الفصل الخامس

المدحلة البخارية

يُسوِّي الغسق بلطف الشوارع المتعرِّجة. ويضغط الظلام بإحكام المدينة الأسفلتية التي تفوح بالأدخنة، ويجوس خلال الحليات الشبكية للنوافذ، واللافتات الكتابية، والمداخن، وخزانات المياه، ومنافذ التهوية، وسلالم الطوارئ، وزخارف الأسقف، وأنماط البناء، والتمويجات، والعيون، والأيدي، وربطات العنق، مُحوِّلًا كل ذلك إلى شقفات زرقاء، إلى كتل سوداء ضخمة. تحت وقع الضغط المتزايد لدحرجة المدحلة، تومض النوافذ بالضوء. ويعتصر الليل المصابيح القوسية لتُشع ضوءًا صافيًا كصفاء الحليب، ويدك كتلها الكئيبة حتى تقطِّر بالأحمر، والأصفر، والأخضر، في شوارع تطن بوقع الأقدام. كل ما على الأسفلت ينضح بالضوء. فينبثق الضوء من الكلمات فوق الأسقف، ويخفق مُتخبِّطًا بين إطارات العربات، ويُلطِّخ الأُفق الضخم المتماوج.

كانت ثمة مدحلة بخارية تقعقع ذهابًا وإيابًا فوق سطح الطريق المقطرن لتوه عند بوابة المقبرة. فاحت منها رائحة شحم محترق، وبخار، وطلاء ساخن. مشى جيمي هيرف الهوينى بمحاذاة حافة الطريق؛ حيث شعر بالحجارة حادةً أسفل قدمَيه عبر نعل حذائه المتآكل. مرَّ بعُمالٍ داكني الأعناق، وواصل المشي على الطريق الجديد حيث اخترقت فتحتَي أنفه نفحةٌ من رائحة الثوم والعرق المنبعثة منهم. توقَّف بعد ١٠٠ ياردة فوق طريق الضاحية الرمادي، الذي يبدو وكأنه مربوط بإحكام من كلا جانبَيه بأعمدة البرق وأسلاكه، وفوق المنازل الرمادية الشبيهة بالصناديق الورقية والرقع المتعرِّجة بشواهد القبور، كانت السماء بلون بيض طير أبو الحناء. شعر كما لو أن ديدان ربيع صغيرة تتلوَّى في عروقه. خلع ربطة عنقه السوداء ووضعها في جيبه. ودقَّ لحن بجنون في رأسه:

لقد سئمت أزهار البنفسج
خذها جميعها بعيدًا.

ثمة توهُّج للشمس، وآخر للقمر، وآخر للنجوم، ولكل نجم توهُّج يختلف عن الآخر. كذلك الأمر في بعث الموتى … واصل السير مسرعًا وهو يطرطش في برك مليئة بانعكاسات السماء، محاوِلًا أن ينفض عن أذنَيه الكلمات المطنطِنة المنصبَّة صبًّا فيهما، وأن يتخلَّص من ملمس نسيج الكريب الأسود، وأن ينسى رائحة الزنابق.

لقد سئمت أزهار البنفسج
خذها جميعها بعيدًا.

أسرع الخطى. ارتفع الطريق بتَل. وكان ثمة غدير ماء برَّاق في المجرى، ينساب عبر رُقع العُشب والهِندِباء. قلَّت البيوت، وعلى جوانب الحظائر كلمات مكشوطة: «مجمع خَضراوات ليديا بنكهام، جِعَة بدويايزر، دجاج أحمر، كلاب نابحة …»، وقد أُصيبت أمي بسكتة دماغية ودُفنت. لم يستطع أن يتذكَّر شكلها، لقد ماتت وانتهى الأمر. من عمود السياج، سمع الصافرة الرقراقة لعصفور دوري مُغرِّد. طار أمامه العصفور الصغير الشاحب وجثم فوق أحد أسلاك البرق وغنَّى، وطار أمامه إلى حافة مرجل مهجور وغنَّى، وطار أمامه وغنَّى. كانت السماء تستحيل إلى لون أزرق أكثر دُكنة، ممتلئةً بسُحب كعرق اللؤلؤ المتقشِّر. شعر لمرةٍ أخيرةٍ بهفهفة الحرير بجواره، وبيد في كُم متحرك مزركش بالدانتيل تُحيط برفقٍ بيده. شعر بنفسه كطفل مستلقٍ في مهده وقدماه مسحوبتان لأعلى وباردتان تحت وطأة الخوف من الظلال الرابضة المتشعِّبة، وتُسرع الظلال لتذوب في الأركان بينما تنحني هي فوقه بالتجعُّدات حول جبهتها، وبكمَّيها الحريريَّين المنفوخَين، وبرُقعة سوداء صغيرة في جانب فمها الذي قبَّل فمه. أسرع الخطى. تدفَّق الدم ساخنًا، وفي تتابع مستمر داخل عروقه. كانت السُّحب المتقشِّرة تذوب متحوِّلةً إلى رغوة وردية اللون. سمع وقع أقدامه على حصى الرصيف المتآكل. ومض ضوء الشمس في تقاطع طرق على براعم شُجيرات الزان المدبَّبة الدَّبِقة. كانت هناك في الجهة المقابلة لافتة مكتوب عليها «يونكيرس». تأرجحت في منتصف الطريق علبة طماطم منبعجة. ركلها بقوة أمامه وواصل السير. ثمة توهُّج للشمس، وآخر للقمر، وآخر للنجوم … واصل السير.

•••

«مرحبًا يا إميل!» أومأ إميل دون أن يلتفت برأسه. ركضت الفتاة خلفه وأمسكت بكم معطفه. «أتلك هي الطريقة التي تُعامل بها أصدقاءك القدامى؟ الآن وقد رافقت ملكة بقالة …»

انتزع إميل يده. «أنا في عجلة من أمري فحسب.»

«ما رأيك إن ذهبت وأخبرتها كيف تآمرتُ أنا وأنت لنقف أمام النافذة في الجادة الثامنة نتعانق ونتبادل القبلات كي نجعلها تقع في حبك؟»

«تلك كانت فكرة كونغو.»

«حسنًا، ألم تنجح؟»

«بالطبع.»

«إذن، ألَا تدين لي بشيء؟»

«إنكِ فتاة لطيفة للغاية يا ماي. ليلة إجازتي في الأسبوع القادم يوم الأربعاء … سآتي وآخذك لمشاهدة أحد العروض … كيف حال العمل؟»

«أسوأ من الجحيم … أحاول أن أعمل راقصةً في نادي كامبس … فهناك يمكن الالتقاء برجال معهم الأموال … كفاني من هؤلاء الصبية البحَّارة والقساة من العاملين في الشاطئ … إنني أسعى لأن أكون محترمة.»

«هل عرفتِ يا ماي أخبارًا عن كونغو؟»

«وصلتني بطاقة بريدية من مكان لعين لم أتمكَّن من قراءة اسمه … أليس من المضحك أن تكتب طلبًا للمال بينما كل ما يصلك من رد هو بطاقة بريدية … إنه ذلك الفتى الوحيد الذي يحصل عليَّ في أي ليلةٍ يريد … أتعلم ذلك يا صاحب ساقَي الضفدع؟»

«وداعًا يا ماي.» دفع فجأةً القلنسوة القشية المشذَّبة بزهور أذن الفأر إلى الوراء على رأسها وقبلها.

أنَّت دافعةً تجعيدة شعر صفراء للخلف أسفل قبعتها، قائلة: «كُف عن هذا يا صاحب ساقَي الضفدع … الجادة الثامنة ليست مكانًا يصلح أن تُقبل فيه فتاة. كان بإمكاني أن أبلغ عنك الشرطة، وقد فكَّرت في الأمر بالفعل.»

غادر إميل.

مرَّت به سيارة إطفاء، وعربة ذات خرطوم، وشاحنة ذات خُطاف وسُلم، مهشِّمات للشارع بِدوٍّ مُجلجِل. يتصاعد الدخان من على بُعد ثلاثة مربعات سكنية، ويهب لهيب من حين لآخر من سقف أحد المنازل. كان هناك حشد عالق أمام صفوف رجال الشرطة. خلف الظهور وسلاسل القبعات، لمح إميل رجال الإطفاء على سقف المنزل المجاور، وكان ثلاثة منهم يرشون في صمت تيارات من المياه غامرين بها النوافذ العلوية. لا بد أن الحريق أمام البقالة مباشرة. كان يشق طريقه عبر الحشد فوق الرصيف عندما انفرج الطريق وسطهم فجأة. كان هناك رجلان من الشرطة يسحبان زنجيًّا طقطقت ذراعاه للأمام والخلف ككابلات مكسورة. أتى شرطي ثالث من الخلف يصفع الزنجي أولًا على أحد جانبَيه في رأسه، ثم على الجانب الآخر في بطنه.

«إن من أشعل الحريق زنجي.»

«لقد ألقَوا القبض على المهووس بإشعال الحرائق.»

«إنه من أشعل النار.»

«يا إلهي، إنه زنجي حقير الشكل.»

انضمَّ الحشد غالقين الفُرجة بينهم. كان إميل واقفًا بجوار مدام ريجو أمام باب متجرها.

بالفرنسية: «يجعلني هذا أرتعب يا حبيبي … إنني أخاف بشدة من الحريق.»

كان إميل يقف خلفها قليلًا. تسلَّل بإحدى ذراعَيه ببطءٍ حول خصرها وربت على ذراعها بيده الأخرى، قائلًا: «كل شيء على ما يرام. انظري، لم يعُد هناك حريق، لم يعُد هناك سوى الدخان … ولكنك تتمتَّعين بتأمين، أليس كذلك؟»

«أوه، أجل، مقابل ١٥ ألفًا.» اعتصر يدها ثم سحب ذراعَيه. بالفرنسية: «تعالَي يا صغيرتي لندخل.»

بمجرد دخولهما إلى المتجر، أمسك بكلتا يدَيها السمينتَين. «متى سنتزوَّج يا إيرنيستين؟»

«الشهر القادم.»

«لا يمكنني الانتظار كل ذلك الوقت، هذا مستحيل … لمَ لا نتزوَّج الأربعاء القادم. ومن ثم يمكنني مساعدتك في جرد المخزون … أعتقد أننا قد نستطيع بيع هذا المكان والذهاب شمالًا لجني المزيد من المال.»

ربتت على وجنته. قالت بالفرنسية بابتسامة داخلية جوفاء هزَّت كتفَيها وثديَيها الكبيرَين: «إنك طَموح بعض الشيء.»

•••

كان عليهما أن يستقلَّا وسيلة نقل أخرى في محطة تحويل مانهاتن. كان إبهام قفاز إلين الجديد قد انشق وظلَّت تفركه بسبابتها. كان جون يرتدي معطف مطر ذا حزام وقبعةً من اللباد رماديةً بمسحة وردية. عندما استدار إليها وابتسم، لم تستطع منع نفسها من إبعاد ناظرَيها عنه والتحديق في الأمطار التي دامت طويلًا تتساقط متلألئةً فوق المسارات.

«ها نحن يا عزيزتي إلين. أوه يا ابنة الأمير، ترين أننا سنأخذ القطار الذي يأتي من محطة بنسلفانيا … من المضحك هذا الانتظار في براري نيوجيرسي بهذه الطريقة.» ركبا في الحافلة الرَّدهية. أصدر جون صوت قَوْقَأَة خفيفًا في فمه عندما أحدثت قطرات المطر أشكالًا أشبه بعملات الدايم المعدنية الداكنة على قبعته الباهتة. «حسنًا، نحن في طريقنا يا فتاتي الصغيرة … ها أنت جميلة يا حبيبتي، ها أنت جميلة، عيناك كعينَي يمامتَين.»

كانت حُلة إلين المُفصَّلة حديثًا ضيقةً عند المرفقَين. أرادت أن تشعر بالمرح الشديد وأن تستمع لهمسه المخرخر في أذنَيها، ولكن شيئًا جعل وجهها يلزَم عبوسًا محكمًا؛ فلم يسعها سوى النظر بعيدًا إلى المستنقعات البُنية، وملايين النوافذ السوداء في المصانع، وشوارع المدينة الموحلة، والقارب البخاري الصَّدِئ في إحدى القنوات، والحظائر، ولافتات سجائر بول دورهام، وتماثيل علكة سبيرمنت مستديرة الوجوه، التي تتوازى جميعها وتتقاطع مع التجعُّدات البرَّاقة التي تُحدثها الأمطار على النافذة. استقامت الخطوط المتلألئة على النافذة عندما توقَّف القطار وأخذت في الانحراف أكثر فأكثر مع ازدياد سرعته. دوَّى صوت العجلات في أذنها، مردِّدًا محطة تحويل مانهاتن. محطة تحويل مانهاتن. على كل حال، كانت المسافة لا تزال بعيدةً على أتلانتيك سيتي. عندما نصل إلى أتلانتيك سيتي … «أوه، وكان المطر ٤٠ يومًا» … سوف أشعر بالمرح … «وكان المطر أربعين ليلة» … لا بد أنني سأشعر بالمرح.

«إلين تاتشر أوجليثورب، ذلك اسم جميل للغاية، أليس كذلك يا عزيزتي؟ أوه أسندوني بأقراص الزبيب، أنعشوني بالتفاح فإني مريضة حبًّا …»

كانت الأجواء تبعث على الارتياح في حافلة رَدْهية فارغة على الكرسي الأخضر المُخملي، حيث مال جون تجاهها يردِّد كلامًا بلا معنًى بينما تمر المستنقعات البنية مسرعةً خلف النافذة المخطَّطة بمياه الأمطار وتفوح رائحة كما لو كان محار قد تسلسل إلى العربة. نظرت إلى وجهه وضحكت. اعترت وجهه حمرة إلى منابت شعره الأشقر المحمر. وضع يده في قفازه الأصفر فوق يدها في قفازها الأبيض. «أنتِ زوجتي الآن يا إلين.»

«أنت زوجي الآن يا جون.» ضحكا متبادلَين النظرات وهما يستمتعان بالأجواء المريحة للحافلة الرَّدْهية الفارغة.

أنذرت اللافتة «أتلانتيك سيتي» التي ظهرت بالأحرف البيضاء تعلوها قطرات الأمطار بانتهاء الرحلة.

نزلت الأمطار كالسوط على الممر المتأنِّق، وضربت النافذة بهبَّات كمياه ملقاة من دلو. بعيدًا عن المطر، سمعت دَوِي الأمواج المتقطِّع بمحاذاة الشاطئ بين أرصفة الميناء المضاءة. استلقت على ظهرها محدِّقةً إلى السقف. بجوارها على السرير الكبير، رقد جون نائمًا يتنفس بهدوء كطفل وقد ثنى وسادةً أسفل رأسه. كانت تتجمد من البرودة. تسللت من السرير بعناية شديدة كي لا توقظه، ونهضت ناظرةً من النافذة على أضواء الممر المكوِّنة لحرف V طويل. رفعت النافذة. صفعتها الأمطار في وجهها ووخزت جلدها وخزًا قاسيًا، مبلِّلةً ثوب نومها. دفعت بجبهتها أمام الإطار. أوه، أريد أن أموت. أريد أن أموت. كانت كل البرودة التي تمكَّنت من جسدها تُطبِق على معدتها. أوه، سأُصاب بالإعياء. ذهبت إلى الحمام وأغلقت الباب. شعرت بتحسُّن عندما تقيَّأت. ثم صعدت إلى السرير مجددًا حريصةً على ألَّا تلمس جون. لو كانت لمسته، لماتت. استلقت على ظهرها ويداها ضاغطتان على جانبَيها وقد ضمَّت قدمَيها. أصدرت العربة الرَّدْهية الفارغة صوت قعقعة مريحًا في رأسها أخلدها إلى النوم.

أيقظتها حشرجة الريح على إطارات النافذة. كان جون بعيدًا، في الطرف الآخر من السرير الكبير. ومع اندفاع الريح والمطر في النافذة، بدت الغرفة والسرير الكبير وكل شيء كما لو كان يتحرك، يركض إلى الأمام كسفينة هوائية فوق البحر. «أوه، وكان المطر ٤٠ يومًا» … عبر فرجة في العتمة الباردة، قطر اللحن القصير دافئًا كالدم … «وكان المطر ٤٠ ليلة». بحذر مرَّرت يدها في شعر زوجها. جعَّد وجهه وهو نائم وأنَّ قائلًا في صوت صبي صغير جعلها تقهقه: «لا تفعلي.» استلقت مقهقِهةً في الطرف الآخر البعيد للسرير، قهقهت بشدة كما اعتادت مع الفتيات في المدرسة. ضرب المطر النافذة، وعلا صوت الأغنية حتى غدت كما لو أن فرقةً نحاسية تعزفها في أذنَيها:

أوه، وكان المطر ٤٠ يومًا
وكان المطر ٤٠ ليلةً
ولم يتوقَّف حتى الكريسماس
والرجل الوحيد الذي نجا من الفيضان
كان جاك ذا الأرجل الطويلة الذي أتى من البرزخ.

جلس جيمي هيرف أمام زوج الخالة جيف. وأمام كلٍّ منهما طبق أزرق به ريشة لحم، وبطاطس مطهوة في الفرن، وكومة صغيرة من البازلاء، وحفنة من البقدونس.

يقول زوج الخالة جيف: «حسنًا، انظر حولك يا جيمي.» يملأ غرفة الطعام التي تكسوها ألواح خشب الجوز ضوء ساطع قادم من الطابق العلوي، ويلمع ملتويًا فوق السكاكين والشوكات الفضية، والأسنان الذهبية، وسلاسل الساعات، ودبابيس الأوشحة، وتبتلعه ظُلمة الجُوخ والتويد، ويلمع في دوائر فوق الألواح المصقولة، والرءوس الصلعاء، وأغطية الأطباق. سأل زوج الخالة جيف وهو يدس إبهامَيه في جيبَي صدريته الزغباء الأديمية اللون: «حسنًا، ما رأيك في المكان؟»

قال جيمي: «إنه نادٍ جميل بالطبع.»

«أكثر الرجال ثراءً ونجاحًا في البلد يتناولون غداءهم هنا. انظر إلى الطاولة المستديرة في الركن. تلك طاولة جاوسنهايمرز. على اليسار مباشرة.» … يميل زوج الخالة جيف إلى الأمام خافضًا صوته: «الرجل صاحب الفك القوي هو جيه وايلدر لابورت.» يقطِّع جيمي ريشة اللحم أمامه دون أن يُجيب. «حسنًا يا جيمي، ربما تعلم السبب الذي جعلني آتي بك إلى هنا … أُريد التحدُّث إليك. الآن وقد … تُوفيت والدتك، أصبحت أنا وإيميلي الوصيَّين عليك في نظر القانون والمنفذَين لوصية ليلي المسكينة … أُريد أن أشرح لك كيف تسير الأمور.» وضع جيمي سكينه وشوكته وجلس يحدِّق إلى زوج خالته، متشبِّثًا بذراعَي كرسيه بيدَين باردتَين، ومتابعًا حركة اللُّغد الأزرق الثقيل أعلى الدبوس الياقوتي في ربطة العنق الساتان العريضة. «أنت الآن في السادسة عشرة من عمرك، أليس كذلك يا جيمي؟»

«بلى يا سيدي.»

«حسنًا، إليك ما في الأمر … عندما تُسوَّى أملاك والدتك بالكامل، ستجد نفسك تمتلك ٥٥٠٠ دولار أمريكي تقريبًا. لحسن الحظ أنك ولد ذكي وستُصبح جاهزًا لدخول الكلية مبكِّرًا. الآن، إذا أُدير هذا المبلغ جيدًا، فسيكفي لتلتحق بكلية في كولومبيا؛ حيث إنك تُصر على الذهاب إلى كولومبيا … أنا عن نفسي، وأثق أن خالتك إيميلي تفكِّر بالطريقة نفسها، أفضِّل أن تذهب إلى ييل أو برينستون … أنت فتًى ذو حظ كبير في تقديري. وأنا في مثل عمرك كنت أعمل في كنس أحد المكاتب في فريدريكسبورج وأتحصَّل على ١٥ دولارًا أمريكيًّا في الشهر. حسنًا، ما أردت قوله هو … لم ألحظ أنك شعرت بالمسئولية الكافية فيما يتعلَّق بالأمور المالية … أعني … بالحماس الكافي لكسب العيش، بالنجاح في عالم الرجال. انظر حولك … لقد وصل هؤلاء الرجال إلى ما هم عليه الآن بالتدبير والحماس. ذلك أيضًا ما أوصلني إلى ما أنا عليه، وجعلني في وضع يسمح لي بتوفير منزل مريح لك، وبتوفير تلك الأجواء المتحضِّرة التي أقدِّمها لك … أُدرك أن نشأتك كانت غريبةً بعض الشيء؛ فليلي المسكينة لم تكن لديها الأفكار نفسها تمامًا التي تسنَّت أن تكون لدينا حول العديد من الأمور، ولكن فترة تكوين حياتك الحقيقية قد بدأت. حان الوقت الآن أن تنشط وتضع الأُسس لحياتك المهنية المستقبلية … ما أنصح به هو أن تقتدي بجيمس وتشق طريقك لأعلى بالعمل في الشركة … من الآن فصاعدًا كلاكما ابني … سيتطلَّب ذلك عملًا شاقًّا ولكنه سيؤدي في النهاية إلى انفراجة كبيرة. ولا تنسَ هذا: إذا نجح المرء في نيويورك، فقد نجح حقًّا!» يجلس جيمي مراقبًا فم زوج خالته الواسع الذي يتحدَّث بجديةٍ وهو يصوغ الكلمات، دون أن يشعر بمذاق ريشة لحم الضأن الغض في فمه. «حسنًا، ماذا تنوي أن تفعل؟» مال زوج الخالة جيف تجاهه عبر الطاولة بعينَين رماديتَين بارزتَين.

يختنق جيمي من قطعة خبز، فيتورَّد وجهه، ليُتمتم في النهاية بوهَن: «كما تقول يا زوج خالتي جيف.»

«أيعني ذلك أنك ستعمل هذا الصيف لمدة شهر في مكتبي؟ وستجرِّب شعور كسب العيش، باعتبارك رجلًا في عالم الرجال، وتتعرَّف على كيفية إدارة الأعمال؟» أومأ جيمي برأسه. يصدح زوج الخالة جيف منحنيًا إلى الخلف في كرسيه فيُرى الضوء عبر تموُّج شعره ذي لون الفولاذ الرمادي: «حسنًا، أظن أنك توصَّلت إلى قرار معقول للغاية. بالمناسبة، ماذا ستأخذ للتحلية؟ … بعد سنوات من الآن يا جيمي، عندما تُصبح رجلًا ناجحًا ولديك عملك الخاص ستتذكَّر حديثنا هذا. إنها بداية حياتك المهنية.»

تبتسم موظَّفة الاستقبال المسئولة عن القبعات أسفل كومة شعرها الأشقر المتموِّج المرفوعة في تكبُّر وهي تُعطي جيمي قبعته التي تبدو مدهوسةً وقذرة ومهلهَلة وسط القبعات الكبيرة البطانة من القبعات الدربية، وقبعات الفيدورا، وقبعات بنما المعلَّقة فوق الشمَّاعة. تقلَّبت معدته مع هبوط المصعد. خرج إلى الرَّدهة الرخامية المحتشدة. ولوهلة لا يعلم فيها إلى أين يذهب، يقف مستندًا إلى الجدار ويداه في جيبَيه يشاهد الناس وهم يشقُّون طريقهم عبر الأبواب الدوَّارة بلا انقطاع، والفتيات ذوات الوجنات الناعمة وهي تمضغ العلكة، والفتيات ذوات الغُرر والوجوه البارزة العظام، والفتية ذوي الوجوه الشاحبة في مثل عمره، والقساة من الشباب بقُبَّعاتهم المائلة على جوانب وجوههم، والمراسيل بوجوههم المتصبِّبة عرقًا، والنظرات المتقاطعة، والأوراك السائرة، والألغاد الحمراء الماضغة للسيجار، والوجوه المقعَّرة الشاحبة، والأجسام البدينة للرجال والنساء، وأبدان كبار السن ذوي الكروش، الجميع يندفعون، ويتزاحمون، ويدلفون، مُعبَّئين في صفَّين لا نهائيَّين عبر الأبواب الدوَّارة للخارج إلى برودواي. ينضم جيمي لأحد الصفوف داخلًا وخارجًا من الأبواب الدوَّارة، في الظهيرة والليل والصباح، تسحق الأبواب الدوَّارة سنوات عمره كلحم النقانق. فجأةً ودون سابق إنذار تتيبَّس عضلاته. فليذهب زوج الخالة جيف ومكتبه برمتهما إلى الجحيم. تصدح الكلمات عاليًا بداخله، فينظر إلى جانب ثم إلى الآخر ليرى إذا ما كان أحدٌ قد سمعه وهو يتلفَّظ بها.

فليذهبوا جميعًا إلى الجحيم. يفرد ظهره ويرجع كتفَيه في حزم ويشق طريقه إلى الأبواب الدوَّارة. داس بعقبه على قدم أحد الأشخاص. «تبًّا، فلتنظر على ماذا تخطو.» يخرج إلى الشارع. تهب رياح هادرة على برودواي قاذفة بالحصى في فمه وعينَيه. يسير في اتجاه متنزَّه باتري والرياح في ظهره. في فناء كنيسة ترينيتي، يتناول الكُتَّاب المختزلون وسُعاة المكاتب الشطائر بين المقابر. يتجمَّع الغرباء خارج صفوف السفينة البخارية، من النرويجيين ذوي الشعر الأشقر الأشعث، والسويديين العريضي الوجوه، والبولنديين، ورجال متثاقلين ببشرة داكنة تفوح منهم رائحة الثوم من بلدان البحر الأبيض المتوسط، وصقليين ضخام البنية، وثلاثة صينيين، ومجموعة من بحَّارة الهند وجنوب شرق آسيا. في المثلث الصغير أمام مصلحة الجمارك، استدار جيم هيرف وحدَّق طويلًا إلى الشق العميق لبرودواي، وهو يقف في وجه الرياح مباشرة. فليذهب زوج الخالة جيف ومكتبه برمتهما إلى الجحيم.

•••

جلس بود على حافةٍ تحته ومدَّد ذراعَيه وتثاءب. من كل مكان، وعبر رائحة العرق والأنفاس الكريهة، والملابس الرطبة يتصاعد صوت الشخير، صوت رجال مضطربين في نومهم، وصوت صرير زُنبركات التخوت. وبعيدًا عبر الضباب، اتقد ضوء كهربائي منعزل. أغمض بود عينَيه وترك رأسه يسقط على كتفه. يا إلهي، أريد أن أنام. أيها المسيح، أريد أن أنام. ضم ركبتَيه أمام يدَيه المشبكتَين لمنعهما من الارتجاف. يا أبانا الذي في السماء، أريد أن أنام.

سمع همسًا هادئًا من التخت المجاور: «ما الأمر يا رفيقي، ألَا تستطيع أن تنام؟»

«تبًّا، نعم.» «وأنا كذلك.»

نظر بود إلى الرأس الكبير ذي الشعر المجعَّد المعلَّق على الشمَّاعة المواجه له.

واصل الصوت بهدوء: «هذا مكان كريه مليء بالحشرات لعين.» «سأخبر الجميع … ومقابل ٤٠ سنتًا! يمكنهم الاحتفاظ بفندق بلازا خاصتهم و…»

«هل لك فترة طويلة في المدينة؟»

«سأكون قد أتممت ١٠ سنوات بحلول أغسطس.»

«يا للهول!»

جاء صوت متحشرج من صف التخوت: «كُفا عن المزاح أيها الشابَّان، أين تظنان أنفسَكما، في نزهة يهودية؟»

أخفض بود صوته، قائلًا: «هذا مضحك، لقد كنت أتوق طيلة أعوام للمجيء إلى هذه المدينة … لقد وُلدت ونشأت في مزرعة بشمال البلاد.»

«لمَ لا ترجع؟»

«لا يمكنني الرجوع.» كان بود يشعر بالبرد، وأراد أن يتوقَّف عن الارتجاف. سحب البطانية لأعلى إلى ذقنه واستدار مواجهًا الرجل الذي كان يتحدَّث. «أقول لنفسي في كل ربيع إنني سأُسافر مرةً أخرى، وسأذهب إلى الخارج وأستقر بين الحشائش والعشب والأبقار التي ترجع إلى المنزل في وقت حلبها، ولكني لا أفعل، بل أنتظر فحسب.»

«ماذا فعلت في كل هذا الوقت في المدينة؟»

«لا أدري … اعتدتُ الجلوس في يونيون سكوير معظم الوقت، ثم أصبحتُ أجلس في ميدان ماديسون. ذهبت كذلك إلى هوبوكين، وجيرسي، وفلاتبوش، والآن أنا متشرِّد في بويري.»

«يا إلهي، أُقسم أنني سأغادر هذا المكان غدًا. إنني فَزِع هنا. فهناك الكثير من رجال الشرطة والمحقِّقين في هذه المدينة.»

«يمكنك العيش من الصدقات … ولكن خذها نصيحةً مني يا بُني وارجع إلى المزرعة وإلى أهلك عندما تجد فرصةً جيدة لذلك.»

قفز بود من التخت وجذب كتف الرجل بقوة. «تعالَ هنا في الضوء، أريد أن أريك شيئًا.» تردَّد صوت بود على نحوٍ غريب في أذنَيه. مشى بخطواتٍ كبيرةٍ بمحاذاة صف التخوت ذي الشخير. نهض المتشرد، الذي كان رجلًا يعرج له شعر ولحية مجعَّدان بيَّضهما الطقس، وعينان كما لو كانتا قد دُقَّتا بمطرقةٍ في رأسه، من أسفل البطانية في كامل ثيابه وتبعه. أسفل الضوء، فك بود أزرار لباسه الداخلي الطويل المكوَّن من قطعة واحدة وسحبه من ذراعَيه وكتفَيه الهزيلَين ذوَي العضلات المليئة بالعُقد. «انظر إلى ظهري.»

همس الرجل ممرِّرًا يده المتسخة ذات الأظافر الصفراء فوق كتلة من النُّدوب البيضاء والحمراء المحفورة عميقًا. «لم أرَ شيئًا كهذا من قبل.»

«هذا ما فعله بي الرجل الهَرِم. كان يجلدني لمدة ١٢ سنةً عندما يخطر بباله أن يفعل ذلك. اعتاد تعريتي وضربي بسلسلة خفيفة على ظهري. قالوا إنه أبي لكنني أعلم أنه ليس كذلك. هربت عندما كنت في الثالثة عشرة من عمري. كان ذلك عندما أمسك بي وبدأ يجلدني. وأنا الآن في الخامسة والعشرين.»

رجعا دون أن ينبسا بحرف إلى تختَيهما واستلقيا.

استلقى بود محدِّقًا في السقف وجاذبًا البطانية إلى عينَيه. عندما نظر لأسفل ناحية الباب في نهاية الغرفة، رأى رجلًا يجلس هناك يرتدي قبعةً دربية ويضع سيجارًا في فمه. سحق شفته السفلى بين أسنانه حتى لا يصرخ. عندما أعاد النظر كان الرجل قد رحل. همس: «اسمع، أمَا تزال مستيقظًا؟»

أصدر المتشرِّد صوت نخير. «كنت سأُخبرك. لقد دهست رأسه بمعول، دهسته كما تركل يقطينةً فاسدة. قلت له أن يتركني وشأني ولكنه لم يستجب … كان رجلًا متدينًا قاسيًا وأرادني أن أخاف منه. كنا نحصد السُّماق من المرعى القديم لنزرع البطاطس … تركته ممدَّدًا على الأرض حتى الليل ورأسه مدهوس كيقطينة عَطِنة. وقد أخفاه عن الطريق بعض الشجيرات بمحاذاة السياج. ثم دفنته ورجعت إلى المنزل وأعددت لنفسي قدحًا من القهوة. لم يكن يسمح لي قط بتناول القهوة. قبل شروق الشمس، استيقظت وسرت في الشارع. وكنت أقول لنفسي إنه في مدينة كبيرة، سيكون أمر العثور عليَّ كإيجاد إبرة في كومةٍ من القش. كنت أعلم بالمكان الذي كان يحتفظ فيه الرجل الهَرِم بماله؛ فقد كان في لفةٍ في حجم رأسك، ولكني خفت أن آخذ أكثر من ١٠ دولارات أمريكية … ألَا تزال مستيقظًا؟»

أصدر المتشرِّد صوت نخير. «كنت في طفولتي أرافق ابنة الرجل الهَرِم من عائلة ساكيت. اعتدت أنا وهي اصطحابَ بعضنا في مخزن ثلج الرجل الهَرِم في غابات ساكيت، واعتدنا الحديث عن الكيفية التي نذهب بها إلى نيويورك ونُصبح أثرياء، والآن أنا هنا ولا يمكنني الحصول على عمل أو التخلُّص من خوفي. هناك محقِّقون يتبعونني في كل مكان، رجال يرتدون قبعات دربيةً ويضعون شارات أسفل معاطفهم. أردت ليلة أمسِ أن أصطحب مُومِسًا، فرأت الخوف في عينَي ورفضت الذهاب معي … كان بإمكانها أن تراه في عيني.» كان يجلس على حافة التخت، مائلًا، ومتحدِّثًا في وجه الرجل الآخر بهمس مُهسهِس. أمسكه المشرَّد فجأةً من معصمَيه.

«اسمع يا فتى، سيصيبك الجنون إن ظَلِلت هكذا … هل حصلت على أي نقود؟» أومأ بود. «من الأفضل أن تعطيَها لي كي أحتفظ لك بها. إنني رجل خبير وسأُخرجك من هنا. ارتدِ ملابسك، وسِر في المربع السكني إلى مطعم رخيص وكُل جيدًا. كم معك؟»

«باقي فكة دولار.»

«أعطني ربع دولار واشترِ كل ما يمكنك الحصول عليه من طعامٍ بالباقي.» ارتدى بود بنطاله وأعطى الرجل ربع الدولار. «ثم ارجع إلى هنا ونم جيدًا، وسنذهب أنا وأنت غدًا شمال البلاد ونأخذ لُفافة الأموال تلك. أقُلت إنها في حجم رأسك؟ ثم سنذهب إلى حيث لا يمكن لأحدٍ الإمساك بنا. سنقتسمها النصف بالنصف. هل توافق؟»

صافح بود يده بهزةٍ مُتخشِّبة، ثم سار متثاقلًا وأربطة حذائه تُرفرف حول قدمَيه إلى الباب ونزل الدرج الملطَّخ بالبصاق.

توقف القطار، وكانت ثمة رياح باردة تحمل رائحة الأخشاب والعشب تعكِّر الشوارع المغسولة بتموُّجات من الوحل. في المطعم السريع بساحة تشاتام، جلس ثلاثة رجال ناعسين وقبعاتهم فوق أعينهم. كان الرجل خلف الركن يقرأ ورقةً وردية خاصة برياضة ما. انتظر بود طلبه طويلًا. شعر بالهدوء، وبصفاء البال، وبالسعادة. عندما أتى الطعام، تناول خليط اللحم بالذرة المحمَّر الوجه، واستمتع بتروٍّ بكل قضمة، داهسًا قطع البطاطس الهشة بلسانه على أسنانه بين رشَفات من القهوة الكثيرة السكر. بعدما مسح الطبق بكِسرة خبز، أخذ خِلال أسنان وخرج.

سار مُسلِّكًا أسنانه عبر المدخل المظلم القذر إلى جسر بروكلين. كان هناك رجل يرتدي قبعةً دربية ويُدخِّن سيجارًا في منتصف النفق الواسع. مرَّ به بود سائرًا في تباهٍ راسخ. لا يعنيني؛ فليتبعني. كان ممر المشاة المقوَّس فارغًا إلا من شرطي وقف متثائبًا وناظرًا لأعلى إلى السماء. كان الأمر أشبه بالسير وسط النجوم. بالأسفل على كلا الاتجاهَين، استدقَّت الشوارع فأصبحت كالصفوف المرقَّطة بالأنوار بين المباني المربعة السوداء النوافذ. تلألأ النهر بالأسفل كمجرة درب التبانة بالأعلى. بهدوء ورِقة، تسلَّلت حُزمة ضوء زورق قَطر عبر الظُّلمة الرطبة. أصدرت سيارة صوتَ أزيز عبر الجسر مصلصِلةً العوارض وجاعلةً خيوط العناكب فوق الكابلات تطن كآلة بانجو تهتز.

عندما وصل إلى موضع تشابك عوارض السكة الحديدية المرتفع لجانب جسر بروكلين، رجع للخلف بمحاذاة الممر الجنوبي. لا يهمني أين سأذهب؛ فلا يمكنني الذهاب إلى أي مكان الآن. بدأ جانبٌ من ضوء الليلة الزرقاء يتوهَّج خلفه كما يبدأ الحديد في التوهُّج بالمصهر. خلف المداخن السوداء وصفوف الأسقف، كانت تلمع الخطوط العريضة الوردية الخافتة لمباني وسط المدينة. كانت الظلمة جُلُّها تزداد تلألؤًا ودفئًا. جميعهم مُحقِّقون يطاردونني، جميعهم، الرجال في القُبعات الدربية، والمشرَّدون في شارع بويري، والنساء العجائز في المطابخ، وأصحاب الحانات، وقائدو عربات الترام، وضخام البنية، والمومسات، والبحَّارة، وعُمَّال تحميل السفن، والرجال في وكالات التوظيف … ظن أنني سأُخبره بمكان لُفافة الرجل الهَرِم، ذلك الوغد المقمل … لقد خدعته. لقد خدعت جميع المحقِّقين الملاعين. كان النهر هادئًا، أملس بصفحة مياه أشبه بالفولاذ الأزرق. لا يهمني أين سأذهب؛ فلا يمكنني الذهاب إلى أي مكان الآن. كانت الظلال بين أرصفة الميناء والمباني غباريةً كزهرة الغسيل الزرقاء. هدَبت الصواري النهر؛ فتصاعد الدخان في الضوء أرجوانيًّا، وبُنيًّا كالشوكولاتة، وورديًّا كاللحم. لا يمكنني الذهاب إلى أي مكان الآن.

في حُلة ذات ذيل بسلسلة ساعة ذهبية وخاتم منقوش أحمر، ركب العربة ذاهبًا إلى زفافه بجوار ماريا ساكيت، استقلَّ العربة إلى دار البلدية يَجُرها أربعة خيول بيضاء ليُعيِّنه الحاكم عضو مجلس محلي، وأصبح الضوء خلفه أكثر سطوعًا، ركب العربة مرتديًا الساتان والحرير إلى زفافه، ركب كدمية وردية محشوة في عربة بيضاء وماريا ساكيت بجواره، ومرَّا عبر صفوف من رجال يلوِّحون بالسيجار، وينحنون، ويخلعون قُبعاتهم الدربية، ركب بود عضو المجلس المحلي عربةً مليئة بالألماس بجوار عروسه صاحبة المليون دولار … يجلس بود على قضيب الجسر. سطعت الشمس خلف بروكلين. وتوهَّجت نوافذ مانهاتن. يهز نفسه للأمام، وينزلق، ويتدلَّى من إحدى يدَيه والشمس في عينَيه. علقت الصرخة في حلقه وهو يسقط.

جلس ماكافوي قبطان زورق القَطر «برودنس» في مقصورة القيادة واضعًا إحدى يدَيه على عجلة القيادة. وفي اليد الأخرى حمل قطعةً من البسكويت كان قد غطَّسها لتوه في كوبٍ من القهوة وضعه فوق الرف بجوار صندوق البوصلة. كان رجلًا حسن الهيئة كثيف شعر الحاجبَين والشارب الأسود المثبَّت الطرفَين. كاد يضع قطعة البسكويت المغطَّسة في القهوة في فمه عندما سقط شيء أسود وارتطم بالماء بطرطشة مكتومة على بُعد بضع يارداتٍ من مقدمة الزورق. في اللحظة ذاتها، صاح رجل مُخرِجًا جسمه من باب غرفة المحرِّك: «قفز رجل لتوه من فوق الجسر.»

قال القبطان ماكافوي مسقطًا قطعة البسكويت ومديرًا عجلة القيادة: «اللعنة.» ضرب جَزْر قوي القارب كما لو كان قشة. صلصلت ثلاثة أجراس في غرفة المحرِّك. ركض زنجي أمامًا إلى مقدمة الزورق بعُقافة قوارب.

صاح القبطان ماكافوي: «فلتساعدنا هنا يا ريد.»

بعد صراع، وضعوا شيئًا واهنًا أسود وطويلًا على سطح الزورق. رنَّ جرس واحد. ثم رنَّ جرسان، وأدار القبطان ماكافوي وهو عابس ومجهد أنف الزورق في اتجاه التيار مرةً أخرى.

سأل بصوت أجش: «هل به حياة يا ريد؟» كان وجه الزنجي أخضر، وكانت أسنانه تصطك.

قال الرجل ذو الشعر الأحمر ببطء: «لا يا سيدي. من الواضح أن عنقه قد كُسر.»

أطبق القبطان ماكافوي شفتَيه على جزء لا يُستهان به من شاربه. وقال ممتعضًا: «اللعنة على ذلك. يا له من حادث يقع للمرء في يوم زفافه!»

جميع الحقوق محفوظة لمؤسسة هنداوي © ٢٠٢٤