الفصل الرابع

القضبان

أخذ زئير القطار يهدأ مع تباطؤ حركته، أحدثت المصدات صخَبًا في كل أركانه. أرخى الرجل قضبان الاقتران. كان مُتيبِّسًا لدرجة أنه لم يكن يستطيع الحركة. كان الظلام حالكًا. زحف خارجًا ببطء، رافعًا نفسه على ركبتَيه، ثم على قدمَيه حتى مال لاهثًا على عربة بضائع. لم يكن هذا جسده؛ إذ كانت عضلاته كالخشب المحطَّم، وعظامه كقضبان ملتوية. سطع مصباحٌ في عينَيه على حين غِرة.

«أنت، اخرج من هنا بسرعة. فمحقِّقو الشركة يطوفون بالساحات.»

«أخبرني يا رجل، هل هذه نيويورك؟»

«أنت محق. ما عليك سوى أن تتبع مصباحي، يمكنك الخروج بمحاذاة الساحل.»

كادت قدماه تزلان عبر الطرق اللامعة الطويلة على شكل حرف v وخطوط المسارات المتصالبة، تعثَّر وسقط فوق حُزمة من قضبان الإشارات. في النهاية، كان يجلس على حافة رصيف ورأسه بين يدَيه. أصدرت المياه بارتطامها بالكومات صوتًا مهدِّئًا كصوت لعق الكلاب. أخرج جريدةً من جيبه وفتح لفافةً بها كتلة من الخبز وشريحة من اللحم ذي الغضاريف. أكلهما جافَّين، وأخذ يمضغ ويمضغ قبل أن يتمكَّن من الشعور بأي نداوة في فمه. ثم نهض متعثِّرًا، مزيلًا الفُتات من فوق ركبتَيه، ونظر حوله. جنوبًا خلف المسارات، كانت السماء الضبابية مُخضَلَّةً بوميض برتقالي.

قال عاليًا بصوت ناعق: «الطريق الأبيض المَرِح. الطريق الأبيض المَرِح.»

عبر النافذة المخطَّطة بمياه الأمطار، كان جيمي هيرف يشاهد حركة المظلات صعودًا وهبوطًا في حركة المرور الحائمة ببطء والمتدفِّقة في برودواي. سُمع نقر على الباب، فقال جيمي: «ادخل»، وعاد إلى النافذة عندما رأى أن النادل لم يكن هو بات. أضاء النادل الأنوار. رأى جيمي انعكاسه في لوح زجاج النافذة، وقد كان رجلًا نحيلًا ذا شعر شائِك، ويحمل عاليًا في إحدى يدَيه صينية العشاء التي كانت الأغطية الفضية عليها مُنسَّقةً كالقِباب. تقدَّم النادل لاهثًا إلى داخل الغرفة جاذبًا خلفه بيده التي لا تحمل شيئًا مَسندًا قابلًا للطَي. نزع المسند، ووضع عليه الصينية وبسط مفرشًا فوق الطاولة المستديرة. فاحت منه رائحة كرائحة مخزن طعام مشحَّم. انتظر جيمي حتى ذهب ليستدير. ثم سار حول الطاولة قالبًا الأغطية الفضية؛ حيث وجد حساءً تعوم فيه أشياء خضراء صغيرة، ولحم حَمَل مشويًّا، وبطاطس مهروسة، ولفتًا مهروسًا، وسبانخ، ولكنه لم يجد حلوى.

«يا أمي.» ناح الصوت ضعيفًا عبر الباب القابل للطي: «نعم يا عزيزي.»

«العشاء جاهز يا أمي العزيزة.»

«ابدأ أنت يا ولدي الحبيب، سألحق بك في الحال …»

«ولكني لا أريد أن أبدأ من دونك يا أمي.»

سار حول الطاولة معدِّلًا أوضاع السكاكين والشوكات. وضع منشفةً فوق ذراعه. كان النادل الرئيسي في مطعم دلمونيكو يرتِّب الطاولة لجراوستارك وملك بوهيميا الأعمى والأمير هنري الملَّاح و…

«مَن تريدين أن تكوني يا أمي، الملكة ماري ملكة اسكتلندا أم ليدي جين جراي؟»

«ولكن كلتَيهما قُطعَ رأسها يا عزيزي … وأنا لا أريد أن يُقطع رأسي.» ارتدت الأم فستان الشاي السلموني اللون. عندما فتحت الباب القابل للطي، فاحت من غرفة النوم رائحة ضعيفة من الكولونيا والأدوية، تجرجرت خلف كُمَّيها الطويلَين المهدَّبَين بالدانتيل. كانت قد وضعت الكثير من البودرة بعض الشيء على وجهها، ولكن شعرها، ذلك الشعر البني البهيج، كان مُصفَّفًا تصفيفًا جميلًا. جلسا متقابلَين، ووضعت صحنًا من الحساء أمامه، رافعةً إياه بين يدَين طويلتَين تظهر منهما العروق الزرقاء.

تناول الحساء الذي كان خفيفًا ولم يكن ساخنًا بما يكفي. «أوه، لقد نسيت الكروتون يا عزيزي.»

«أمي … أمي، لمَ لا تتناولين حساءك؟»

«لا يروق لي تناوله هذا المساء. لم أستطع التفكير فيما أطلب الليلة؛ فرأسي يؤلمني. لا عليك.»

«هل كنتِ تفضِّلين أن تكوني كليوباترا؟ لقد كان لديها شهية رائعة وأكلت كل شيء كان يوضع أمامها كفتاة صغيرة مُطيعة.»

قالت بصوت مرتجف: «حتى اللآلئ … وضعت لؤلؤة في كأس من الخل وشربتها …» مدَّت يدها إليه عبر الطاولة؛ فربت على يدها كالرجال وابتسم. «أنا وأنت فحسب يا ولدي جيمي … حبيبي، ستحب دائمًا أمك، أليس كذلك؟»

«ما الأمر يا أمي العزيزة؟»

«أوه لا شيء، أشعر بشيء غريب هذا المساء … أوه، أنا متعبة جدًّا من عدم شعوري من قبلُ أنني بصحةٍ جيدةٍ حقًّا.»

«ولكن بعد أن أجريتِ عمليتكِ …»

«أوه أجل، بعد أن أجريت عمليتي … هناك يا عزيزي ورقة من الزبد الطازج على حافة النافذة في الحمام … سأضع القليل منه فوق هذا اللفت إذا جلبتها لي … للأسف عليَّ أن أقدِّم شكوى بشأن الطعام مجدَّدًا. لحم الحَمَل هذا ليس حقًّا كما ينبغي أن يكون؛ آمل ألَّا يُمرضنا.»

ركض جيمي عبر الباب القابل للطي وغرفة أمه إلى الممر القصير الذي تفوح منه رائحة كرات العُثَّة وقطع الأقمشة الحريرية المنثورة فوق كرسي، ثم تأرجح الأنبوب المطاطي الأحمر لرشاش المياه وضربه في وجهه عندما فتح باب الحمام، وقد جعلت رائحة الأدوية ضلوعه تنقبض بألم. رفع النافذة الموجودة في طرف حوض الاستحمام. كانت الحافة خشنةً وكانت لُطخ من السُّخَام كالريش تغطِّي الصحن المقلوب ليغطِّي الزبد. وقف برهة محدِّقًا لأسفل في المنور، ومتنفِّسًا عبر فمه لمنع نفسه من استنشاق غاز الفحم المتصاعد من الأفران. كانت أسفله خادمة ترتدي قلنسوةً بيضاء متكئة خارج النافذة وتتحدَّث مع أحد مشغِّلي الأفران الذي وقف ناظرًا لأعلى إليها وذراعاه العاريتان المتسختان معقودتان فوق صدره. مدَّ جيمي أذنَيه كي يسمع ما كانا يقولانه: أن تكون متسخًا وتحمل الفحم طوال اليوم والشحم في شعرك ممتدًّا إلى إبطَيك.

«جيميي!»

«آتٍ يا أمي.» أنزل النافذة بقوة بوجنتَين متورِّدتَين ورجع إلى غرفة الجلوس ببطء حتى يتلاشى التورُّد عن وجهه.

«أتسرح مجدَّدًا يا جيمي. يا عزيزي الحالم الصغير.»

وضع الزبد بجوار صحن أمه وجلس.

«أسرِع وكل لحم الحَمَل بينما لا يزال ساخنًا. لمَ لا تُجرِّب بعضًا من صلصة الخردل الفرنسية عليه؟ ستجعل مذاقه أفضل.»

أحرقت صلصة الخردل لسانه، وأدمعت عينَيه.

سألته الأم ضاحكة: «أهي حارَّة جدًّا؟ يجب أن تتعلَّم أن تحب الأشياء الحارة … كان دومًا يحب الأشياء الحارة.»

«مَن يا أمي؟»

«شخص أحببته كثيرًا.»

لاذا بالصمت. كان بإمكانه أن يسمع صوت مضغه. وسُمعت بعض أصوات صلصلة سيارات الأجرة والترام التي كانت تتلوَّى على نحو متكسِّر عبر النوافذ المغلقة. أخذت أنابيب البخار تطرق وتُهسهس. بالأسفل في المنور، كان رجل الفرن المشحَّم حتى إبطيه يلفظ بكلماتٍ من فمه المتمايل مخاطبًا بالأعلى الخادمة ذات القلنسوة المتيبِّسة، وقد كانت كلماتٍ بذيئة. صلصة الخردل بلون …

«فيمَ تفكِّر؟»

«لم أكن أفكِّر في أي شيء.»

«يجب ألَّا نُخفي أي أسرار عن بعضنا يا عزيزي. تذكَّر أنك مصدر الراحة الوحيد لأمك في هذا العالم.»

«أتساءل عن شعوري لو كنت فقمة، فقمة ميناء صغيرة.»

«أظن أنك ستشعر بالبرد الشديد.»

«ولكنك لن تشعري بذلك … فإناث الفقمات تحميها طبقة من الشحم وبذلك تكون دائمًا دافئةً حتى لو جلست على جبل جليدي. ولكن سيكون من الممتع للغاية العوم في أنحاء البحر حيثما تريدين. إنها تسافر لآلاف الأميال دون توقُّف.»

«ولكني سافرت لآلاف الأميال دون توقُّف، وكذلك فعلت أنت أيضًا.»

«متى؟»

«عندما ذهبنا خارج البلاد ورجعنا.» كانت تضحك عليه بعينَين لامعتَين.

«أوه، ولكن هذا كان في قارب.»

«وعندما اعتدنا الذهاب في جولات بحرية على مركب ماري ستيوارت الشراعية.»

«أوه، أخبريني عن ذلك يا أمي.»

سُمع طرق على الباب. «ادخل.» مدَّ النادل ذو الشعر الشائِك رأسه عبر الباب.

«هل يمكنني التنظيف يا سيدتي؟»

«نعم، وأحضر لي بعضًا من سلطة الفواكه وتأكَّد من أن الفاكهة طازجة … فالطعام سيئ هذا المساء.»

كان النادل يكوِّم الأطباق فوق الصينية لاهثًا. قال: «آسف يا سيدتي.»

«لا بأس، أعلم أنها ليست غلطتك أيها النادل … ماذا ستأخذ يا جيمي؟»

«هل يمكنني أن آخذ مرينج جلاسيه يا أمي؟»

«لا بأس إذا كنت ستُحسن التصرُّف.»

أطلق جيمي صَيحة: «مرحى.»

«يجب ألَّا تصرخ هكذا على الطاولة يا عزيزي.»

«ولكن لا يعنينا شيء عندما نكون نحن الاثنين وحدنا … مرحى إنه المرينج جلاسيه.»

«إن الرجل المحترم يا جيمس يتصرَّف بالطريقة نفسها دائمًا سواء أكان وحده في المنزل أم في براري أفريقيا.»

«مرحى، أتمنَّى لو كُنا في براري أفريقيا.»

«سيكون ذلك مُروِّعًا يا عزيزي.»

«سأصرخ هكذا وأُفزع جميع الأسود والنمور … نعم سأفعل ذلك.»

رجع النادل بصحنَين على الصينية. «معذرةً يا سيدتي ولكن المرينج جلاسيه قد نفد كله … أحضرت للرجل الصغير آيس كريم بالشوكولاتة بدلًا منه.»

«أوه يا أمي.»

«لا عليك يا عزيزي … فقد كانت حلوى دسمةً على أي حال … تناول ذلك وسأسمح لك بالخروج بعد العشاء وشراء بعض الحلوى.»

«رائع.»

«ولكن لا تأكل الآيس كريم على عجل وإلا أُصبت بمغص.»

«لقد فرغتُ من طعامي.»

«التهمته أيها الشقي الصغير … ارتدِ حذاءك المطَّاطي يا عزيزي.»

«ولكنها لا تُمطر على الإطلاق.»

«افعل ما تريده أمك يا عزيزي … رجاءً ألَّا تتأخَّر. أثق أنك سترجع في الحال. أنا لست بحال جيدة بعض الشيء الليلة، وأقلق عندما تكون في الشارع. فهناك مخاطر مروِّعة …»

جلس لارتداء حذائه المطاطي. وبينما كان يُطبِق عليه بإحكام تحت عقبَيه، أتت إليه بدولار. وضعت ذراعها بكمها الحريري الطويل حول كتفه. «أوه يا عزيزي.»

كانت تبكي.

«يجب ألَّا تبكي يا أمي.» ضمَّها ضمًّا شديدًا، وكان بإمكانه أن يشعر في ذراعَيه بضلوع المِشدِّ الذي كانت ترتديه حول خصرها. «سأرجع خلال دقيقة، خلال دقيقة واحدة فقط.»

على الدرج حيث يثبِّت القضيب النحاسي السجادةَ القرمزية الباهتة على كل درجة، خلع جيمي حذاءه المطاطي وحشره في جيبَي معطف المطر الذي كان يرتديه. عندما لامس رأسه الهواء، أسرع عبر شَرَك النظرات المتطفِّلة للفرَّاشين الجالسين على المقعد بجوار المكتب. سأله الفرَّاش الأصغر الأشقر: «أذاهب للتمشية؟» أومأ جيمي بطريقة حكيمة، وتسلل أمام أزرار البواب اللامعة إلى برودواي الذي يملؤه الشغب، وخُطى الأقدام، والوجوه التي تغطِّيها أقنعة الظل عندما ينبثقون من لطخات الضوء الآتية من المتاجر والمصابيح القوسية. مشى سريعًا إلى الشمال مارًّا بفندق آنسونيا. كان يتسكَّع على عتبة الباب رجل ذو حاجبَين أسودَين وسيجار في فمه، ربما كان خاطفًا. ولكن الأشخاص اللطفاء يقيمون في آنسونيا فهو كالفندق الذي نقيم فيه. ثم مرَّ بمكتب برقيات، ومتاجر أطعمة جافة، ومصبغة، ومغسلة، والتي كانت مغسلةً صينية تنبعث منها رائحة بخار غامض ومحترق. أسرع في المشي، فالصينيون خاطفون مروعون. إنهم قُطاع طرق. مرَّ به رجل معه صفيحة من فُرش الكيروسين، كم من الفُرش المليئة بالشحم يلامس كتفه، وتفوح منه رائحة العرق والكيروسين؛ ربما هو أحد المهووسين بإشعال الحرائق. أصابته فكرة المهووس بإشعال الحرائق بالقُشَعريرة. النيران. النيران.

عند متجر هويلر تنبعث رائحة حلوى تضفي ارتياحًا ممزوجة برائحة النيكل والرخام الممسوح جيدًا خارج الباب، وتتصاعد بدفء رائحة طهو الشوكولاتة من الشبكات أسفل النوافذ. وجوه سوداء وبرتقالية من ورق الكريب للهالوين. كاد يدخل ولكنه تذكَّر متجر ميرور على بعد مربعَين سكنيَّين، حيث المحركات البخارية والسيارات الفضية التي يعطونها الأطفال مع الفكة. سأُسرع، على حذاء الدحرجة يستغرق الأمر وقتًا أقل؛ حيث يمكن الهروب من قُطاع الطرق، والسفاحين، ورجال السطو المسلَّح، على حذاء الدحرجة يمكن إطلاق النار من فوق الكتف بسلاح آلي طويل، بينج … يسقط واحد منهم! إنه أسوءُهم، بينج … هناك آخر؛ حذاء الدحرجة هو حذاء دحرجة سحري، مرحى … يمكنه صعود الجدران القرميدية للمنازل، فوق الأسقف، والمداخن المقنطرة، وأعلى مبنى فلاتيرون، والانطلاق عبر كابلات جسر بروكلين.

إنه متجر ميرور للحلوى، هذه المرة دخل دون تردُّد. وقف عند طاولة البيع لوهلة قبل أن يأتيه أحد لتلبية طلبه. قال طالبًا بسرعة: «رطل من الحلوى بستين سنتًا، رطل بمزيج من قشدة الشوكولاتة لو سمحتِ.» إنها سيدة شقراء، حَولاء بعض الشيء، وتنظر إليه بحقد دون أن تجيبه. «أرجوكِ أنا في عجلة من أمري إذا سمحتِ.»

انفجرت فيه قائلة: «حسنًا، كلٌّ في دوره.» فيقف ناظرًا إليها بعينَين طارِفتَين ووجنتَين متوقِّدتَين. ثم تدفع إليه بصندوق ملفوف وفوقه شيك قائلة: «ادفع عند المكتب.» لن أبكي. السيدة عند المكتب ضئيلة الحجم وذات شعر أشيب. تأخذ منه الدولار عبر باب صغير كالأبواب التي تعبر منها الحيوانات الصغيرة في بيت الثدييات الصغيرة. تُصدر آلة تسجيل النقود رنينًا ذا بهجة، كما لو كانت سعيدةً بحصولها على المال. ربع دولار، ودايم، ونيكل، وكأس صغيرة، هل ذلك ٤٠ سنتًا؟ ولكن فقط كأس صغيرة وليس محركًا بخاريًّا أو سيارة. التقطت المال وترك الكأس الصغيرة وأسرع بالصندوق أسفل ذراعه. ستقول أمي إنني تأخَّرت كثيرًا. مشى إلى المنزل ناظرًا أمامه مباشرة، وقد أوجعته خِسَّة السيدة الشقراء.

قال الفرَّاش الأشقر: «ها … كنت بالخارج لشراء الحلوى.» همس جيمي وهو يمر: «سأعطيك بعضًا منها إذا صعدت فيما بعد.» رنَّت القضبان النحاسية عندما ركل أحدها صاعدًا الدرج. خارج الباب ذي لون الشوكولاتة الذي كُتب عليه رقم ٥٠٣ بأحرف مطلية بالأبيض، تذكَّر حذاءه المطَّاطي. وضع الحلوى على الأرض وارتداه فوق حذائه المبلَّل. لحسن الحظ أن أمه لم تكن تنتظره فاتحةً الباب. ربما رأته قادمًا من النافذة.

«أمي.» لم تكن في غرفة الجلوس. ارتعب. لقد خرجت، لقد رحلت بعيدًا. «أمي!»

أتى صوتها ضعيفًا من غرفة النوم: «تعالَ هنا يا عزيزي.»

خلع قبعته ومعطفه وأسرع إلى الغرفة. «ما الأمر يا أمي؟»

«لا شيء يا حبيبي … أشعر بصداع هذا كل ما في الأمر، صداع فظيع … ضَع بعض الكولونيا على منديل وضَعه على رأسي بإحكام، وأرجوك لا تُدخله في عيني يا عزيزي كما فعلتَ في المرة السابقة.»

استلقت على السرير في غطاء محشو سماوي اللون. كان وجهها شاحبًا ومائلًا إلى اللون الأرجواني. كان فستان الشاي الحريري ذو لون السلمون معلَّقًا بارتخاء فوق كرسي، بينما كان المُخَصِّر ملقًى على الأرض في تشابك من شرائط وردية. وضع جيمي المنديل المبلَّل بعناية فوق جبهتها. فاحت الكولونيا برائحة قوية، مخدِّرةً فتحتَي أنفه عندما مال عليها.

جاء صوتها ضعيفًا: «ذلك جيد جدًّا. اتصِل بالخالة إيميلي، ريفيرسايد ٢٤٦٦، واسألها عمَّا إذا كانت تستطيع أن تمر بنا هذا المساء. أريد التحدُّث إليها … أوه، رأسي ينفجر.»

توجَّه إلى الهاتف بقلب يدق بشدة ودموع تغشى عينَيه. جاء صوت الخالة إيميلي سريعًا على غير المتوقع.

صاح: «أمي مريضة بعض الشيء يا خالة إيميلي … تريدكِ أن تزورينا … إنها آتية على الفور يا أمي العزيزة، أليس ذلك جيدًا؟ ستأتي في الحال.» مشى على أطراف أصابعه عائدًا إلى غرفة أمه، والتقط المُخَصِّر وفستان الشاي وعلَّقهما في الخزانة.

جاء صوتها الهزيل: «يا عزيزي، اخلع الدبابيس عن شعري، إنها تؤلم رأسي … أوه يا ولدي الحبيب، أشعر كما لو أن رأسي سينفجر …» مرَّر يده برِفق خلال شعرها البني الذي كان أنعم من فستان الشاي الحريري وانتزع دبابيس الشعر.

«كلا لا تفعل ذلك، إنك تؤلمني.»

«لم أقصد يا أمي.»

أسرعت الخالة إيميلي، نحيلةً ملقيةً بمعطف مطر أزرق فوق فستان سهرة ترتديه، ودخلت الغرفة، زامَّةً فمها النحيل من الشفقة. رأت أختها مستلقيةً تتلوَّى في ألم على السرير، والصبي الأبيض الوجه النحيل يرتدي بنطالًا قصيرًا ويقف بجانبها ويداه مملوءتان بدبابيس الشعر.

سألتها بهدوء: «ما الأمر يا ليل؟»

جاء صوت ليلي هيرف بهسهسة لاهثة: «شيء مروِّع أصابني يا عزيزتي.»

قالت الخالة إيميلي بصوت أجش: «جيمس، يجب أن تذهب مسرعًا إلى السرير … أمك تحتاج لهدوء تام.»

قال: «ليلة سعيدة يا أمي العزيزة.»

ربتت الخالة إيميلي على ظهره. «لا تقلق يا جيمس، سأتدبَّر كل شيء.» توجَّهت إلى الهاتف وشرعت في الاتصال برقم بصوت خفيض ودقيق.

كان صندوق الحلوى على طاولة البهو، وشعر جيمي بالذنب عندما وضعه أسفل ذراعه. عندما مرَّ بخزانة الكتب، استلَّ عددًا من أعداد الموسوعة الأمريكية ودسَّه أسفل ذراعه الأخرى. لم تلحظه خالته عندما خرج من الباب. انفتحت بوابة الزنزانة. وكان يقف بالخارج حصان عربي وخادمان أمينان ينتظران للإسراع به عبر الحدود التي تحول بينه وبين حريته. كانت غرفته على بُعد ثلاثة أبواب بالأسفل. وكانت مثقلةً بظلام مُكَتَّل صامت. أُضِيءَ المصباح بسلاسةٍ مضيئًا مقصورة المركب الشراعي ماري ستيوارت. حسنًا أيها القبطان، فلترفع المرساة وتُحدِّد وِجهتك إلى جزر أنتيل ويندوارد، ولا تزعجني حتى الفجر؛ فلديَّ أوراق مهمة عليَّ مُطالعتها. انتزع ملابسه وركع بجوار السرير مرتديًا ملابس النوم. عندما أستلقي وأستعد للنوم، أدعو الرب أن يحفظ روحي إذا كنت سأموت قبل أن أستيقظ، أدعو الرب أن يأخذ روحي.

ثم فتح صندوق الحلوى ورتَّب الوسائد معًا في طرف السرير أسفل الضوء. اخترقت أسنانه الشوكولاتة لتصل إلى حشو رخو حلو المذاق. لنرَ …

الحرف A، أول حروف العلة، وأول حرف في جميع الأبجديات الكتابية باستثناء الأمهرية أو الحبشية؛ حيث هو الحرف الثالث عشر، والرونية حيث هو الحرف العاشر …

يا إلهي، تلك حلوى قطنية.

AA، ‏Aachen (مدينة آخن) (انظر Aix-la-Chapelle إكس لا شابل)
Aardvark (خنزير الأرض) …

يا للهول، شكله مضحك …

(خنزير أرض رأس الرجاء الصالح)، حيوان أخمصي السير من طائفة الثدييات، رتبة عديمات الأسنان، مقتصر على أفريقيا.

Abd (عبد)،
Abd-el-halim (عبد الحليم)، أمير مصري، ابن محمد علي وامرأة من الرقيق الأبيض …

اشتعلت وجنتاه خجلًا وهو يقرأ:

ملكة الرقيق الأبيض.

Abdomen (البطن) (لاتينية من أصل غير محدَّد) … الجزء الأسفل من الجسم المتضمن فيما بين مستوى الحجاب الحاجز والحوض …
Abelard (أبيلار) … لم تدُم العلاقة بين الأستاذ والتلميذة طويلًا. ملأ قلبَيهما شعور أكثر حميميةً من الإجلال، وكانت الفرص اللامحدودة لجماعهما التي وفَّرها لهما الكاهن المخوَّل في عهد أبيلار (كان في ذلك الوقت في الأربعين من عمره تقريبًا)، ومع كونه شخصيةً عامة، مُهلكةً لسلام كلٍّ منهما. كان وضع إلواز على وشك الكشف عن علاقتهما الحميمة … ترك فولبير نفسه حينئذٍ لتغمره النزعة الانتقامية الوحشية … اقتحم غرفة أبيلار ومعه عصابة من الأشرار وأشبع انتقامه بأن أوقع به إخصاءً مُنكَرًا.
Abelites (الأبيليون) … يستهجنون الجماع الجنسي معتبرين إياه خدمةً للشيطان.
Abimelech I (أبيمالك الأول)، ابن جدعون من محظية شَكيمية، والذي نصَّب نفسه ملكًا بعد أن قتل جميع أبناء أبيه عدا يوثام، وقد قُتل أثناء محاصرته لبرج تاباص …
Abortion (إجهاض) …

لا، كانت يداه متجمِّدتَين وشَعَر ببعض الإعياء من ازدراده للكثير من الشوكولاتة.

Abracadabra (أبراكادبرا).
Abydos (أبيدوس) …
نهض ليشرب كوبًا من المياه قبل قراءة جزء Abyssinia (الحبشة) حيث نقوش الجبال الصحراوية وحريق المجدل على يد البريطانيين.

آلمته عيناه. شعر بالتصلُّب والنعاس. نظر في ساعة يده طراز إينجيرسول. إنها تُشير إلى الحادية عشرة. تملَّكه الرعب فجأة. لو ماتت أمي …؟ دسَّ بوجهه في الوسادة. انحنت تجاهه في فستان الحفلة الذي كانت ترتديه المزيَّن بالدانتيل الهش، والذي كان له ذيلٌ يُصدر حفيفًا لجرجرة كشكشات الساتان، ودلكت وجنته برفق بيدها التي تفوح منها رائحة عطر ناعم. خنقته نوبة من البكاء. انطرح على الفراش دافعًا وجهه بقوة في الوسادة المكوَّمة. لم يستطِع لوقت طويل التوقف عن البكاء.

استيقظ ليجد الضوء متوقِّدًا على نحو مُشوَّش، والغرفة مكتومة وساخنة. كان الكتاب على الأرض، وكانت الحلوى قد سُحقت أسفله بعد أن تسرَّبت ببطءٍ من صندوقها. توقَّفَت ساعة يده على الساعة الواحدة و٤٥ دقيقة. فتح النافذة، ووضع الشوكولاتة في درج المكتب، وكان على وشك أن يطفئ المصباح ولكنه تذكَّر شيئًا. مرتعشًا ارتدى برنس الحمام وشبشبًا ونزل على أطراف أصابعه إلى الردهة المظلمة. استرقَ السمع من خارج الباب. كان ثمة أشخاص يتحدثون بصوت خفيض. طرق الباب برفق وأدار المقبض. سحبت يد الباب فاتحةً إياه وكان جيمي ينظر بعينَين طارِفتَين في وجه رجل طويل حليق اللحية تمامًا ويرتدي نظارةً ذهبية. كان الباب القابل للطي مغلقًا، وكانت تقف أمامه ممرضة متيبِّسة.

قالت الخالة إيميلي في همس مُنهَك: «عزيزي جيمس، ارجع إلى سريرك ولا تقلق. أمك مريضة جدًّا وتحتاج إلى هدوء تام، ولكن لم يعد هناك خطر.»

قال الطبيب وهو ينفث في نظارته: «ليس في الوقت الحاضر على الأقل يا سيدة ميريفال.»

جاء صوت الممرضة خفيضًا ومخرخرًا ومطمئنًا: «الصغير المسكين، لقد جلس قلِقًا طوال الليل ولم يُزعجنا مرة.»

قالت الخالة إيميلي: «سأرجع وأُدثِّرك في السرير. فعزيزي جيمس يُحب ذلك دائمًا.»

«هل يمكنني أن أرى أمي، مجرد نظرة خاطفة كي أعلم أنها بخير.» نظر جيمي لأعلى خجِلًا في الوجه الكبير ذي النظارة.

أومأ الطبيب. «حسنًا يجب أن أذهب … سأمر عليكم بحلول الرابعة أو الخامسة كي أطمئن على الحال … طابت ليليتكِ يا سيدة ميريفال. طابت ليلتكِ يا آنسة بيلينجز. طابت ليلتك يا بُني …»

«من هنا …» وضعت الممرضة المُدرَّبة يدها على كتف جيمي. انسلَّ من أسفل يدها وسار خلفها.

كان هناك مصباحٌ مضاءٌ في ركن غرفة الأم، تُظلِّله منشفة مُعلَّقة حوله. جاء من ناحية السرير صوت تنفُّس خشن لم يُميِّزه. كان وجهها المجعَّد متجهًا نحوه بجفنَين مغلقَين بنفسجيَّي اللون وفم متجعِّد في جهة واحدة. حدَّقت إليه لنصف دقيقة. همس للممرضة: «حسنًا، سأرجع إلى سريري الآن.» تدفَّقت دماؤه على نحو مصيب بالصمم. سار دون أن ينظر إلى خالته أو إلى الممرضة بتيبسٍ إلى الباب الخارجي. قالت خالته شيئًا. ركض في الممر إلى غرفته، وصفع الباب وأغلقه بالمزلاج. وقف متيبِّسًا وشاعرًا بالبرودة في منتصف الغرفة وقبضتاه مغلقتان. صاح عاليًا: «أنا أكرههم. أنا أكرههم.» ثم أطفأ النور متجرِّعًا نشجةً جافة وانسلَّ إلى السرير بين المُلاءات الباردة برودةً مُرجِفة.

•••

كان إميل يقول بصوت غنائي: «مع هذا الحجم من الأعمال التي لديكِ يا سيدتي، أظن أنكِ تحتاجين لشخص كي يساعدكِ في المتجر.»

تنهَّدت مدام ريجو قائلةً وهي جالسة على كرسيها المرتفع الذي لا ظهر له بجوار مكتب الدفع: «أعلم ذلك … إنني أُنهِك نفسي في العمل، أعلم ذلك.» كان إميل صامتًا لوقت طويل ومحدِّقًا إلى المقطع العرضي للحم خنزير موضوع على البلاطة الرخامية بجوار مرفقه. ثم قال في خجل: «امرأة مثلكِ، امرأة جميلة مثلكِ، يا مدام ريجو لا تخلو حياتها من الأصدقاء.»

«آه ذلك … لقد شاهدت الكثير في حياتي … لم تعد لديَّ ثقة … الرجال مجموعة من البهائم، والنساء، أوه، لا أنسجم مع النساء بعض الشيء!»

أجفلَ إميل قائلًا: «التاريخ والأدب …»

صلصل الجرس أعلى الباب. اندفع رجل وامرأة إلى داخل المتجر؟ كانت المرأة ذات شعر أشقر وترتدي قبعةً تشبه حوضًا من الزهور.

كانت تقول: «لا تكن مسرفًا يا بيللي.»

«ولكن يا نورا يجب أن نأكل شيئًا … وسأكون على ما يرام بحلول يوم السبت.»

«لن يصبح شيء على ما يرام حتى تتوقَّف عن رهانات سباقات الخيل.»

«آه هلَّا تركتني وشأني … لنأخذ بعض نقانق الكبد … يا إلهي، صدر الديك الرومي البارد ذلك يبدو جيدًا …»

هدلت الفتاة ذات الشعر الأشقر: «بيجي ويجي.»

«هلَّا تركتني وشأني، أنا على ما يرام.»

بمزيج من الإنجليزية والفرنسية، تحدَّثت مدام ريجو كالعرَّافة دون أن تتحرك من فوق كرسيها المرتفع الذي لا ظهر له بجوار مكتب الدفع: «أجل يا سيدي صدر الديك الرومي جيد جدًّا … لدينا دجاج عجوز أيضًا، لا يزال ساخنًا … ابحث لي يا صديقي إميل عن دجاجة من ذلك الدجاج الصغير في المطبخ.» كان الرجل يهوِّي وجهه بقبعة قشية سميكة الإطار ذات شريط بنقشة مربعة.

قالت مدام ريجو: «الطقس دافئ الليلة.»

«بالتأكيد … كان علينا الذهاب إلى الجزيرة يا نورا بدلًا من التسكُّع في هذه المدينة.»

«أنت تعلم جيدًا يا بيللي السبب في أننا لم نتمكَّن من الذهاب.»

«لا ترشي الملح على الجرح. ألم أخبركِ أن كل شيء سيكون على ما يرام بحلول يوم السبت.»

واصل إميل عندما خرج العميلان ومعهما الدجاجة تاركين لمدام ريجو نصف دولار فضي حبسته في درج الخزينة: «التاريخ والأدب يعلماننا أن هناك صداقات، وأن هناك حبًّا في بعض الأحيان يستحق الثقة …»

هدرت مدام ريجو ضاحكةً في سرها: «التاريخ والأدب!» «إنهما ذوا نفع كبير لنا.»

«ولكن ألم تشعري يومًا بالوحدة في مدينة كبيرة كهذه …؟ كل شيء شديد الصعوبة. النساء ينظرن إلى ما في جيب المرء وليس إلى قلبه … لا يمكنني تحمُّل الأمر أكثر من ذلك.»

اهتزَّ كتفا مدام ريجو العريضان ونهداها الكبيران ضاحكة. وأصدر مُخَصِّرها صريرًا عندما رفعت نفسها عن كرسيها المرتفع الذي لا ظهر له وهي لا تزال ضاحكة. «إنك يا إميل شاب وسيم ورزين وسيكون لك شأن في هذا العالم … ولكني لن أخضع لسلطة رجل مرةً أخرى … لقد عانيت كثيرًا … ولو حتى أعطيتني ٥٠٠٠ دولار.»

«إنكِ امرأة شديدة القسوة.»

ضحكت مدام ريجو مجددًا. «هيا الآن، يمكنك مساعدتي في إغلاق المتجر.»

•••

جاء يوم الأحد مُثقِلًا وسط المدينة بالصمت والطقس المشمس. جلس بالدوين إلى مكتبه في قميصه الذي لا يرتدي أي شيء فوقه يقرأ كتاب قانون مجلدًا بجلد عجل. وكان بين الحين والآخر يدوِّن ملاحظةً في دفتر مذكرات بخط يد عادي مُنبَسِط. رنَّ الهاتف عاليًا وسط السكون والحر. أنهى الفقرة التي كان يقرؤها ومشى بخطواتٍ سريعةٍ للرد على الهاتف.

«نعم أنا هنا وحدي، تعالَي إذا أردتِ.» وضع السماعة. تَمتَم مطبقًا على أسنانه: «اللعنة.»

دخلت نيللي دون أن تطرق الباب، لتجده يمشي جيئةً وذهابًا أمام النافذة.

قال دون أن يرفع ناظره، بينما وقفت في مكانها محدِّقةً إليه: «مرحبًا يا نيللي.»

«اسمع يا جورج، هذا لا يمكن أن يستمر.»

«لمَ؟»

«لقد سئمت التظاهر الدائم والخيانة.»

«لم يكتشف أحد أي شيء، أليس كذلك؟»

«أوه، بالطبع بلى.»

اقتربت منه وعدَّلت ربطة عنقه. قبَّلها برفق على فمها. كانت ترتدي فستانًا مزركشًا من الموسلين ذا ياقة بنفسجية مُحمَرة وتحمل مظلةً زرقاء في يدها.

«كيف الحال يا جورج؟»

«رائع. أتعلمين أنكما جلبتما لي الحظ؟ لقد حصلت على بعض القضايا الجيدة التي أعمل عليها الآن وكوَّنت علاقات قيمةً للغاية.»

«أما أنا فلم أكن محظوظة. لم أجرؤ على الذهاب للاعتراف بعد. سيظن القَس أنني كفرت.»

«كيف حال جاس؟»

«أوه، منهمك في خططه … قد تظن أنه قد كسب المال؛ فقد تملَّكه الغرور بالأمر.»

«اسمعي يا نيللي، ما رأيكِ أن تتركي جاس وتأتي للعيش معي؟ يمكنك الحصول على الطلاق ويمكننا أن نتزوَّج … سيكون كل شيء على ما يرام هكذا.»

«مستحيل … أنت لا تعني ما تقول على أي حال.»

«لكن الأمر كان يستحق يا نيللي، صدقًا لقد كان كذلك.» وضع ذراعَيه حولها وقبَّل شفتَيها المغلقتَين. دفعته بعيدًا.

«لن آتي هنا مجدَّدًا على أي حال … أوه، لقد كنت سعيدةً للغاية وأنا أصعد الدرج وأفكِّر في رؤيتك … لقد أخذت أتعابك وانتهى جميع ما بيننا من عمل.»

لاحظ أن التجاعيد الصغيرة حول جبهتها قد فُردت. وعلَّقت خصلة شعر فوق إحدى عينَيها.

«يجب ألَّا نفترق بهذه القسوة يا نيللي.»

«هلَّا أخبرتني لمَ؟»

«لأننا تحابَبْنا.»

«لن أبكي.» ربتت على أنفها بمنديل صغير ملفوف. «سأكرهك يا جورج … وداعًا.» طقطق الباب بقوة خلفها.

جلس بالدوين إلى المكتب ومضغ نهاية قلم رصاص. ظلت رائحة خافتة لشعرها في فتحتي أنفه. كان حلقه يابسًا ومتكتِّلًا. سعل. فسقط القلم من فمه. مسح عنه لعابه بمنديل وعدَّل من جلسته على كرسيه. أصبحت الفقرات المكتظَّة لكتاب القانون واضحةً بعد أن كانت ضبابية. نزع الورقة التي كتبها عن دفتر المذكِّرات وشبَّكها أعلى كومة من المستندات. وشرع كاتبًا في الصفحة الجديدة: قرار المحكمة العليا لولاية نيويورك … اعتدل فجأةً على كرسيه، وأخذ يعضعض نهاية القلم مرةً أخرى. سُمعَت من الخارج الصافرة الخانقة اللامتناهية لعربة الفول السوداني. قال عاليًا: «أوه حسنًا، هذا كل شيء.» واصل الكتابة بخط يد عادي مُنبَسِط. قضية باترسون ضد ولاية نيويورك … حكم المحكمة …

•••

جلس بود إلى النافذة في نقابة البحارة يقرأ جريدةً ببطء وعناية. وكان بجواره رجلان بوجنات كاللحم النيئ في تورُّدها كانت قد حُلقت لتوها، منحشرَين في ياقتَين بيضاوَين وبذلتَين جاهزتَين من الصوف، كانا يلعبان الشطرنج متثاقلَين. دخَّن أحدهما غليونًا أصدر القليل من صوت قَوقَأَة عندما كان يسحب الدخان منه. تساقط المطر بالخارج بلا توقُّف على ميدان متلألئ فسيح.

•••

فَلْيَحْيَ بانزاي، هكذا صاح الرجل الأشيب الصغير البنية من الفصيلة الرابعة للمهندسين العسكريين عندما تقدَّموا لإصلاح الجسر فوق نهر يالو … المراسل الخاص لصحيفة «ذا نيويورك هيرالد» …

•••

قال الرجل ذو الغليون: «مات الشاه.» «تبًّا لهذا كله، لنذهب لتناول الشراب. فلا يصح أن نجلس هنا في هذه الليلة دون أن نسكر.»

«لقد وعدت المرأة العجوز …»

«دعك من هذا الهراء يا جيس، أعرف نوعية وعودك.» لملمت يد قرمزية كبيرة يكسوها بكثافة الشعر الأصفر قطع الشطرنج في صندوقها. «أخبِر المرأة العجوز أنه كان عليك أن تأخذ رشفة بسبب حرارة الجو.»

«تلك ليست كذبةً أيضًا.»

شاهد بود ظلَّيهما متحدِّبًا في المطر وهما يمرَّان أمام النافذة.

«ما اسمك؟»

التفت بود بحِدة من النافذة وقد أفزعه صوت صارٌّ حاد في أذنه. كان ينظر إلى العينَين اللتَين في لون شعلةٍ زرقاء لرجلٍ أصفر البشرة صغير البِنية كان له وجه كوجه العلجوم بفم كبير، وعينَين جاحظتَين، وشعر أسود سميك شديد القِصَر.

مدَّ بود شفته السفلى في إصرار. «اسمي سميث، ما الأمر؟»

مدَّ الرجل الضئيل البِنية يده المربَّعة المتصلِّب جلد راحتها. «سُررت بمعرفتك. أنا ماتي.»

أخذ بود يده مصافحًا رغمًا عنه. فاعتصرت يده حتى جفل. سأل: «ماتي ماذا؟» «ماتي فحسب … ماتي اللابلاندي … تعالَ وتناول شرابًا.»

قال بود: «إنني مفلس. ليس معي سنت واحد.»

وضع ماتي كلتا يدَيه في جيبَي بِذلته الفضفاضة ذات النقشة المربعة، وضرب بود في صدره بقبضتَين من الدولارات، قائلًا «الحساب علَي. إن معي الكثير من المال، فلتأخذ بعضًا منه …»

«أوه، احتفظ بمالك … ولكني سأتناول شرابًا معك.»

عندما وصلا إلى الحانة على ناصية شارع بيرل ستريت، كانت المياه تغمر مرفقَي بود وركبتَيه، وكان قَطر من المطر البارد ينهمر على عنقه. عندما جلسا إلى منضدة الشراب، وضع عليها ماتي اللابلاندي ورقةً بخمسة دولارات.

«إنني أدفع للجميع؛ لكنني سعيد جدًّا الليلة.»

كان بود يتناول الغداء المجاني. أوضح عندما عاد إلى منضدة الشراب ليأخذ شرابه، قائلًا: «لم أتناول شيئًا منذ وقت طويل.» حرق الويسكي حلقه أثناء نزوله فيه، فجفَّف ملابسه المبتلَّة وجعله يشعر بالإحساس الذي كان يشعر به عندما كان طفلًا وكان يخرج للعبة البيسبول بعد ظهيرة يوم السبت.

صاح صافعًا ظهر الرجل الضئيل البِنية العريض: «أعطني كفك أيها اللابلاندي. فأنا وأنت أصبحنا أصدقاء من الآن فصاعدًا.»

«حسنًا يا عديم الخبرة بالبحر، سنبحر معًا في الغد. ما رأيك؟»

«بالتأكيد.»

«فلنذهب الآن لشارع باوري ونشاهد النساء. سأدفع الحساب.»

صاح رجل سكران طويل ذو شارب أسود متدلٍّ كان يترنَّح في المنتصف عندما كانا يتمايلان مع البابَين المتأرجحَين: «لن تأتي امرأة من باوري معك أيها الياباني.»

قال اللابلاندي مغادِرًا: «لن يأتين، أليس كذلك؟» سدَّد إحدى قبضتَيه الشبيهتَين بالمطرقة أسفل فك الرجل في ضربة مباغتة. انزلقت قدما الرجل وارتفع بميل بين البابَين المتأرجحَين اللذَين أُغلقا عليه. فسُمعت صيحة من داخل الحانة.

صاح بود صافعًا الرجل على ظهره مرةً أخرى: «تبًّا أيها اللابلاندي، تبًّا.»

مشبكين ذراعَيهما، سارا مائلَين في شارع بيرل ستريت تحت المطر الهاطل. اتسعت القضبان متلألئةً أمامهما في نواصي الشوارع التي غمرتها المياه. كان الضوء الأصفر للمرايا والقضبان النحاسية والإطارات المذهَّبة حول صور النساء العاريات الوردية تدور وتنسكب في كئوس الويسكي التي تتجرَّعها بحماس رءوس سوداء مائلة، فتنزُّ متوهِّجةً عبر الدماء، وتُفرقع بفقاقيع من الآذان والأعين، وتقطر مغمغمةً من أطراف الأصابع. المنازل مرتفعة وعليها قتامة الأمطار على كلا الجانبَين، وتتمايل مصابيح الشوارع كفوانيس محمولة في أحد المواكب، حتى وجد بود نفسه في غرفة خلفية مليئة بالوجوه المحتشدة ووجد امرأة على حِجره. نهض ماتي اللابلاندي وذراعاه حول عنقَي فتاتَين، وانتزع قميصه ليظهر على صدره وشم باللونين الأحمر والأخضر لرجل وامرأة عاريين، وكانا متعانقَين وملتفَّين بشدة كحية بحر، وعندما استنشق مالئًا صدره بالهواء ولوى جلده بأصابعه، تلوَّى الرجل والمرأة في الوشم وضحكت جميع الوجوه المحتشدة.

•••

رفع فينياس بي بلاكهيد نافذة المكتب الواسعة. ووقف ينظر إلى الميناء من الأردواز والميكا وسط الصخب غير المنتظم للمرور، والأصوات، وجعجعة المباني التي ترتفع من شوارع وسط المدينة المنتفخة والمتموِّجة كالدخان في الرياح العاتية المندفعة على نهر هدسون من الشمال الغربي.

نادى في توجُّسٍ وريبة: «يا شميت، أحضر لي منظاري.» «انظر …» وكان يركِّز المنظار على باخرة بيضاء سميكة من المنتصف وذات مدخنة صفراء مُسَخَّمة كانت بجوار جزيرة جوفرنرز. «أليست تلك باخرة أنوندا الآتية الآن؟»

كان شميت رجلًا بدينًا تقلَّص حجمه. فتدلَّى الجلد في تجاعيد مضنية رخوة على وجهه. نظر نظرةً عبر المنظار.

«إنها هي بالتأكيد.» أنزل النافذة؛ فانحسر الصخَب متضائلًا إلى صوت أجوف كصوت صدفة بحر.

«يا للهول، لقد أسرعوا في الأمر … سيرسون في غضون نصف ساعة … اذهب على الفور وأحضر المحقِّق موليجان. لقد قبض ثمنه … لا تدع عينَيك تغفلان عنه. ماتانزاس الهَرِم بالخارج في حالة غضب يحاول الحصول على حكم قضائي ضدنا. إذا لم تُرسل كلَّ ملعقةٍ من المنجنيز بحلول الغد ليلًا، فسأخفض عمولتك بمقدار النصف … أتفهم؟»

اهتز لُغدا شميت المتدليان عندما ضحك. «لا يوجد خطر يا سيدي … لا بد أنك أصبحت تعرفني جيدًا الآن.»

«بالطبع أصبحت أعرفك … إنك رجل طيب يا شميت. لقد كنت أمزح فحسب.»

كان فينياس بي بلاكهيد رجلًا نحيفًا ذا شعر فضي ووجه أحمر كوجه الصقر، أرجع نفسه في كرسي ذي مسندَين من خشب الماهوجني إلى مكتبه ورن جرسًا كهربائيًّا. قال بصوت هادر لساعي المكتب الأشقر الشعر: «حسنًا يا تشارلي، أدخلهما.» نهض متيبِّسًا من مكتبه ومدَّ يده مصافحًا. «كيف حالك يا سيد ستورو … كيف حالك يا سيد جولد … خذا راحتكما … حسنًا … اسمعا الآن، فيما يخص هذا الإضراب. إن موقف مصالح السكة الحديدية والمواني التي أُمثِّلها يتميَّز بشكل فريد بالصراحة والأمانة، تعلمان ذلك … لديَّ ثقة، بل يمكنني القول إن لديَّ الثقة الكاملة في أنه بمقدورنا تسوية هذا الأمر تسويةً على نحو سلمي ومقبول … بالطبع يجب أن تجدا معي حلًّا وسطًا … يُعنَى، كما أعلم، بالمصالح نفسها في صميم قلوبنا، مصالح هذه المدينة الرائعة، مصالح هذا الميناء البحري الرائع …» أرجع السيد جولد قبعته إلى مؤخرة رأسه وتنحنح بصوت نباح عالٍ. «أيها السيدان، أمامنا أحد طريقَين …»

•••

في أشعة الشمس الساقطة على حافة النافذة، استقرَّت ذبابةٌ تحك جناحَيها بقائمتَيها الخلفيتَين. نظَّفت نفسها بالكامل، لاويةً وباسطةً قائمتَيها الأماميتَين كشخصٍ يغسل يدَيه، وفاركةً أعلى رأسها ذي الفصوص بعنايةٍ لتُفرِّش شعرها. حامت يد جيمي فوق الذبابة وصفعتها. أصدرت الذبابة أزيزًا واخزًا في راحة يده. تحسَّسها بإصبعَين، وأمسك بها ببطءٍ عاصرًا إياها لتصبح هلامًا رماديًّا مهروسًا بين سبابته وإبهامه. مسحها عن يده أسفل حافة النافذة. انتابه شعور بالسخونة والإعياء. يا لها من ذبابة عجوز مسكينة، وقد نظَّفت نفسها جيدًا كذلك! وقف طويلًا ينظر بالأسفل إلى المَنْوَر عبر اللوح الذي تعلوه الأتربة حيث تُكسِب الشمس الأتربة بصيصًا من اللمعان. ومن حين لآخر، يعبر رجل بقميص لا يرتدي أي شيء فوقه، الفناء بالأسفل حاملًا صينيةً من الأطباق. تُسمع الصياحات الصادعة بالأوامر وتأتي صلصلة غسيل الصحون خافتةً من المطبخ.

حدَّق إلى بصيص لمعان الأتربة على لوح النافذة. أصابت أمي سكتة دماغية وسأرجع الأسبوع القادم إلى المدرسة.

«قُل لي يا هيرفي، هل تعلَّمت الملاكمة بعد؟»

«هيرفي وكيد سيخوضان مباريات لبطولة وزن الذبابة قبل الانتقال إلى الوزن الخفيف.»

«ولكني لا أريد.»

«كيد يريد … ها هو يأتي. كوِّنوا دائرةً هناك أيها الحمقى.»

«لا أريد، أرجوك.»

«اللعنة، يجب أن تذهب، سنضربكما أنتما الاثنان إذا لم تخوضا المباراة.»

«حسنًا يا فريدي، تلك غرامة عليك بقيمة نيكل لأنك سبَبْت.»

«اللعنة لقد نسيت.»

«ها أنت ذا مرةً أخرى … ألصِقه في الألواح.»

«هيا يا هيرفي، أنا أُراهن عليك.»

«أجل، الْكُمْه.»

يتضخَّم وجه كيد الأبيض المُدمَّر أمامه كالبالون، وتضرب قبضته جيمي في فمه، حيث يندفع مذاق الدم المالح من شفته المقطوعة. يسدِّد جيمي ضرباته مُسقِطًا الفتى على الحلبة، واخزًا بطنه بركبته. سحبوه وألقَوا به على الجدار مرةً أخرى.

«هيَّا يا كيد.»

«هيَّا يا هيرفي.»

يشعر برائحة الدم في أنفه ورئتَيه، وأنفاسه تُحشرج. تندفع قدم وتوقع به.

«يكفي هذا، خسر هيرفي.»

«مُخَنَّث … مُخَنَّث.»

«ولكن اللعنة يا فريدي، لقد طرح كيد أرضًا.»

«اخرس، لا تُحدث مثل هذه الجلَبة … سيصعد هوبي الهَرِم.»

«مجرد جولة صغيرة ودية، ألم تكن كذلك يا هيرفي؟»

يصرخ جيمي وقد أعمته الدموع، ملوِّحًا بكلتا ذراعَيه: «اخرجوا من غرفتي، جميعكم، جميعكم.»

«طفل باكٍ … طفل باكٍ.»

يصفع الباب خلفه، ويدفع المكتب خلف الباب، ويزحف مرتجفًا إلى السرير. يستدير على وجهه ويستلقي متلويًا في خزي، عاضًّا الوسادة.

حدَّق جيمي في بصيص لمعان الأتربة على لوح النافذة.

عزيزي،

كانت أمك المسكينة مستاءةً للغاية عندما وضعَتك في نهاية المطاف في القطار ورجعت إلى غرفتها الفارغة في الفندق. عزيزي، إنني في غاية الوحدة من دونك. هل تعلم ما فعلت؟ لقد أخرجت كل جنودك الدُّمى، تلك التي اعتادت أن تكون في أسر بورت آرثر، ورتَّبتها جميعًا في كتائب على رف المكتبة. أليس ذلك مضحكًا؟ لا تقلق يا عزيزي، سيحل الكريسماس قريبًا وسألتقي بولدي مرةً أخرى …

بوجه مجعَّد على الوسادة: أصابت أمي سكتة دماغية وسأرجع الأسبوع القادم إلى المدرسة. ينمو جلد ذو حبيبات داكنة رخوًا أسفل عينَيها، ويزحف الشيب إلى شعرها البني. لا تضحك الأم مطلقًا. إنها السكتة الدماغية.

رجع فجأةً إلى الغرفة، وألقى بنفسه على السرير وفي يده كتاب رفيع بغلاف من الجلد. رعد الموج عاليًا على الحاجز المرجاني. لم يكن يريد أن يقرأ. كان جاك يسبح سريعًا عبر المياه الزرقاء الهادئة للبحيرة الشاطئية، ووقف في ضوء الشمس على الشاطئ الأصفر يهز عنه القطرات المالحة، واتسعت فتحتا أنفه لرائحة تحميص فاكهة الخبز بجوار نار مخيَّمه المعزول. زعقت وقهقهت الطيور ذات الريش الزاهي من فوق القِمم السرخسية الطويلة لنخيل جوز الهند. كانت الأجواء في الغرفة ساخنةً إلى حد يبعث على النعاس. أخذت جيمي سِنةٌ من النوم. فاشتمَّ رائحة ليمون بالفراولة ورائحة أناناس على سطح السفينة، وكانت أمه هناك في بذلة بيضاء ومعها رجل أسمر يرتدي زَورقيَّة، وتموَّج ضوء الشمس على الأشرعة الطويلة البيضاء بياض الحليب. تعلو الضحكة الرقيقة للأم فتصبح صحية. تسير ذبابة في حجم عبَّارة تجاههم عبر الماء، وتمد مخالب مَفلُولةً كمخالب سرطان البحر. يصيح الرجل الأسمر في أذنه: «اقفز، اقفز، يمكنك اجتياز الأمر بقفزتَين.» يئن جيمي: «ولكن أرجوك لا أُريد … لا أُريد.» يضربه الرجل الأسمر، اقفز، اقفز، اقفز … «أجل دقيقة واحدة. مَن؟»

كانت الخالة إيميلي عند الباب. «لمَ توصد بابك يا جيمي … لا أسمح مطلقًا لجيمس أن يوصد بابه.»

«أُفضِّله كذلك يا خالة إيميلي.»

«كيف لصبي أن ينام في هذا الوقت من فترة ما بعد الظهيرة؟»

«لقد كنت أقرأ رواية «جزيرة المرجان» وغلبني النعاس.» كانت وجنتا جيمي تتورَّدان.

«حسنًا. هيا أسرع. لقد قالت الآنسة بيلينجز ألَّا تتوقَّف عند غرفة أمك. إنها نائمة.»

كانا في المصعد الضيِّق الذي تفوح منه رائحة زيت الخروع، حيث ابتسم الصبي الملون لجيمي ابتسامةً عريضة.

«ماذا قال الطبيب يا خالة إيميلي؟»

«كل شيء يسير كما كان متوقَّعًا قدر الإمكان … ولكن يجب ألَّا تقلق حيال ذلك. يجب أن تحظى هذا المساء بوقت ممتع مع أبناء خالتك الصغار … إنك لا ترى أطفالًا في عمرك بما يكفي يا جيمي.»

كانا يسيران في اتجاه النهر مائلَين في رياح رملية تدور في الشارع مكتسحة الحديد أسفل سماء داكنة ذات تموُّجات فضية.

«أظنك ستسعد بالعودة إلى المدرسة يا جيمس.»

«أجل يا خالة إيميلي.»

«إن اليوم المدرسي هو أسعد وقت يقضيه الصبي في حياته. ينبغي أن تحرص على أن تراسل أمك مرةً في الأسبوع على الأقل يا جيمي … أنت كل ما لديها الآن … سنُعلِمك أنا والآنسة بيلينجز بأحوالها باستمرار.»

«أجل يا خالة إيميلي.»

«وأُريدك يا جيمس أن تعرف ابني جيمس أكثر. إنه في مثل عمرك، ربما يكون متقدِّمًا عنك بعض الشيء فحسب وما إلى ذلك من الأمور، ولا بد أن تكونا صديقَين مقرَّبَين … ليت ليلي أرسلتك إلى هوتشكيس أيضًا.»

«أجل يا خالة إيميلي.»

كانت هناك أعمدة من الرخام الوردي في البهو السفلي للمبنى الذي تسكن فيه الخالة إيميلي، وكان عامل المصعد يرتدي بِذلةً بلون الشوكولاتة ذات أزرار نحاسية، وكان المصعد نفسه مربعًا ومزينًا بالمرايا. توقَّفت الخالة إيميلي أمام باب أحمر واسع من خشب الماهوجني في الطابق السابع وتحسَّست محفظتها بحثًا عن مفتاحها. في نهاية الردهة، كانت هناك نافذة من الزجاج الرصاصي والتي يمكنك من خلالها أن ترى نهر هدسون، والقوارب البخارية، وأشجارًا طويلة من الدخان المتصاعد أمام الأشعة الصفراء لغروب الشمس من على بعد ياردات على طول النهر. عندما فتحت الخالة إيميلي الباب، سمعا صوت البيانو. «تلك مايسي تتمرَّن.» في الغرفة التي كانت تحوي البيانو، كانت السجادة سميكةً وعتيقة الطِّراز، وكان ورق الحائط أصفر اللون وبه ورود ذات لمعة فضية بين المشغولات الخشبية الكريمية اللون والإطارات الذهبية للوحات الزيتية لغابات، وأشخاص في جُندول، وكاردينال بدين يحتسي شرابًا. أرجعت مايسي ضفيرتَيها من فوق كتفَيها ونزلت من فوق كرسي البيانو. كان لها وجه كريمي اللون مستدير وأنف أفطس بعض الشيء. واصل بندول الإيقاع دقاته.

قالت بعد أن مالت بفمها للأعلى على فم أمها كي تُقبِّلها: «مرحبًا يا جيمس. يؤسفني بشدة أن خالتي ليلي المسكينة مريضة جدًّا.»

قالت الخالة إيميلي: «ألن تُقبِّل ابنة خالتك يا جيمس؟»

عرج جيمي إلى مايسي ودفع بوجهه تجاه وجهها.

قالت مايسي: «تلك قبلة مضحكة.»

«حسنًا، يمكنكما أيها الطفلان أن تبقيا معًا حتى موعد العشاء.» أسرعت الخالة إيميلي عبر الستائر المُخملية الزرقاء إلى الغرفة المجاورة.

«لا يمكننا الاستمرار في مناداتك باسم جيمس.» بعد أن أوقفت مايسي بندول الإيقاع، وقفت تُحدِّق بعينَين بنيتَين جِديتَين في ابن خالتها. «لا يمكن أن يكون لدينا اثنان اسمهما جيمس، أليس كذلك؟»

«أمي تناديني جيمي.»

«جيمي اسم شائع بعض الشيء، ولكنني أظن أننا سنستخدمه حتى نتمكَّن من التفكير في اسم أفضل … كم جاكًا يمكنك التقاطه؟»

«ما الجاك؟»

«يا إلهي، ألَا تعرف أحجار الجاك؟ انتظر حتى يرجع جيمس، سيضحك كثيرًا!»

«أعرف زهور جاك. كانت أمي تُفضِّله على أي نوع آخر.»

قالت مايسي مرتميةً على مقعد موريس: «لا أُحب من الزهور سوى زهرة أمريكان بيوتي.» وقف جيمي على إحدى ساقَيه راكلًا كعبه بأصابع القدم الأخرى.

«أين جيمس؟»

«سيعود إلى المنزل قريبًا … إنه في درس الفروسية.»

أصبح ضوء الشفق بينهما صمتًا قاتلًا. أتت من ساحات القطارات صرخة صفارة القاطرات وصلصلة الوصلات من عربات الشحن المحولة. ركض جيمي إلى النافذة.

سأل: «أخبريني يا مايسي، أتحبين المحرِّكات؟»

«أظنها بشعة. يقول أبي إننا سنُعزِّل بسبب الضوضاء والدخان.»

تمكَّن جيمي خلال العَتمة من رؤية الكتلة الملساء المشطوفة الطرف لقاطرة كبيرة. انطلق دخان من المدخنة في لفائف برونزية وليلكية ضخمة. وعلى مسار القطار تحوَّل الضوء الأحمر إلى الأخضر. بدأ الجرس يرن ببطء، بتكاسل. مدفوعًا بالبخار وبشخير عالٍ، تحرَّك القطار مصلصِلًا، وتسارع، ثم تسلسل داخل الغسق متأرجحًا بضوء خلفي أحمر.

قال جيمي: «يا للهول، ليتني كنت أعيش هنا. إن لديَّ ٢٧٢ صورةً لقاطرات، سأُريها لكِ في وقت ما إن أردتِ. إنني أجمعها.»

«يا له من شيء طريف أن تجمعها … اسمع يا جيمي، أنزل الستارة وسأُضيء النور.»

عندما ضغطت مايسي على المفتاح، رأيا جيمس ميريفال عند الباب. كان له شعر لامع كالسلك ووجه ذو نَمَش وأنف أفطس كأنف مايسي. وكان يرتدي بنطال فروسية إلى الركبة ورِباطَي ساقَين من الجلد الأسود وكان يحرِّك عصًا مُقَشَّرة.

قال: «مرحبًا يا جيمي. أهلًا بك في مدينتنا.»

صاحت مايسي: «أُتصدِّق يا جيمس، جيمي لا يعرف أحجار الجاك.»

ظهرت الخالة إيميلي عبر الستائر المُخملية الزرقاء. كانت ترتدي قميصًا نسائيًّا أخضر ذا رقبة عالية من الحرير ومُزيَّنًا بالدانتيل. ارتفع شعرها الأبيض بانحناء ناعم من جبهتها. قالت: «حان وقت غسيل الأيدي يا أطفال، سيكون العشاء جاهزًا خلال خمس دقائق … خذ ابن خالتك يا جيمس إلى غرفتك وأسرعا واخلع ملابس الفروسية تلك.»

كان الجميع قد جلسوا بالفعل عندما تبع جيمي ابن خالته إلى غرفة الطعام. رنَّت السكاكين والشوكات على نحو رصين في ضوء ست شمعات أحدثت ظلالًا حمراء وفضية. عند طرف الطاولة جلست الخالة إيميلي، وجلس بجوارها رجل أحمر العنق مستوي القفا، وفي الطرف الآخر كان زوج خالته جيف، الذي كان يضع دبوسًا لؤلئيًّا في ربطة عنقه ذات النقشة المربعة، يملأ كرسيًّا عريضًا ذا مسندَين. حامت الخادمة الملوَّنة حول أهداب الضوء، ممرِّرةً المقرمشات المحمَّصة. تناول جيمي حساءه متيبِّسًا خشية أن يُصدر صوتًا. كان زوج الخالة جيف يتحدَّث بصوت مدوٍّ بين ملعقة وأخرى من الحساء.

«كلا لقد أخبرتك يا ويلكينسون، لم تعد نيويورك كما كانت عندما انتقلنا أنا وإيميلي إلى هنا تقريبًا في زمان يشبه زمان رسو فُلك نوح … لقد اجتاح المدينة اليهود الحثالة والأيرلنديون الرِّعاع، هذا ما يعيبها … في غضون ١٠ سنوات لن يتمكَّن الشخص المسيحي من كسب رزقه … أؤكِّد لك أن الكاثوليك واليهود سيطردوننا من بلدنا، ذلك ما سوف يفعلونه.»

قالت الخالة إيميلي مقاطِعةً وهي تضحك: «إنها القدس الجديدة.»

«إنه ليس بالأمر المضحك؛ فعندما يعمل المرء بجد طوال حياته كي يبني تجارة، فلن يروق له أن يطرده حفنة من الأجانب اللعناء، أليس كذلك يا ويلكينسون؟»

«إنك منفعل للغاية يا جيف. قد يصيبك ذلك بالتخمة …»

«سأبقى هادئًا يا أمي.»

عبَس السيد ويلكينسون متثاقلًا، وقال: «إن مشكلة الناس في هذا البلد يا سيد ميريفال هي هذه … الناس في هذا البلد متسامحون للغاية. ليس هناك بلد آخر في العالم يسمح بذلك … بعد كل ما فعلناه لبناء هذا البلد نسمح لحفنة من الأجانب، رِعاع أوروبا، نسل الجيتوهات البولندية، بأن يأتوا ويحكموه بدلًا منا.»

«حقيقة الأمر هي أن الرجل النزيه لا يلطِّخ يده بالسياسة، ولا تستهويه المناصب العامة.»

«هذا صحيح؛ فالرجل الجاد اليوم يريد المزيد من المال، المزيد من المال أكثر ممَّا يمكنه أن يجنيه من العمل بأمانة في الحياة العامة … بطبيعة الحال يتجه أفضل الرجال إلى قنواتٍ أخرى.»

أجفل زوج الخالة جيف قائلًا: «وأضف إلى ذلك جهل هؤلاء اليهود الحثالة الحقراء والأيرلنديين العشوائيين الذين سمحنا لهم بالانتخاب قبل حتى أن يتحدَّثوا الإنجليزية …»

وضعت الخادمة أمام الخالة إيميلي طبقًا به كومة عالية من الدجاج المقلي المحاط بفطائر الذرة. أُحجِم عن الكلام أثناء تقديم الطعام للجميع. قالت الخالة إيميلي: «لقد نسيت أن أخبرك يا جيف، يتعيَّن علينا الذهاب إلى سكيرديل يوم الأحد.»

«أوه يا أمي، إنني أكره الخروج يوم الأحد.»

«إنه كالطفل المطيع عندما يتعلَّق الأمر بالمكوث في المنزل.»

«ولكن يوم الأحد هو اليوم الوحيد الذي أقضيه في المنزل.»

«حسنًا، هذا ما جرى: كنتُ أحتسي الشاي مع فتيات هارلاند في صالة ميلارد، ولك أن تخمِّن من كانت تجلس في الطاولة بجوارنا، إنها السيدة بوركهارت …»

«هل هي السيدة جون بي بوركهارت؟ أليس أحد نائبَي رئيس بنك ناشونال سيتي؟»

«جون رجل لطيف وله مستقبل واعد في وسط المدينة.»

«حسنًا، كما كنت أقول يا عزيزي، فقد قالت السيدة بوركهارت إنه علينا الذهاب وقضاء يوم الأحد معهم ولم أستطِع أن أرفض.»

تابع السيد ويلكينسون: «كان أبي الطبيب الخاص بالهَرِم يوهانس بوركهارت. كان الرجل الهَرِم سيئ الطبع، وقد كوَّن ثروته من تجارة الفِراء قبل وقت بعيد في زمن الكولونيل أستور. كان مصابًا بالنقرس وكان يسبُّ سِبابًا بشعًا … أتذكَّر رؤيته ذات مرة، حيث كان رجلًا أحمر الوجه ذا شعر أبيض طويل وقلنسوة حريرية فوق رُقعته الصلعاء. كان لديه ببغاء يُدعى توبياس، وكان الناس السائرون في الشارع لا يستطيعون مطلقًا معرفة ما إذا كان ما يسمعونه من سِباب قادمًا من توبياس أم من القاضي بوركهارت.»

قالت الخالة إيميلي: «آه حسنًا، لقد تغيَّرت الأحوال.»

جلس جيمي في كرسيه شاعرًا بوخز في ساقَيه. أصابت أمي سكتة دماغية وسأرجع الأسبوع القادم إلى المدرسة. الجمعة، السبت، الأحد، الإثنَين … يرجع هو وسكيني من عند البركة حيث كانا يلعبان بالعلاجيم الواثبة، وكانا يرتديان بذلتَيهما الزرقاوَين لأنهما كانا في فترة بعد ظهيرة يوم الأحد. كانت الشجَيرات الدخانية مُزهِرةً خلف الحظيرة. كان الكثير من الصِّبية يُضايقون هاريس الصغير؛ إذ كانوا ينادونه إيكي لأنهم كانوا يعتقدون أنه يهودي. علا صوته في أنين غنائي: «كفى يا رفاق، كفى. إنني أرتدي أفضل بِذلة لديَّ يا رفاق.»

بأصوات استهزاء زامرة: «أوه السيد سولومون ليفي يرتدي أفضل الثياب اليديشية من متاجر التخفيضات. هل اشتريتها من المتاجر التي تبيع كل شيء بخمسة أو ١٠ سنتات.»

«أُراهن أنه حصل عليها في تخفيض ناري.»

«إذا كان قد حصل عليها في تخفيض ناري فإن علينا أن نُطفئه بالمياه.»

«لنفتح المياه على سولومون ليفي.»

«أوه، كفى يا رفاق.»

«اخرس، لا تصرخ عاليًا هكذا.»

همس سكيني: «هم يمزحون فحسب، لن يؤذوه.»

حُمل إيكي مرفِّسًا وزاعقًا إلى البركة، ووجهه الأبيض الذي بلَّلته الدموع للأسفل. قال سكيني: «إنه ليس يهوديًّا على الإطلاق. ولكني سأخبركم مَن اليهودي، إنه ذلك البدين كبير البطن سوانسون.»

«كيف عرفت؟»

«أخبرَني رفيق غرفته.»

«يا إلهي، ولكنهم سيرمونه.»

ركضوا في جميع الاتجاهات. كان هاريس الصغير بشعره المليء بالوحل يزحف إلى الضفة، والمياه تنساب من كمَّي معطفه.

كانت هناك صلصة شوكولاتة ساخنة مع الآيس كريم. «كان رجل أيرلندي واسكتلندي يسيران في الشارع، وقال أيرلندي للاسكتلندي: هيا بنا نتناول مشروبًا يا ساندي …» كانت رنات جرس الباب الأمامي المتواصلة تُشتِّت انتباههم عن قصة زوج الخالة جيف. عادت الخادمة الملوَّنة مضطربةً إلى غرفة الطعام وبدأت تهمس في أذن الخالة إيميلي. «… وقال الاسكتلندي: يا مايك … ما الأمر؟»

«إنه السيد جو يا سيدي.»

«تبًّا.»

قالت الخالة إيميلي مُسرعة: «حسنًا، ربما يكون على ما يرام.»

«إنه مخمور بعض الشيء يا سيدتي.»

«لمَ سمحتِ له بالدخول بحق الشيطان يا سارة؟»

«لم أسمح له، لقد دخل من نفسه.»

دفع زوج الخالة جيف بطبقه بعيدًا وأنزل منديله صافعًا إياه على الطاولة. «أوه، اللعنة … سأذهب وأتحدَّث إليه.»

كانت الخالة إيميلي قد شرعت في الحديث قائلة: «حاول أن تصرفه …» ولكنها توقَّفت وفمها نصف مفتوح. كان ثمة رأس عالق عبر الستائر التي تدلَّت في المدخل الواسع المؤدي إلى غرفة المعيشة. كان للرأس وجه كوجه طائر بأنف متدلٍّ نحيف وتعلوه كتلة من الشعر الأسود المنسدل كالهنود. غمزت إحدى عينَيه الحمراوَين المَدمَع بهدوء.

«مرحبًا بالجميع! … كيف حال كل شيء؟ أتمانعون تدخلي؟» امتدَّ صوته أجشَّ عندما تبع جسمُه النحيل الطويل رأسَه في الظهور عبر الستائر. عدَّل فم الخالة إيميلي من نفسه بابتسامة باردة. «عجبًا يا إيميلي، يجب … أن … معذرة؛ فقد ظننت أن قضاء أمسية … أعني … مع العائلة … قد … قد … تكون … مجدية. كما تعلمون، ذلك التأثير المنقي للمنزل.» وقف يهز رأسه خلف كرسي زوج الخالة جيف. «حسنًا أيها الهَرِم جيفرسون، كيف حال السوق؟» وضع يده على كتف زوج الخالة جيف.

«أوه حسنًا. أتريد أن تجلس؟»

«لقد سمعت … أنني إذا كنت سآخذ نصيحةً من محنَّك هَرِم … أعني … سمسارًا متقاعدًا … سمسار كل يوم … ها ها … ولكني سمعت أن شركة إنتربورو رابيد ترانزيت تستحق شراء حصةٍ صغيرةٍ فيها … لا تنظري إليَّ باحتقار يا إيميلي. سأُغادر على الفور … مرحبًا، كيف حالك يا سيد ويلكينسون … الأطفال يبدون في حالة جيدة. يا إلهي أهذا ابن ليلي هيرف الصغير … ألَا تتذكَّر … يا جيمي … قريبك جو هارلاند؟ لا أحد يتذكَّر جو هارلاند … إلا أنتِ يا إيميلي وتتمنَّين لو نسيتِه … ها ها … كيف حال أمك يا جيمي؟»

انتزع جيمي الكلمات من حلق ضيق: «أفضل حالًا بعض الشيء، شكرًا لك.»

«حسنًا، عندما تعود إلى المنزل أبلغها محبتي … ستفهم. لطالما كنت أنا وليلي صديقَين مقرَّبَين حتى وأنا مصدر العار للعائلة … إنهم لا يحبونني، إنهم يريدونني أن أرحل … اسمع مني أيها الصبي، ليلي هي الأفضل من بين الجميع. أليست كذلك يا إيميلي، أليست هي الأفضل بيننا؟»

تنحنحت الخالة إيميلي. «إنها كذلك بالطبع، الأجمل، والأكثر ذكاءً، والأكثر واقعية … إن أمك يا جيمي إمبراطورة … لطالما كانت أفضل من كل هذا. يا إلهي، أود أن أشرب نَخب صحتها.»

أخرجت الخالة إيميلي الكلمات مطقطقةً كالآلة الكاتبة: «يجب أن تعتدل في كلامك قليلًا يا جو.»

مال فوق الطاولة، مارًّا بأنفاسه المعبَّأة برذاذ من الويسكي على وجه جيمي: «أوه، جميعكم تظنون أنني سكران … تذكر ذلك يا جيمي … هذه الأمور لا تكون دائمًا خطأ المرء … الظروف … إنها … الظروف.» قلب كأسًا ومشى مترنِّحًا. «إذا أصَرَّت إيميلي أن تنظر إليَّ باحتقار فسأغادر … ولكن تذكَّر أن تُبلغ ليلي هيرف محبة جو هارلاند حتى لو ذهبت إلى سبيل الهلاك.» ترنَّح خارجًا عبر الستائر مرةً أخرى.

«أعلم أنه سيقلب الزهرية السيفرية يا جيف … احرص على ألَّا يصيبه مكروه وأحضر له سيارة أجرة.» انفجر جيمس ومايسي في قهقهة عالية من خلف منديلَيهما. كان وجه زوج الخالة جيف أرجوانيًّا.

«سأكون ملعونًا إن وضعته في سيارة أجرة. إنه ليس قريبي … إنه يجب أن يُسجن. وفي المرة التالية التي ترَينه فيها يمكنكِ أن تخبريه بذلك نيابةً عني يا إيميلي، إذا جاء هنا في أي وقت وهو في تلك الحالة الكريهة مرةً أخرى، فسأُلقي به خارج المنزل.»

«جيفرسون يا عزيزي، لا طائل من الغضب … لم يقع ضرر. لقد رحل.»

«لم يقع ضرر! فكِّري في طفلَينا. افترضي أن غريبًا كان هنا وليس ويلكينسون. ماذا كان سيظن في بيتنا؟»

قال السيد ويلكينسون بصوت ناعق: «لا تقلقا من ذلك؛ فالحوادث تقع في بيوت أكثر العائلات المنضبطة.»

قالت الخالة إيميلي: «المسكين جو يصبح مجرَّد صبي لطيف عندما يكون في حالته الطبيعية. ولا تنسَ أنه في فترة من الفترات قبل بضع سنوات كان هارلاند كما لو أنه يحمل سوق التعامل خارج البورصة في قبضة يده. أطلقت عليه الصحف اسم ملك سوق التعامل خارج البورصة، ألَا تتذكَّر؟» «كان ذلك قبل علاقته بلوتي سميثرس …»

قالت الخالة إيميلي بصوت أشبه بسقسقة العصافير: «حسنًا، ماذا عن الذهاب يا أطفالُ للغرفة الأخرى بينما نحتسي نحن القهوة.» «أجل، لقد كان يجب أن يذهبا قبل وقت طويل.»

سألت مايسي: «هل تعرف كيف تلعب لعبة ٥٠٠ يا جيمي؟»

«لا، لا أعرف.»

«ما رأيك في ذلك يا جيمس، إنه لا يعرف كيف يلعب لعبة الجاك ولا يعرف كيف يلعب لعبة ٥٠٠.»

قال جيمس بتعالٍ: «حسنًا، كلتاهما من ألعاب الفتيات. ما كنت لألعبهما أنا أيضًا لولاكِ.»

«أوه، أهو كذلك يا سيد مُتذاكٍ؟»

«هيا بنا نلعب لعبة الإمساك بالحيوانات.»

«ولكننا ليس لدينا عدد لاعبين كافٍ لها. ولا تكون اللعبة ممتعةً من دون مجموعة كبيرة.»

«وفي آخر مرة لعبناها ضحكتِ عاليًا لدرجة أن أمي أوقفتنا عن اللعب.»

«أوقفتنا أمي عن اللعب لأنك ركلت بيللي شمتز الصغير في عظمة كوعه وأبكيته.»

قاطعهما جيمي: «ما رأيكما أن ننزل ونشاهد القطارات؟»

قالت مايسي متجهمة: «ليس مسموحًا لنا أن ننزل للطابق السفلي بعد حلول الظلام.»

«اسمعا، لنلعب البورصة … لديَّ مليون دولار في صورة سندات أريد بيعها، ويمكن لمايسي أن تكون مضارِبةً على الصعود ويمكن لجيمي أن يكون مضاربًا على الهبوط.»

«حسنًا، ماذا نفعل؟»

«سنركض في الأنحاء، ونصيح في الغالب … أنا أبيع على المكشوف.»

«حسنًا أيها السيد السمسار، سأشتريها كلها مقابل خمسة سنتات لكل سهم.»

«لا، لا يمكنك أن تقول ذلك … قل ٩٦ ونصف أو شيء من هذا القبيل.»

صرخت مايسي مُلوِّحةً بدفتر مُسَودة طاولة الكتابة: «سأعطيك مقابلها خمسة ملايين.»

صاح جيمي: «ولكن أيتها الحمقاء، إنها لا تساوي إلا مليونًا واحدًا.»

وقفت مايسي متسمِّرةً في مكانها. «ماذا قلتَ يا جيمي؟» شعر جيمي بالخجل يسري في جسده؛ فنظر إلى حذائه القصير الغليظ. «قلت أيتها الحمقاء.»

«ألم تحضر من قبل دروس مدرسة الأحد؟ ألَا تعلم أن الإله قال في الإنجيل إنك إذا دعوت أحدًا بالأحمق فسوف تكون مُعرَّضًا للذهاب إلى الجحيم؟»

لم يجرؤ جيمي على رفع ناظرَيه.

قالت مايسي وهي تَشُب لأعلى: «حسنًا، لن أستمر في اللعب.» وجد جيمي نفسه دون أن يدري بالخارج في الردهة. أخذ قبعته وركض خارجًا من الباب ونزل الطوابق الستة على الدرج ذي الحجارة البيضاء، مارًّا بالأزرار النحاسية والبِذلة بلون الشوكولاتة التي يرتديها عامل المصعد، وخرج عبر الردهة ذات الأعمدة الرخامية الوردية اللون إلى شارع ٧٢. كان الظلام دامسًا والرياح عاصفة، وامتلأ الشارع بالظلال المتثاقلة المتقدِّمة وخُطى الأقدام المتلاحقة. في النهاية، كان يصعد الدرج القرمزي المألوف للفندق. هُرع أمام باب أمه. سيسألونه عمَّا أرجعه إلى المنزل بهذه السرعة. اندفع إلى غرفته، وأغلق المزلاج، وأحكم غلق الباب، ووقف مستندًا عليه يلهث.

•••

«حسنًا، هل تزوَّجتما بعد؟» كان ذلك أول ما سأل عنه كونغو عندما فتح إميل له الباب. كان إميل يرتدي قميصه الداخلي. كانت الغرفة التي على شكل صندوق أحذية خانقة، وكانت تضيئها وتدفئها شعلة غاز بغطاء معدني فوقها.

«من أين أتيت في هذا الوقت؟»

«بنزرت ووتروندهايم … فأنا بحارة بارع.»

«تلك مهنة عفنة أن تذهب إلى البحر … لقد ادَّخرت ٢٠٠ دولار أمريكي. إنني أعمل في مطعم دلمونيكو.»

جلسا متجاورَين على السرير غير المرتب. أخرج كونغو صندوقًا مزينًا بالآلهة المصرية القديمة ذهبي الحواف. صفع فخذه قائلًا: «أجرة أربعة أشهر.» «أرأيت ماي سويتزير؟» هزَّ إميل رأسه. «يجب أن أعثر على تلك اللقيطة … في تلك المواني الاسكندنافية اللعينة يصلن في مراكب، نساء شقراوات بدينات في قوارب الإمداد …»

لاذا بالصمت. أصدر الغاز همهمة. أخرج كونغو أنفاسه في صافرة. بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «مرحى … هذا أنيق، مطعم دلمونيكو … لمَ لم تتزوَّجها؟»

«إنها تُحب أن أتسكَّع حولها … يمكنني أن أُدير المتجر أفضل منها.»

«أنت ضعيفٌ للغاية؛ يجب أن تستخدم الغِلظة مع النساء للحصول على أي شيء منهن … اجعلها تغار.»

«لقد أفقدتني صوابي.»

«أتريد أن ترى بعض البطاقات البريدية؟» سحب كونغو من جيبه حُزمةً ملفوفة في جريدة. بمزيج من الإنجليزية والفرنسية: «انظر، هذه نابولي، الجميع هناك يريدون أن يأتوا إلى نيويورك … تلك فتاة راقصة عربية. يا إلهي، إن لهن سُرَّات زلقة …»

صرخ إميل فجأةً مسقطًا البطاقات على السرير: «حسنًا، أعرف ماذا سأفعل. سأجعلها تغار …»

«مَن؟»

«إيرنيستين … مدام ريجو …»

«أجل، فلتتجوَّل ذهابًا وإيابًا في الجادة الثامنة مع فتاة بضع مرات، وأُراهنك أنها ستقع في غرامك بكل جوارحها.»

رنَّ المنبِّه على الكرسي بجوار السرير. قفز إميل لإيقافه وشرع في رش وجهه بالماء في حوض الغسيل.

بمزيج من الفرنسية والإنجليزية: «تبًّا، يجب أن أذهب إلى العمل.»

«سأذهب إلى حي هيلز كيتشن وأرى ما إذا كنت سأُقابل ماي.»

قال إميل، الذي وقف أمام المرآة المتصدِّعة عابس الوجه يُثبِّت الأزرار الأمامية لقميص مغسول جيدًا: «لا تكن أحمق وتُنفق جميع مالك.»

•••

قال الرجل مرارًا وتكرارًا، مُقرِّبًا وجهه من وجه إد تاتشر وقارعًا المكتب بيده البدينة: «صدِّقني، إنه أمر مضمون.»

«ربما هو كذلك يا فيلر، ولكني رأيت الكثير يفشلون، صدقًا لا يمكنني تخيُّل المخاطرة بالأمر.»

«لقد رهنت يا رجلُ طقم الشاي الفضي الذي هو ملك زوجتي، وخاتمي الألماسي، والكوب الخاص بطفلي … إنه أمر مضمون وأكيد … لم أكن لأُدخلك فيه إن لم نكن صديقَين مقربَين وأدين لك بالمال وغيره … ستربح ٢٥ في المائة على مالك بحلول ظهيرة الغد … ثم إذا أردتَ التوقف يمكنك المخاطرة بذلك، ولكن إذا بعت ثلاثة أرباع حصتك وواصلت في الأمر لمدة اليومَين أو ثلاثة الأيام المتبقية، فستكون على أرض صلبة … كصخرة جبل طارق.»

«أعلم يا فيلر، الأمر يبدو جيدًا بالتأكيد …»

«ويحك يا رجل، أُتريد أن تظل تعمل في هذا المكتب اللعين طوال حياتك؟ فكِّر في ابنتك الصغيرة.»

«هذا ما أفعله بالفعل، وتلك هي المشكلة.»

«ولكن يا إد، لقد بدأ جيبونز وسواندايك في الشراء بالفعل مقابل ثلاثة سنتات عندما أغلق السوق هذا المساء … كان كلاين حكيمًا، وأول ما سأفعله في الصباح هو أنني سأكون هناك في انتظار أن أحتفل. سيُجن جنون السوق على هذا الأمر …»

«ما لم يُغيِّر أصحاب الأعمال القذرة آراءهم. أعلم هذا الأمر من جميع جوانبه يا فيلر … يبدو عرضًا ممتازًا … ولكني فحصت دفاتر الكثير من المفلسين.»

نهض فيلر وألقى بسيجاره في وعاء البصق. «حسنًا، افعل ما يروق لك، تبًّا … أظن أنك تُحب السفر من هاكنساك والعمل مدة ١٢ ساعةً في اليوم …»

«إنني أُومن بشق طريقي بجهد، هذا كل ما في الأمر.»

«ما فائدة بضعة آلاف مُدَّخرة عندما تكون هَرِمًا ولا يمكنك الحصول على أي متعة؟ سأخوض الأمر دون تردُّد يا رجل.»

تمتم تاتشر والآخر يخرج صافعًا باب المكتب: «تقدَّم يا فيلر … معك حق.»

كان المكتب الكبير بسلاسل طاولاته الصفراء والآلات الكاتبة المغطاة؛ معتمًا باستثناء خيمة الضوء التي كان يجلس فيها تاتشر إلى طاولة تعلوها كومات من الملاحظات. كانت النوافذ الثلاث في النهاية بلا ستائر. تمكَّن من خلالها من رؤية كومة المباني الشاهقة التي تتدرَّج عليها الأضواء وجزء ضئيل على شكل لوح من السماء الداكنة كالحبر. كان ينسخ مذكرةً على ورقةٍ طويلةٍ من ورق المحامين.

شركة فان تان للاستيراد والتصدير (بيان الأصول والخصوم يصل حتى ٢٩ فبراير بما يشمل ذلك اليوم) … فروع نيويورك، وشانغهاي، وهونج كونج، ومستعمرات المضيق …

الرصيد المرحَّل ٣٤٥٧٨٩,٨٤ دولارًا أمريكيًّا
العقارات ٥٠٠٠٨٧,١٢ دولارًا أمريكيًّا
الربح والخسارة ٣٩٩٧٦٥,٩٠ دولارًا أمريكيًّا

زعق تاتشر بصوت هادر: «حفنة من المحتالين اللعناء. ليس ثمة بندٌ في الأمر برمته غير مزيَّف. لا أصدِّق أن لديهم أي فروع في هونج كونج أو في أي مكان …»

مال للخلف في كرسيه وحدَّق من النافذة. كان الظلام يحل على المباني. لم يتمكَّن من أن يرى سوى نجمة واحدة في رُقعة السماء. ينبغي أن أخرج وآكل شيئًا؛ فمن المؤذي للهضم التناول غير المنتظم للطعام الذي أقوم به. أظن أنني تشجَّعت لنصيحة فيلر الحماسية. ما رأيكِ يا إلين في زهور أمريكان بيوتي هذه؟ إن طول سيقانها يبلغ ثماني أقدام، وأُريدك أن تلقي نظرةً على مسار الرحلة إلى الخارج الذي خطَّطته لكِ لاستكمال تعليمكِ. أجل سيكون من المؤسف أن نترك شقتنا الجديدة الجميلة التي تُطل على مُتنزَّه سنترال بارك … ووسط المدينة، حيث معهد المحاسبة الائتمانية، وإدوارد سي تاتشير، الرئيس … كانت بقع من البخار تنجرف لأعلى عبر رُقعة السماء، مخبئةً النجمة. تشجَّع، تشجَّع … جميعهم محتالون ومقامرون على أي حال … تشجَّع واخرج ويداك مملوءتان، وجيوبك ممتلئة، وحسابك البنكي ممتلئ، وخزائن ممتلئة بالمال. ليتني أجرؤ على المخاطرة. من الحُمق أن تُضيع وقتك في الغضب حول الأمر. ارجع إلى فان تان للاستيراد. احتشَدَ البخار المتورِّد تورُّدًا خافتًا مع الضوء المنعكس من الشوارع حثيثًا لأعلى عبر بقعة السماء، ملتفًّا ومُشتَّتًا.

السلع المتداولة في المستودَعات الجمركية الأمريكية … ٣٢٥٦٦٦ دولارًا أمريكيًّا.

تشجَّع، واحصل على ٣٢٥ ألفًا، و٦٦٦ دولارًا. إن الدولار يرتفع كالبخار، ملتويًا ومُشتَّتًا في السماء. مال المليونير تاتشر من نافذة الغرفة المضاءة التي تفوح منها رائحة الباتشولي لينظر إلى المدينة الناتئة بسواد ناطحات السحاب والتي تُخيِّم عليها كالدخان الضحكات، والأصوات، والطنين، والأضواء، وخلفه عزفت فرق الأوركسترا بين شُجيرات الأزالية المزهرة، برقيات خاصة تُطقطق وتُطقطق بالدولارات القادمة من سنغافورة، وفالبارايسو، وموكدن، وهونج كونج، وشيكاغو. انحنت عليه سوزي في ثوب من زهور الأوركيد، وتنفَّست في أذنه.

نهض إد تاتشر على قدمَيه بقبضتَين مغلقتَين، وهو يئنُّ قائلًا لنفسه أيها المسكين الأحمق ما الجدوى الآن وقد ذهبت. من الأفضل أن أذهب لتناول الطعام وإلا فستوبخني إلين.

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤