقات من الاهتياج، ممَّا أصاب ساقَيه بالوَهَن والارتجاف.

قال جاس: «سأُخبرك بما سنفعله. أقترح أن نأخذ جميعًا عربة أجرة بحصان إلى ماك جلليكادي الهَرِم، وأن نتناول شرابًا في الحانة الخاصة … على حسابي. إنني بحاجةٍ لبعض الشراب ليُبهجني. هيا يا نيللي.»

قال بالدوين: «ليتني أستطيع، ولكني للأسف لا يمكنني ذلك. فأنا مشغول للغاية هذه الأيام. ولكن أعطني توقيعك فحسب قبل أن تذهب، وسأُحضر لك الشيك غدًا … وقِّع هنا … وهنا.»

استند ماك نيل فوق المكتب وكان ينحني فوق الأوراق. شعر بالدوين أن نيللي كانت تحاول أن تعطيه إشارة. أبقى نظره منخفضًا. بعد أن غادرا، لاحظ محفظتها، محفظة صغيرة من الجلد بها زهرة بانسي مصهورة على ظهرها، على ركن المكتب. سمع نقرًا على الباب الزجاجي. ففتح.

قالت بتلهُّف وصوت منخفض: «لمَ لم تنظر إليَّ؟»

«كيف يمكنني ذلك وهو هنا؟» أعطاها المحفظة.

وضعت ذراعَيها حول عنقه ولثمت فمه بشدة. «ماذا سنفعل؟ هل آتي بعد ظهيرة اليوم؟ سيسكر جاس حتى يمرض مجدَّدًا الآن وقد خرج من المستشفى.»

«لا يا نيللي لا أستطيع … إنه العمل … العمل … إنني مشغول في كل دقيقة.»

«أوه أجل أنت كذلك … حسنًا، فلتفعل ما شئت.» صفقت الباب.

جلس بالدوين إلى المكتب وهو يعض أنامله دون أن يرى كومة الأوراق التي كان يحدِّق إليها. نهض واقفًا وقال بصوتٍ عالٍ: «يجب أن أنهي الأمر.» مشى جيئةً وذهابًا في أرجاء المكتب الضيق ناظرًا إلى أرفف كتب القانون والرزنامة التي تحوي صورة فتاة من لوحات جيبسون فوق الهاتف ومربع ضوء الشمس المليء بالغبار بجوار النافذة. نظر إلى ساعة يده. إنه وقت الغداء. مرَّر راحة يده على جبهته وتوجَّه إلى الهاتف.

«ريكتور ١٢٣٧ … هل السيد ساندبورن هنا؟ … ما رأيك يا فيل أن آتي وأصطحبك لتناول الغداء؟ هل تريد الذهاب الآن؟ … بالتأكيد … لقد سوَّيتها يا فيل، حصلت لبائع الحليب على تعويضه. أنا في غاية السعادة. وبِناءً عليه سأُرتِّب لك غداءً لائقًا … وداعًا حتى نلتقي …»

ترك الهاتف مبتسمًا، وأخذ قُبَّعته من فوق شماعتها، ووضعها بعناية على رأسه أمام المرآة الصغيرة فوق الشماعة، وأسرع نازلًا الدرج.

في آخر مجموعة من درجات السلم، قابل السيد إيميري صاحب شركة إيميري آند إيميري الكائن مكتبها في الدور الأول.

«حسنًا يا سيد بالدوين، كيف الحال؟» كان السيد إيميري صاحب شركة إيميري آند إيميري رجلًا ذا وجه مسطَّح، وشعر وحاجبَين أشيبَين، وفك مثلَّث الشكل. «جيد جدًّا يا سيدي، جيد جدًّا.»

«سمعت أنك تؤدِّي أداءً عظيمًا … أمر ذو صلة بسكة حديد نيويورك سنترال.»

«أوه، سوَّيتها أنا وسيمسبري بعيدًا عن أروقة المحاكم.»

قال السيد إيميري صاحب شركة إيميري آند إيميري: «هممم.»

عندما كانا على وشك أن يتفارقا في الشارع، قال السيد إيميري فجأة: «أتود تناول العشاء معي ومع زوجتي في وقت ما؟»

«بالطبع … سأكون مسرورًا.»

«أود معرفة شيء من الرفاق الأصغر سنًّا في المهنة التي تفهم فيها … حسنًا، سأُعلِمك … في مساء أحد أيام الأسبوع القادم. ستكون فرصة لنتبادل أطراف الحديث.»

صافح بالدوين يده ذات العروق الزرقاء وأسورة كُم مُنَشَّاة لامعة، ورحل في شارع مايدن لين مسرعًا بخطًى رشيقة عبر حشد الظهيرة. في شارع بيرل ستريت، صعد درجًا أسود مرتفعًا تفوح منه رائحة القهوة المحمَّصة، وقرع بابًا ذا زجاج مصنفر.

صاح صوت جَهْوري: «ادخل.» تقدَّم لمقابلته رجل أسمر يبدو نحيفًا في قميصه الذي لا يرتدي أي شيء فوقه. «مرحبًا يا جورج، ظننتك لن تأتي أبدًا. إنني أتضوَّر جوعًا.»

«سأُرتِّب لك يا فيل أفضل غداء تأكله في حياتك.»

«حسنًا، أنتظر ذلك.»

ارتدى فيل ساندبورن معطفه، وأفرغ الرماد من غليونه على ركن طاولة الرسم، وصاح في مكتب داخلي مظلم: «سأذهب لتناول الطعام يا سيد سبيكير.»

ردَّ صوت كالماعز مرتجف من المكتب الداخلي: «حسنًا، اذهب.»

سأل بالدوين وهما يخرجان من الباب: «كيف حال الرجل الهَرِم؟»

«سبيكير الهَرِم؟ متوعِّك في آخر رمقه … ولكنه على ذلك الحال لسنوات، تلك الروح المسكينة العجوز. صدقًا يا جورج سأشعر بهوان عظيم إذا حدث أي شيء للهَرِم المسكين سبيكير … إنه الرجل الأمين الوحيد في مدينة نيويورك، وهو رجل ذو رأس حكيم أيضًا.»

قال بالدوين: «إنه لم يفعل به شيئًا كبيرًا قط.»

«ربما سيفعل … ربما سيفعل … يجب أن ترى خططه للمباني الفولاذية بالكامل. لديه فكرة لبناء ناطحات سحاب المستقبل بالفولاذ والزجاج. وقد كُنَّا نجرِّب مؤخَّرًا البلاط الزجاجي … يا إلهي، ستبهرك بعض خططه … إن له مقولةً عظيمةً عن أحد الأباطرة الرومان الذي قدم إلى روما وقد كانت مبنيةً من الحجارة وتركها وقد بُنيت من الرخام. ويقول إنه وجد نيويورك مبنيةً من الحجارة، وإنه سيتركها وقد بُنيت من الفولاذ … الفولاذ والزجاج. لا بد أن أريك مشروعه لإعادة بناء المدينة. إنه كالحلم.»

جلسا على مقعد موسَّد في ركن المطعم الذي كانت تفوح فيه رائحة شرائح اللحم والشواء. مدَّد ساندبورن ساقَيه أسفل الطاولة.

قال: «يا للروعة، هذه رفاهية.»

قال بالدوين من خلف قائمة الطعام: «دعنا نشرب كوكتيلًا يا فيل. اسمع مني يا فيل، إن السنوات الخمس الأوائل هي الأصعب.»

«لا حاجة للقلق يا جورج؛ فأنت من النوع المنافس … أما أنا فهَرِمٌ بليد.»

«لا أعلم لماذا، يمكنك دائمًا الحصول على وظيفة كمصمم.»

«أعتقد أن ذلك مستقبل جيد، أن أقضي حياتي في ركن طاولة الرسم وبطني مندس بها … عجبًا يا رجل!»

«حسنًا، قد تصبح شركة سبيكير وساندبورن مشهورةً يومًا ما.»

«سيتنقَّل الناس بآلات طائرة في ذلك الوقت وسنكون أنا وأنت مستلقين في قبورنا.»

«فلنشرب نخب الحظ على أي حال.»

«نخب صحتك يا جورج.»

تجرَّعا المارتيني وشرعا في تناول المحار.

«أتساءل أصحيح أن المحار يتحوَّل إلى جلد في المعدة عندما نشرب معه الكحول.»

«لا علم لي … بالمناسبة يا فيل، كيف حالك مع كاتبة الآلة الكاتبة الشابة التي كنت تواعدها؟»

«لقد أنفقتُ الكثير في الطعام والشراب والمسارح على تلك الفتاة الصغيرة … إنها ترهقني … صدقًا تفعل ذلك. إنك رجل حصيف يا جورج لبقائك بعيدًا عن النساء.»

قال بالدوين ببطء وبصق نواة زيتونة في قبضته المغلقة: «ربما.»

•••

كان أول ما سمعاه الصافرة المرتجفة التي أتت من العربة الصغيرة عند الرصيف أمام مدخل العبَّارة. انفصل صبي صغير عن مجموعةٍ من المهاجرين اصطفَّت في مبنى محطة العبَّارات وانطلق إلى العربة الصغيرة.

صاح وهو عائد يركض: «بالتأكيد إنها كمحرِّك بخاري ومليئة بالفول السوداني.»

«ابقَ هنا يا بادريك.»

أردف تيم هالوران الذي قد أتى لملاقاتهما: «وها هي محطة القطارات السريعة، ساوث فيري. شمالًا في هذا الاتجاه مُتنزَّها باتري وبولينج جرين، وشارع وول ستريت، والمنطقة المالية … تقدَّم يا بادريك، عمك تيموثي سيصطحبك إلى خط الجادة التاسعة.»

لم يتبقَّ سوى ثلاثة أشخاص عند منزل العبَّارات: امرأة عجوز ذات منديل أزرق على رأسها، وامرأة شابة تضع شالًا باللون الأحمر الأرجواني، وكانتا تجلسان على كلا طرفَي صندوق كبير محزوم بالحبال ومرصَّع بمسامير نحاسية، ورجل هَرِم بشعرِ ذقن قصير وضارب إلى الاخضرار ووجه ذي خطوط والتواءات كجذر شجرة بلوط ميتة. كانت السيدة العجوز تتأوَّه بعينَين دامعتَين، وتقول بالإيطالية: «أين نحن ذاهبون يا سيدتنا العذراء، يا سيدتنا العذراء؟» كانت المرأة الشابة تفتح خطابًا ناظرةً بعينَين طارِفتَين إلى الكتابة المزخرفة. انتقلت فجأةً للرجل الهَرِم، تعطيه الخطاب وتقول بالإيطالية: «لا أستطيع القراءة.» أخذ يعتصر يدَيه، مُطوِّحًا رأسه، قائلًا مرارًا وتكرارًا شيئًا لم تتمكَّن من فهمه. هزَّت كتفَيها وابتسمت ورجعت إلى الصندوق. كان هناك رجل صقليٌّ ذو سوالف شعر طويلة يتحدَّث إلى المرأة العجوز. أمسك بالصندوق من حبله وسحبه جانبًا إلى عربة نابضية ذات حصان أبيض وقف في الجهة الأخرى من الشارع. تبعت المرأتان الصندوق. مدَّ الصقليُّ يده للمرأة الشابة. وكانت المرأة العجوز لا تزال تُغمغم وتتأوَّه رافعةً نفسها بألمٍ على ظهر العربة. عندما انحنى الصقلي ليقرأ الخطاب، دفع الشابة بكتفه. فتيبَّست مكانها. قال: «حسنًا.» ثم عندما هزَّ اللجامَ على ظهر الحصان، التفت تجاه المرأة العجوز وصاح قائلًا بمزيج من الإيطالية والإنجليزية: «الساعة الخامسة … حسنًا.»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤